-خبراء يشددون على دور مراكز البحث في استشراف السيناريوهات التي تعزز أمن الخليج
نظم مركز تريندز للبحوث والاستشارات، بالشراكة مع المنتدى الخليجي للأمن والسلام، ندوة علمية تحت عنوان: “إيران ما بعد الحرب: التحولات الداخلية ومستقبل العلاقات الخارجية”، بمشاركة نخبة من الخبراء والباحثين الدوليين.
ناقشت الندوة التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لحرب الأيام الاثني عشر، وانعكاساتها على الداخل الإيراني والأمن الخليجي والإقليمي.

استشراف السيناريوهات
استهلت الندوة بكلمة ترحيبية ألقاها الدكتور محمد عبدالله العلي، الرئيس التنفيذي لمركز تريندز للبحوث والاستشارات، أكد فيها أن الحرب الإسرائيلية – الإيرانية المباشرة الأولى مثّلت اختباراً حقيقياً لمنظومة الأمن الخليجي، خاصة بعدما امتدت نيرانها إلى دولة قطر الشقيقة.
وشدد العلي على أن التوتر المتجدد حول الملف النووي الإيراني، وعودة العقوبات الدولية، والتهديدات الإسرائيلية بمنع طهران من إعادة بناء قدراتها النووية، جميعها عوامل تزيد من احتمالية التصعيد، ما يستدعي من مراكز البحوث دراسة معمقة واستشرافية للسيناريوهات المطروحة، وتقديم بدائل تعزز أمن الخليج.
بدوره قال الدكتور فهد الشليمي، الخبير الأمني والاستراتيجي ورئيس المنتدى الخليجي للأمن والسلام، في كلمة رئيسية، إن دول الخليج العربية تحرص على إبقاء علاقات دبلوماسية جيدة مع إيران بصفتها دولة جارة وشقيقة، غير أن هناك مؤشرات تهديد تستدعي الحذر.
وأوضح أن الاشتباك العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل بين انكشافاً كبيراً في القدرات الدفاعية الإيرانية، حيث نفذت إسرائيل أكثر من 1200 غارة جوية خلال 12 يوماً دون أن تُسقط أي طائرة، ما أبرز ضعف منظومات الدفاع الجوي الإيرانية. وأكد أن إيران تمتلك صواريخ بعيدة المدى وطائرات مسيّرة هجومية، وهي قدرات لا يمكن وصفها بالدفاعية، إضافة إلى برنامج نووي غامض يثير مخاوف بيئية وأمنية لدى دول الجوار.
وأشار الدكتور الشليمي إلى أن الحرس الثوري الإيراني يتبنى خطاباً تصعيدياً يختلف عن خطاب وزارة الخارجية، لافتاً إلى أن إيران تدخلت في شؤون دول عدة في المنطقة عبر دعم جماعات مسلحة في لبنان واليمن وسوريا والعراق وغزة. كما أوضح أن الأوضاع الاقتصادية الإيرانية المتأزمة، بفعل العقوبات والتضخم وضعف العملة وهجرة الكفاءات، تدفع طهران إلى البحث عن أدوات ضغط إقليمية مثل تهديد الملاحة الدولية في مضيق هرمز وباب المندب، ما يهدد دول عدة وتجارة العالم بمخاطر وخسائر اقتصادية مباشرة، مبيناً أن مصر ودولاً أخرى خسرت مليارات الدولارات بسبب الحوثيين.
وبيّن أن استراتيجية إيران تقوم على إنشاء “أحزمة دفاعية” عبر وكلاء محليين مثل حزب الله والحوثيين، لكن الضربات الإسرائيلية الأخيرة أضعفت هذه الأذرع، وأجّلت وتيرة البرنامج النووي من خلال استهداف البنية التحتية والعلماء.
وشدد على أن المطلوب ليس العداء مع إيران، وإنما التعاون المتوازن الذي يقوم على التفاهم المتبادل والالتقاء في منتصف الطريق.

تحت المجهر
عقب ذلك أدار محمد السالمي، باحث رئيسي – رئيس قطاع البحوث في “تريندز”، النقاش. وتطرق الدكتور عماد مرزوقي، مدير إدارة الدراسات والبحوث في مركز الشرق الأوسط (عبر الفيديو)، إلى استقرار النظام الإيراني بعد الحرب، مشيراً إلى تماسكه رغم الضغوط والاغتيالات، والدور الحاسم للحرس الثوري.
وقال إن النظام الإيراني شهد تحولاً جذرياً في أولوياته الداخلية إثر “الضربة العسكرية الإسرائيلية – الأمريكية”، مبيناً أن هذه الضربة جاءت في وقت كان النظام يعيش فيه أزمة ثقة وتصاعداً للمطالب الإصلاحية والاقتصادية. ومع ذلك، وبدلاً من إضعافه، فقد عملت الضربة على تعزيز تماسك جبهته الداخلية؛ حيث تراجعت المطالب الشعبية بالإصلاح لصالح الأمن والدفاع، وتصدرت القضايا الأمنية المشهد. لافتاً إلى أن هذا التحول أضعف التيار الإصلاحي الذي كان يحاول الصعود، وخدم في المقابل صعود المتشددين وتكريس نفوذهم في مراكز السلطة، وعلى رأسها الحرس الثوري الذي أصبح مركز القوة الحقيقي، وارتفعت رمزية المرشد الأعلى.
وذكر أن الضربة لم تؤد إلى انهيار النظام بفضل منظومته المؤسساتية المتشابكة التي منحته مرونة وقدرة على امتصاص الصدمات ومنع التصدع الداخلي. ونتيجة لذلك، خرج النظام الإيراني أكثر تصلباً وأقل براغماتية، مع اعتماد متزايد على القوة العسكرية والشرعية الثورية والدينية لضمان استمراريته، وتحول خطابه إلى خطاب أمني وعسكري بحت. كما جعلت التهديدات الوجودية الجديدة ملف خلافة المرشد أكثر إلحاحاً.

الدبلوماسية الإيرانية والتحول
كما شارك في الندوة الأستاذ محمد خلفان الصوافي، الكاتب والباحث في العلاقات الدولية من دولة الإمارات، الذي ركز على إعادة التموضع الدبلوماسي الإيراني بعد الحرب، وانتقال طهران من الانتكاسة العسكرية إلى توظيف السرديات الرمزية. وأشار إلى إخفاق الدبلوماسية الإيرانية التقليدية، القائمة على الصبر والمراهنة على ملل الخصم، في قراءة التحولات الإقليمية والتعامل مع قيادات مثل الرئيس ترامب ونتنياهو، مما أدى إلى تراكم المؤشرات السابقة للضربات.
وبيّن أن الخطأ الأكبر هو استمرار النظام في التفكير الأيديولوجي بدلاً من المرونة السياسية الواقعية، وهو ما أفقده فرصة توظيف القوة الناعمة التي نجح فيها سابقاً مع الأطراف الأوروبية. لافتاً إلى أن هذا التصلب، وفشل النظام في حسم موقفه من امتلاك السلاح النووي، قد يزيد من احتمالات التعرض لضغوط وعقوبات إضافية، مما يستوجب إعادة ترتيب الأوراق والتركيز على الوضع الداخلي في ظل الخسائر الكبيرة للمشاريع الإقليمية.

التداعيات وأثرها
بدورها سلطت شما القطبة، الباحثة في “تريندز”، الضوء على التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للعقوبات والحرب، وأثرها على استقرار المجتمع الإيراني وتآكل الطبقة الوسطى.
وقالت إن إيران تعد اليوم ثاني أكثر دولة في العالم خاضعة للعقوبات بعد روسيا، حيث وصل عددها إلى 5500 عقوبة تستهدف بشكل أساسي قطاع النفط والبنوك والمؤسسات المالية، وهي شرايين الاقتصاد الإيراني. وقد خلّفت هذه العقوبات آثاراً عميقة على الداخل الإيراني اقتصادياً واجتماعياً.
وبيّنت أنه على الرغم من هذا الضغط الاقتصادي الهائل، فإن العقوبات لم تنجح في تغيير سلوك إيران الجوهري، حيث استمرت في سياستها الإقليمية وبرنامجها النووي. وتبنت طهران شعار “اقتصاد المقاومة” وحاولت الالتفاف على الضغوط من خلال الاعتماد على شركاء تجاريين جدد مثل الصين وروسيا. كما خالف رد الفعل الشعبي التوقعات الغربية خلال الرد الإيراني الأخير على إسرائيل، حيث وقف المجتمع الإيراني مؤقتاً إلى جانب النظام، بالرغم من سوء الأوضاع الاقتصادية.
وتوقعت أن تؤدي العقوبات الجديدة التي فُرضت مؤخراً إلى مزيد من التدهور الاقتصادي. وفي حين ساد التلاحم الشعبي المؤقت خلال فترة التوتر العسكري، من المرجح أن يتلاشى هذا الدعم مع مرور الوقت، ليعود الشعب للتركيز على المشاكل الاقتصادية والمعيشية الملحة.
تراجع النفوذ
من جانبه تناول الباحث الرئيسي في “تريندز” نيكولاس لييل، النفوذ الإيراني في المنطقة بعد الحرب، لافتاً إلى أن الحرب الأخيرة كشفت عن نقاط ضعف جوهرية في استراتيجية “الدفاع المتقدم” التي اعتمدت عليها إيران عبر ما يسمى “محور المقاومة”.
وأوضح أن الحرب أظهرت ثلاثة تحولات بارزة، هي: أزمة اقتصادية متفاقمة نتيجة التصعيد العسكري، وفشل الردع بعد عجز القوى الوكيلة عن منع الحرب أو تقليصها، وعزلة دولية جعلت إيران تواجه تحدياتها الإقليمية دون حلفاء فعليين. كما رصد نيكولاس لييل تفاوتاً في مواقف القوى المرتبطة بإيران، إذ أبدى حزب الله استجابة محدودة وسط نقاش داخلي بشأن حدود تبعيته لطهران، بينما واصل الحشد الشعبي إظهار ولاء قوي لإيران رغم اندماجه المتزايد في الدولة العراقية، في حين يتجه الحوثيون نحو استقلالية أكبر عبر الحصول على دعم عسكري من الصين وروسيا.

نهج أكثر دفاعية
من جانبه، قال الدكتور سرهات كابغلو، باحث رئيس – مدير مكتب تريندز في تركيا، في مداخلة بعنوان “تحولات السياسة الخارجية الإيرانية بعد الحرب”، إن طهران تبنت بعد الحرب نهجاً أكثر دفاعية وبراغماتية، مع استمرار اعتمادها على أدوات الردع التقليدية مثل التهديد بإغلاق مضيق هرمز ودعم الوكلاء الإقليميين.
وأضاف أن الحرب أعادت تشكيل الخطاب الأمني الإقليمي، حيث باتت دول الخليج أكثر قلقاً من استهداف القواعد الأمريكية، ما دفعها إلى تعزيز الدفاع الصاروخي وتنويع ممرات الطاقة، فضلاً عن عقد اتفاقيات تعاون دفاعي مثل الاتفاق السعودي – الباكستاني. وأشار سرهات إلى أن تركيا استفادت من تراجع النفوذ الإيراني في العراق وسوريا والقوقاز، وعملت على تعزيز قدراتها الدفاعية ومكانتها الإقليمية، في وقت أصبح فيه مشروع “طريق التنمية” في العراق أكثر قابلية للتنفيذ بغياب معارضة فاعلة من إيران. وخلص إلى أن حرب الأيام الاثني عشر مثلت نقطة تحول في النفوذ الإيراني، حيث تراجعت قدرته على فرض معادلة الردع التقليدية، في مقابل اضطراره إلى تبني سياسة أكثر حذراً وواقعية في ظل بيئة استراتيجية متغيرة.
قدمت للندوة الباحثة مريم صلاح الجنيبي، مؤكدة أهمية الندوة في قراءة المشهد الإيراني والدولي الحالي.