ناصبت جماعة الإخوان المسلمين الدولة الوطنية العربية العداء منذ نشأتها، واعتبرتها حجر عثرة في طريق وصولها إلى الحكم، وحاربت أسسها ومبادئها الحداثية، بوصفها مخالفة لأسس نوعية تَدَيُّن الجماعة، ولمبادئ هذا التَّدَيُّن التي اختصرت الإسلام فيها، وصادرته لحساب الإخوان. وينبغي ألَّا ننخدع بأي تَطَوٌر أو تغَيٌر على مستوى الخطاب قد يعطي الانطباع بأن الجماعة قد تصالحت مع هذا الكيان السياسي الحديث، وتكيّفت مع مبادئه وأسسه الحداثية. فكل ذلك إنما هو نوع من الخداع والمخاتلة، بُغيَة اكتساب التعاطف معها والترويج لها ومساعدتها في الوصول إلى الحكم، على نحو ما سوف تبينه لنا الأفكار المؤسسة لرؤية جماعة الإخوان للدولة، وهي رؤية تتعارض مع التوجهات ذات النزعة العقلانية، كالتنوير والحداثة والدولة الوطنية.
إن النصوص المؤسسة للإسلامية، المتعلقة بمفهومهم للدولة، ترفض التنوع، وتجنح إلى الاعتقاد بأنها - وحدها - تمتلك الحقيقة المطلقة، ومن ثم فلا يمكن لها إلَّا أن تتعارض مع القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك. بل نستطيع القول إن اللجوء إلى العنف من طرف مَن يؤمن بتلك الأيديولوجيا ضد الآخر هو أمر مؤكد، ولا بُدَّ أن يظهر عاجلًا أو آجلًا. إذ إن الإسلامية رؤية شمولية سياسية حركية للدين، تعتقد أن هناك نموذجًا للحكم مُعَدًا مسبقًا، يجب على المسلم تطبيقه أو اتباعه، وغير مسموح بالبحث عن نموذج آخر - بغض النظر عن وصفه ب» إسلامي» - ما دام غير نموذجهم.
لقد أدى فهم الجماعة للسياسة ونظام الحكم إلى عملية تشويه شديدة للمنظومة المعرفية التي تتبناها هذه الحركات، فأصبحت رؤيتها للعمل السياسي - أو لنظام الحكم - تقوم على معادلة، هي في جوهرها خليط من مفاهيم تدعي أنها الإسلام، مع مفاهيم غربية معاصرة لكنها مشوهة. وقد أنتجت هذه المعادلة واحدة من أسوأ صور الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي، إذ إن إيمان هذه الحركات بأن السياسة هي القوة أو السلطة أو النفوذ أو علم إدارة الدولة، واعتمادها على مصادر المشروعية الإسلامية، كل ذلك أدى بها إلى الوصول إلى مرحلة من السُّعَار الشديد للوصول إلى الهيمنة على مفاصل الدولة، وإلى درجة مُعَقَّدَة من الاستبداد، خصوصًا الاستبداد الفكري الذي يقوم على افتراض امتلاك الحقيقة، ومن ثم نزع المشروعية - بل شرعية الوجود - عن المخالفين، ونفيهم خارج المجتمع، أو خارج الوجود نفسه في بعض الحالات.
إن كل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة الموجودة على الساحة تقريبًا قد استلهمت تَصَوُّرها حول مفهوم الدولة - القائم على أن الخلافة الإسلامية هي النموذج الوحيد للدولة - من جماعة الإخوان المسلمين، ليس فقط لكونها الجماعة الأم التي خرجت من تتح عباءتها كل التنظيمات الأخرى، وإنما لكونها أول من نَظَّرَ ورَسَّخَ لقداسة مفهوم الخلافة في العصر الحديث، بوصفه يمثل رُكنًا من أركان الدين الإسلامي من منظورهم، وإن حاولت التنظيمات التي جاءت بعدها أن نُضْفِيَ بعض السمات الخاصة بها على مفهوم الخلافة، بما يوائم منطلقاتها الفكرية، وذلك بالتزامن مع محاولة تحطيم صورة الدولة الوطنية، وتشويهها سياسيًا ودينيًا، من خلال تصوير أنها ثمرة الاحتلال الأجنبي للعالم الإسلامي.
تقتضي تبعات ما بعد أحداث 2011 أن نتعامل بنسبية مع مراجعات بعض مُنَظَّري الإخوان، والمتعارضة بطبيعتها مع الأسس الفلسفية لمفهوم المواطنة، والتي قد تبدو في ظاهرها مفارقةً للأفكار المؤسسة للجماعة. ولعل تصريحات الجماعة وممارساتها مع بعض الفرقاء يصب في هذا السياق، حيث تظهر - بلا ريب – أن تلك المراجعات لا محل لها من الإعراب في سلوك الجماعة في المعترك السياسي.
إن مشروع الدولة الإخوانية - سواءً من جهة كونه فكرة، أو من جهة كونه اختبارًا وتحدّيًا - يُشَكّل خطرًا على أمن الدولة الوطنية الحديثة في بُعدِه الشامل، وبخاصّة البُعد الفكري. وتتعدّد وجوه تحدّي المشروع الإخواني للدولة الوطنية، إذ تشمل الأبعاد المعرفية والقيمية والأخلاقية. فالدولة الإخوانية قائمة على مفاهيم وقيم وتصوُّرات بمناهضة لتلك التي تتأسس عليها الدولة الوطنية، ومن ثم تمثّل عائقًا يحول دون استكمال قواعد بنائها لتكون دولة المواطنة، بما يجعلها تستقطب لدى الفرد مشاعر الانتماء والولاء. وقد أظهرت التجارب التاريخية تهافُت مشروع الدولة الإخوانية، إذ إنها لم تُخْفِق فحسب في الاستجابة لتطلُّعات الجماهير في التنمية والرخاء، بل إنها كشفت أيضًأ عن الازدواجية في ممارستها، وما تنطوي عليه من مغالطة وخداع في موقف هذا المشروع من الدولة الحديثة، فعلى النقيض من موقفه الأيديولوجي المعارض مبدئيا لنظرية الدولة الوطنية الحديثة، فإنّه لم يجد حرجًأ في الاستيلاء على جهازها والعمل على تسخيره لخدمة غايته في الحكم والتمكين.
إن مفهوم الدولة عند جماعة الإخوان المسلمين، الذي تم تفصيله وتحليله وتفكيكيه ونقده في هذا الكتاب، وكشف انعكاسه في سلوكيات الجماعة، يمثل بلا شك تهديدًا للمجتمع وللدولة - بل للدين ذاته - لأنه يعيد تعريف الإسلام ليستخدم تلك النسخة الجديدة من الدين )أي نمط تَدَيُّن الجماعة( باعتباره وسيلةً لتحقيق الغايات التي تحقق مصالح الجماعة. فدولة الإخوان في نهاية الأمر لا هي وطنية، ولا هي إسلامية