يعيش كثير من مجتمعاتنا العربية حاضرًا لا يرقى إلى ماضيها، ولا يحقق ما يستحقه الإنسان العربي، ولكن الأكثر إيلاما من أوضاع الحاضر هو المستقبل الذي نخاف حدوثه، هذا الخوف الذي يقويه ما نلمسه من فرص وإمكانات مهدرة كان من شأنها - لو أحسن توظيفها - أن تصنع مستقبلاً أفضل لشعوب حملت مشاعل النور والهداية للعالم على مدى قرون طويلة، بل على مدى آلاف السنين. ليس هذا تغنيا بالماضي ولا بكاء على الحاضر - فلا وقت لذلك - ولكنه نقطة بداية لتأكيد أهمية العمل بأسرع ما يمكن على بناء مستقبل أفضل على أسس علمية ورؤية مستقبلية تشاركية.
إن ضياع كثير من الفرص يرجع في كثير من الأحيان إلى صنع السياسات واتخاذ القرارات في ضوء مستقبل قديم مستعمل مستقبل ينبع من رؤية قديمة كان من الممكن أن تناسب بيئات وأزمنة مختلفة، أو اتباع ما يعرف بـ«أفضل الممارسات التي كانت ملائمة في الماضي. بل إن الأسوأ من ذلك هو أن يكون وضع اتخاذ القرار هو وضع رد الفعل / الاستجابة لما يستجد من أمور، سواء لغياب الرؤية من الأساس، أو لعدم تحقيق الارتباط بين الرؤية وما نتخذه من قرارات ونقوم به من أفعال يومية.
لو أن القرارات التي نجحت في الماضي سوف تنجح في المستقبل لكان صنع القرار سهلا، ولكن - مع الأسف - فإن هذا ليس ممكنا في بيئة "VUCA" أو "BANI" الراهنة. فمع نهاية عام 2022 نشرت صحيفة فايننشال تايمز عمودًا بعنوان «الانقطاع العظيم بدأ للتو لقد أظهر التاريخ أن الاستقرار - غالبا - هو الاستثناء». ويشير المقال إلى فكرة «صدمة الإدراك»؛ فمعظم القادة اليوم قد بنوا خبراتهم المهنية في عالم كان من الطبيعي أن نتوقع فيه قدرا من الاستقرار يسمح ببناء تنبؤات طويلة الأجل وهو ما يختلف كثيرا عن عالم اليوم فعالم اليوم يتسم بأنه سريع التغيير وبالغ التعقيد والتداخل وغير يقيني، وهو ما يضع تحديات عدة أمام صانع القرار الذي أصبح لا مفر أمامه من العمل على بناء المستقبل على الرغم من وجود ما لا يعرفه، وما لا يعرف أنه لا يعرفه.
إن هياكل الإدارة الحكومية التقليدية، وما تقوم به من أعمال، وما تصل إليه من مخرجات كانت تستند إلى مبادئ مثل الرشادة المعرفة الكاملة)، والقدرة على التنبؤ، والهيراركية (التراتبية)، لذلك فإن عدم اليقين والتعقيد والحاجة إلى مزيد من مشاركة المواطنين في ضوء تغير العلاقة بين الدولة والمواطنين هي تحديات كبيرة أمامها.
إن صنع السياسات والقرارات يجري دائما في ضوء تصور عن المستقبل، ويكمن الخطر في افتراض مستقبل واحد ناتج عن خبرات الماضي ومستقر على مدى فترة تنفيذ السياسة وظهور نتائجها، وحين يتضح أن المستقبل الفعلي مختلف عن هذا الوضع ندخل في وضع الأزمة، أو نعيش ما أطلق عليه توفلر «صدمة المستقبل». إضافة إلى ذلك؛ كثيرا ما يتعامل صناع السياسة والقرار مع فكرة الخيارات التي يجري تقييمها والاختيار بينها كما لو أنها كانت متاحة بكثرة وستأتي إليهم بسهولة. ولكن الحقيقة أن هذه الخيارات لا تنبت في الفراغ، ولكنها تحتاج إلى تفكير وتخيل على الأقل للتأكد من أنها ستأتي مناسبة للمستقبل وليس لما نتصور أنه المستقبل انطلاقا من خبرات الماضي.
إن التعامل مع هذا العالم غير الخطي يحتاج إلى ما هو أوسع من الخطط الجامدة باتجاه الاستباق والابتكار الانقطاعي، والخفة والقدرة على التواصل الفاعل والتفكير المنظومي، والمشاركة وهو ما يحتاج إلى كثير من الأدوات والمهارات تأتي في بدايتها مهارات وأدوات الاستشراف».