في الصفحة الثالثة من جريدة الاتحاد، كان الموعد المتجدد مع ثمار رحلة التحدي والنجاح، نتابع خطواتها، ونستذكر أمجادها، ونستشرف مستقبلها. وقد أردت تقريب هذه الثمار اليانعة من الهائمين بها، والمهتمين بالاعتناء بها وتشذيبها وإعادة طبعها، ولا سيّما أن بعضها كان قد تقادم في الزمن، ولكن أثرها في الواقع لم يزل ناضجًا طريًا.
تحكي ثمارنا قصة الإنسان والتحديات والقيم.
لذلك جاء هذا الكتاب جمعًا لأحاديث عن "إنسان الإمارات العربية المتحدة"، في ظل مسيرة خمسين عامًا من الاتحاد، استطاع خلالها أن يجعل من بلاده المكان الأمثل لالتقاء الحضارات وامتزاج الثقافات وصناعة الإبداع، ووضعها في قلب الحراك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإنساني الدولي، حتى باتت مركزًا مرموقًا من مراكز التسامح والسلام، ومثالًا على "تواصل العقول وصنع المستقبل".
وفي خضم كل ذلك، يمضي "إنسان الإمارات" بثقة في استكمال المسيرة، والانطلاق بعزم وثبات، لتحقيق قفزات كبرى في الاقتصاد، والتعليم، والبنية التحتية، والصحة، والذكاء الاصطناعي، والفضاء، وغيرها من القطاعات؛ ليضيف المزيد من إسهاماته في حركة التقدم الإنسانية، ويرسخ حضور دولة الإمارات العربية المتحدة في المشهد الإقليمي والدولي، ويعلنها صيحةً مُدَوِّيَةً من جديد: "لا مستحيل" هنا.
إنه شعار استثنائي في عالم متغير متقلب، نجح بيتنا المتحد في إنجازه وتحقيقه، إلى أن ظهر في كل إمارة وكل منطقة وكل شارع تحت علامة "صُنِعَ في الإمارات". وغنيٌّ عن البيان أن اقتصادنا قد بات من أكثر اقتصادات المنطقة استقرارًا، وأشدها قدرةً على احتواء الأزمات الدولية، وجاذبيتنا الاستثمارية في المراكز العالمية تُعَدُّ الأكثر نجاحًا وتنافسيةً. ونحن من أولى الدول التي وَجَّهَتْ أنظمة التعليم وبرامجه وسياساته نحو اقتصاد المعرفة وعلوم المستقبل، ونحن مستمرون في هذا المضمار، بل لقد قطعنا فيه أشواطًا كبيرة. بيدأن الطموح ما زال يحدونا نحو تحقيق المزيد، ولا سبيل إلى ذلك أفضل من توحيد العمل الحكومي الاتحادي والمحلي في سياق رؤية واحدة، تؤكد مجددًا كم كان الأجداد استشرافيين في عصرهم، عندما قرروا الانضواء تحت راية الاتحاد، هذه الراية التي حلَّقت فوق الأرض وخارجها، مع مسبار الأمل الإماراتي العربي الذي انطلق إلى المريخ، يصنع تاريخًا جديدًا. هذا الحدث سيقف عنده المؤرخون طويلًا، لقراءة ما حدث في بلادنا التي اختارت أكثر مشروعات الفضاء صعوبةً وتعقيدًا بالوصول إلى الكوكب الأحمر، وها هو ذا مسبارنا ينطلق بنجاح في رحلةٍ، قليلةٌ هي الدول التي نجحت في اجتيازها.
ثم جاء "إكسبو 2020 دبي" - الذي فُزْنا بشرف تنظيمه - ليمثّل اعترافًا عالميًا بنهضتنا الحضارية، وكان إنجازه حدثًا استثنائيًا، إذ عَكَسَ مستويات التطور في الإمارات، ونضوج مشروعها في الانفتاح والحداثة، وقدرتها على تصميم المستقبل. هذا المستقبل الذي لا يأتي إلَّا برهانًا قويًا على التعليم والمعرفة؛ لذلك تم إطلاق "جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي"؛ لتكون قاطرة جديدة تنطلق بنا إلى المستقبل الذي لا ينتظر أحدًا. وتم إنشاء أول مدرسة رقمية عربية متكاملة ومُعْتَمَدة، جاءت عبر "نافذة التعليم"، في إطار سلسلة من المشروعات الثقافية والفكرية والمعرفية والتعليمية والإنسانية، التي دأبت بلادنا على إطلاقها منذ نشأتها، ولم تتوقف حتى في ظل جائحة كورونا التي ضربت العالم بأسره، والتي ظهرت فيها دولة الإمارات مثالًا للتضامن الإنساني، بالوقوف مع باقي شعوب العالم في هذه المحنة غير المسبوقة، رافعة نداء "الأُخُوَّة الإنسانية" فوق الاختلافات والتصادمات الدينية والمذهبية والعرقية، وهو ما كان قد تجسّد من قبلُ - قولًا وفعلًا - في الترحيب بشعوب العالم للزيارة والعمل والإقامة على أرضها، لإيمانها بأهمية التنوع والعيش المشترك في التقارب والسلام.
لقد ملأت دولة الإمارات فراغًا مؤسسيًا في الجهود العربية حين نشرت ثقافة التسامح ونبذ العنف، فكانت سبّاقة في إطلاق المراكز التي تستهدف مكافحة التطرف، وإصدار قوانين لمكافحة التمييز والكراهية، كما أنشأت "وزارة التسامح"، وأسست "المعهد الدولي للتسامح"، وغير ذلك من الأطر والبرامج والمؤتمرات ذات العلاقة، حيث تصدرت فيها دولة الإمارات العمل الإسلامي، لخدمة الوسطية والاعتدال.
إن التسامح بلا ريب هو السبيل الوحيد إلى التقدم بين بني البشر، وهو طريق ضروري لنقلهم من الصراع والنزاع، إلى التعايش والازدهار، ومن هنا تم الإعلان عن عام 2019 عامًا للتسامح.
لقد كانت تجربتنا في التسامح مثالًا نموذجيًا، إذ عبّرت عن رسوخ هذه القيمة وتأصّلها في النسيج الثقافي الإماراتي، وهي تجربةٌ ثَرِيَّةٌ، وحَرِيَّةٌ بالدراسة والتأمل، تاريخًا وحاضرًا، ومن ثم فهي توفر منبعًا للاستلهام، للدول والمجتمعات، والنخب الفكرية، وتتسع لكي تشمل الإنسانية جمعاء.
هذا ما جعل دولة الإمارات في السنوات الأخيرة وِجْهَةً للعلماء والمفكرين ورجال الدين، بعدما وفرت الدولة أكثر من منصة سنوية لحوار الأديان، وإرساء الوسطية، ونبذ التنافر والتصادم بين المعتقدات. وكان آخرها منتدى "تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة"، الذي حَظِيَ بحضور أكثر من 1600 شخصية، سعيًا إلى تدشين "حلف فضول جديد"، إقرارًا بالتعددية، والحرية الدينية.
كل ذلك نابع من منطلق الإصرار على ترسيخ البصمة الإماراتية في حركة التقدم الإنسانية، ورعاية القيم الكونية، والعمل على الترويج لها في المنطقة والعالم، وتحويلها إلى واقع وليس مجرد شعارات، مستلهمين "روح الاتحاد" التي تسري بداخلنا، ركيزةً لهويّتنا، وأساسًا لانتمائنا، ومصدرًا لإلهامنا.
ولعل خير تجسيد لذلك يتمثل في تدشين "بيت العائلة الإبراهيمية"، في مبادرة تمثّل رسالة سلام وأمل جديدة، مُفادُها أنّ الأُخُوَّة والتسامح والتعايش هي مبادئ تتقاسمها الأديان، التي جاءت – أساسًا - لإسعاد البشرية، لا لشقائها.
خمسون عامًا مضت على تأسيس الاتحاد.. نتأملها كثيرًا على وقع زهونا واحتفالنا بإنجازاتنا. وخمسون عامًا جديدة مُقبِلة، ندخلها عازمين على مواصلة التحدي، تحدونا الرغبة في المزيد، وكلنا ثقةٌ في قيادتنا الرشيدة، وإيمان بقدرتنا على مواصلة دولة الإمارات السير على درب النجاح.