Insight Image

وضع قياديين من حركة النهضة التونسية رهن الإقامة الجبرية: هل دقت ساعة المحاسبة؟

16 يناير 2022

وضع قياديين من حركة النهضة التونسية رهن الإقامة الجبرية: هل دقت ساعة المحاسبة؟

16 يناير 2022

أُوقِفَ في 31 ديسمبر 2021 قياديان بارزان ينتميان إلى حركة النهضة في تونس هما نور الدين البحيري وفتحي البلدي، ووُضِعا رهن الإقامة الجبرية بمقتضى الفصل الخامس من البند رقم (50) المنظّم لحالة الطوارئ في البلاد. وقد شكَّل ذلك حدثاً بالغ الأهمية ضمن التطورات التي تشهدها تونس منذ 25 يوليو 2021 تاريخ اتّخاذ رئيس الجمهورية قيس سعيد جملة من التدابير الاستثنائية التي أُعفِيَت بمقتضاها حكومة هشام المشيشي، وجُمِّدت اختصاصات البرلمان ورُفِعت الحصانة عن أعضائه، وهي المؤسسة التي كانت حركة النهضة تستمدّ منها نفوذها وسيطرتها على الحكومة وأغلب الأجهزة التنفيذية للدولة. وقد كان فتح ملفات المحاسبة من بين أهم مطالب التحركات الاحتجاجية لفئات واسعة من الشعب التونسي طيلة العشرية الفائتة، التي كانت تحت إدارة حركة النهضة وتحكمها، وهي ملفات متصلة بالاغتيالات السياسية، والإرهاب، والتمويلات المالية الأجنبية، والتصرّف في الأموال العامة، إضافةً إلى استشراء الفساد في قطاعات كثيرة وغيرها.

وقد كان موضوع المحاسبة حاضراً بشكل يكاد يكون طاغياً في خطابات رئيس الجمهورية، وانتظر التونسيون الانتقال من الأقوال إلى الأفعال من خلال إحالة الملفات إلى الجهات القضائية المختصة لتتولى النظر والفصل فيها. وبرغم البطء الذي يسود هذه العملية إلاَّ أن إيقاف البحيري والبلدي قد يكون مؤشراً على الانطلاق الجادّ في فتح تلك الملفات، والإيذان ببدء المحاسبة القضائية التي طالما انتظرها التونسيون.

تبدو حركة النهضة إذن في عين العاصفة؛ فبعد أن واجهت الغضب الشعبي على التركة الثقيلة لفترة حكمها والذي عبَّر عنه استهداف الجماهير يوم 25 يوليو الماضي لمقارِّها، وفي ظل عزلتها المزدوجة سياسياً واجتماعياً حيث أصبحت أغلب القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية الوازنة على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل تتجنب التواصل معها، ومع خروجها من أجهزة الدولة الرئيسية التشريعية والتنفيذية، تجد نفسها وقد انفتحت أمامها طريق المحاسبة القضائية.

وتسعى هذه الورقة إلى معالجة هذا الحدث من خلال طرح مجموعة من الأسئلة، هي: ما التهم التي وجِّهت إلى البحيري والبلدي؟ وما دلالة إحالتهما إلى الإقامة الجبرية؟ وكيف تفاعلت حركة النهضة مع هذا الحدث، وما الأبعاد التي عملت على التركيز عليها، والأبعاد التي عوَّلت على تهميشها؟ وما دلالة ردّ فعل هذه الحركة في مواجهة مسألة المحاسبة في وجهها القانوني بعد أن واجهت المحاسبة الشعبية؟ وهل يكون هذا الحدث بداية لعملية المحاسبة القضائية وما هي الآفاق التي قد تفتحها هذه العملية على المشهد السياسي التونسي عموماً وعلى مستقبل الحركة الإسلاموية خصوصاً؟

أولاً: إيقاف البحيري والبلدي: التهم والدلالة

لعله من المفيد أن نُعرِّف في البداية بشخصيتي نور الدين البحيري وفتحي البلدي لنتبين مكانتهما داخل تنظيم حركة النهضة والأدوار التي قاما بها قبل عام 2011 ومن بعده. فالأول يعمل محامياً ويشغل في الوقت الراهن موقع نائب رئيس الحركة وعضو مجلس الشورى فيها، وقد انتمى إلى الحركة الإسلاموية منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وفي فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987-2011) وقَّع باسم الحركة (الاتجاه الإسلامي آنذاك) على وثيقة الميثاق الوطني في عام 1988، وأعلن في عام 1991 تجميد عضويته فيها صحبة أعضاء آخرين على خلفية المواجهات التي اندلعت بين الحركة والنظام بعد عملية حرق مقر الحزب الحاكم في تونس العاصمة في 17 فبراير 1991، وقد برّروا ذلك بعدم موافقتهم على منهج العنف وبتمسكهم بالوسائل السلمية. وقد مثلت تلك الاستقالات حينها ضربة موجعة لحركة النهضة لكونها تأتي من قيادات تاريخية مؤسسة في ظرفية مواجهة مع النظام الحاكم، وهو ما دفع زعيم الحركة راشد الغنوشي إلى أن يدعوهم إلى التراجع عن قرارهم واصفاً ما فعلوه بأنه هدية لـ”أعداء الإسلام والكافرين”.[1]

وبعد عام 2011 برز اسم البحيري، فإضافةً إلى حضوره الإعلامي اللافت، رشحته الحركة في كل المحطات الانتخابية البرلمانية، غير أن أهم موقع اضطلع به كان وزارة العدل إبَّان حكومة الترويكا الأولى (24/12/2011- 13/03/2013)، وقد أثار جدلاً واسعاً آنذاك بقراره إعفاء 84 قاضياً وسماحه للدعاة المقربين من الحركة الإسلاموية بالدخول إلى السجون ومقابلة السجناء وممارسة الدعوة. ولعل أبرز انطباع تركته عهدته على هذه الوزارة الحساسة أنه طوَّع جزءاً من المرفق القضائي لخدمة مصالح حركته سواء باستهداف خصومها أو بالتلاعب بالملفات التي تهمها وهو ما تلخصه العبارة الرائجة في الساحة التونسية “قضاء البحيري”؛ ما أدى في نهاية المطاف إلى تعثُّر عملية إصلاح المؤسسة القضائية، وإلى توتر علاقة أطراف منها ببعض النخب السياسية والحقوقية وانعدام الثقة فيما بينهم، وقد عبَّرت عن ذلك خطابات رئيس الجمهورية في مناسبات عدة ودعوته إلى ما يسمِّيه “تطهير القضاء وأن يتحمَّل القضاة مسؤوليتهم”.[2] وإضافةً إلى ذلك، يُعرف البحيري بكونه من بين أهم الشخصيات المقربة من راشد الغنوشي وهو دينامو الحزب وقلب النواة الصلبة للتنظيم والعقل المدبر له.[3]

وأما فتحي البلدي فهو ابن أخ القيادي السابق في حركة النهضة الفاضل البلدي، وكان قبل عام 2011 يشغل “خطة عون أمن”، غير أنه عُزِلَ بداعي الانتماء إلى الجهاز السري للحركة الإسلاموية وحكم عليه بالسجن 15 سنة قضى منها ست سنوات. وبعد عام 2011 أعيد إدماجه في صلب وزارة الداخلية ومنحه ترقيات عدة، كما شغل منصب مستشار لوزير الداخلية النهضاوي علي العريض في حكومة الترويكا الأولى ولم يغادر ديوان وزير الداخلية مع الحكومات المتعاقبة إلى أن شمله قرار الإعفاء الوجوبي مع عدد من القيادات الأمنية الأخرى في نوفمبر 2021. ولعل أهم ما يلفت الاهتمام في سيرة البلدي ارتباطه بما يسمى خلية الأمن الموازي المحسوبة على الحركة الإسلاموية الإخوانية في وزارة الداخلية فضلاً عن ارتباط اسمه بقضية ما يعرف بالجهاز السري لحركة النهضة وبقضيتي اغتيال المعارضين السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.[4]

ويبدو من خلال سيرة الرجلين أن توقيفهما وإحالتهما إلى الإقامة الجبرية ليس أمراً مستغرباً، وإن كانت لحظة التنفيذ مباغتة ودون مقدمات. وقد قدم وزير الداخلية توفيق شرف الدين في إفادة صحفية بتاريخ 3 يناير 2022 الأسباب التي دعته إلى اتخاذ ذلك القرار وهي تتعلق بشبهات إرهابية وبمنح جنسيات وجوازات سفر تونسية إلى أجانب في عام 2013 دون أي احترام للإجراءات الجارية بهذا الخصوص. ولئن لم يذكر وزير الداخلية أي اسم لمن تحصَّلوا على الجنسية، فقد تداولت المواقع الإعلامية التونسية اسمي القياديين في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يوسف ندا وعلي غالب همت على أنهما من ضمن الأسماء التي منحها نور الدين البحيري بصفته وزيراً للعدل الجنسية التونسية، ويبدو من خلال هوية المستفيدين من هذا الإجراء وهما من أهم الأذرع المالية للجماعة الإخوانية الدولية أن الأمر قد يفتح الباب على قضية تمويل حركة النهضة. ويضاف إلى ذلك أن ملف جوازات السفر له علاقة وثيقة بالجماعات الإرهابية ضمن ما يعرف بقضية التسفير إلى بؤر التوتر وساحات المعارك العسكرية في سوريا وليبيا.[5]

تبدو الشبهات والتهم خطيرة لما لها من علاقة بسلامة الأمن القومي التونسي الداخلي والخارجي وباستقرار مؤسسات الدولة، وهي تشير إلى الحصيلة الكارثية لمرحلة حكم حركة النهضة، وتكشف عن أن الحركة الإخوانية كانت تفتقد إلى برنامج عقلاني لتسيير الدولة وخدمة مصالحها ومصالح المجتمع في التنمية وتحسين ظروف الحياة، في مقابل تركيزها على خدمة أجندتها الإسلاموية في التمكين والتمكُّن من السيطرة على أجهزة الدولة وتطويعها لمصالحها. وعلاوة على ذلك فإن عملية إيقاف هذين القياديين وهما من الدائرة القريبة لراشد الغنوشي قد تحمل في طياتها رسائل مفادها تضييق الخناق عليه، وأنه قد يكون في مرحلة قادمة عرضة هو أو غيره من القيادات للإجراء نفسه أو غيره من الإجراءات التي تصبُّ في إطار فتح ملفات المحاسبة.

ويكشف حدث إيقاف هذين القياديين النهضاويين عن أن مسار المحاسبة القضائية الذي طال انتظاره قد انطلق،[6] وهي مسألة في غاية الأهمية من أجل تصفية التركة الثقيلة للعشرية الفائتة، ولكنها في الوقت نفسه في غاية التعقيد، من ناحية صعوبة مسار الإجراءات القضائية مثلما أشار إلى ذلك وزير الداخلية في إفادته الصحفية، وقد يكون ذلك ما دفع إلى طرح القضية على القضاء العسكري فضلاً عن طبيعة التهم الموجهة إليهما،[7] وكذلك من ناحية ما تواجهه من تحديات حتى تكون خالية من كل الشوائب الإجرائية والقانونية التي قد تكون مدخلاً للتشكيك فيها. ففي واقع الأمر، إن للمحاسبة وجوهاً عدة منها الوجه القانوني القضائي، ومن المهم أن يكون هذا الوجه في منتهى الإحكام وهو الأساس، ومنها الوجه السياسي، والوجه الإعلامي أيضاً.

ثانياً: دلالة تفاعل حركة النهضة مع الحدث

يجد المتابع لمواقف حركة النهضة منذ 25 يوليو 2021 أنها عملت على توخي تكتيكات متعدّدة في التعامل مع ما يستجد من تطورات، منها السعي إلى التأثير في موقف القوى الدولية والاستنجاد بها في مواجهة قرارات رئيس الجمهورية ومنها الترويج لسردية الانقلاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية الموالية ومنها محاولة احتواء الحدث بالاعتراف بارتكاب أخطاء في فترة الحكم وبتفهُّم الغضب الشعبي في إطار سياسة الانحناء للعاصفة. وتندرج كل هذه التكتيكات في إطار خطة استراتيجية للمحافظة على الوجود الشرعي والقانوني في الحقل السياسي، وتفادي تحوُّل قضيتها إلى قضية أمنية وملف قضائي، لاسيَّما وأنها تدرك أن قضايا عدة تلاحقها في هذا المضمار منذ سنوات أخطرها ملف الجهاز السري المتهم باختراق أجهزة الدولة وبالتجسُّس، وعلاقته بالاغتيالات السياسية حسب ما كشفته لجنة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي بالاعتماد على مجموعة من الوثائق.[8]

لقد كان واضحاً أن استراتيجية الحركة الإسلاموية الإخوانية تقوم على تجنب فتح ملفات المحاسبة القانونية من أجل ألا يتم البتّ في الشبهات والتهم التي تلاحقها والفصل فيها قضائياً. فهي تفضل أن يبقى الأمر في مستوى الشبهة والتهمة غير المثبتة، حتى يبقى التعامل معها في المستويين الإعلامي والسياسي، أي أن تظل ساحة المعركة سياسية وإعلامية لا قضائية، فالساحة الأولى أي السياسية والإعلامية تتيح لها المناورة وممارسة التضليل وإثارة الشكوك وتبادل الاتهامات مع الخصوم، واستنفار الأنصار والتلاعب بالرأي العام، بينما تجرِّدها الساحة الثانية من كل هذه الأسلحة وتجعلها في مواجهة الأدلة والبراهين والوثائق والمؤيدات، وهي ساحة إن تم الفصل فيها بطريقة قانونية لا لبس فيها ولا تشوبها شائبة؛ فإنها ستوجِّه ضربة قاصمة للتنظيم الإخواني من حيث شرعية وجوده كمكوِّن سياسي في الحقل السياسي التونسي ويحوِّله إلى تنظيم مارق عن القانون.

وقد تحركت حركة النهضة في إثر إيقاف البحيري والبلدي، وهي واعية بالتحدي الوجودي الذي تواجهه إذا ما تركَّز الاهتمام على المسألة في أبعادها القانونية والقضائية، ولذلك حرصت في رد فعلها على هذا الحدث، على توجيه الأنظار إلى ما يكتنفه من أبعاد سياسية وحقوقية. فركزت دعاية الحركة على وضعية البحيري خصوصاً، مستغلةً كونه محامياً وأنه يعاني صحياً من بعض الأمراض، وأنه دخل في إضراب جوع، وجيَّشت آلتها الإعلامية لتستنفر المنظمات الحقوقية وأنصارها فتحدّثت عن اختطاف وإخفاء قسري في حين أن الأمر يتعلق بتطبيق نص قانوني نافذ، سبق أن استعملته الحكومات السابقة التي شاركت فيها حركة النهضة نفسها، ولم تبدِ حينها أي اعتراض، بل إنها كانت قادرة بحكم الأغلبيات التي شكَّلتها في البرلمان أن تغير هذا القانون ولكنها لم تفعل، ولعلها كانت معوِّلة على اللجوء إليه لمواجهة خصومها في ظل تصورها لاستمرار هيمنتها على السلطة.

وتسعى الحركة الإسلاموية من وراء الدعاية التي تقوم بها إلى التغطية على القضية المركزية، وهي الشبهات والتهم التي تواجهها وملفات المحاسبة التي قد يشكل ملف البحيري بدايتها. وإدراكاً منها لخطورة هذه القضية تكاد تهمل تماماً الحديث عن وضعية فتحي البلدي؛ لأنها تعرف علاقته بقضية الجهاز السري والأمن الموازي، وهي لا تريد أن توجِّه الأنظار إليها لما ستسببه لها من حرج بالغ لا على المستوى الداخلي فحسب بل على المستوى الخارجي؛ لأن ذلك سيهدم صورتها كحركة سياسية ويربطها بالتنظيمات الخارجة عن القانون إن لم نقل الإرهابية. وهي قد تسعى بذلك إلى لفت انتباه الرأي العام الدولي وخصوصاً الحقوقي عسى أن يضغط على الحكومات الغربية لتتدخل، ولكن اللافت في الأمر أن هذه القوى ولاسيَّما الولايات المتحدة الأمريكية لم تبدِ حتى الآن أي اهتمام بالموضوع فضلاً عن كونها لم تنخرط سابقاً في سردية الانقلاب التي روَّجت لها حركة النهضة بعد 25 يوليو، ودعمت خريطة الطريق التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد في 13 ديسمبر 2021.[9] ولم تجد دعاية حركة النهضة صدى إلاَّ عند التشكيلات الإخوانية على غرار رسالة التضامن التي أرسلها إليها من المغرب عبدالإله بنكيران، وهو ما يقيم الدليل مرة أخرى على صلات الترابط والولاء بين الجماعات الإخوانية حيث يعلو الانتماء إلى الجماعة على حساب الانتماء إلى الوطن.[10]

ثالثاً: حركة النهضة في المشهد التونسي: أيّ مستقبل؟

لقد كانت استراتيجية حركة النهضة منذ عام 2011 قائمة على تثبيت وجودها كفاعل سياسي مدني مؤهل لا للمشاركة في الحياة السياسية التونسية فقط، ولكن كفاعل قادر على تولي أعباء الحكم وتسيير شؤون الدولة أيضاً، إلاَّ أن حصيلتها في هذا المضمار كانت سلبية في كل المجالات.[11] وجاء حدث 25 يوليو 2021 بكل ما اكتنفه من غضب شعبي عليها ومن تدابير أخرجتها من دوائر الحكم والسلطة، وظل هاجسها منذ ذلك التاريخ أن تحافظ على وجودها في الساحة السياسية كحزب قانوني معترف به، ولا يتحقق لها ذلك إلاَّ بتجنب فتح ملفات المحاسبة القضائية لاسيَّما في قضايا تحمل أبعاداً خطِرة كالجهاز السري والعلاقة المحتملة بالاغتيالات السياسية والتسفير إلى بؤر التوتر والإرهاب. فهذه المحاسبة تشكِّل تهديداً وجودياً جادَّاً عليها، وتجعل منها إذا ما ثبتت عليها التهم لا حزباً سياسياً، وإنما ملفاً أمنياً ومسألة قضائية، وتلغي بالتالي شرعية مكانتها في الحقل السياسي التونسي، وهو ما يفسر تركيزها في تعاطيها مع حادثة إيقاف البحيري والبلدي وإحالتهما إلى الإقامة الجبرية على البعدين السياسي والحقوقي.

تبدو حركة النهضة إذن في مواجهة تحدٍّ مصيريّ؛ فالتهم والشبهات التي تلاحقها لا تمسّ من صورتها التي حرصت على تلميعها لاسيَّما في مستوى القوى الدولية الغربية (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) المؤثرة فحسب، وإنما تتهددها بجعل قياداتها معرَّضين للملاحقة القضائية في صورة إثبات تلك التهم، وقد يكون ذلك مدخلًا من جهة قانونية لحلِّ الحركة ومنعها من النشاط بصفة شرعية. فحركة النهضة التي فقدت المحضن الاجتماعي، ولم تعد لخطاباتها وشعاراتها القدرة على التأثير والإقناع لدى فئات عريضة من المجتمع التونسي، وخسرت موقعها في السلطة وأدوات التحكم فيها، وتوزيع الغنائم والفوائد على الأنصار والأتباع و”المؤلفة قلوبهم” من التيارات السياسية الأخرى، باتت تسير على خط النار وأصبح وجودها ذاته كمكوِّن سياسي قانوني تتهدَّده المخاطر.

   غير أنه تجدر الإشارة إلى أن أهمية المسألة لا بالنسبة إلى مستقبل الحركة الإسلاموية الإخوانية فقط، وإنما إلى مستقبل العملية السياسية في تونس أيضاً، ولضمان استقرار الدولة وسلامة المجتمع، تستدعي الوقوف عند ما يحوم حولها من تحديات ورهانات، ويمكن أن نختزلها في النقطتين التاليتين:

  • تكمن التحديات في مستوى ضرورة أن يكون إعداد الملفات التي سيحال بموجبها هذان القياديان أو غيرهما من قيادات حركة النهضة إعداداً محكماً بحيث تتضمّن أدلة وبراهين غير مشكوك في صدقيتها وأمانتها وموثوقيتها، وأن يكون الرأي العام الوطني والدولي على بيِّنة منها، وذلك بأن يتم الإعلان عنها وتقديمها في كنف الشفافية. ويقتضي ذلك أن تقوم السلطة القضائية بعملها في إطار الاستقلالية ووفق متطلبات القوانين المعمول بها، وفي احترام كامل للإجراءات. ومن شأن ذلك أن يسدَّ الباب أمام الحركة الإسلاموية لادعاء المظلومية وسحب البساط عن آلتها الدعائية، وهي الوسيلة التي تنتهجها كلما وجدت نفسها في موقف استضعاف أو محاكمة قانونية.
  • تتمثَّل الرهانات في الحاجة الماسَّة إلى أن تستعيد الدولة التونسية عافيتها، وإلى أن تتخطى ما تعيشه من أزمات في مستويات عدة اقتصادية واجتماعية وسياسية، وإلى أن يتم إرساء دولة القانون والمؤسسات بكل ما تعنيه العبارة من معنى. فقد كانت حصيلة العشرية الفائتة سلبية سواء في مستوى الاضطرابات السياسية بتتالي الحكومات بسبب النظام الهجين الذي وُضِع أو في المستوى الأمني بسبب الاغتيالات السياسية وتفشِّي الإرهاب، أو في المستوى الاقتصادي بسبب تدهور مؤشرات النموّ والأزمة المالية، أو في المستوى الاجتماعي بارتفاع نسب البطالة وتدهور ظروف العيش، أو في مستوى الإفلات من العقاب بسبب عدم تطبيق القانون في حالات عدة. وشكَّلت كل هذه العناصر مخاطر جمَّة على سلامة الدولة واستقرار المجتمع، وتبدو مسؤولية حركة النهضة جسيمة في هذا الوضع وهو ما دلَّت عليه التحركات الاحتجاجية في 25 يوليو 2021، التي استهدفت مقارّها ورفعت شعارات تندرج في إطار المحاسبة الشعبية على مرحلة حكمها. ولئن كانت المحاسبة الشعبية والسياسية مهمة، فإن الأهم منهما المحاسبة القضائية فهي السبيل لفتح ملفات تشكِّل عقبة رئيسية لتجاوز الأزمة وهي ملفات الاغتيالات السياسية والإرهاب والتمويلات المالية الأجنبية، وشبهة امتلاك طرف سياسي جهازاً سرياً لاختراق مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية ولتنفيذ عمليات تجسُّس وغيرها. وإن البتَّ في هذه القضايا والفصل فيها سبيل لتحقيق العدالة، وهو ما يفتح الباب لاستعادة الدولة هيبتها باعتبارها دولة القانون النافذ الذي يطبَّق على الجميع دون تمييز، ودولة المؤسسات المحايدة التي تكون في خدمة مصالح المجتمع بكافة فئاته وأطيافه، وهذا طريق لإعادة بناء جسور الثقة بين المواطنين والدولة، خصوصاً في ظل التحدي المطروح في المرحلة القادمة للقيام بإصلاحات دستورية وقانونية وفق خريطة الطريق التي أعلن عنها رئيس الجمهورية.

تبدو الاستجابة لما تطرحه عملية المحاسبة من تحديات ورهانات على درجة من الأهمية بالنسبة إلى تحديد مصير حركة النهضة من جهة، وبالنسبة إلى ما تفتحه من آفاق على مستقبل الوضع السياسي للدولة التونسية لا من حيث مكوِّنات المشهد السياسي فقط، وإنما من حيث سلامة المناخ السياسي أيضاً، بكل عناصره وظروفه ومن حيث فرص إرساء نظام ديمقراطي حقيقي في إطار دولة القانون والمؤسسات من جهة أخرى.

الخاتمة

شهد الواقع التونسي منذ ما يزيد على عشر سنوات تطورات عدة ومنعطفات متنوعة، غير أن حدث 25 يوليو 2021 يُعدُّ أهم حدث بعد عام 2011، فقد وجدت حركة النهضة نفسها لأول مرة خارج أجهزة الحكم التشريعية والتنفيذية، فاقدة زمام المبادرة ومعزولة سياسياً واجتماعياً. وهي تواجه بعد إيقاف اثنين من أبرز قيادييها ومن الدائرة المقربة من راشد الغنوشي تحدياً غير مسبوق منذ سنوات، ألا وهو تحدي المحاسبة القضائية على جملة من الملفات التي تكتسي حسب ما لمح إليه وزير الداخلية خطورة بالغة إذ تتعلق بشبهات فساد وإرهاب.

تشكِّل هذه المحاسبة بوابة رئيسية لا مناص منها من أجل تحقيق العدالة في بعض القضايا خصوصاً تلك المتصلة بالاغتيالات، فضلاً عن دورها في تنقية مناخ الحياة السياسية، لاسيَّما في مستوى شفافية تمويلات الأحزاب السياسية المالية من جهة، وفي مستوى انضباطها للقانون والتزامها بالعمل العلني من جهة ثانية، وفي مستوى فضّ ارتباطاتها بجهات خارجية تعطيها الأولوية على حساب مصالح الدولة الوطنية على غرار ارتباط الحركات الإخوانية بالتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين من جهة ثالثة، وفي مستوى تصوّرها للعمل السياسي باعتباره عملاً يهدف إلى خدمة مصالح الدولة والمجتمع في الاستقرار والأمن والتنمية وجودة الحياة، لا مطية للمغانم الشخصية أو الحزبية أو الفئوية أو تمكيناً لجماعة أيديولوجية من جهة رابعة. وتتيح هذه العوامل إعادة تشكيل الساحة السياسية التونسية على أسس أكثر فاعلية ونجاعة وشفافية.

ويحتاج كسب رهان المحاسبة الاستجابة إلى ما تطرحه من تحديات خصوصاً بالنسبة إلى تضمين الملفات أدلة وبراهين ذات موثوقية لا يرقى إليها الشكّ، وإلى أن تحترم الإجراءات القضائية القوانين المعمول بها، وأن تدور في كنف الشفافية، وهو أمر بالغ الأهمية لا لسحب البساط من الدعاية الإخوانية القائمة على ادِّعاء المظلومية وتحويل وجهة الأحداث نحو الأبعاد السياسية والحقوقية فقط، وإنما لتكون هذه المحاسبة لبنة في اتجاه استعادة مؤسسات الدولة عافيتها وهيبتها وإرساء دولة القانون والمؤسسات.

وفي المحصِّلة تكشف تجربة حركة النهضة في تونس بكل ما حُفَّ بها من حيثيات وملابسات لاسيَّما خلال فترة الحكم أنها لا تشذُّ عن غيرها من تجارب الجماعات الإسلاموية الإخوانية، خصوصاً تجربة الجماعة المصرية، فهي جماعات تتشاكل أيديولوجياً وتنظيمياً وترتكب الأخطاء نفسها في لحظات استشعار القوة والنصر التي تتصور أنها لحظات تمكين ونهاية للتاريخ، فتُحوِّل الدولة إلى غنيمة، وتُطوِّع أجهزتها لخدمة مصالح الجماعة. ولعل ما يميز حركة النهضة استعدادها للقيام بجميع المناورات للمحافظة على مكانتها ودورها، ولكن فشلها جعل فئات واسعة من المجتمع التونسي تُحمِّلها مسؤولية تردِّي الأوضاع واستفحال الأزمات، وهو ما مهَّد الطريق إلى فتح ملفات سنوات حكمها لا للمحاسبة السياسية والشعبية فحسب، بل للمحاسبة القضائية  أيضاً وهي الأكثر أهمية وحسماً بالنسبة إلى مصير حركة النهضة من ناحية، وبالنسبة إلى مستقبل تونس دولةً ومجتمعاً من ناحية أخرى.

 المراجع

[1]  فريد بن بلقاسم، قراءة في موجة الاستقالات الأخيرة في حركة النهضة: هل هي بوادر التآكل من الداخل؟ مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 1 نوفمبر 2021، https://bit.ly/3zGOLD2

[2]“سعيد يدعو لـ”تطهير القضاء” ويؤكد: لا مجال للتفريط بتونس”، سكاي نيوز عربية، 2 ديسمبر 2021، https://bit.ly/33lA4tb

[3]  رامي شفيق، تونس: ماذا يعني إيقاف نائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري؟ موقع حفريات، 4 يناير 2022، https://bit.ly/33852oC

[4] “من هو فتحي البلدي الذي تم إيقافه اليوم مع نور الدين البحيري؟” موقع الإخبارية التونسية، 31 ديسمبر 2021، https://bit.ly/3f53i1N

[5] https://acharaa.com/wp-content/uploads/2022/01/maghreb-street-292.pdf?fbclid=IwAR0FQNtxiRujoaM9kqHv3-gMxNNz50IktMOe8TFAlPCVfvSuvuP8QqGEf4k

[6]  من الجدير التذكير بأنه سبق للقطب القضائي الاقتصادي والمالي أن أعلن عن فتح بحث تحقيقي في منتصف شهر يوليو 2021 ضدّ حركة النهضة وحزب قلب تونس ومجموعة “عيش تونسي” حول عقود مجموعات الضغط والحصول على تمويلات أجنبية وتمويلات مجهولة المصدر للحملة الانتخابية وذلك استناداً إلى جملة من المؤيدات والقرائن. راجع الرابط: https://bit.ly/3f9ofst

[7] انظر إفادة وزير الداخلية التونسي على الرابط: https://bit.ly/3n61haf

[8] ناجي البغوري، “من عملية باب سويقة إلى الجهاز السري: روايات نهضاوية متضاربة”، موقع نواة، 5 إبريل 2021، https://bit.ly/3qZmzaJ

[9] «President Saied’s Announcement of Reforms in Tunisia », U.S Department of State, DECEMBER 14, 2021, https://bit.ly/3Ge6jsP

[10] “إخونجية المغرب يدسون أنوفهم في الشؤون التونسية”، موقع عرب أوبزرفر،7 يناير 2022، https://bit.ly/3FaVs1p

[11]  فريد بن بلقاسم، حركة النهضة وتجربة الحكم: الحصيلة والمآلات، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 20 سبتمبر 2021، https://bit.ly/34uTPyN

المواضيع ذات الصلة