يصادف الرابع من فبراير 2024 الذكرى الخامسة لتوقيع “وثيقة الأخُوّة الإنسانية”. حيث شهدت العاصمة الإماراتية، أبوظبي، في مثل هذا اليوم من عام 2019 التوقيع على وثيقة الأخُوّة الإنسانية والعيش المشترك، من قبل فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب، وقداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان. وبهذه المناسبة ينظم مركز تريندز للبحوث والاستشارات مؤتمرًا تحت عنوان: “الإسلام والأخُوّة الإنسانية”، يشارك فيه مئات المتخصصين من مختلف المؤسسات الأكاديمية المرموقة، قادمين من أكثر من 40 جامعة ومؤسسة بحثية من 4 قارات و17 دولة مختلفة، وسيشاركون في هذا المؤتمر من خلال 12 ندوة بحثية، و5 محاضرات؛ الأمر الذي يجعل من المؤتمر أكبر وأهم فعالية أكاديمية نُظمّت حول موضوع الأخُوّة الإنسانية، وذلك من أجل تقييم هذه الوثيقة، التي تعتبر أشمل في تناول الحقوق الإنسانية من أي معاهدة أو قانون دولي في هذا الشأن.
والأخُوّة الإنسانية كما تم تعريفها في ديباجة تأسيسها، هي وثيقة مشتركة بُنيت على إيمان وإجلال ومحبة وعبادة لله؛ انطلاقًا من مبدأ أن الله خلق الناس جميعًا، سواءً من يؤمن بالله الخالق ومن لا يؤمن به. لتصبح هذه الوثيقة بمثابة إعلانٍ عالمي مشترك، على شاكلة العديد من الإعلانات العالمية لحقوق الإنسانية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الموقّع في عام 1948. ووثيقة الأخُوّة الإنسانية تعلن عن نوايا صالحة وصادقة؛ من أجل دعوة كل من يحملون في قلوبهم إيمانًا بالله وإيمانًا بالأخُوّة الإنسانية إلى أن يتوحدوا ويعملوا معًا[1].
ومع مرور خمس سنوات على توقيع هذه الوثيقة تستعرض هذه الدراسة قراءة تحليلية لمضمون الوثيقة، التي خصصت منظمة الأمم المتحدة، على أثر توقيعها، في الرابع من فبراير من كل عام ليكون “اليوم العالمي للأخُوّة الإنسانية”، وكذلك قراءة مستهدفات الوثيقة وبنودها، مع نظرة مقارنة للوقوف على أوجه الشبه والاختلاف مع مبادئ وقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، وكذلك القانون الدولي الإنساني[2]، ثم طرح مقاربة لمستقبل الوثيقة وفرص تفعيلها في ظل ما قد تواجهه من تحديات ماثلة وأخرى مستجَدة.
الدراسة ستركز على ثلاثة محاور، تشمل: المحور الأول، تحليل مضمون وصياغة الوثيقة. وفي المحور الثاني سنقوم بتحليل مقارن لها مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، باعتباره واحدًا من أقدم القوانين وأشملها. أما المحور الثالث فسيتم فيه استشراف مستقبل وثيقة الأخُوّة الإنسانية، وما يمكن عمله لتفعيلها وضمان تنفيذها بشكل يحقق أهدافها ويلبي أغراضها.
أولًا، تحليل مضمون وثيقة الأخُوّة الإنسانية
يمكن تحليل مضمون وثيقة الأخُوّة الإنسانية من خلال ثلاثة أبعاد رئيسية، هي:
1- سياق النشأة، في إطار البحث عن دوافع وسياق نشأة هذه الوثيقة يمكن القول إنها بمثابة إضاءة عالمية إنسانية شاملة ومتكاملة، جاءت نتاجًا لرصيد ممتد من الحوار الطويل بين الأديان من جانب، وحصادًا لسابقاتها من المبادرات التي صدرت في هذا المجال من جانب آخر[3]. فقبل سنوات، طرح الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، فكرة للحوار بين الشرق والغرب، وذلك في شتاء 2014. وأيده في ذلك مجلس حكماء المسلمين، كما استقبل حكماء الغرب هذا الطرح بالترحاب؛ فكانت النتيجة 6 جولات للحوار بين الشرق والغرب، بدأت في يونيو 2015. وطافت عددًا من مدن العالم. وتُوجت تلك الجولات بتوقيع هذه الوثيقة[4]، التي تزايدت أهميتها في ظل ما يواجهه العالم اليوم من صراعات متعددة المستويات ومتنوعة الأسباب والدوافع، بين صراعات استراتيجية وأخرى عسكرية وثالثة أمنية ورابعة اقتصادية، وخامسة اجتماعية وسادسة ثقافية وإعلامية.
وهو ما أشار إليه الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر بشكل أوضح، حين ذكر أن “ما يجتاح المجتمعات البشرية في الشرق والغرب من موجات القلق والتوتر، وصراع التعصب والكراهية، وازدراء الإنسان لأخيه الإنسان إذا ما اختلف عنه: ثقافةً، أو دينًا أو لونًا أو عنصرًا، والحروب التي بدأت تدور رحاها بين شعوب ودول كبرى وصغرى، وغيرها من التحديات الإنسانية كان وراء ميلاد وثيقة الأخُوّة الإنسانية”[5].
فقد تركت تلك التحديات والأزمات تأثيراتها على الشباب والأجيال الصاعدة، حيث انتشر اليأس والإحباط وتزايدت مستويات البؤس والتوجهات السلبية حيال الحياة والأديان. فبدلًا من أن تتجه طاقات الشباب لعمارة الحياة وعمرانها، والتعايش بالقيم الدينية وسلميتها، أضحى الشباب صانعًا للموت والعنف، وأضحت الأديان عاملًا من عوامل التصادم والكراهية؛ نتيجة لتغييب الضمير الإنساني، وإقصاء الأخلاق الدينية. وكذلك استدعاء النزعة الفردية والفلسفات المادية، التي تؤلِّه الإنسان (أي تجعل منه إلهًا)، وتضع القيم المادية الدنيوية موضع المبادئ العليا والمتسامية[6]، في حين أن الإيمان بالأديان هو مصدر قيم الخير ومسؤولياته، وعامل من عوامل السلام والتعاون والتعايش والأخُوّة.
وقد جاء إصدار هذه الوثيقة والعمل بإيجابية لنشر مبادئها وقيمها وحضُّ الجميع على العمل بها، ثمرة لجهود وجود أطراف فاعلة قامت بالدور المحوري في هذا الخصوص، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة التي قادت صوت الحكمة والعقل لنشر قيم التسامح وحسن التعايش والمبادئ الرئيسية لمواجهة التطرف والعنف. بل اتخذت الدولة العديد من المبادرات من أحداث وفعاليات لجعل قيمة التسامح واقعًا عمليًا وعملًا مؤسسيًا مستدامًا يسير وفق آليات واستراتيجيات واضحة، بما قدمته من نموذج عملي لاحترام الآخر، والإقرار بالحق في التنوع الديني[7]. فضلًا عن ذلك حملت الإمارات على عاتقها مسؤولية نشر رسالة السلام والمحبة في العالم من خلال إبرامها مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات التي تنبذ العنف والتطرف والتمييز.
كما لعب الأزهر الشريف -كمؤسسة دينية- دورًا بارزًا في نجاح هذه الوثيقة، التي جاءت متسقة مع توجهاته الفكرية وقيمه الإسلامية التاريخية. فكون أن الأزهر هو المؤسسة التي تمثل جميع المسلمين في العالم، فقد أكسب توقيعه سمة العالمية لهذه الوثيقة الإنسانية، التي جاءت نتاجًا لجهود الشيخ أحمد الطيب في دفاعه الشجاع تجاه القضايا الإسلامية والإنسانية وعمله الدائم من أجل ترسيخ ثقافة الحوار والعيش المشترك، وحرصه على المحافظة على وسَطَية الأمة وسماحتها وإبطال كافة دعوات الاحتراب والاقتتال باسم الأديان السماوية[8].
ويُذكر في هذا الخصوص أن الجامع الأزهر قد قام بدمج الوثيقة ضمن مناهجه الدراسية التي يَدرُسها أكثر من مليوني طالب، وهو ما يؤكد على محورية دوره في ترسيخ قيمة الوثيقة وأهميتها للعالم كله[9].
أضف إلى ذلك دور الفاتيكان والبابا فرنسيس، حيث لعب البابا هو الآخر دورًا محوريًّا في نجاح هذه الوثيقة، فكان توقيعه عليها خطوة مهمة في تعزيز الحوار بين الأديان والتقارب والتواصل بين المعتقدات المختلفة، وكذلك يُعدّ توقيعه رسالة مباشرة لنشر السلام والتسامح في العالم. وقد حرص البابا على أن يهدي زائريه نسخًا من الوثيقة[10]. وأكد في صفحته على موقع إكس (تويتر سابقًا) أهمية المضي في دعم مشروع الأخُوّة الإنسانية للقضاء على مظاهر العنف والتمييز والكراهية التي ترتكب باسم الأديان وهي بريئة من كل ذلك. ويذكر أن البابا تبرع بكامل قيمة جائزة الأخُوّة الإنسانية لضحايا الاضطهاد من مسلمي الروهينجا[11].
كما أن اللجنة العليا للأخُوّة الإنسانية، وهي لجنة دولية مستقلة تأسست من أجل تعزيز قيم الأخُوّة الإنسانية في كافة المجتمعات حول العالم وتحقيق تطلعات وثيقة الأخُوّة الإنسانية، اضطلعت بمسؤولية تفعيل بنود الوثيقة ومتابعة تنفيذها على المستويات الإقليمية والدولية؛ من خلال تحفيز الناس والمنظمات وتمكينهم وتدريبهم وتقديم المشورة لهم وبناء الشراكة معهم؛ حتى يستطيعوا تجسيد النوايا الحسنة ونشرها في كل ما يقومون به[12]. وقد تمكنت اللجنة منذ تأسيسها في تحقيق الكثير من الإنجازات في مجال ترسيخ قيم التعايش السلميّ بين أصحاب مختلف الأديان، وخاصة بين الشباب لكونهم الفئة التي تعدُّ ذخرًا لمستقبل السلام الإنساني.
2- تحليل مضمون وثيقة الأخُوّة الإنسانية
لقد أولت الوثيقة اهتمامًا بحزمة من القيم المشتركة للإنسانية جمعاء، ومن أبرز هذه القيم ما يأتي:
· الحرية حق لكل إنسان، وهي تشمل حرية المعتقَد والفكر والتعبير والممارسة، وأن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعِرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله البشر عليها، وجعلها أصلًا ثابتًا تتفرع عنه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على دين بعينه، أو ثقافة محددة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر.
· ضمان العدل القائم على الرحمة؛ لكونه السبيل الواجب اتباعه للوصول إلى حياة كريمة.
· نشر ثقافة المواطنة والتعايش والإخاء بين الناس.
· نبذ التعصب والكراهية.
· بناء الاحترام المتبادل بين الجميع، إذ أكدت الوثيقة على أهمية الحوار، الذي يحترم الذات والآخر، ويؤسس لعلاقات أخوية بين أبناء الأديان المختلفة، ويبدد مساحة الشك، ويبني الثقة.
· نشر المحبة والمودّة بين البشر.
· ضمان الحياة الكريمة لكل إنسان.
· بناء جسور التواصل والتآلف والمحبة بين الشعوب.
· تذكير بالمهمة التاريخية للأديان، وهي تحقيق السلام وتأمين الإنسان.
ولغرض لترسيخ هذه القيم، تضمنت الوثيقة مجموعة من الالتزامات، يمكن إجمالها في الآتي:
التشديد على المسؤولية الحاسمة للحكومات في تعزيز الاندماج والتعايش المشترك. وأهمية العمل الجماعي الدولي من أجل فتح دروب لإنقاذ البشرية من تهديد التطرف والإرهاب[13]. وكذلك ضرورة التوقُّف عن استخدام الأديان والمذاهب الدينية في تأجيج نيران الكراهية والعنف. وأهمية توجيه أنظار العالم المتقدم لتقديم يد العون والمساعدة لإنهاء معاناة الفقراء والمهمّشين والمرضى والمضطهدين[14]. ضرورية العلاقة بين الشرق والغرب، إذ لا يمكن الاستعاضة عنها أو تجاهلها؛ لتتعزز كلٌّ منهما بالأخرى، عبر التبادل وحوار الثقافات.
كما أكدت على حماية دور العبادة، من معابد وكنائس ومساجد، وهو واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، وكل محاولة للتعرض لدور العبادة، واستهدافها بالاعتداء أو التفجير أو التهديم، تُعدُّ خروجًا صريحًا عن تعاليم الأديان، وانتهاكًا واضحًا للقوانين الدولية. كما اعترفت الوثيقة بحق المرأة في التعليم والعمل وممارسة حقوقها السياسية ووجوب العمل على تحريرها من الضغوط التاريخية والاجتماعية المنافية لثوابت عقيدتها وكرامتها، بالإضافة إلى توفير الحماية لحقوق الأطفال الأساسية في التنشئة الأسرية، والتغذية والتعليم والرعاية.
ولم تنسَ الوثيقة أهميةَ توفير حماية لحقوق المسنين والضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة والمستضعفين؛ بالتشريعات الحازمة وبتطبيق المواثيق الدولية الخاصة بهم[15]. والعمل على إيصال هذه الوثيقة بقيمها إلى صُنّاع القرار العالمي، والقيادات المؤثرة ورجال الدين في العالم، وإلى المنظمات الإقليمية والدولية المعنيّة، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الدينية وقادة الفكر والرأي[16].
3- القيمة المضافة للوثيقة
إن أهداف وثيقة الأخُوّة لم تقتصر فقط على الحوار الإسلامي المسيحي، وإنما تطرقت إلى قضايا عالمية؛ مثل: الفقر، والهجرة، والتعصب الديني والطائفية، والتحديات التي تواجه الحرية والتعددية، والعلاقة بين الشرق والغرب. ومع أن الوثيقة لم تتطرق إلى بعض القضايا العالمية التي أضحت أكثر إلحاحًا اليوم، ومن أبرزها قضية التغيرات المناخية والتنمية المستدامة، فقد دعا شيخ الأزهر نهاية عام 2022 إلى استثمار وثيقة الأخُوّة الإنسانية بتحويل حوار الأديان إلى واقع عملي يُسهم في مجابهة تحديات عالمنا المعاصر، وفي القلب منها قضية المناخ. حيث أكد أن الإسلام أوجب الحفاظ على البيئة، ودعا إلى الاستثمار في استدامة مواردها. وتزامنت هذه التصريحات مع إعلان الفاتيكان أيضًا نهاية العام الماضي، انضمامه إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ وإلى اتفاق باريس للمناخ. والتشديد على أهمية الارتداد الإيكولوجي[17].
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى المبادرة الأولى من نوعها التي أقدمت عليها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي استضافت قمة الأمم المتحدة “كوب28” للتغير المناخي (نوفمبر- ديسمبر 2023)، حيث خصصت جناحًا في المؤتمر أطلقت عليه “جناح الإيمان”، قام عليه مجلس حكماء المسلمين بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وفى سبيل الإعداد لهذا الجناح، عُقدت قمة جمعت القادة والرموز الدينيين الذين يمثلون الديانات الكبرى في العالم، والأكاديميون وخبراء البيئة خلال يومي (6-7 نوفمبر 2023)، حيث ناقشت العديد من القضايا المتعلقة بالتغيرات المناخية؛ ومنها: المسؤوليات الأخلاقية للزعماء الدينيين في معالجة أزمة المناخ، والتعاون بين الدين والعلم لسد الفجوة بين الأدلة التجريبية والتعاليم الروحية، واستراتيجيات تعزيز دور القادة والرموز الدينيين للمساهمة في تحقيق العدالة المناخية، وأخيرًا طرق إشراك المجتمعات الشعبية في تحقيق التنمية المستدامة[18].
ثانيًا، مقارنة بين وثيقة الأخُوّة الإنسانية والقانون الدولي لحقوق الإنسان
في إطار النظر إلى وثيقة “الأخُوّة الإنسانية” من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان[19]، يمكن القول إن الوثيقة ضمت صوتها إلى المعاهدات الدولية المعنية بالحماية القانونية للحقوق والحريات العامة للفرد.
فقد جاء في الوثيقة: “هذه الوثيقة تَعتَمِدُ كُلَّ ما سبَقَها من وَثائِقَ عالَمِيَّةٍ”، وهو ما يجعل هناك نقاط توافق وتشابه بين ما تضمنته الوثيقة وما ورد في تلك الوثائق الحقوقية العالمية، وإن تميزت هذه الوثيقة بالشمولية عمّا تضمنته تلك الوثائق.
وعليه، يمكن قراءة علاقة الوثيقة بالمنظومة الدولية لحقوق الإنسان، من خلال النظر في بعض أوجه التشابه أو الاختلاف بين ما تضمنته من رؤى ومطالبات، وما تضمنته معاهدات ومواثيق وعهود القانون الدولي لحقوق الإنسان، وذلك على النحو الآتي:
1- من حيث مرجعية الوثيقة والجهات التي أصدرتها
تعد الوثيقة هي الأولى من نوعها التي تُصدرها أعلى مؤسسات دينية رسمية على هذا القدر الروحي والمكانة الدينية الرفيعة، بل والامتداد الجغرافي والديموغرافي، وتتطرق بشكل رئيسي إلى منظومة حقوق الإنسان في رؤيتها المتكاملة. في حين أن المعاهدات والإعلانات التي صدرت عن مؤسسات سياسية وقانونية -سواءً كانت دولية أو إقليمية- لم تحظَ بهذا الشمول والتأثير الفعّال، بل إن العديد من الإعلانات التي صدرت عن مؤسسات متخصصة، مثل إعلان الحق في التنمية أو إعلان حقوق المرأة وغيرها، لم تنل هذا القدر من التأثير المعنوي إنسانيًّا.
وبصورة أكثر دقة، يمكن القول إن أهم ما يميز الوثيقة عن باقي المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات والأعراف الدولية الأخرى أنها كانت وليدة اجتماع أكبر رمزين دينيين، وأكبر مؤسستين دينيتين في العالم حول بنودها، فكما جاء في الوثيقة “يُعْلِنُ الأزهَرُ الشريفُ ومِن حَوْلِه المُسلِمُونَ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها، والكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ ومِن حولِها الكاثوليك من الشَّرقِ والغَرْبِ… إلخ”، إذ توضح العبارة بجلاءِ أن الأزهر الشريف يدعو جميع المسلمين المؤمنين بالدين الإسلامي الحنيف والناس أجمع، إلى الالتزام ببنود هذه الوثيقة وبما جاء فيها، وأن الكنيسة الكاثوليكية تحث جميع المؤمنين الكاثوليك المسيحيين والناس أجمع على الالتزام أيضًا ببنود هذه الوثيقة وبما جاء فيها. وفي إعلان بنود هذه الوثيقة إقرار واعتراف ضمني بكل المبادئ، والتزام بكل الحقوق التي جاءت بين دفتيها.
2- من حيث تحفظات الوثيقة على بعض المصطلحات الحقوقية
من اللافت للانتباه أن الوثيقة أبدت تحفظها على بعض المصطلحات الحقوقية المستخدمة في بعض المعاهدات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها مصطلح “الأقليّات”؛ فقد جاء في نص الوثيقة بشأن المواطَنة بأنه يجب: “التخلِّي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح (الأقليَّاتِ) الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ، ويُصادِرُ على استحقاقاتِ وحُقُوقِ بعض المُواطِنين الدِّينيَّةِ والمَدَنيَّةِ، ويُؤدِّي إلى مُمارسةِ التمييز ضِدَّهُم”. هذا فضلًا عن التباين أيضًا بينهما في بعض التفسيرات حول دور الأسرة كركيزة أساسية لبناء المجتمعات، إذ توجد مناطق خلافية بين الفكر الديني وبعض تفسيرات الفكر الحقوقي بشأن بعض الأفكار على غرار “المثلية” وما يمثله ذلك من رفض من جانب الفكر الديني وتفسيراته لبعض منطلقات الفكر الحقوقي في رؤيته الغربية التي يحاول البعض فرضها على المجتمعات، حيث أكدت الوثيقة أن “الأُسرَةِ ضرورة كنواةٍ لا غِنى عنها للمُجتمعِ وللبشريَّةِ، لإنجابِ الأبناءِ وتَربيتِهم وتَعليمِهم وتَحصِينِهم بالأخلاقِ وبالرعايةِ الأُسريَّةِ، فمُهاجَمةُ المُؤسَّسةِ الأسريَّةِ والتَّقلِيلُ منها والتَّشكيكُ في أهميَّةِ دَوْرِها هو من أخطَرِ أمراض عَصرِنا”.
3- من حيث الدّين والمعتقد
هناك مصطلحات مشتركة بين الوثيقة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إذ إن الوثيقتين الدوليتين استخدمتا مصطلح الدين أو المعتقد، في حين استخدمت الوثيقة كلمة “الإيمان” في مقدمتها. ويعكس هذا جوهر التقارب بينهما، إذ إن الإيمان هو مرتكز ومقصود الأديان والعقائد كافة؛ ولذا فإن الإيمان يجعل المؤمنين إِخْوَة أيًّا كانت عقائدهم. وهو ما يعبر عن مفهوم توحيدي جامع ارتبط به مفهوم آخر أكثر شمولًا وتضامنًا، وهو مفهوم الإنسانية، حيث جاء فيها ما نصه:” يجعل الإيمانُ المؤمنَ يرى في الآخر أخًا له، عليه أن يؤازره ويحبه، انطلاقًا من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعًا. فإن المؤمن مدعوٌّ للتعبير عن هذه الأخُوّة الإنسانية”. ليتفق في ذلك مع التعريف الحقوقي الدولي للدّين أو المعتقد، كما جاء في تعليق رقم 22 لعام 1993 للجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بأنه يشمل الأديان السماوية وغير السماوية، سواءً كانت توحيدية أو لا توحيدية وكذلك العقائد غير الدينية[20].
4- من حيث الربط بين المنطلقات الدينية والإنسانية
ارتباطًا بما سبق يمكن القول إن منطلقات الوثيقة ليست دينية وحسب، وإنما تربط الأديان عبر مفهوم الإيمان بكل ما تعانيه الإنسانية من مظالم لم تنجح الحكومات وحدها في التصدي لها. ولم يكفِ القانون بذاته ولا آلياته الوطنية والدولية للقضاء عليها بشكل ناجز. ومن هنا تتحدث الوثيقة باسم فئة عريضة من الفاعلين وصولًا إلى كل فرد بذاته، وهي في هذا المقام تعكس أهم مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان؛ ألا وهو المشاركة الفعالة ودور المجتمع المدني في إعلاء قيم حقوق الإنسان والدفاع عنها، انطلاقًا من أنها ليست مسؤولية الحكومات وحدها. كما أن كفالة احترام حقوق الإنسان لا تقتصر على دور السياسات التشريعية وسلطات القضاء، بل إن كل طرف فاعل في المجتمع عليه واجبات وله حقوق، ومن بينها الاهتمام بالشأن العام والدعوة إلى احترام حقوق الآخرين.
5- من حيث شمولية القضايا مع التخصيص
انطلاقًا من الربط بين المنطلقات الدينية والإنسانية؛ فقد تناولت الوثيقة في بنودها عددًا من القضايا المهمة؛ ومنها: الحروب، وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، وحماية دور العبادة، والمواطنة، ونشر ثقافة السلام والتسامح والتعايش، والأخُوّة الإنسانية، والعدل، والحوار مع الآخر، والإرهاب البغيض الذي يتنافى مع تعاليم الأديان السمحة البريئة منه. إلى جانب التركيز على حقوق بعض الفئات الأكثر احتياجًا، حيث أفردت لهم الوثيقة بنودًا مستقلة للتأكيد على أهمية الاهتمام بها، لتتفق مع كثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي صدرت لحماية حقوق هذه الفئات على وجه الخصوص، وتشمل هذه الفئات ثلاثًا هي:
1- المرأة، أكدت الوثيقة على أهمية الاعتراف بحق المرأة في التعليم والعمل وممارسة حقوقها السياسية، باعتبارها ضرورة ملحة، مع وجوب العمل على تحرير المرأة من الضغوط التاريخية والاجتماعية المنافية لثوابت عقيدتها وكرامتها. 2- كما ركزت على الطفل، حيث أكدت الوثيقة أن حقوق الأطفال الأساسية، في التنشئة الأسرية والتغذية والتعليم والرعاية، واجب على الأسرة والمجتمع، وينبغي أن تُوَفَّر، وأن يُدَافع عنها. 3- المسنُّون والضعفاء وذوو الاحتياجات الخاصة والمستضعفون، أكدت الوثيقة أن حماية حقوقهم ضرورة دينية ومجتمعية يجب العمل على توفيرها، وحمايتها بتشريعات حازمة، وتطبيق المواثيق الدولية الخاصة بهم.
6- من حيث تحرير الدِّين من توظيفه سياسيًّا
اتفقت الوثيقة في نصوصها مع ما حرصت عليه الشريعة الدولية لحقوق الإنسان، في تحرير الدين من محاولات التوظيف السياسي له واستخدامه في الصراع والسيطرة والدعوى إلى الكراهية والعنف، وما يرتبط به من خلط بين المؤمنين وغير المؤمنين. وفي هذا السياق جاء الموقف الواضح للوثيقة من قضية الإرهاب الملتبِس بالدين، إذ أكدت على مطالبتها الجميع “بوَقْفِ استخدامِ الأديانِ في تأجيجِ الكراهيةِ والعُنْفِ والتطرُّفِ والتعصُّبِ الأعمى، والكَفِّ عن استخدامِ اسمِ الله لتبريرِ أعمالِ القتلِ والتشريدِ والإرهابِ والبَطْشِ؛ لإيمانِنا المُشتَرَكِ بأنَّ الله لم يَخْلُقِ الناسَ ليُقَتَّلوا أو ليَتَقاتَلُوا أو يُعذَّبُوا أو يُضيَّقَ عليهم في حَياتِهم ومَعاشِهم، وأنَّه – عَزَّ وجَلَّ – في غِنًى عمَّن يُدَافِعُ عنه أو يُرْهِبُ الآخَرِين باسمِه”، متفقة في ذلك مع عديد المعاهدات والاتفاقيات والقرارات الدولية التي صدرت بخصوص تجريم الإرهاب ومحاكمة مرتكبيه.
ثالثًا، مستقبل وثيقة الأخُوّة الإنسانية.. الفرص والتحديات
في ضوء ما تضمنته الوثيقة من قيم، وما حملته من التزامات على الأطراف كافة، تم اتخاذ حزمة من الخطوات التنفيذية لتحقيق مستهدفاتها، وهو ما يمكن إيجازه فيما يأتي[21]:
1- تشكيل اللجنة العليا للأخوة الإنسانية، وهي لجنة دولية مستقلة تأسست من أجل تعزيز قيم الأخُوّة الإنسانية في كافة المجتمعات حول العالم، وتحقيق تطلعات وثيقة الأخُوّة الإنسانية الموقعة في الرابع من فبراير 2019. وتحمل رسالة تستهدف إلهام الناس والشعوب كافة؛ ليعيشوا قيم الأخُوّة الإنسانية باعتبار أن هذه القيم هي المفتاح الذي سيقود إلى تعزيز السلام على المستويات كافة، بين الأفراد والمنظمات والشعوب، بل وبين الإنسان والبيئة المحيطة به. وقد اتخذت اللجنة حزمة من المبادرات الإنسانية، من أبرزها ما يأتي:
· إطلاق جائزة زايد للأخُوّة الإنسانية (2019)، وهي جائزة عالمية مستقلة، وتشمل مكافأةً مالية قيمتها مليون دولار أمريكي. تُمنح الجائزة في اليوم الدولي للأخُوّة الإنسانية احتفاءً بجهود الأفراد والكيانات والمؤسسات في تقديم إسهاماتٍ جليلة تهدف إلى تقدم البشريةِ وتعزيز التعايش السلمي في المجتمعات. ويُكرَّم الفائزون ضمن حفل سنوي يُقام في إمارة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة. وسُميت الجائزة باسم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، تكريمًا له وتجسيدًا لقيم التواضع والإنسانية، التي عُرف بها الشيخ زايد عبر تاريخه، والتي تسعى الجائزة للاحتفاء بها.
· تأسيس بيت العائلة الإبراهيمية، وهو رمز فريد للتفاهم المتبادَل والتعايش المتناغم والسلام بين مختلف أبناء الديانات، ومنصة لتأكيد التكامل بين الأديان السماوية الثلاثة. ويضم هذا المشروع مسجدًا وكنيسةً وكنيسًا يهوديًا ومركزًا تعليميًا، ويُقام على جزيرة السعديات بالعاصمة أبوظبي. ويجسد تصميم هذا البيت القيم المشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام.
· إطلاق مبادرات شبابية، تعمل على استقطاب الشباب من مختلف البلدان، والثقافات، والأديان، ومساعدتهم معًا على تطبيق مبادئ الأخُوّة الإنسانية في مجتمعاتهم، ومن أبرز المبادرات إطلاق “برنامج الأخُوّة الإنسانية للتعليم والقيادة من أجل السلام”، يُعد هذا البرنامج حركة شبابية عالمية مكرسة لتعزيز قيم وممارسات الأخُوّة الإنسانية بين الشباب في جميع أنحاء العالم. وبرغم اختلاف الهويات والثقافات والعادات، فإن الهدف هو العيش كأسرة إنسانية واحدة. ولذا، يُركز البرنامج على عديد مجالات العمل التي تمثل فرصًا عالميةً حقيقيةً للشباب لتعزيز الاندماج والتضامن والأخُوّة الإنسانية في المجتمعات، وذلك عبر تمكينهم من تحديد المشكلات بالتفكير الناقد، ومساعدتهم على العمل والمشاركة من أجل تشجيع روح الأخُوّة الإنسانية، إضافةً إلى العمل على تعزيز أخُوّتهم وترسيخها عبر الأجيال بابتكار حلولٍ طويلة الأمد، حيث يهدف هذا البرنامج إلى تحقيق ثلاث غايات رئيسة، وهي:
– خلق منصة عالمية لتعزيز الأخُوّة الإنسانية، والتعايش السلمي، والحوار بين الأديان.
– إعداد الجيل القادم من القادة وإرشادهم وحشدهم ليمثلوا صوت الأخُوّة الإنسانية والتغيير في مجتمعاتهم.
– إطلاق حركة شبابية عالمية تمتلك أدوات التغيير الضرورية والتصدي للتحديات التي تعوِّق تطبيق ممارسات الأخُوّة الإنسانية.
· إطلاق مبادرات متعلقة بالمرأة، من بينها انطلاق منتدى اللجنة العليا للأخوة الإنسانية للمرأة 2021، وهو المنتدى السنوي الأول للمرأة، حيث تم تنظيمه في 8 مارس 2021 بعنوان “آمال المرأة وتحدياتها في عالم ما بعد جائحة فيروس كورونا”، وذلك احتفالًا باليوم العالمي للمرأة. وقد سلط المنتدى الضوء على التحديات التي تواجه المرأة في جميع أنحاء العالم، والتي زادت من حدتها وتفاقمها جائحة فيروس كورونا، ولاسيما اللاجئات المعرضات للخطر والأمهات العاملات.
2- اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ديسمبر 2020، بالإجماع، قرارًا بإعلان يوم 4 فبراير اليوم الدولي للأخُوّة الإنسانية؛ وذلك استجابة للمبادرة التي تقدمت بها كل من دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية. وقد بدأ الاحتفال به سنويًا منذ عام 2021.
3- حظيت الوثيقة باهتمام عالمي، تجلى في اعتماد قادة وزعماء الأديان العالمية والتقليدية المشاركين في المؤتمر السابع في كازاخستان وثيقة الأخُوّة الإنسانية باعتبارها أساسًا للمساهمة في تعزيز السلام والحوار. وكذلك استضافة جامعة جورج تاون في سبتمبر 2022 مؤتمر “بناء التضامن بين الأديان” لورش العمل والمناقشات حول تعزيز وثيقة الأخُوّة الإنسانية، بمشاركة طلاب من جميع أنحاء العالم.
4- احتفاء جائزة زايد العالمية للأخُوّة الإنسانية، التي تعد إحدى ثمار هذه الوثيقة التاريخية الملهمة، كل عام، بالأشخاص أو الكيانات التي تقدم إسهامات جليلة في تعزيز قيم التعايش والأخُوّة الإنسانية[22].
لكن، برغم كل ما أحرزته الوثيقة من خطوات جادة في سبيل تحقيق مستهدفاتها، فإنها لا تزال تواجه بعض التحديات في تطبيقها، تتعلق بالتحديات نفسها التي كانت دافعًا وراء إطلاقها، فالتحديات التي تواجه الإنسانية التي أوضح فضيلة الإمام شيخ الأزهر أحمد الطيب أنها كانت وراء إطلاق هذه الوثيقة، لاتزال ماثلة، بل وبشكل أكثر حدة وأوسع انتشارًا مما كانت عليه الظروف حين إطلاقها.
فعلى سبيل المثال واجه العالم أزمة كوفيد19، وما صاحَبَها من انعكاسات على سلاسل الإمداد واحتياجات الدول النامية من اللقاحات، حيث كشفت الجائحة عن غياب أبعاد أخلاقية عديدة في المجتمع الدولي تتعارض مع مبادئ الوثيقة وأحكامها. والأمر ذاته تكرر مع اندلاع الأزمة الروسية-الأوكرانية في فبراير 2022. إذ تدخل هذه الحرب عامها الثاني في هذا الشهر تزامنًا مع الذكرى الخامسة للوثيقة التي تناشد الجميع تحقيق السلام والاستقرار، وهو ما يتعارض مع ما جاءت به بنود الوثيقة، سواءً فيما يتعلق بالسلام والاستقرار أو فيما يتعلق بالعلاقة بين الشرق والغرب، إذ يؤدي غياب علاقة الحوار بين الجانبين إلى تفاقم الأوضاع سوءًا.
مجمل القول: إن تطبيق الوثيقة ومبادئها يواجه صعوبات جمة في ظل تفاقم الأوضاع وتزايد الصراعات وتوسع الحروب، ليدخل العالم على وجه العموم والمنطقة العربية على وجه التحديد في مرحلة جديدة لم تُحسم ملامحها ولن تنتهي تفاصيلها في المدى المنظور، بما يجعل الوثيقة -برغم أهميتها وما تضمنته من منظومة قيمية- تظل حبيسة المطالبات والمناشدات من جانب القائمين عليها والمؤمنين بها، دون أن تجد لها صدى حقيقيًّا إلا بشكل محدود لا يتجاوز مساحات الوعي والفهم الإنساني.
خاتمة تحليلية وتوصيات
“قد لا يكون طريق الأخُوّة الإنسانية سهلًا، لكننا على ثقة بأنه من خلال الشَّراكات الصادقة والالتزام الحقيقي بمبادئ الأديان، التي تدعو جميعها إلى الأخُوّة والتعايش، سيصبح التغيير المنشود حقيقة ملموسة للجميع”، عبرت هذه العبارة التي وردت على لسان المستشار محمد عبدالسلام الأمين العام للجنة العليا للأخوة الإنسانية بجنيف في مايو 2021 عن قراءة واعية لحجم التحديات التي ستواجه طريق وضع وثيقة الأخُوّة الإنسانية موضع التطبيق، وضمان التطبيق الناجح يتطلب أمرين رئيسيين هما:
الأمر الأول، الإيمان الحقيقي بما ورد في الوثيقة من مبادئ وقيم، وخاصة من جانب المؤسسات الفاعلة والقيادات المؤثرة في المجتمعات المختلفة. الأمر الثاني، بناء الشراكات مع هذه المؤسسات وتلك القيادات. وذلك لأن التغيير المنشود يحتاج إلى إرادة صلبة وقوة عملية قادرة على إحداثه من خلال تحويل مضمون الوثيقة من مجرد أنشطة وفعَاليات فكرية وثقافية وتعليمية، إلى أنشطة عملية.
وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال العمل على ثلاثة مسارات:
الأول: المسار السياسي
وهو المسار المتعلق بضرورة التفاعل بجدية وبقوة مع الأحداث الملتهبة في العالم، وذلك بالنزول إلى بؤر الصراعات والصدام، للتفاعل مع أطرافه ومحاولة بذل الجهد لتقريب وجهات نظر الأطراف المتصارعة أو المتحاربة من جانب، والتفاعل مع ضحايا تلك الصراعات والنزاعات ومساعدتهم وتلبية احتياجاتهم الأساسية من جانب آخر.
الثاني: المسار الاقتصادي
وهو المسار المتعلق بالتواصل مع المنظمات المجتمعية وتنظيمات رجال الأعمال لدفعهم إلى تفعيل المشاركة الاقتصادية من خلال إقامة المشاريع الاقتصادية، التي تضمن عدالة توزيع الثروات والكنوز في أماكن البُؤس والقحط، للقضاء على الفقر والجوع والجهل، ليعيش العالم في سلام وتعايش، بعيدًا عن سياسة الابتزاز والتجويع، وقد نصت الوثيقة على ذلك بوضوح، بأن :” الظُّلمَ وافتِقادَ عَدالةِ التوزيعِ للثرواتِ الطبيعيَّة، التي يَستَأثِرُ بها قِلَّةٌ من الأثرياءِ ويُحرَمُ منها السَّوادُ الأعظَمُ من شُعُوبِ الأرضِ، قد أَنْتَجَ ويُنْتِجُ أعدادًا هائلةً من المَرْضَى والمُعْوَزِين والمَوْتَى، وأزماتٍ قاتلةً تَشهَدُها كثيرٌ من الدُّوَلِ، برغمِ ما تَزخَرُ به تلك البلادُ من كُنوزٍ وثَرواتٍ، …إلخ”.
الثالث: المسار المستقبلي
ويشتمل هذا العمل على مسارين فرعيين:
1- قضايا المستقبل، أضحى من الأهمية بمكان التفاعل مع قضايا المستقبل وتحدياته؛ على غرار: قضايا التغيرات المناخية وتأثيراتها، والفضاء وكيفية استخدامه وحمايته والحفاظ عليه، والذكاء الاصطناعي وأخلاقياته، فمثل هذه القضايا لم ترد بشكل واضح في متن الوثيقة. صحيح أن شمولية الرؤية التي ارتكزت عليها صياغة الوثيقة كانت مهمة، إلا أن الأمر كان يتطلب أن تُفرد الوثيقةُ بنودًا خاصة لمثل هذه القضايا التي تعكس كيفية النظر إليها في إطار قيمي. فمن غير وجود قيم ناظمة لسلوكيات الأفراد والمجتمعات، يواجه هؤلاء الأفراد وتلك المجتمعات صعوبات وتحديات جمة تهدد الإنسانية جمعاء. وهذا هو الدافع الرئيس الذي صدرت من أجله الوثيقة، إذ انطلقت من قيمة الأخُوّة.
2- مُوقِّعون جدد، إذ أضحى مهمًّا أيضًا أن يتم توسيع الدعوة لتعُمَّ قيادات الأديان والمذاهب الأخرى للتوقيع على هذه الوثيقة الإنسانية، فخطابها موجه بصورة رئيسة إلى أتباع هاتين المؤسستين، الأزهر والفاتيكان، في حين أن هناك مؤسسات دينية أخرى يتبعها ملايين البشر، مطلوب مخاطبتهم. وصحيح أن الوثيقة موجَّهة للإنسانية جمعاء، بما تحمله من قيم إنسانية ومبادئ سامية، لكن لتأكيد عالميتها، ينبغي دعوة قيادات الأديان والمذاهب الأخرى للتوقيع عليها والانضمام إليها.
الهوامش
[1]. مقدمة وثيقة الأخُوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعیش المشترك. https://2h.ae/KJCF
[2]. القانون الدولي لحقوق الإنسان يختلف عن القانون الدولي الإنساني في بنود كثيرة؛ أهمها أن الأول يطبق في كل الأوقات في حين الإنساني أثناء الأزمات والنزاعات المسلحة.
[3]. مدیر المركز الكاثولیكي للدراسات والإعلام في الأردن، لـ«الاتحاد»: «وثيقة الأخُوّة» إضاءة عالمية شاملة و«وزارة التسامح» بصمة إماراتية 26 أكتوبر 2019. https://2h.ae/lLJG .
[4]. المرأة في وثيقة الأخُوّة الإنسانية، مجلة الأزهر، 14 مارس 2021. https://2h.ae/LmvT .
[5]. شيخ الأزهر: التحديات الإنسانية كانت سببًا في ميلاد وثيقة الأخُوّة الإنسانية، اليوم السابع، 4 فبراير 2023. https://2h.ae/jzHk
[6]. وثيقـة الأخُوّة الإنســانية تؤكد أهمية نشر قيم التسامح وإيقاظ الحس الديني بالتربية الصحيحة، الهيئة العامة للاستعلامات، 2 فبراير 2019. https://2h.ae/Nexb .
[7]. الإمارات رمز في تعزيز التقارب والسلام بين الشعوب، جريدة الاتحاد الإماراتية، 22 ديسمبر 2019. https://2h.ae/XbdC .
[8]. شيخ الأزهر: توقيع وثيقة الأخُوّة الإنسانية حدثٌ تاريخي يبعث برسالة سلام للبشرية، اليوم السابع، 4 فبراير 2020. https://2h.ae/lcdi .
[9]. رئيس أساقفة القسطنطينية: وثيقة الأخُوّة الإنسانية علامة بارزة في تعزيز الحوار بين الأديان، جريدة الاتحاد الإماراتية، 25 أكتوبر 2020. https://2h.ae/pGEW .
[10]. سكرتير بابا الفاتيكان لـ”اليوم السابع”: البابا يهدي زائريه وثيقة الأخُوّة الإنسانية، اليوم السابع، 6 فبراير 2020. https://2h.ae/oUjc .
[11]. البابا فرنسيس يتبرع بقيمة جائزة الأخُوّة الإنسانية لـ مسلمي الروهينجا، موقع مبتدأ، 4 فبراير 2020. https://2h.ae/OojT .
[12]. اللجنة العليا للأخوة الإنسانية. https://2h.ae/fWna .
[13]. أمل القبيسي تدعو برلمانات العالم إلى تبني وثيقة الأخُوّة الإنسانية، جريدة الاتحاد الإماراتية، 27 فبرابر، 2019. https://2h.ae/ohEm .
[14]. شيخ الأزهر يدعو للتضامن الإنساني وتوجيه أنظار العالم نحو إنهاء معاناة الفقراء والمضطهدين، 20 ديسمبر 2020. https://2h.ae/NODJ .
[15]. تعزيز الأخُوّة الإنسانية والسلم العالمي. https://2h.ae/RmRC .
[16]. وثيقـة الأخُوّة الإنســانية تؤكد أهمية نشر قيم التسامح وإيقاظ الحس الديني بالتربية الصحيحة، الهيئة العامة للاستعلامات، مرجع سابق.
[17]. مركز تريندز للبحوث والاستشارات، اتجاهات مستقبلية: الأخُوّة الإنسانية.. الدور التطبيقي لمراكز البحوث، جريدة الوطن الإماراتية، 7 فبراير 2023. https://2h.ae/kkZm .
[18]. مجلس حكماء المسلمين ينظم قمة عالمية للقادة والرموز الدينيين لمعالجة أزمة المناخ قبل COP28، اليوم السابع، 2 سبتمبر 2023. https://2h.ae/QICB .
[19]. القانون الدولي لحقوق الإنسان هو منظومة من القواعد الدولية المصمَّمة لحماية وتعزيز حقوق الإنسان للجميع، وهذه الحقوق الطبيعية لدى كل بني البشر كافة، بصرف النظر عن جنسيتهم أو مكان إقامتهم أو نوع جنسهم أو أصلهم القومي أو العرقي أو لونهم أو ديانتهم أو لغتهم أو أي مكانة أخرى. فهي حقوق مترابطة ومتداخلة وغير قابلة للتجزئة. وهذه الحقوق يكفلها القانون الدولي سواءُ كان في شكل معاهدات أو مبادئ عامة أو قواعد عرفية. وتنطوي حقوق الإنسان على حقوق والتزامات، حيث يحدد القانون الدولي لحقوق الإنسان التزامات الدول بالتصرف بطرق معينة أو بالإحجام عن اتخاذ إجراءات معينة، وذلك من أجل تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية للأفراد أو الجماعات.
للمزيد: المفوض السامي لحقوق الإنسان، الحماية القانونية الدولية لحقوق الإنسان في النزاع المسلح، الأمم المتحدة، نيويورك 2013، ص ص 8-9.
[20]. إبراهيم سلامه، قراءة حقوقية في وثيقة الأخُوّة الإنسانية، دراسات في حقوق الإنسان، الهيئة العامة للاستعلامات، العدد 5، 2019، ص 34.
[21]. مبادرات اللجنة العليا للأخوة الإنسانية. https://n9.cl/2653y .
[22]. 4 أعوام على توقيع وثيقة الأخُوّة الإنسانية.. احتفاء دولي وتكريم الملهمين، جريدة اليوم السابع المصرية، 4 فبراير 2023. https://n9.cl/j9hbge .