منذ تسعينيات القرن العشرين، انتشرت مراكز الفكر والبحوث خارج القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية إلى جميع أنحاء العالم، ونمت أعدادها، وزادت أهميتها، واكتسبت اهتمامًا أكاديميًا لافتًا.
فعلى الرغم من أن ظاهرة مراكز البحوث والفكر ليست حديثة النشأة، حيث يمكن تتبع نشأتها بالرجوع إلى مؤسساتٍ بحثية وفكرية تم إنشاؤها في القارة الأوروبية في الربع الأول من القرن التاسع عشر، فقد أخذت هذه الظاهرة في الانتشار خارج العالم الغربي في أواخر القرن المنصرم، ثم ازداد نموها، كمًا وكيفًا، في مختلف أنحاء العالم في العقود الأخيرة بصورة هائلة.
بالتواكب مع ذلك، تزايد الاهتمام العالمي بمراكز الفكر والبحوث؛ ما يرجع بالأساس إلى كونها حلقة الوصل بين عالم الأبحاث والدراسات من جانب، والواقع السياسي من جانب آخر، فهي تعمل على ربط المعرفة والسلطة، إذ تساعد صانعي القرار على اتخاذ القرار السياسي في ظل بيئةٍ تتسم بدرجةٍ عالية من عدم اليقين، وتُسهم في تثقيف الرأي العام بشأن القضايا السياسية المختلفة. لذلك، فهي تقوم بالدور الأبرز في سد الفجوة بين المعرفة والسلطة. كذلك، تلعب هذه المؤسسات الفكرية-البحثية دورًا متناميًا في تعزيز سبل التعاون الدولي، في ظل ديناميكيات التغير في النظام العالمي. في الوقت نفسه، أصبحت هذه المؤسسات الفكرية-البحثية مسهمًا رئيسيًا في عملية الحوكمة الوطنية، وتلعب دورًا محوريًا في تعزيز القوة الناعمة للدولة.
وقد برزت مراكز الفكر والبحوث في العقود الأخيرة بعدِّها أحد أهم الفاعلين السياسيين، الأمر الذي يشكل تحديًا لمختلف عمليات صنع السياسات، إذ تحدّت «أنظمة المعرفة» القائمة، أي الأنظمة والمؤسسات التي يقتصر عملها على إنتاج المعرفة العلمية ودمجها في صنع السياسات. في الوقت نفسه، أصبحت مراكز الفكر والبحوث قناة بديلة لنقل المعرفة إلى صناع السياسات؛ ما أدى إلى الضغط على القنوات التقليدية، مثل البيروقراطية، والآليات النقابية والهيئات الاستشارية.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم تنامي الاهتمام العالمي بهذه المؤسسات الفكرية-البحثية، وبأدوارها العديدة والمتنوعة، لاسيما المتعلقة منها بتقديم الاستشارات وتطوير البدائل لصانعي القرار للتعامل مع القضايا والمشكلات والأزمات والصراعات السياسية المختلفة، وكونها «جسرًا رابطًا بين المعرفة والسلطة»؛ حيث تعمل على إتاحة التحليلات والتقديرات اللازمة للحكومات، وتحويل الدراسات والبحوث النظرية إلى دراساتٍ تطبيقية تسعى لإيجاد حلول لمشكلات آنية أو مستقبلية. فضلًا عن ذلك، تستهدف مراكز الفكر والبحوث تنوير الرأي العام وتوعيته بأبعاد وجوانب ما يدور حوله في البيئتين الداخلية والخارجية، ورفد القوة الناعمة للدولة بمصادر زخم جديدة، والتشبيك بين المجتمعات والشعوب حول العالم، واستشراف المستقبل، بل والمشاركة في صنعه. وقد وصل الاهتمام بهذه المراكز على المستوى العالمي إلى حد انها هي فسها أصبحت مادة للبحث والتحليل من جانب الباحثين المهتمين بدراسة توجهات ومخرجات تلك المراكز، وتحليلها واستشراف مستقبلها، وكيفية تفعيل دورها في صنع المستقبل الذي تنشده الشعوب والمجتمعات…