المقدمة
منذ تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حقق اقتصادها إنجازات تنموية مهمة، وبلغ منزلة إقليمية رائدة، على نحو ما توضحه العديد من التقارير الاقتصادية الدولية[1]. لا تكمن الإنجازات التي حققها الاقتصاد الإماراتي في ارتقاء مؤشرات أداءه الداخلي فقط، بل تظهر كذلك في علاقاته الاقتصادية المتوازنة بدول العالم وأقاليمه المختلفة. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى نهاية العقد الثاني من قرننا الراهن، ظل النمو الاقتصادي الإماراتي على المنحنى الصاعد، وكان معدل النمو في ناتجه المحلي الإجمالي في متوسط سنوي ناهز 5% خلال تلك الفترة. وفي الاتجاه ذاته، استمر الميزان التجاري الإماراتي في تحقيق فائض مع العالم الخارجي، ليصل هذا الفائض في ميزان تجارة السلع والخدمات في العام 2019 إلى نحو 24% من الناتج المحلي الإجمالي[2].
وإذا كان من الصحيح أن هذا الأداء التنموي للاقتصاد الإماراتي قد اعتمد بصفة أساسية على الدخل الذي يولَّده قطاع النفط وقطاع الخدمات؛ فمن الصحيح أيضاً أن البرامج والسياسات الاقتصادية المحلية ما انفكَّت تستهدف تنويع مصادر الدخل القومي؛ لتعزيز القيمة المضافة المولدة في القطاعات الاقتصادية غير النفطية، كقطاعي الزراعة الحديثة والصناعة التحويلية؛ ولم تتوانَ، في الوقت نفسه، عن دعم الصادرات الإماراتية غير النفطية. ولما كان نجاح هذه البرامج والسياسات مرهون بوجود رؤية وطنية شاملة وموحدة على طريق التنمية المستدامة، فقد أتت وثيقة مبادئ الخمسين لتضبط بوصلة هذه الرؤية، وتضع هدف النهوض التنموي بالاقتصاد الإماراتي، وتنويع مقومات نهضته في مصافِّ مبادئها العشرة[3].
الشكل (1)
المبادئ العشرة لوثيقة الخمسين الخاصة بدولة الإمارات العربية المتحدة
تضمنت وثيقة مبادئ الخمسين، عشرة مبادئ جامعة لملامح مستقبل دولة الإمارات العربية المتحدة؛ وقد دارت هذه المبادئ حول تدعيم الوحدة الإماراتية وترسيخها، ودعم رأس المال البشري، والحفاظ على منظومة القيم الوطنية، وتمتين العلاقات الخارجية (انظر الشكل السابق رقم «1»)؛ وبنظرة إضافية على هذه المبادئ تكشف عن مركزية الأهداف الاقتصادية ضمن ما تتبناه من أهداف؛ وتؤكد على الدعم غير المحدود الذي سيتاح للقطاعات الاقتصادية الإماراتية، ولاسيَّما أنشطة القطاع غير النفطي. ولإثبات ذلك، تحاول هذه الدراسة استشراف البرامج والسياسات الاقتصادية التي ستتمخض عن المبادئ العشرة، موضحة الأبعاد الاقتصادية والحدود التنموية الضرورية لنجاح هذه البرامج والسياسات المستقبلية. ولكي يستقيم المنهج التحليلي للدراسة، ويُبنى على أسس علمية منضبطة؛ ستبدأ في جزئها التالي لهذه المقدمة في إلقاء نظرة عامة على مؤشرات الأداء الاقتصادي الإماراتي في السنوات الأخيرة المتوافرة بياناتها الاقتصادية، وذلك لمقارنتها بالأبعاد الاقتصادية التي تضمنتها الوثيقة. ثم تنطلق الأجزاء التالية إلى التأمل في القدرات الكامنة بالاقتصاد الإماراتي وطموحه التنموي، وصولاً إلى استشراف إمكانات وفرص التحول من النمو المستقر إلى التنمية المستدامة.
- آفاق الاقتصاد الإماراتي في ظلِّ إصدار وثيقة الخمسين
للوقوف على أبرز الملامح والمؤشرات العامة للاقتصاد الإماراتي في ظل إصدار وثيقة الخمسين، سيعتمد التحليل التالي على مؤشرات التنمية العالمية التي ينشرها البنك الدولي بصفة دورية. والشكل التالي يوضح بعض المؤشرات المختارة التي تعكس الأداء الداخلي للاقتصاد الإماراتي والتي تُبين علاقته الاقتصادية بالعالم.
الشكل (2)
مؤشرات مختارة لأداء الاقتصاد الإماراتي
- على صعيد المؤشرات الرئيسية للأداء الداخلي، ووفقاً لبيانات البنك الدولي[4]، فإن للاقتصاد الإماراتي إنجازات ملموسة تظهر في ضخامة جهده الادِّخاري. فمعدل الادِّخار المحلي الإجمالي في عام 2019 يقترب من 50% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة نفسها. وبزيادة هذا المعدل، تزداد القدرات التمويلية المحلية التي يمكن توجيهها إلى قنوات الاستثمار المختلفة، محلياً وخارجياً. وتنعكس هذه القدرات التمويلية على نمو رصيد الاستثمار السنوي في الأصول طويلة الأجل. إذ بلغ التكوين الرأسمالي الإجمالي في العام نفسه نحو 24% من الناتج المحلي في العام 2019. لكن الملاحظ أن أغلب هذه الاستثمارات طويلة الأجل تركزت في قطاع الخدمات على امتداد فترة طويلة من الزمن. إذ زادت القيمة المضافة المولدة في هذا القطاع عن نصف الناتج المحلي الإجمالي (نحو 53%) في عام 2019. أما قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية فلم يُسهما في توليد القيمة المضافة في العام نفسه سوى بنسبة 0.7% ونسبة 8.7% على الترتيب. ومؤدى ذلك أن قطاع الخدمات يُهيمن بشكل واضح على هيكل النشاط الاقتصادي الإماراتي، إذ أصبح القطاع الأكثر توظيفاً، ويملك حصة مهمة من الاستثمار والتشغيل والإنتاج السنوي.
- وبإمعان النظر في أوضاع الموازنة العامة الإماراتية، يمكن التوصل إلى ثلاثة ملامح رئيسية حول مكانة القطاع الحكومي ضمن قطاعات الاقتصاد الإماراتي، وحول الاستدامة في مصادر تمويل نفقات هذا القطاع. أولها أن إجمالي نفقات الحكومة الاتحادية (نفقات الأجور والمرتبات والدعم والمنافع الاجتماعية.. إلخ) تمثل نحو 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019. وثاني هذه الملامح أن حصيلة الضرائب الإجمالية بالكاد تبلغ نسبة 1% من الناتج المحلي في العام نفسه. أما ثالث هذه الملامح فيُستخلص من المقارنة بين الملمحين الأول والثاني. ومن هذه المقارنة يتبين أن حصيلة الضرائب السنوية تقل عن ربع الإنفاق العام (نحو 23% من الإنفاق العام)؛ أي أن الإنفاق العام الاتحادي يُموَّل من مصادر غير ضريبية، ولاسيَّما من إيرادات الحكومة الخاصة بممتلكاتها.
- تتركز علاقة الاقتصاد الإماراتي بالعالم الخارجي في الصادرات النفطية والخدمية، وتوضح بيانات البنك الدولي[5] بعض الحقائق حول أهمية قطاع التجارة الخارجية ودور الاستثمارات الأجنبية، وتطور الاحتياطيات الدولية الإماراتية في عام 2019. فقد بلغت الصادرات الإماراتية من السلع والخدمات (بما فيها صادرات قطاع النفط) منسوبة إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 92%. وكانت هذه الصادرات تنمو بمعدل متوسطه 3% سنوياً في آخر خمسة أعوام (2015-2019). ونظراً إلى بلوغ الواردات الإماراتية من السلع والخدمات منسوبة إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 68.5% في عام 2019؛ فقد تمكن الاقتصاد الإماراتي من تحقيق فائض كمِّي في ميزان السلع والخدمات بما يقترب من 24% من ناتجه المحلي في العام نفسه. ونتيجةً لنمو تدفقات الاستثمارات الأجنبية للاقتصاد الإماراتي البالغة نحو 13.8 مليار دولار؛ فإن مكانتها هي الأخرى في توليد الناتج المحلي الإجمالي أخذت في التزايد، كما وصلت قيمة تدفقاتها إلى نسبة 3.3% من هذا الناتج في العام نفسه. وأمام هذه الأوضاع الخارجية المتميزة للاقتصاد الإماراتي، فمن الطبيعي أن تنمو احتياطياته الدولية من النقد الأجنبي باطِّراد لتصل إلى 108 مليار دولار في عام 2019.
وعموماً فإن المؤشرات السابقة تمثل أبرز الملامح الاقتصادية لوثيقة مبادئ الخمسين بما تشمله من أبعاد اقتصادية وبما تحمله من طموح تنموي. ويمكن القول بإن فلسفة هذه الوثيقة تقرُّ-ضمناً-بأن الاقتصاد الإماراتي قادر على تحقيق المزيد من الإنجازات الاقتصادية والتنموية. فالمبادئ العشرة، -وهي تطمح لأن يكون الاقتصاد الإماراتي الأنشط عالمياً في الخمسين عاماً القادمة-، تضع هدف تنويع الاقتصاد أولوية قصوى لإنجاز نموٍّ عالٍ في قيمته، ومستدامٍ في مقوماته ومولداته. لكن السؤال الذي ستحاول الدراسة الإجابة عنه في جزئها التالي هو: ما الأبعاد الاقتصادية للمبادئ العشرة، وما علاقة هذه الأبعاد بمؤشرات الأداء الاقتصادي الإماراتي بملامحه العامة المعروضة آنفاً؟
- الأبعاد الاقتصادية للمبادئ العشرة:
إن قراءة متأنية للمبادئ العشرة لوثيقة الخمسين توضح أن هذه الرؤية المستقبلية لدولة الإمارات العربية المتحدة تحوي العديد من الأبعاد الاقتصادية الصريحة والضمنية. والفقرات القادمة ستحلل المبادئ العشرة لهذه الوثيقة لتحدد تفاصيل هذه الأبعاد. بيد أن تحديد هذه الأبعاد لن يأتي عبر تحليل مضمون كل مبدأ من المبادئ العشرة مستقلاً بذاته أو منفصلاً عن المبادئ الأخرى؛ بل سيتم في سياق جامع لهذه المبادئ في رؤية تنموية واحدة. وبالتالي، وفي ضوء المؤشرات الكلية الحالية للاقتصاد الإماراتي؛ فإن المبادئ العشرة تتضمن أبعاداً اقتصادية تدور حول تطوير البناء الاقتصادي والمؤسسي، وطرق النهوض بالأداء الاقتصادي الداخلي، واستدامة التوازن الإيجابي في العلاقات الخارجية للاقتصاد الإماراتي، وبدائل الاستثمار في رأس المال البشري، وفرص توطين التكنولوجيا الحديثة، وإمكانات تعظيم العوائد من استثمار أصول صناديق الثروة السيادية الإماراتية.
الشكل (3)
الأبعاد الاقتصادية لوثيقة مبادئ الخمسين
البعد الأول: تطوير البناء الاقتصادي والتحديث المستمر للمؤسسات
بالنسبة إلى تطوير بناء الاقتصاد، نجد أن مؤشرات الاقتصاد الإماراتي -المعروضة آنفاً- قد كشفت عن تركُّز القيمة المضافة المولدة فيه في قطاع الخدمات بتقسيماته المختلفة. ولوعي المبادئ العشرة بذلك التركُّز، ولاستهدافها إحداث تنويع مستمر في مولدات القيمة المضافة الإماراتية؛ فإنها تتضمن النهوض بالزراعة الحديثة، عبر تهيئة البنية الأساسية والأراضي الصالحة لهذا النوع من الزراعة، من خلال استخدام التقنيات الزراعية فائقة التطور، والاستخدام الأمثل للموارد المائية، والاستفادة القصوى من الهندسة الوراثية في زيادة الإنتاجية الزراعية الإماراتية. ولأن التنويع المستهدف من هذه المبادئ لن يكتب له النجاح بغير الارتقاء بمؤشرات التصنيع الوطني؛ فإن تعميق التصنيع الإماراتي، والانتقال رأسياً من صناعات التجميع إلى الصناعات متوسطة وعالية المكونات المحلية، وإدخال طرائق الإنتاج ونظم الإدارة الحديثة، وزيادة التشابكات المتعمَّدة بين قطاع الصناعة التحويلية وقطاعي الزراعة والتجارة الخارجية، تمثل كلها وسائل النهوض بالصناعة التحويلية الإماراتية. ولتمتع قطاع الخدمات بمكانة عالية في الاقتصاد الإماراتي؛ فإن تطوير هذه المكانة بما يخدم التنويع الاقتصادي يستدعي التركيز على دعم أنشطة الخدمات المتشابكة مع القطاع الصناعي، كالخدمات الإنتاجية (مثل خدمات النقل والتخزين واللوجستيات الرقمية)، والخدمات المالية (مثل تيسير الائتمان الموجه لقطاعي الزراعة والصناعة)، وخدمات السياحة المستدامة، فضلاً عن المزيد من تحديث الخدمات الحكومية.
وبالتأكيد، فإن تحديث المؤسسات وأنظمة التشغيل الإماراتية يُعدُّ بعداً أساسياً من الأبعاد الاقتصادية لوثيقة مبادئ الخمسين. فمزيد من التحديث والتهيئة التنموية للمؤسسات الاتحادية، ووحدات الإدارة المالية للحكومة، والوزارات والهيئات العامة، سيمثّل المدخل الواسع لمستقبل الاقتصاد الإماراتي، والوسيلة الأساسية للارتقاء بتنافسيته في ظل احتدام هذه المنافسة إقليمياً وعالمياً. كما أن تطوير الأداء في المؤسسات العامة لا يقتصر على تطوير مؤشرات التنافسية، لكنه يُسهم في التوظيف الكفء للموارد الاقتصادية ويفيد في النزول بتكاليف الاستثمار والإنتاج والتشغيل محلياً، لترتقي معدلات الربحية ويرتقي النمو المحقق سنوياً في الاقتصاد الإماراتي. ويُعدُّ هذا البُعد ضمانة أولى لتحقيق الأهداف الاقتصادية للمبادئ العشرة. ويتضح فيما أقرَّه المبدأ الثاني من المبادئ العشرة، حول تركيز الجهود لبناء الاقتصاد الأفضل والأنشط في العالم.
البعد الثاني: النهوض بالأداء الاقتصادي الداخلي
في ضوء المبادئ العشرة لوثيقة الخمسين، وفي ضوء المبدأين الأول والثاني من هذه المبادئ، فإن النهوض بمؤشرات الأداء الاقتصادي الداخلي تعني العمل على ثلاثة محاور أساسية. يتمثل المحور الأول في إتاحة التمويل الكافي للاستثمار المولد للنمو الاقتصادي. ولما كان الادِّخار المحلي (الحكومي والخاص والعائلي) يبلغ معدلاً مرتفعاً في الاقتصاد الإماراتي على النحو الموضح سابقاً، فإن إتاحة التمويل الكافي والملائم للاستثمار، وضمان أن يكون هذا التمويل موصولاً بسياسات التنويع الاقتصادي، يحتاج إلى تطوير سوق رأس المال، بما في ذلك أن يكون الجهاز المصرفي الإماراتي عالي التميز والكفاءة التشغيلية. ولذلك، فمحور إتاحة التمويل تعني بالضرورة تطوير الجهاز المصرفي الإماراتي والمؤسسات المالية غير المصرفية (مثل صناديق الاستثمار وشركات التأمين) لتخدم القطاعات الاقتصادية عالية القيمة المضافة، خصوصاً قطاعي الصناعة والزراعة الحديثة.
الشكل (4)
محاور النهوض بالأداء الداخلي للاقتصاد الإماراتي
أما المحور الثاني للنهوض بمؤشرات الأداء الاقتصادي الداخلي، فهو مرتبط بالمحور الأول ومعتمد عليه. ذلك أن الدفعة القوية المطلوبة لتنويع مصادر الدخل في الاقتصاد الإماراتي تحتاج، كما سبقت الإشارة، إلى دعم أنشطة قطاع الزراعة والصناعة. وبرغم أهمية كفاية التمويل وملاءمته، فإن الدعم الذي يحتاجه هذين القطاعين لا يقتصر على الدعم التمويلي. فوجود خطة شاملة للتنويع الاقتصادي، تنبثق عنها برامج وسياسات متكاملة وملائمة لظروف الاقتصاد الإماراتي الراهنة، وتتشابك وتتفاعل مع قطاع التجارة الخارجية، وتُتَرجم إلى خطوات تنفيذية في واقع أنشطة الصناعة والزراعة، ويتوازى معها تطوير البنى الأساسية للزراعة والصناعة، جنباً إلى جنب مع توافر التمويل الكافي والملائم؛ هي الأسس السليمة التي يبنى عليها التنويع الاقتصادي الإماراتي.
إضافةً إلى سياسات التنويع الاقتصادي، فإن البعد المالي في المبادئ العشرة والذي يضمن تحقيق الاستدامة في الموازنة العامة الاتحادية يقوم على قاعدتين؛ تبنى القاعدة الأولى على تطوير البرامج والسياسات المفيدة في ضبط الإنفاق العام الجاري والاستثماري وترشيده، بهدف تعظيم إنتاجية هذا الإنفاق العام. أما القاعدة الثانية فتستهدف زيادة الطاقة الضريبية للاقتصاد الإماراتي دون الإخلال أو الإضرار بأبعاد العدالة الاجتماعية والإقليمية. إذ من الممكن زيادة الحصيلة الضريبية بتطوير أنظمة ضريبية تصاعدية في شرائحها، وتستهدف الأوعية الضريبية حسب قدرة الممولين على الدفع. وفي هذا السياق، فإن ترتيب هذه الأوعية الضريبية تنازلياً يُراعي أبعاد العدالة الاجتماعية؛ إذ يبدأ من وعاء الثروة والممتلكات، ثم وعاء الدخل، وينتهي بوعاء الإنفاق.
البعد الثالث: التوازن الإيجابي في العلاقات الاقتصادية الخارجية
وللأهمية التي تحوزها العلاقات الخارجية في المبادئ العشرة، فإن تحقيق التوازن الإيجابي في التجارة الخارجية الإماراتية يمثل أحد الأبعاد الاقتصادية المهمة ضمن هذه الوثيقة. والتوازن الإيجابي يعني أن ترتقي الصادرات الإماراتية في الخمسين عاماً القادمة. فزيادة حصة الصادرات متوسطة وعالية التكنولوجيا في هيكل الصادرات الإماراتية، وزيادة المكونات المحلية في هذه الصادرات، وارتقاء وضع الاقتصاد الإماراتي في سلاسل التوريد العالمية، مع انتشار الصادرات السلعية الإماراتية في وجهات تصديرية متنوعة، تمثل في مجموعها العامل الأول لتحقيق التوازن الإيجابي في التجارة الخارجية الإماراتية. أما العامل الثاني، فيدور حول ضبط الميل للاستيراد، والتحليل المستمر لقوائم الواردات، مع التطوير الدائم للقدرات الإنتاجية المحلية لترشيد الواردات. وبنجاح هذه السياسة، يستمر التوازن الإيجابي المحقق في التجارة الخارجية الإماراتية، وتتعزز مؤشرات الاستدامة في الميزان التجاري الإماراتي. ويدعم هذا التوازن الإيجابي جاذبية الاقتصاد الإماراتي للاستثمارات الأجنبية المباشرة في القطاعات عالية القيمة المضافة، وبالشكل الذي يحقق مضمون المبدأين الثالث والسادس حول السياسة الخارجية والسمعة العالمية الإماراتية.
البعد الرابع: الاستثمار في رأس المال البشري
ويأتي الاستثمار في رأس المال البشري ضمن الأبعاد الاقتصادية الأساسية في وثيقة مبادئ الخمسين. فلهذا البعد أهمية خاصة في حاضر الاقتصاد الإماراتي ومستقبله؛ ويعود ذلك إلى ثلاثة عوامل أساسية؛ أولها أن جاذبية سوق العمل الإماراتي للعمالة الوافدة، يزيد من المنافسة القائمة في هذا السوق؛ ما يتطلب المزيد من الارتقاء بتنافسية الكوادر الوطنية بالتوازي مع تطبيق تنظيمات داعمة لتوطين الأنشطة الاقتصادية المختلفة. وثاني هذه العوامل أن أنشطة قطاع التعليم والتدريب تحوز على حصة مهمة من الإنفاق العام بالموازنة الاتحادية، وتجذب إليها استثمارات القطاع الخاص المحلي والأجنبي. وإزاء ذلك، تتعين مراعاة الكفاءة والفاعلية في هذا الإنفاق. أما ثالث هذه العوامل، فهو يخص طبيعة المعارف والمهارات التي يحتاجها المستقبل الاقتصادي لدولة الإمارات العربية المتحدة وفق المبادئ العشرة بوثيقة الخمسين. فالنهضة الصناعية، التي هي أساس النهضة الاقتصادية، لا تقوم إلا بتوافر المهارات وتراكم الخبرات الوطنية. ويحتاج ذلك إلى دعم رأس المال البشري ليتسم بالتطور الفني والتقني، وليواكب باستمرار ما تتطلبه النهضة الصناعية. وذلك هو المضمون الواضح للمبدأ الرابع والمبدأ السابع من مبادئ وثيقة الخمسين.
البعد الخامس: توطين التكنولوجيا
ولما كانت التكنولوجيا الحديثة هي عماد أي نهضة اقتصادية، فإن الريادة التكنولوجية والتحول المستدام ناحية تطوير تكنولوجيا الإنتاج الإماراتية هي أساس لبناء اقتصادي نشط ومستدام. وبالتأمل في المبدأ السابع في وثيقة مبادئ الخمسين، فإن التفوق الرقمي والتقني الضروري للنهضة الاقتصادية الإماراتية يعني توطين هذه التكنولوجيا محلياً، ويعني في الوقت ذاته أن يتهيأ الاقتصاد الإماراتي لزيادة قدراته الذاتية في توليد هذه التكنولوجيا مستقبلاً. إذ يرتبط توطينها بتعزيز الإنفاق على البحث والتطوير في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وبتطوير أنشطة الشركات الصغيرة والمتوسطة أيضاً، وأنشطة رواد الأعمال المواطنين، خصوصاً في التكنولوجيا الرقمية.
وبطبيعة الحال، فإن توطين التكنولوجيا محلياً وفق ما يقرّه المبدأ السابع من مبادئ وثيقة الخمسين يحتاج إلى تضافر الجهود المؤسسية الوطنية، ويستدعي تسخير القدرات التمويلية المحلية لمساندة أنشطة التحول المستدام للتكنولوجيا، ويقتضي تحفيز النوعية الناقلة للتكنولوجيا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ومن الضروري أيضاً الإشارة إلى أن العلاقة التي تربط تحول التكنولوجيا بالتحول الأخضر في الاقتصاد الإماراتي، تزيد من أهمية التحول التكنولوجي في أنشطة الإنتاج المختلفة، ولاسيَّما في الصناعات عالية الانبعاثات الكربونية.
البعد السادس: صناديق الثروة السيادية الإماراتية، من زيادة العوائد إلى الريادة الدولية
بالنظر إلى الفوائض المالية التي يمتلكها الاقتصاد الإماراتي من تجارته الخارجية، فإن مبادئ الخمسين تستهدف ضمناً تنمية هذه الفوائض عبر زيادة الكفاءة في التجارة الخارجية والاستثمارات الإماراتية في أسواق العالم المختلفة. ولتدعيم مكانة الاقتصاد الإماراتي إقليمياً وعالمياً، فإن المبادئ العشرة تولي أهمية خاصة للمساعدات الإنسانية التي تمنحها للشعوب على النحو الذي يقره المبدأ التاسع في هذه المبادئ. وبينما تموّل هذه المساعدات من الفوائض المالية التي يملكها الاقتصاد الإماراتي، فإن الجمع بين الإدارة الاقتصادية الرشيدة لهذه الفوائض وبين الاستمرار في تقديم هذه المساعدات يتطلب العمل على محورين؛ أولهما يدور حول تعزيز الكفاءة والفاعلية في إدارة الأصول الاحتياطية الإماراتية، وزيادة العوائد على استثمارات الصناديق السيادية الإماراتية. والثاني ينصبُّ في التحول النوعي في المساعدات الخارجية؛ لتزيد نسبة الاستثمارات الإماراتية الخارجية في هيكل هذه المساعدات في الوجهات الدولية التي تحتاجها. وبناء على هذا التحول النوعي، يمكن زيادة العوائد الاقتصادية وغير الاقتصادية التي يجنيها الاقتصاد الإماراتي من هذه المساعدات، فضلاً عن زيادة عوائد الأصول الاحتياطية الإماراتية وصناديق الثروة السيادية، لتصل إلى الريادة العالمية وفق ما يقرّه المبدأ السادس من وثيقة مبادئ الخمسين.
وعموماً، وبجمع الأبعاد الستة السابقة في إطار واحد، وبصفتها أهدافاً عامة للاقتصاد الإماراتي في الخمسين عاماً القادمة، فالسؤال المحوري الذي تتعين الإجابة عنه الآن هو: ما فرص تحقق هذه الأهداف في ظل ما يمتلكه الاقتصاد الإماراتي من قدرات وإمكانات وموارد اقتصادية؟ وبمنطق آخر، ما هي الحدود التي تجب مراعاتها عند رسم الخطط التنموية الإماراتية، وما ينبثق عنها من برامج وسياسات اقتصادية، لتحقيق هذه الأهداف الستة؟ فمعرفة هذه الحدود ضرورية من منظور صانع السياسات الاقتصادية الإماراتي. ذلك أن تجاوز هذه الحدود، وتطوير الخطط والبرامج والسياسات التنموية المحلية، هو مفتاح التحول الإماراتي للغايات الاقتصادية المنشودة من وثيقة مبادئ الخمسين.
- الحدود التنموية للمبادئ العشرة:
على ضوء الأبعاد الاقتصادية التي تضمنتها وثيقة المبادئ العشرة، فمن المؤكد أن الاقتصاد الإماراتي، بما يملكه من إمكانات وما يرسمه من خطط وبرامج وسياسات، قادر على تحقيق الأهداف العامة لوثيقة مبادئ الخمسين. لكن هذه القدرة محكومة بحدود تنموية واضحة. والنقاط التالية تستكشف هذه الحدود.
الشكل (5)
الحدود التنموية لوثيقة مبادئ الخمسين
أولاً- التعلم من الخبرات الدولية في تسريع النمو الاقتصادي
إن قدرة الاقتصاد الإماراتي على إنجاز أهدافه التنموية للخمسين عاماً المقبلة تقتضي التعلم من التجارب التنموية الناجحة. ذلك أن مسببات النجاح الاقتصادي لا تختلف من دولة لأخرى إلا بقدر التغير في السياق الزمني لهذه التجارب. ولذلك، فمن الممكن تعميم مسببات النجاح الاقتصادي وتجريدها من هذا السياق الزمني، للوصول إلى العوامل الرئيسية التي تسبب هذا النجاح.
والدروس المستخلصة من التجارب الدولية، وفق هذا التعميم، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام تتناول موضوعات التمويل، وتطوير الهيكل الاقتصادي، والانفتاح المنضبط على العالم. وتوضح النقاط التالية هذه الدروس بصورة أوضح:
- التجارب الدولية الناجحة، كتجربة النمور الآسيوية، بُنيت أساساً على وجود فسحة من التمويل الناتج من المعدل المرتفع للادِّخار المحلي. وقد ارتفع معدل الادِّخار في هذه التجارب كنتيجة مباشرة لسياسات ضبط أنشطة الاستهلاك الخاص والحكومي، وتوافر أوعية وقنوات استثمارية محلية مجزية. كما قامت الموازنة العامة بدور مهم في إتاحة التمويل المحلي للاستثمار العام، نتيجة لتعزز مؤشرات الاستدامة المالية في هذه التجارب الدولية.
- والدرس الخاص بتطوير الهيكل الاقتصادي يظهر بوضوح في تجربة الاقتصاد الصيني. إذ يُعزى الدور الرئيسي في تسريع وتيرة النمو الاقتصادي الصيني إلى الارتقاء بمؤشرات الصناعات التحويلية، وارتفاع المكونات المحلية الصينية. فقطاع الصناعة التحويلية الصيني من حيث الأهمية النسبية، هو القطاع الأعلى قدرة على توليد القيمة المضافة. كما تظهر أهمية الاستخدام الكفء للموارد الاقتصادية، خصوصاً مورد رأس المال البشري.
- أما دروس الانفتاح المنضبط على العالم فهي متنوعة؛ تشمل التوازن الإيجابي في التجارة الخارجية عبر تشجيع الصادرات عالية القيمة المضافة، وتشمل المحاكاة التكنولوجية لبناء تكنولوجيا إنتاج وطنية مستقلة أيضاً. كما تتضمن كذلك تحسين مناخ الاستثمار المحلي، ليكون مشجعاً للاستثمارات المحلية وجاذباً للاستثمارات الأجنبية المباشرة. وتقدم التجربة الكورية الجنوبية مثالاً واضحاً على هذه النوعية من الدروس الدولية.
وعند صياغة الخطط والبرامج والسياسات الاقتصادية الإماراتية، فإن مراعاة التعلم من الدروس السابقة هي ضمانة مهمة للوصول إلى الغايات الاقتصادية بأقصر الطرق وبأقل التكاليف والأعباء. فالتعلم والاستفادة من هذه الدروس هو أول الحدود التنموية المرتبطة بوثيقة مبادئ الخمسين.
ثانياً- المشاركة بين القطاعين العام والخاص
نتيجة للتطوير والتحديث المستمرين لمناخ الاستثمار وبيئة الأعمال في الاقتصاد الإماراتي، شهدت أنشطة القطاع الخاص الوطني ازدهاراً مطَّرداً في قيمتها خلال العقود القليلة الماضية. ومع النمو الحاصل في أنشطة القطاع الحكومي في مجال إنتاج الخدمات العامة والاجتماعية، فإن تهيئة مناخ الاستثمار، للتطوير الكمِّي والنوعي للمشاركة بين القطاعين العام والخاص في أنشطة الإنتاج المختلفة، يمكنها أن تزيد من قدرة الاقتصاد الإماراتي التمويلية والتشغيلية والتنظيمية، على تحقيق غاياته المتضمنة في المبادئ العشرة. ولذلك فالنجاح في تعزيز مؤشرات المشاركة بين القطاعين العام والخاص، وتطوير إطار اقتصادي وتنظيمي كفء لهذه الاستثمارات المشتركة، يُعدُّ أحد الحدود التنموية لمستقبل الاقتصاد الإماراتي.
على أن النجاح في تهيئة بيئة الأعمال الإماراتية لزيادة الاستثمارات المنفذة بنظام المشاركة بين القطاعين العام والخاص، سيوسع من فرص الاستثمار مرتفع العائد أمام الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، وبالشكل الذي سيزيد من الطاقة الاستيعابية الكلية للاقتصاد الإماراتي. ومن الضروري تأكيد الدور المهم الذي يمكن أن تنهض به صناديق الثروة السيادية الإماراتية في هذا الصدد. فكونها ممثلة للاستثمار العام، ونظراً إلى خبراتها الاستثمارية العالمية الواسعة، يمكنها أن تعيد توجيه بعض الاستثمارات إلى السوق المحلية من خلال المشاركة مع الاستثمارات الأجنبية المتدفقة للاقتصاد الإماراتي، أو بالمشاركة مع الاستثمارات المحلية في القطاعات ذات الأولوية التنموية. ومن دون شك، فإن تحقيق الأهداف التنموية في الوثيقة يقتضي زيادة الطاقة الاستيعابية للاستثمار في الاقتصاد الإماراتي في المستقبل.
ثالثاً- تحديات نقل التكنولوجيا:
يمكن القول إن تحديات نقل التكنولوجيا في الاقتصاد الإماراتي وتوطينها هي من أبرز الحدود التنموية المرتبطة بوثيقة مبادئ الخمسين. كما أن التصدي لهذه التحديات، وتطوير سياسات وطنية قادرة على توطين التكنولوجيا محلياً في قطاعات الإنتاج المختلفة، هي من المقومات الأساسية للوصول إلى الغايات الاقتصادية المتضمنة بهذه الوثيقة. وبرغم أن التحدي التمويلي ليس من بين تحديات توطين التكنولوجيا في الاقتصاد الإماراتي؛ فإن تسارع وتيرة التطور في تكنولوجيا الإنتاج، والارتفاع المقابل في تكاليف التحول التكنولوجي، ومستوى الجاهزية المحلية لهذه التطورات، والقيود غير الاقتصادية الموضوعة على انتقالات التكنولوجيا عالمياً، والقيود المرتبطة بوفورات الحجم، والآثار غير المباشرة للتطور التكنولوجي على قطاع التجارة الخارجية الإماراتي، تُعدُّ من التحديات المهمة لنقل التكنولوجيا وتوطينها، في أنشطة الإنتاج المختلفة بالاقتصاد الإماراتي. كما أن التحديات المرتبطة بمحاكاة التكنولوجيا الأجنبية بفعل الالتزامات الواردة بالاتفاقيات الدولية، تضع قيوداً إضافية على تطوير تكنولوجيا وطنية في مجالات الإنتاج السلعي المختلفة. والملاحظ أنه لا توجد مثل هذه القيود على تطوير تكنولوجيا وطنية رقمية، مُستخدمة في الإنتاج والتشغيل لأنشطة قطاع الخدمات. ولذلك، فإن التحديات المرتبطة بالنوع الرقمي من التكنولوجيا ترتبط مباشرة بتوافر الكفاءات الوطنية الضرورية لتطوير مثل هذا النوع من التكنولوجيا.
على أن التصدي للتحديات السابقة، عبر صياغة مشروع وطني لتوطين التكنولوجيا، يمكن أن يتضافر مع السياسات الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتدفق إلى الاقتصاد الإماراتي. فعندما تُستهدَف النوعية الناقلة للتكنولوجيا من هذه الاستثمارات، وتُحفَّز كُبريات الشركات المصدرة للمنتجات السلعية في السوق الإماراتية؛ لنقل جزء من استثماراتها محلياً، وتوطين ما تملكه من تكنولوجيا محلياً، سيتمكن الاقتصاد الإماراتي من التغلب تدريجياً على التحديات التكنولوجية ويصل إلى غاياته التنموية التي حددتها وثيقة مبادئ الخمسين.
رابعاً- التنافسية الكلية للاقتصاد الإماراتي
في ظل منافسة دولية وإقليمية حادة، لا بديل أمام الاقتصاد الإماراتي سوى المحافظة على مكانته المتقدمة في التقارير الاقتصادية الإقليمية والدولية. إذ إن هذه الرتبة تقدم صورة بانورامية عن الأداء الاقتصادي المحلي، وعن جودة مناخ الاستثمار وملاءَمته لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة بأنواعها المختلفة. ولا يعني ذلك بالضرورة أن الصورة الكاملة للاقتصاد الإماراتي تحدد ملامحها فقط تلك التقارير، بما تتضمنه من مؤشرات وتصنيفات ومقاييس اقتصادية مقارنة؛ فبعض هذه التقارير لا تعكس بدقة الملامح الاقتصادية، ولا توضح الأبعاد الكاملة للأداء الاقتصادي الحقيقي. ومع ذلك، فإن تهيئة بيئة الأعمال في الاقتصاد الإماراتي لتكون محفزة للاستثمارات المحلية وجاذبة للاستثمارات الأجنبية، ودعم تنافسية عناصر الإنتاج المحلية، هي ضمانة أساسية لارتقاء التنافسية الكلية للاقتصاد الإماراتي، وهي الضمانة الحقيقية لكي يتمكن من تحقيق غاياته الاقتصادية التي حددتها وثيقة مبادئ الخمسين.
وتجدر الإشارة إلى أن التحول الرقمي في الاقتصاد الإماراتي يمارس دوراً حاسماً في استمراره منافساً أمام حركة الاستثمارات العالمية. وبذلك، فإن الريادة الرقمية للاقتصاد الإماراتي تمثل أحد الحدود التنموية ليكون قادراً على المنافسة العالمية، ولكي يصل إلى هدف الاقتصاد الأفضل والأنشط في العالم وفق ما يقرّه المبدأ الثاني من المبادئ العشرة لوثيقة الخمسين.
- نظرة استشرافية: من النمو المستقر إلى التنمية المستدامة
في إطار ما حددته الفقرات السابقة من أبعاد اقتصادية متضمنة في وثيقة الخمسين، وما رسمته من حدود تنموية للاقتصاد الإماراتي وهو يسعى إلى الوصول لغاياته التنموية، فمن المهم تأكيد أن النمو المستقر في الناتج المحلي الإجمالي الإماراتي، وإن كان هو النتيجة المباشرة للخطط والبرامج والسياسات كافة التي ستنبثق عن وثيقة مبادئ الخمسين، لكنه ليس هدفها الوحيد؛ فالهدف الأساسي الذي تتبناه هذه الوثيقة ذات المبادئ العشرة، هو أن يتحول هذا النمو المستقر والمنتظم إلى تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة. وبمعنى آخر، أن يترجم النمو المحقق في الناتج المحلي الإجمالي إلى زيادة أصيلة في قدرات الاقتصاد الإماراتي على تحقيق النهضة الاقتصادية المستدامة، وأن ترتقي مؤشرات الرفاهية الاقتصادية ومؤشرات التنمية البشرية، ويرتفع متوسط نصيب الفرد من الدخل المولَّد من مصادر متنوعة ومستدامة. فهذا هو جوهر تحول النمو الاقتصادي إلى التنمية المستدامة.
غير أن هذا التحول لا يحدث بطريقة آنية، أو يتم عبر انتقال لحظي؛ بل يحدث بطريقة تراكمية متصلة عبر مدة من الزمن. وحتى يمكن الاطمئنان لسلامة الخطط والبرامج والسياسات المطبقة لحدوث هذا التحول؛ فيُهتَدَى بمؤشر رئيسي للتحول التنموي والذي تقترحه الدراسة، وهو مكوَّن من ستة مؤشرات فرعية، على النحو الموضح في النقاط التالية:
الشكل (6)
المؤشرات الفرعية لمؤشر التحول التنموي المقترح من الدراسة
- مؤشر التطور في الناتج الصناعي الإماراتي. ويقاس هذا المؤشر بتحديد نسبة القيمة المضافة الوطنية المولدة في قطاع الصناعة التحويلية سنوياً.
- مؤشر المكانة في سلاسل القيمة العالمية. ويقيس هذا المؤشر مكانة الاقتصاد الإماراتي في سلاسل التوريد والقيمة المضافة العالمية، عبر تحديد التطور في نسبة الصادرات متوسطة وعالية القيمة المضافة لإجمالي الصادرات الإماراتية سنوياً.
- مؤشر الجاذبية للاستثمارات الأجنبية المباشرة. ويقيس هذا المؤشر التطور في قدرة الاقتصاد الإماراتي على جذب الاستثمارات الأجنبية، مع الاقتصار على النوعية المتدفقة لقطاع الصناعة التحويلية والتي تنقل التكنولوجيا، من خلال تحليل أثرها وتحديده على التكوين الرأسمالي الإجمالي السنوي.
- مؤشر توطين التكنولوجيا. ويقيس هذا المؤشر التطور الحاصل في مستويات التكنولوجيا الموطَّنة في الأنشطة الإنتاجية المحلية، خصوصاً أنشطة قطاعي الزراعة والصناعة المحلية.
- مؤشر الإنفاق على التعليم والتدريب والبحوث والتطوير. ويقيس هذا المؤشر التطور في نسبة الإنفاق المحلي على التعليم والتدريب، سواء كان الإنفاق حكومياً أم خاصاً. ويضاف إليه مؤشر نسبة الإنفاق المحلي على البحوث والتطوير في وحدات القطاعين العام والخاص.
- مؤشر جودة البيئة والانبعاثات الصفرية. ويقيس هذا المؤشر التطور في مؤشرات البيئة ومستوى التخضير ومعدلات الانبعاثات الكربونية السنوية في الاقتصاد الإماراتي.
ومن دون شك، فإن إجراء مقارنات دورية لمستوى التطور الحاصل في هذا المؤشر الرئيسي حول التحول التنموي، يؤكد أنه كلما تسارعت وتيرة التحسن في هذه المؤشرات الفرعية المكونة لهذا المؤشر الرئيسي المقترح من الدراسة، كلما دلَّ ذلك على سلامة الخطط والبرامج والسياسات الاقتصادية الكلية المطبقة؛ وكان ذلك مؤشراً موثوقاً على السير في عملية التحول الاقتصادي التي تنشدها وثيقة المبادئ العشرة، ودليلاً على تحقق مبدؤها الثاني الذي يستهدف بناء الاقتصاد الإماراتي ليكون الأفضل والأنشط في العالم.
وفي ضوء الصورة المتفائلة لمستقبل الاقتصاد الإماراتي على النحو الظاهر جلياً في وثيقة المبادئ العشرة، فمن المتوقع أن يكون عنوان الصورة العامة لهذا الاقتصاد بعد مرور خمسين عاماً (أي في العام 2071) هي: اقتصاد مزدهر، ورأسمال بشري متطور. ويمكن استشراف هذه الصورة في إطار استشراف رباعي المحاور على النحو الموضح في الشكل التالي:
الشكل (7)
الصورة المتوقعة للاقتصاد الإماراتي في العام 2071
ويقوم التصور المتفائل السابق على أربعة محاور أساسية للنهضة المتوقعة للاقتصاد الإماراتي بعد مرور خمسين عاماً من تاريخ تدشين وثيقة مبادئ الخمسين. إذ يوضح محور القيمة المضافة أن نسبة 50% من الناتج المحلي تولَّد في قطاع الصناعة التحويلية وفي قطاع الزراعة الحديثة. أما محور رأس المال البشري، فيستشرف اعتماد النشاط الاقتصادي بصفة أساسية على الكوادر الوطنية عالية المهارة الإنتاجية. وبالنسبة إلى محور التكنولوجيا، فيستشرف أن يكون الاقتصاد الإماراتي قادراً على إنتاج 50% من التكنولوجيا الموطَّنة فيه، وأن يتمكن الاقتصاد الإماراتي من تصنيع 70% من قطع الغيار الخاصة بما وُطِّنَ فيه من تكنولوجيا. أما محور التوازن الخارجي، فيتوقع أن تكون نسبة 70% من الصادرات الإماراتية من السلع والخدمات متوسطة وعالية القيمة المضافة، وأن يصير الاقتصاد الإماراتي من أفضل عشر وجهات عالمية للاستثمارات الأجنبية، سواء من حيث قيمة التدفق أو من حيث نوعية القطاعات الجاذبة لهذه الاستثمارات. أي أن يصبح قطاع الصناعة التحويلية والصناعات فائقة التطور هو الوجهة القطاعية المحلية الأولى لهذه الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وبتحقق هذه المحاور الاستشرافية، يمكن حينها القول بإن الاقتصاد الإماراتي تحول من النمو المستقر إلى التنمية المستدامة. وهذا هو عين ما تدعو إليه وثيقة مبادئ الخمسين في مبادئها العشرة.
المراجع
[1] راجع في ذلك رتبة الاقتصاد الإماراتي في التقارير التالية: تقرير سهولة ممارسة أنشطة الأعمال على الرابط التالي: https://www.doingbusiness.org/en/doingbusiness، وتقرير التنافسية العالمية على الرابط التالي: http://reports.weforum.org/global-risks-report-2021/.
[2] راجع في ذلك، مؤشرات التنمية العالمية، البنك الدولي، على الرابط التالي: https://databank.worldbank.org/reports.aspx?source=world-development-indicators
[3] لمزيد من التفاصيل حول هذه المبادئ، راجع الرابط التالي: https://www.uaeprinciples.ae/PrinciplesOf50.pdf.
[4] راجع الرابط التالي: https://databank.worldbank.org/reports.aspx?source=world-development-indicators
[5] المصدر السابق نفسه.