في عصر تهيمن فيه التكنولوجيا على مختلف جوانب الحياة، لم يَعُدْ بالإمكان تجاهل الحاجة إلى إعادة هيكلة النظم الإدارية لتتماشى مع متطلبات العصر الحديث. ولئن نشأت البيروقراطية في الأصل لتوفير الانضباط والتنظيم داخل المؤسسات، فإن تراكم الإجراءات والتعقيدات الإدارية المرتبطة بها جعلها -في بعض الأحيان- عبئًا يعوق الأداء المؤسسي. ومن هنا برز مفهوم «تصفير البيروقراطية»، وهو نهج يسعى إلى إزالة العوائق الإدارية التي تعوق الإنتاجية والابتكار، مع تعزيز الكفاءة في تقديم الخدمات الحكومية.
تتجلى أهمية هذا النظام البيروقراطي في قدرته على تنظيم العمل، وتقسيم المسؤوليات على نحو يُسهم في تحقيق الاستقرار والتوازن في الأداء. ومع ذلك، وعلى الرغم من دور البيروقراطية المحوري في الهيكلة الإدارية، فإنها قد تعرضت لانتقادات واسعة على مر السنين، خصوصًا بسبب ما يُصاحبها من تعقيدات إدارية وإجراءات مُطَوَّلَة تعوق الإبداع وتؤدي إلى التأخير في إنجاز المعاملات. فالاعتماد الشديد على اللوائح والإجراءات والقواعد الحكومية. والتسلسل الهرمي في المؤسسات، يمكن أن يُسهم في تعزيز الروتين والجمود داخل تلك المؤسسات، مما يجعلها أقل مرونة في التعامل مع المتغيرات والابتكارات التي تتطلب سرعة في التكيف والاستجابة.
ومع نهاية القرن العشرين بدآت الحكومات، في الدول المتقد مة والنامية على حدٍ سواء، بالبحث عن مناهج ومفاهيم إدارية جديدة، تساعدها على البقاء والتكيف مع متغيرات الواقع الجديد وتحديات القرن الحادي والعشرين، وكل ذلك تطلب منها أن تقوم بعملية إصلاح حقيقي لنُظُم الإدارة العامة وهياكلها، وأن تعمل بطرائق ومناهج جديدة. ومن أحدث المداخل في الإصلاح الحكومي ما يُعرف بالحد من الإجراءات البيروقراطية، وهو منهج ظهر لأول مرة في مطلع التسعينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة، ويسعى للوصول إلى حكومة رشيقة وفاعلة تُدار بطريقة منظمة وذكية، بحيث تصبح الحكومة جهاز تحفيز، يتولى تهيئة الظروف وصياغة السياسات، وتقديم أوجه الدعم والمساندة للمجتمع، بدلًا من اتباع المركزية وتعقيد الإجراءات.
وفي هذا الشأن، وبخطوة استباقية تؤسس للمستقبل، أطلقت حكومة الإمارات برنامج
«تصفير البيروقراطية الحكومية» في عام 2023؛ بهدف القضاء على أوجه القصور البيروقراطية كافةً، في مرحلة جديد للعمل الحكومي، بُغْيَة الارتقاء بمستويات الكفاءة والجودة والمرونة والرشاقة المؤسسية. ويسعى برنامج تصفير البيروقراطية إلى تبسيط الإجراءات الحكومية غير الضرورية وتقليصها وإلغائها، وصولا إلى نموذج حكومي جديد يكون الأبسط والأسرع والأسهل والأكفاً، وإحداث نقلة نوعية واستثنائية في الإجراءات الحكومية، بما يعزز ريادة العمل الحكومي.
ويأتي إصدارنا لهذا الكتاب تحت عنوان تصفير البيروقراطية الحكومية في وقت تشهد فيه الحكومات حول العالم تحولات جذرية نحو تبني أنماط إدارية مرنة وذكية، إذ أصبحت الحاجة إلى تقليل التعقيد الإداري أمرًا ملحًا لمواكبة التطورات التقنية السريعة. وتبرز أهمية تسليط الضوء على ضرورة إعادة هيكلة الأنظمة الإدارية الحكومية بما يتماشى مع هذه التحولات، لضمان تقديم خدمات ذات جودة عالية تلبي احتياجات المجتمع الحديث.
يسعى هذا الكتاب إلى تقديم تحليل شامل لمفهوم البيروقراطية وآثارها المختلفة على الأداء المؤسسي، مع تركيز خاص على المؤسسات الحكومية التي تُعَدُّ أكثر عرضة للبيروقراطية نتيجة للتشريعات والأنظمة التي تنظم عملها، ويتناول الحلول الفعالة التي تُسهم في الحد من هذه التعقيدات من أجل تحقيق ما يُعرف ب»تصفير البيروقراطية»، وهو مفهوم حديث يعكس السعي لتقليل التعقيدات الإدارية إلى الحد الأدنى باستخدام التكنولوجيا وتقنيات التحول الرقمي، مع استعراض تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة بوصفها نموذجًا رائدًا في تصفير البيروقراطية من خلال تبني الحكومة الذكية والتحول الرقمي، إذ استطاعت دولة الإمارات تجاوز العقبات البيروقراطية التقليدية عبر تطوير أنظمة متكاملة تعتمد على التكنولوجيا الذكية، التي تَسهم في تسريع العمليات وتقديم خدمات عالية الجودة في سبيل تحقيق الرفاهية وجودة الحياة في المجتمع.