Insight Image

أفغنة الأزمة السورية: انسحاب أم إعادة انتشار القوات الأمريكية في سوريا

20 يناير 2020

أفغنة الأزمة السورية: انسحاب أم إعادة انتشار القوات الأمريكية في سوريا

20 يناير 2020

   المأزق

يُشكل أي انسحاب عسكري أمريكي من سوريا حافزا قد يسهم في تعزيز مستويات خطر حدوث توسع جديد لتنظيم داعش، والسماح لأتباع البغدادي بتحقيق مكاسب في جميع أنحاء المنطقة، وبسط نفوذهم مجددا على ما خسروه من أراضي منذ 2014. ويشار، في سياق متصل، إلى أن جماعة طالبان قد حصلت على فرصة مشابهة عندما انسحب الرئيس الأمريكي السابق أوباما من أفغانستان، ما سمح بسيادة أجواء من الفوضى والاضطراب عقب وفاة أسامة بن لادن.

أي انسحاب عسكري أمريكي سيخلّف، بالضرورة فراغاً في سوريا ستملأه إيران وروسيا وتركيا؛ وهذا أقرب إلى ما حدث في أعقاب الانسحاب الأمريكي من العراق الذي ما زالت البلاد حتى اليوم تواجه ما ترتب عليه من تداعيات وعواقب سيئة. لقد شنت تركيا حملة عسكرية هجومية مؤخراً في شمال سوريا، وأصبحت تداعيات هذه الحملة جد مؤثرة، وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن الوحدات العسكرية التركية وقوات المليشيات المتحالفة معها قد أجبرت 200 ألف شخص على مغادرة أراضيهم. ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد قُتِل أكثر من 130 مقاتلاً من قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية و69 مدنياً، ومن المستبعَد أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تُقدِّر التداعيات المحتملة المترتبة على انسحاب قواتها من المنطقة.

السياق

مهَّد الرئيس دونالد ترامب بقرار سحب الوحدات العسكرية الأمريكية من شمال سوريا، القرار الذي أثار انتقادات دولية واسعة، الطريق لهجوم عسكري تركي في المنطقة. وأعتقد، في غالب الأحيان، أن هذا الأمر لا يتعلق بانسحاب الوحدات الأمريكية بمعناه الكمي التقليدي، بل هو “إعادة انتشار” جيوستراتيجي.

فالانسحاب يتعلق فقط بالوحدات العسكرية الأرضية، والعملية السرية التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد البغدادي تمثل واحدة من أدوات إعادة الانتشار إضافة إلى أن هذا الانسحاب – وفقاً للنهج الأمريكي – يتم تنفيذه عمودياً، ويُعاد الانتشار أفقياً عبر القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة.

عمل الرئيس دونالد ترامب بتاريخ 30 أغسطس 2019، في هذا الاتجاه، على إصدار قرارا لوزارة الدفاع (البنتاغون) هدفه تخفيض عدد القوات الأمريكية الموجودة في أفغانستان إلى النصف، وبغض النظر عن تداعيات هذا القرار، بدأ المعارضون والمراقبون المقارنة بين سياسات ترامب وسياسات أوباما في منطقة الشرق الأوسط، حيث أثنى بعض المراقبين على تنفيذ الرئيس أوباما لاستراتيجية كبرى عززت القوة الأمريكية لفترة طويلة، فيما أشار آخرون إلى عيوب تلك الاستراتيجية وافتقارها إلى الوضوح والتماسك المطلوبين. وأعتقد أنه على الرغم من هذه الاختلافات، أن هناك استمرارية بين نهجيْ ترامب وأوباما في التعاطي مع الحالة السورية، حيث أن التوجه الاستراتيجي الرئيسي يتكون من مجموعة من المبادئ التي تعكس مزيجاً من الاستمرارية والتغيير إزاء تقاليد السياسة الخارجية الأمريكية.

كما أن استراتيجيتيْ أوباما وترامب في الشرق الأوسط، تنسجمان تماماً في العديد من النواحي مع الخطوط العريضة لفن إدارة شؤون الدولة الأمريكية منذ حقبتيْ ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة، إذ أن الهدف الأساسي والمحوري هو الحفاظ على التفوق الأمريكي في النظام الدولي.

هل يمكننا بعد هذا أن نصف خطة ترامب للانسحاب من سوريا بأنها خطأ شبيه بخطأ انسحاب أوباما من أفغانستان؟ وبتعبير آخر، هل بدأ ترامب يكرر الأخطاء التي ارتكبها أوباما في الشرق الأوسط؟

يبدو أن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا يشوبه الكثير من التناقض ويرمي إلى إطالة التباس الوضع الراهن. كما لا يمكن إنكار بعض الحقائق التي سيقت تأييداً لخطة الانسحاب؛ وتشمل بعض الحالات توكيل الأمريكيين المتكرر لجهات وسيطة للقيام بالمهام التنظيمية المتمثلة في العمليات السرية على غرار ما رأيناه في العملية التي نُفِّذت للقضاء على البغدادي. فقد قدّم ترامب الشكر لكل من روسيا، وتركيا، والعراق، والأكراد السوريين على دعمهم للعملية، حيث قال: “لقد عاملتنا روسيا تعاملاً رائعاً وفتحت المجال الجوي الذي تسيطر عليه لتنفيذ الغارة …”، وتابع: “كما زودونا الأكراد ببعض المعلومات المفيدة”.

لقد ظل التدخل الدولي في الصراعات الإقليمية يمثل أحد المبادئ الرئيسية في السياسات الخارجية لجميع الدول، أياً كان حجمها. فمن التدخلات المناصرة والمناوئة للشيوعية خلال الحرب الباردة إلى البعثات التي قادتها الأمم المتحدة وحلف الناتو في رواندا وكوسوفو، ما تزال التدخلات العسكرية سمة ثابتة في العلاقات الدولية الحديثة. ولكن يمكن القول إنه بعد انهيار المعسكر الشيوعي لم تخضع أي منطقة في العالم لهذا القدر من التركيز الدولي والتدخلات الأجنبية مثلما خضعت له منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد ظلت سوريا، الدولة الكاملة السيادة، تخضع منذ عام 2011 لتدخل أجنبي مختلف إلى حد كبير في طبيعته. كما تداخلت فيها تحالفات متنوعة بين الجهات الفاعلة الدولية والمحلية حسب تفسير العديد من النظريات المتعددة التي تنتمي إلى شتى مدارس العلاقات الدولية وتتفاعل بطرق معقّدة وغير واضحة المعالم في كثير من الأحيان.

وعقب اندلاع أعمال العنف مباشرة (2011-2012)، بدأ الاختلاف بين التصورات الدولية والتناقضات الداخلية يحدِّد شكل استجابة الجهات الفاعلة الدولية والفصائل المحلية، وكان للولايات المتحدة الأمريكية وجود في سوريا في ذلك الوقت، غير أن مهمتها اقتصرت على المراقبة وحماية الموجودات الأمريكية، وعلى الرغم من أن المعلومات الاستخبارية لم تؤكَّد علناً حتى عام 2013، فقد دخلت إدارة أوباما الصراع منذ الأيام الأولى من الحرب. ووفقاً للرئيس ترامب، فإن تقاليد السياسة الخارجية الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن تعبيراً عن مصلحة ذاتية عليا، إنما كانت عملاً مجانياً ساذجاً اغتنت من ورائه أطراف دولية أخرى، على حساب الولايات المتحدة الأمريكية (تشوليت، 2016؛ براندز، 2016).

ولا يتفق، في المقابل، العديد من المهتمين مع فكرة وجود استراتيجية دولية للرئيس أوباما، وذلك بسبب أوجه القصور التي تعتري ممارساته في السياسة الخارجية وافتقار الإدارة الأمريكية إلى الخطة الواضحة والبناء المتكامل.

لقد خضعت سوريا للهيمنة الفرنسية لعدة عقود عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وخلّف انسحاب فرنسا عام 1947 وراءه منطقةً مقسمة جغرافيا بفعل الانقسامات الأيديولوجية والدينية. انقسم القوميون على أسس ثيوقراطية بالدرجة الأولى، بينما كانت الجماعة الإسلامية المهيمنة – جماعة الإخوان المسلمين – تدفع بشكل عنيف إلى اعتبار سوريا دولة مسلمة سنّية، مع إعطاء مكانة متميزة وواضحة للأقليات المختلفة في النظام الاجتماعي والسياسي في سوريا. وتكتّلت، في النهاية، القوى المتباينة حول أيديولوجيا “القومية العربية” (بولك، 2013) ما أدى إلى نشأت كيان سياسي عُرِف باسم حزب البعث الذي أصبح يهيمن عليه ممثل الطائفة العلوية الرئيس الراحل حافظ الأسد.

لم يحاول حافظ الأسد الذي صعد إلى السلطة عام 1971 – على الرغم من مناصرته للأيديولوجيا العلمانية التي يتبناها حزب البعث – إدخال أي معتقدات علوية في بنية الدولة، ولكنه كان متحيزاً بشدة للعلويين الذين كانوا يخشون الأغلبية السنّية.

وتمكّن حافظ الأسد بفضل دعم الطائفة العلوية القوي له من القضاء على سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة التي عانت منها سوريا قبل صعوده إلى السلطة التي عزز قبضته عليها في ما بعد من خلال مكافأة أعضاء طائفته بمناصب قيادية في أجهزة الدولة، وتنفيذ سياسات محابية للعلويين الريفيين عموماً وتوسيع علاقاته من خلال اقتسام “غنائم” السلطة مع القبائل الأخرى.

بُذور الحرب الأهلية

لم تكن، خلال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد، جذور النزاع واضحة المعالم، وكان أفضل ما يميزها هو حقيقة أن المجتمع الدولي كان يعتبر نظام الأسد نظاما استبداديا وحشيا، بينما لم يولي أهمية كبرى للتناقضات المفصلية بين العديد من الفصائل والطوائف والخلاف بينها وبين نظام الأسد.لقد كانت سوريا ضمن الدول التي وصفها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بأنها “محور الشر”، مع إيران، العراق، وكوريا الشمالية، وليبيا، وكوبا؛ وعلى الرغم من التعهد المُعلَن بتخفيف التوترات وبتطوير العلاقات، فرضت إدارة أوباما عقوبات في عام 2010 “هدفت إلى تقليص الإيرادات الحكومية، خصوصاً إيرادات النفط، وزيادة المعارضة الشعبية للنظام”.

أما روسيا، حليفة نظام الأسد، فقد كانت وما تزال المورِّد المهيمن للغاز والنفط إلى أوربا، ولم يكن لدى بوتين أو الأسد أي اعتراض على قيام إيران الشيعية ببناء خط أنابيب يمر عبر سوريا في اتجاه السوق الأوربية. وظهر، بحلول عام 2012، في الصراع نحو ألف وحدة قتالية متباينة من حيث دوافعها وتحركاتها وتضارب مصالحها التي شكلت ساحة للتطاحن بينها، فضلا عن أعداد الجهاديين الأجانب الذين انضموا إلى صراع اعتبروا فيه أنفسهم مشاركين في كفاح شامل لا تحده حدود جغرافية على اعتبار عالمية الإسلام وشموليته التي تتجاوز حجم سوريا الجغرافي والسعي لإقامة “الخلافة الإسلامية”(بلوك، 2013).

وكانت نتيجة ما بعد التدخل في حالة سوريا مماثلة لدرجة تؤكد تزايد عجز النماذج التقليدية عن معالجة قضايا وأزمات القرن الحادي والعشرين الملحة والمزمنة. فالقوى والكيانات الجديدة التي يجد المجتمع الدولي نفسه في مواجهة معها اليوم لا يحرّكها، ولا يعرِّفها، مبدأ السيادة الذي أفضت إليه معاهدة “وستفاليا” أو الليبرالية الحرة أو الفلسفة الماركسية. كما أن محاولات علماء الاجتماع وصناع السياسات لعقلنة المفاهيم النظرية المعنية وتوجيهها انتهت جميعها تقريباً إلى الارتباك والفشل. أسهم هذا الإخفاق في مقاربة النماذج النظرية التي من خلالها يتم التعاطي مع الصراع في سوريا في تحول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – تحديدا – إلى منطقة متغيرة ومنفلتة أمنيا وجيوسياسيا أكثر مما كانت عليه خلال عهد حافظ الأسد (الأب) أو صدام حسين في العراق أو معمر القذافي في ليبيا.

تدويل الصراع

انتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال عهدته الرئاسية الأولى خطة أوباما عندما أعلن عن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان ووصفها قائلا: “إن الأوضاع على الأرض هي التي ستحكم توجيه دفة استراتيجيتنا من الآن فصاعداً وليست الجداول الزمنية الاعتباطية”، غير أنه  في ما أيّد استخدام القوة، بدلاً من سياسة الحلول الخاصة بالأزمة الأفغانية التي تبناها أوباما لإجبار حركة طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن حركة طالبان كانت لديها استراتيجية مختلفة، حيث بدأت تحقق مكاسب مهمة على الأرض ورفضت الجهود الأمريكية للتفاوض من أجل إيجاد تسوية.

لقد أرادت إدارة أوباما أن تلقي بالانشغالات الأمنية على كاهل حلفائها في المنطقة، على غرار ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة اعتمادا على سياسات سعت إلى سحب القوات الأمريكية من المنطقة وإبرام الاتفاق النووي مع إيران. كان الغرض من هذه الاستراتيجية هو تسهيل توجُّه واشنطن نحو آسيا. ويمكن، بناء على ما سبق، النظر إلى انسحاب ترامب من سوريا باعتباره بمثابة تدويل وإطالة للحرب، وهو ترتيب أشبه بخطة “الأفغانية” التي أعلنها أوباما والسياسة الأمريكية في فييتنام “الفَتْنَمة” التي اتّبعها الرئيس الأمريكي الأسبق رِتشارد نِكسون الذي اقترح عام 1969 استبدال القوات الأمريكية المقاتلة بقوات فيتنامية جنوبية لتمكين الولايات المتحدة الأمريكية من التخلص من حربٍ تبدو دون نهاية ودون نتائج حاسمة لواشنطن.

ويبدو أن هدف ترامب أيضاً في سوريا يتطابق مع هذه التصور فعلى غرار انسحاب أوباما من العراق وأفغانستان أتى انسحاب ترامب من سوريا رداً متأخراً على حرب العراق. كما سيتيح خروج القوات الأمريكية من سوريا مجالا لطموح إيران لتوسيع نفوذه العسكري والسياسي الذي لا يشكل تهديدا للإدارة الأمريكية فحسب، بل لحلفائهم أيضاً في المنطقة. وما زاد الأمور سوءاً هو رد ترامب على سؤال الرئيس التركي هاتفياً عندما سأله عن وضع القوات الأمريكية في سوريا وأجاب قائلاً: “سأترك الأمر لك”.

توسُّع النفوذ الإيراني

أنفقت إيران عقوداً من الزمن في بناء علاقات مع الجماعات الشيعية المتواجدة في دول الجوار التي تعتبرها مهمة لعمقها الاستراتيجي. وقد ساعدت هذه العلاقات القائمة بين طهران وجماعات تعيش في دول مثل أفغانستان، والعراق، ولبنان، وباكستان، وسوريا، واليمن وغيرها في قطف ثمار الحروب بالوكالة واستغلال مقاتلين من أطراف ثالثة، بما في ذلك الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة.

لقد ظلت إيران بالفعل تحتضن قوات موالية لها وتمولها في كل من لبنان، والعراق منذ فترة طويلة غير أن تجنيد شيعة من جنوب آسيا كان ظاهرة جديدة تماماً، فهذه الجماعات الفرعية التابعة لمليشيات أجنبية انضمت إلى شبكة أوسع نطاقاً، ولكلٍ منها اسم مختلف: لواء الفاطميين المكوَّن من قوات أفغانية، والكتيبة الزَّيْنَبِية (كتيبة زينب) المكونة من قوات باكستانية. كما أسهم التطور في الاستراتيجية الإيرانية في هذا الاتجاه في نمو الشبكة الإيرانية واتساعها، من خلال استغلال فراغ السلطة لتوسيع نفود طهران في المنطقة، وظل هذا هدفاً إيرانياً ثابتا منذ عقود وخاصة منذ بدية الثورة الإيرانية عام 1979.

تركيا وروسيا

عقب قرار الرئيس دونالد ترامب القاضي بسحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، شن تركيا هجوما على الحدود، فيما بقيت موسكو ترصد ما يمكن إحرازه من مكاسب جراء هذا الوضع الجديد، وتعمل على تسريع المباحثات بين الأكراد ودمشق من جهة، وتوسيع قنوات الحوار الأمني والعسكري التي لاحت بين أنقرة ودمشق من جهة أخرى. ويمكن حصر التحذيرات التي أصدرتها موسكو في بداية العملية العسكرية التركية في محورين تقريباً.

أولاً: لا ينبغي أن يؤثر التوغل التركي على العملية السياسية برمّتها، ما يعكس المخاوف الروسية من أن إطالة أمد العملية العسكرية قد تؤدي إلى مواجهة واسعة من شأنها أن تقوِّض الجهود المبذولة لإدارة “معركة” التوافق على الوثيقة الدستورية في المستقبل.

ثانياً: يجب ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأمريكي بطريقة تعزز من القدرة التفاوضية لدى موسكو والحكومية السورية.

انسحاب أم إعادة انتشار

يوضح روبرت كيغان في مقاله “الإمبراطورية الخيِّرة” سبب اعتقاده أن الهيمنة الأمريكية هي أفضل سيناريو ممكن بشأن المصالح الوطنية للدول الأخرى ولإدارة المنظومة الدولية ككل. ويناقش كيغان في مقاله الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة الأمريكية أفضل قوة مهيمنة، ويسلط الضوء على الغطرسة التي تظهرها وغيرها من القوى المنافسة (كيغان، 2005:6) ويشير كيغان في السياق ذاته إلى أن القوة الأمريكية الحقيقية تنتقل من القوة العسكرية إلى النزعة الخيرية داخل المنظومة الدولية كلما تراجعت أهمية وجود جيش قوي. فقد استلزمت الاستراتيجية الأمريكية خلال الحرب الباردة تزويد أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بأكثر مما كان متوقعاً منهم تقديمه في المقابل.

ولا يتفق رتشارد فولك مع كيغان في هذا الرأي، وشرح في مقال له تحت عنوان “هل ستصبح الإمبراطورية قوة فاشية؟”  مخاطر أي منظومة دولية تظهر فيها إمبراطورية أمريكية أو هيمنة أمريكية تقوم على أسس فاشية. والسؤال، وفقاً لرأيه، ليس هل توجد إمبراطورية أمريكية أم لا؟، بل ما هو نوع الإمبراطورية الذي ستصير إليه الولايات المتحدة الأمريكية؟. ويعتقد أنه حتى إذا كان الحال كذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد إمبراطورية خيِّرة في أفعالها داخل المنظومة الدولية (فولك، 2005: 4)

بالرغم من تضارب وجهات النظر بخصوص الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط صعودا أو نزولا، هناك أدلة قاطعة تشير إلى أن الانسحاب الأمريكي من سوريا لم يفشل في تحقيق أهدافه المُعلَنة فحسب، بل أسهم بشكل مباشر في إطالة أمد الصراع وفي ارتفاع عدد الضحايا العسكريين والمدنيين على حدٍّ سواء. كما أن الوجود التركي والإيراني والروسي في سوريا سيطيل أيضا من أمد الحرب الأهلية بنحو خمسة أضعاف، ويزيد عدد قتلاها إلى الضعف على الأقل، وسيقود أيضاً إلى تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان والمعاناة الإنسانية. لقد تجاوز عدد قتلى الحرب السورية نصف مليون شخص منذ عام 2011؛ أكثر من ثلثهم من المدنيين، وهناك 15 مليون شخص من المهجرين والجرحى.

خاتمة

لقد كان أمام الرئيس ترامب فرصة لمعالجة التحديات الاستراتيجية الأمريكية الكبرى ومعضلاتها في بداية القرن الحادي والعشرين. ولكن ما رأيناه في سوريا هو بقاء نظام وبنية سياسية ناتجة عن عقود من حكم حافظ الأسد الذي يواصل ابنه بشار حمل إرثه وحمولته التاريخية على غرار ليبيا في عهد القذافي التي كانت متمركزة حول عائلة رجل واحد في إطار شَخْصَنَة السلطة وفق نظام الحكم الأثوقراطي الباتريمونيالي.

أخيراً، على الرغم من أن سوريا لديها أعداء أكثر مما لدى ليبيا، فإن صمودها الداخلي – والرهانات التي تحملها القوى الإقليمية والدولية مثل إيران وروسيا والصين – قد حال دون وقوع تدخل مباشر من جانب القوى الغربية التي تبدو غير مستوعبة لطبيعة السياسة في المنطقة حتى بعد عقود من تواجدها فيها.

د عبد القادر فيلالي أكاديمي من كلية الدراسات السياسية بجامعة أوتاوا.

المراجع

1/ Chulov, Martin. (2013). Syria’s War More Complex than ever’. The Guardian, September, 19.

https://www.theguarduian.com/world/2013/sep/19/syria-war-stalemate-assad-rebels.

2/ Derek Chollet, The Long Game: How Obama Defied Washington and Redefined America’s Role in the World (New York: Public Affairs, 2016); Jeffrey Goldberg, “The Obama Doctrine,” The Atlantic, April 2016, http://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/ the-obama-doctrine/471525/.

3/ Falk, R. (2005). Will the Empire be Fascist? In M. Charlton (Ed.), Crosscurrents in International Relations (4th ed.) (pp.13-24). Toronto, ON:Thomson.

4/ Hal Brands (2016). Barack Obama and the Dilemmas of American Grand Strategy. The Washington Quarterly.

5/ Jeet Heer, ‘Donald Trump’s Foreign Policy Revolution’, New Republic, 25 March 2016; Cassandra Vinograd, ‘Donald Trump Remarks on NATO Trigger Alarm Bells in Europe’, NBC News, 21 July 2016; ‘Trump on Foreign Policy’, National Interest, 27 April 2016; and Victor Morton, ‘Trump Says He’d Force US Military to Commit War Crimes’, Washington Times, 3 March 2016.

6/ Kagan, R. (2005). The Benevolent Empire. In M. Charlton (Ed.), Crosscurrents in International Relations (4th ed.) (pp.13-24). Toronto, ON:Thomson.

7/ Polk, Willaim. R. (2013). Understanding Syria: From Pre-Civil War to Post-Assad. Retrieved from the Atlantic https://www.theatlantic.com/international/archive/2013/12/understanding-syria-from-pre-civil-war-to-post-assad/

المواضيع ذات الصلة