Insight Image

اقترابات أمنية خطرة: التأثيرات الإقليمية لحرب التيغراي على السودان

12 سبتمبر 2021

اقترابات أمنية خطرة: التأثيرات الإقليمية لحرب التيغراي على السودان

12 سبتمبر 2021

 من الواضح أن إثيوبيا في حالة حرب مع نفسها، وثمة تهديد حقيقي بامتداد شرارتها لدول الجوار ولاسيما السودان الذي يعيش مرحلة انتقالية متعثرة بعد الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير عام 2019. وفي هذا السياق مايزال المجتمع الدولي يحاول جاهداً الاستجابة لهذه الأخطار المحتملة، التي تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين. فمنذ اندلاع القتال في أنحاء منطقة تيغراي الإثيوبية أوائل نوفمبر 2020، فر أكثر من تسعين ألفاً من لاجئي التيغراي إلى السودان المجاور، وانقطع وصول المساعدات الإنسانية المستحقة لنحو 80% من سكان المنطقة البالغ عددهم ستة ملايين نسمة. ونحاول في هذه الورقة رصد وتحليل أهم التداعيات السياسية والأمنية لحرب التيغراي على السودان ومقترحات ومسارات بناء السلام في المنطقة.

يمكن الحديث عن ستة أبعاد مهمة لتداعيات حرب التيغراي على السودان، وهي تتمثل فيما يأتي:

  • تفاقم الوضع الإنساني وأزمة اللاجئين في السودان، فهناك مخاوف حقيقية من الضغط الذي يفرضه اللاجئون على السودان، الذي يحاول التعافي من عقود من صراعاته الداخلية التي تسببت في نزوح عدة ملايين من الأشخاص.
  • تدهور العلاقات السياسية، حيث قام السودان باستدعاء سفيره لدى إثيوبيا في 8 أغسطس 2021 للتشاور بعد أن اتهم مسؤولون إثيوبيون الخرطوم بالتدخل في أزمة تيغراي، وقد رفضت وزارة الخارجية السودانية في بيان رسمي الاتهامات الإثيوبية للسودان بعدم التزام الحياد في التوسط في الصراع في تيغراي.
  • تفاقم أزمة مثلث الفشقة، ولاسيما بعد تمكن الجيش السوداني من استرداد معظم أراضيه وطرد الميليشيات الأمهرية، وهو ما اعتبرته إثيوبيا تصعيداً خطيراً ومحاولة لتغيير الحقائق على أرض الواقع.
  • عسكرة منطقة الحدود، حيث إن تدفق الجيوش والميليشيات المتحالفة إلى المنطقة الحدودية بين السودان وإثيوبيا أدى إلى زيادة حالة عدم الاستقرار. أما على الجانب الإثيوبي فلا يقتصر الأمر على الجيش الوطني الإثيوبي فحسب، بل يشمل أيضاً ميليشيات الأمهرة وقوات الدفاع الإريترية. وبالمثل، على الجانب السوداني من الحدود، تم حشد القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والميليشيات المحلية بأعداد كبيرة وبشكل متزايد.
  • تزايد حدة الانقسام حول أزمة سد النهضة، حيث لاتزال المفاوضات تراوح مكانها، إن لم تكن قد وصلت إلى طريق مسدود. كما أن العلاقة بين السودان وإثيوبيا قد تأثرت سلبياً بقرار السودان التعاون مع مصر واتخاذ موقف موحد في العديد من القضايا الإقليمية، ولاسيما قضية سد النهضة.
  • غياب التنسيق في مبادرات الوساطة الدولية، ففي غياب وجود وساطة خارجية مقبولة، يخاطر الطرفان بجعل الحرب الباردة أكثر قابلية للاشتعال في أي لحظة.

وعليه، فإن مسارات الخروج الآمن وبناء السلام في المنطقة يتطلبان اتخاذ الإجراءات التالية بالسرعة المناسبة:

  • أولاً: خفض التصعيد والقبول بمبدأ الوساطة، فمن غير المحتمل أن تكون المطالب الثنائية الخاصة بخفض التصعيد والانسحاب من المناطق المتنازع عليها كافية في هذه المرحلة، إذ لابد من القبول بمبدأ الوساطة والاقتناع بأن الحلول العسكرية لن تنجح في حسم المواقف لصالح طرف بعينه.
  • ثانياً: التنسيق بين مبادرات الوساطة الخارجية، فهناك حاجة ماسة إلى وساطة خارجية منسقة رفيعة المستوى لتجنب العواقب الوخيمة المحتملة للنزاع، ليس فقط على السكان المدنيين في المنطقة الحدودية، ولكن أيضاً على البلدان الواقعة في قلب النزاع والقرن الأفريقي ككل.
  • ثالثاً: تجنب الخيار الكارثي، حيث يجب إطلاق مثل هذه المبادرات بالسرعة المناسبة لتجنب ما يمكن تسميته الانحدار اللولبي (أو نظرية الدومنيو)، وهناك العديد من الخطوات الفورية التي يمكن للدول الأوروبية والولايات المتحدة اتخاذها للقيام بذلك.

 مقدمة

ترجع بدايات الحرب في إقليم التيغراي الإثيوبي إلى نوفمبر 2020، عندما اتهمت الحكومة الإثيوبية الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي بمهاجمة القاعدة العسكرية الشمالية، وهو اتهام نفته الجبهة، ثم أعلنت الحكومة الإثيوبية أن مهمة إنفاذ القانون في الإقليم المتمرد قد تكللت بالنصر بعد ثلاثة أسابيع عندما استولت على العاصمة الإقليمية ميكيلي، لكن قوات دفاع التيغراي المتحالفة استمرت في القتال واستطاعت تحويل ميزان القوة لصالحها من خلال استعادة السيطرة على معظم التيغراي، بما في ذلك ميكيلي، وانسحبت القوات الإثيوبية من معظم مناطق تيغراي أواخر يونيو 2021، حيث أعلنت الحكومة وقف إطلاق النار من جانب واحد؛ وذلك لاعتبارات إنسانية.

ومع ذلك، أشارت التقارير إلى استمرار انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة منذ ذلك الحين، حيث قتل آلاف المدنيين. واتسعت المعارك في يوليو لتشمل منطقتي عفار وأمهرة المتاخمتين لإقليم التيغراي، ولعل ذلك هو ما يدفع إلى الاعتقاد بإمكانية اتساع نطاق الحرب لتشمل مناطق الجوار المتاخمة، وعلى رأسها السودان، وتشير كثير من الدلائل إلى أن السودان يعتبر أكثر دول المنطقة تضرراً من أزمة تيغراي الإثيوبية.

أولاً- تأثيرات حرب التيغراي على السودان:

يمكن تحديد ستة أبعاد لتداعيات حرب التيغراي المحتملة على السودان، والتي تهدد بامتداد الصراع عبر إقليم القرن الأفريقي كله:

  • البعد الإنساني وأزمة اللاجئين:

 لاشك في أن استمرار الاشتباكات على طول الحدود الشرقية للسودان وتدفق عشرات آلاف اللاجئين من إثيوبيا يؤدى إلى زيادة التحديات التي يواجهها بلد يخوض بالفعل تحولاً سياسياً قلقاً وأزمة اقتصادية طويلة الأمد بعد الإطاحة بنظام البشير عام 2019. وذكرت تقارير إعلامية حديثة أن الاشتباكات امتدت إلى منطقتي أمهرة وعفار في شمال إثيوبيا، مما دفع آلاف الإثيوبيين إلى الفرار باتجاه الأراضي السودانية. وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة، بلغ العدد الإجمالي للاجئين الإثيوبيين في السودان حوالي 90 ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال. إن السودان يستضيف بالفعل منذ سنوات آلاف اللاجئين من إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان، والوضع الحالي في السودان لا يسمح باستضافة المزيد من اللاجئين.

إن منطقة الصراع في إثيوبيا هي منطقة حدودية، وهي قريبة من السودان وإريتريا وجنوب السودان. وعليه، فإن حرب تيغراي يمكن أن تؤثر على المنطقة بأكملها ومنطقة البحر الأحمر بشكل عام. إن هناك مخاوف حقيقية من الضغط الذي يفرضه اللاجئون على السودان، الذي يحاول التعافي من عقود من صراعاته الداخلية التي تسببت في نزوح عدة ملايين من الأشخاص، لقد أدى التدفق المتزايد للاجئين الإثيوبيين إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتكافح وكالات الإغاثة لتوفير الغذاء والمياه والرعاية الصحية لهم. وقد طلبت الحكومة السودانية من العديد من موظفي الخدمة المدنية العمل من المنزل بعد ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا؛ مما عقَّد العمليات اللوجستية. وقد توفي رئيس مفوضية اللاجئين السودانية بسبب إصابته بفيروس “كوفيد-19″، ولعل أحد المخاوف المهمة هي أن السلطات السودانية، بدعم من الأمم المتحدة، حريصة على نقل اللاجئين بسرعة بعيداً عن الحدود إلى المخيمات، وذلك خشية أن تستخدم قوات تيغراي السودان كقاعدة خلفية، في معركتها ضد الجيش الإثيوبي. وعلى أية حال، فإنه قبل نحو ثلاثة عقود، دعم السودان قوات التيغراي التي أطاحت بحكام إثيوبيا الماركسيين، وهو الصراع الذي أدى إلى فرار موجات سابقة من اللاجئين غرباً عبر الحدود مع السودان، بيد أن الحكومة الانتقالية في الخرطوم تدرك اليوم أنها لا تملك ترف تحمُّل تكاليف استضافة زعماء المعارضة وجماعات المعارضة المسلحة في إثيوبيا.

استناداً إلى ذلك كله؛ فإن هناك مخاوف إثيوبية حقيقية بشأن الدور الذي يمكن أن يقوم به السودان إذا تدهورت علاقاته تماماً مع أديس أبابا، حيث تخشى إثيوبيا أن يصبح السودان ممراً استراتيجياً لمقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، ولعل ذلك ما يبرر رفض حكومة آبي أحمد إقامة جسر للمساعدات الإنسانية إلى التيغراي عبر الأراضي السودانية.

  • تدهور العلاقات السياسية:

قام السودان باستدعاء سفيره لدى إثيوبيا في 8 أغسطس للتشاور، بعد أن اتهم مسؤولون إثيوبيون الخرطوم بالتدخل في أزمة تيغراي، وقد رفضت وزارة الخارجية السودانية، في بيان رسمي، الاتهامات الإثيوبية للسودان بعدم التزام الحياد في التوسط في الصراع في تيغراي. وقال البيان إن حل نزاع تيغراي هو جزء من التزام السودان بالسلام والاستقرار الإقليمي واستقرار إثيوبيا. كما تعهد السودان بمواصلة الضغط من أجل حل للصراع، وقال إنه يسعى للتوسط بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي بهدف التوصل إلى حل سلمي للصراع المستمر منذ تسعة أشهر. ومن المعروف أن رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، وهو في الوقت نفسه رئيس تجمع الهيئة الحكومية للتنمية (الايغاد) على اتصال بالحكومة المركزية الإثيوبية وقادة جبهة التيغري، حيث يعمل على إقناع الطرفين بالجلوس على طاولة المفاوضات لمناقشة أفق التسوية السلمية والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للمدنيين، بيد أن إثيوبيا أعلنت رفضها للوساطة السودانية، وقال بيان لمكتب رئيس الوزراء آبي أحمد في 5 أغسطس إن السودان “ليس طرفاً ذا مصداقية، وأن العلاقة معه في هذه المرحلة شائكة إلى حد ما؛ لأن مستوى الثقة مع بعض القادة السودانيين قد تراجع بشكل كبير”.

  • تفاقم أزمة مثلث الفشقة:

وبحلول ديسمبر 2020، عندما تجمعت القوات المسلحة السودانية في المقام الأول على طول الجانب السوداني من الحدود لمراقبة عبور لاجئي تيغراي واحتمال تراجع قوات جبهة اليغراي، وجد الجيش السوداني نفسه وجهاً لوجه مع الجيش الإثيوبي؛ مما زاد من مخاطر الاشتباكات. وبالفعل دفعت الهجمات المفاجئة المتعددة للقوات الإثيوبية على الجنود السودانيين إلى اتخاذ قرار سوداني بالتحرك في 29 ديسمبر. وفي ذلك التوغل، تمكن الجيش السوداني من تدمير المواقع الأمامية للجيش الإثيوبي والمراكز الإدارية وفي نفس الوقت طرد مزارعي الأمهرة واستعادة السيطرة على معظم أراضي مثلث الفشقة السوداني.

برر السودان قراره التكتيكي باعتباره رداً شرعياً في ضوء الغارات المتكررة التي قامت بها القوات الإثيوبية ضد الدوريات السودانية، ومطالبات الخرطوم التاريخية والقانونية باستعادة أراضي الفشقة. ومع ذلك، فإن المكون العسكرى، الذي شعر بتراجع أهميته التقليدية بشكل كبير في ظل الحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون، وجد في دفاعه عن وحدة أراضي السودان فرصة لتأكيد أسبقيته مرة أخرى كحامي للدولة السودانية.

ومن الصحيح أيضاً أنه في إطار جهودها لتغيير الحقائق على الأرض، سواء كانت مبررة أو غير مبررة، فإن القوات المسلحة السودانية قد أدت إلى تفاقم الوضع غير المستقر بطبيعته في المنطقة، ومع تصاعد الخطاب العدائي من كلا الجانبين في الآونة الأخيرة، بدأت الخرطوم وأديس في تأطير التهديد بفقدان الأراضي (مثلث الفشقة) في مصطلحات الأمن القومي وحتى مفاهيم التهديد الوجودي، وهو ما يشبه في بعض النواحي الطريقة التي يتم من خلالها توصيف النزاع حول سد النهضة.

وقد ظهرت محاولات متعددة للوساطة من دولة الإمارات العربية المتحدة وتركيا وجنوب السودان والاتحاد الأفريقي من أجل مساعدة أطراف النزاع على تحقيق حل تفاوضي، وحتى إريتريا، التي ظهر اتفاق سلامها مع إثيوبيا على أنه اتفاق للأمن المتبادل، حاولت بشكل غير مقنع تصوير نفسها على أنها صانع سلام، في رسالة وجهها الرئيس أسياس أفورقي إلى رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك.

وعلى الرغم من اقتراح الخارجية السودانية أن يكون السودان منفتحاً على المحادثات تحت رعاية الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد). لكن تلك الهيئة الإقليمية، التي يرأسها حالياً حمدوك وتسيطر عليها إثيوبيا تاريخياً، لم تعرض بعد مساعيها الحميدة ومن المحتمل أنها تفتقر إلى الاستقلال لتقديم وساطة محايدة.

  • عسكرة منطقة الحدود:

ومما زاد من حالة عدم الاستقرار تدفق الجيوش والميليشيات المتحالفة إلى المنطقة الحدودية بين السودان وإثيوبيا. وعلى الجانب الإثيوبي لا يقتصر الأمر على الجيش الوطني الإثيوبي فحسب، بل يشمل أيضاً ميليشيات الأمهرة وقوات الدفاع الإريترية. وبالمثل، على الجانب السوداني من الحدود، تم حشد القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والميليشيات المحلية بأعداد كبيرة وبشكل متزايد. ونظراً لعدم وجود قابلية التشغيل البيني المتبادل والمتناغم بين العديد من هذه القوى المسلحة، إلى جانب حقيقة أن الغالبية العظمى من هذه التعبئة العسكرية تحدث في نطاق جغرافي ضيق على طول الحدود التي لا يتجاوز عرضها بضعة كيلومترات، فإن الاحتمالات كبيرة للصدام؛ لأن أدنى خطأ في التقدير يمكن أن يحدث ويؤدي إلى اندلاع أعمال عنف على نطاق واسع وتصعيد سريع بين ثلاثة جيوش وطنية والعديد من الميليشيات الحكومية والمحلية، وهذا صحيح بشكل خاص داخل السودان، حيث حدثت مناوشات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والميليشيات المحلية في العام الماضي في مناطق مثل دارفور وكردفان عندما تم نشر هذه القوات على مقربة شديدة. وعليه، فإنه في ظل غياب نوع من المراقبة الدولية، ووجود عدد كبير جداً من القوات والميليشيات المسلحة جيداً في مسافات متقاربة جغرافياً، وخبرة محدودة في التنسيق يمكن لذلك كله أن يزيد من مخاطر اندلاع صراع كارثي.

لم يتقبل بعدُ آبي أحمد وأتباعه الأكثر حماسة حقيقة الهزائم العسكرية الأخيرة لصالح التيغراي، ويأملون أن يتمكنوا من تعبئة المزيد من الرجال والعتاد بسرعة أكبر وبشكل يفوق قدرة قوات دفاع التيغراي على التقدم. ولقد دعا آبي أحمد إلى تعبئة جماهيرية للميليشيات، وأرسل عشرات الآلاف من المجندين إلى الخطوط الأمامية، وربما يكون ذلك غير مجدٍ. وفي المقابل تعمل إريتريا على تعزيز تحالفها العسكري مع منطقة أمهرة. وعليه، فإذا قامت إريتريا بتسليح قوات الأمهرة الإقليمية على نطاق واسع، فستجعلها أكثر قدرة من الجيش الوطني وتغير أيضاً ميزان القوى في النزاع الحدودي مع السودان.

  • تزايد حدة الانقسام حول أزمة سد النهضة:

ومن جهة أخرى، فإن العلاقة بين السودان وإثيوبيا قد تأثرت سلباً بقرار السودان التعاون مع مصر واتخاذ موقف موحد في العديد من القضايا الإقليمية، ولاسيما قضية سد النهضة. ومع ذلك لم يتمكن السودان من استغلال الصراع في إثيوبيا لصالحه في أزمة سد النهضة، وخلال الأشهر التسعة الأولى من حرب تيغراي الأهلية، لم تتقدم مفاوضات سد النهضة قيد أنملة، بل مضت إثيوبيا في خططها وأتمت عملية الملء الثاني لخزان السد خلال موسم الأمطار في يوليو الماضي بإرادتها المنفردة، بالرغم من الاعتراضات السودانية والمصرية؛ ويعني ذلك أن إثيوبيا لديها كميات المياه الضرورية لتشغيل التوربينين، وهو ما يكفي ليبدأ مشروع السد في توليد الطاقة الكهربائية.

ومن وجهة النظر السودانية، فإن عدم استجابة إثيوبيا تجاه مطالب الخرطوم المتعلقة بمفاوضات سد النهضة، يثير الشكوك حول النوايا الإثيوبية الحقيقية من بناء هذا السد العملاق. وقد زادت الأمور تعقيداً عقب إصرار المفاوض الإثيوبي تضمين قضية “تقاسم المياه ضمن أي اتفاقية جديدة بشأن سد النهضة”؛ وهو الأمر الذي ترفضه الخرطوم وتعتبره مراوغة تستغلها أديس أبابا لكسب الوقت إلى حين اكتمال كافة عمليات السد الفنية وفرض سياسة الأمر الواقع، ويرى السودان أن قضية تقاسم المياه محسومة أصلاً في اتفاقية سابقة، ولا علاقة لها بملف سد النهضة الذي يتطلب اتفاقاً فنياً ملزماً حول تشغيله وإدارته فقط، وأن إصرار إثيوبيا على المماطلة في حسم ملف سد النهضة يثير الشكوك حول نواياها تجاه السودان وأمن المياه بشكل عام. وعلى أية حال من المرجح القول بأنه كلما تدهورت حرب التيغراي واتسع نطاقها، كانت الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا أكثر تشدداً في قضايا كبرى، مثل سد النهضة الذي يعد رمزاً من رموز القومية الإثيوبية، شأنها في ذلك شأن معركة عدوة التاريخية.

  • غياب التنسيق في مبادرات الوساطة:

في غياب وجود وساطة خارجية مقبولة، يخاطر الطرفان بجعل الحرب الباردة أكثر قابلية للاشتعال في أي لحظة، وإذا أخذنا في الحسبان مثل هذه السياسات المتشابكة والمعقدة والتاريخ الطويل، فإن كلاً من السودان وإثيوبيا لديهما مواقع نفوذ قد تقود إلى الصدام والمواجهة، حيث تشارك إثيوبيا حالياً بأكثر من خمسة آلاف فرد في بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في أبيي، المنطقة المتنازع عليها بشدة على طول الحدود بين السودان وجنوب السودان والتي لاتزال في قلب التوترات بين هذين البلدين. وثمة مخاوف من قيام إثيوبيا بسحب تلك القوات، مما قد يجبر الجيش السوداني على ملء الفراغ الأمني هناك، الأمر الذي قد يؤدي إلى تجدد الصراع مع جوبا. وهناك أيضاً مخاوف من أن السودان قد يطرد هذه القوات من جانب واحد خوفاً من أن إثيوبيا قد تستخدم هذه القوات كطابور خامس في حالة اندلاع أعمال عنف مستمرة على طول حدودها؛ مما يفتح جبهة جديدة ضد السودان ويوسع نطاق منطقة الصراع بشكل كبير. وقد دفع ذلك إلى قيام السودان بالاتفاق مع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للقرن الإفريقي على سحب المكون الإثيوبي من القوة المؤقتة الأمنية في أبيي خلال الثلاثة أشهر المقبلة واستبدالها بقوات من الدول المساهمة الأخرى. ويبدو أن أديس أبابا، من جانبها، محقة في الخوف من قدرة الخرطوم على إعادة تسليح وإعادة إمداد متمردي التيغراي بالعتاد والأسلحة إذا رغب السودان في فتح جبهة إضافية خاصة به في نزاعه الحدودي مع إثيوبيا.

ثانياً- التوصيات والمسارات المحتملة للسلام:

لقد ولَّدت المواجهات المتوترة وروايات الحرب مشاعر عدائية يمكن أن تكون بمثابة الشرارة التي تشعل ذلك الصراع. وعليه؛ فإنه لابد من تهيئة الأجواء للقبول بتسويات سلمية، فليس من مصلحة أحد أن تنهار الدولة الإثيوبية، وليس هناك أدنى شك في أن مصر تسعى إلى توظيف علاقاتها التاريخية مع السودان لتحقيق نتيجة مرضية في ملف سد النهضة، ومع ذلك فإن هناك إدراكاً مصرياً سودانياً بأن إثيوبيا التي مزقتها الحرب الداخلية والصراع بين ولاياتها الإقليمية لن تكون قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بدول الجوار، ناهيك عن التوصل إلى اتفاق سياسي وفني ملزم بشأن القضايا الملحة التي يطرحها سد النهضة.

وعليه، فإن مسارات الخروج الآمن وبناء السلام في المنطقة يتطلبان اتخاذ الإجراءات التالية بالسرعة المناسبة:

  • خفض التصعيد والقبول بمبدأ الوساطة

 يبدو من غير المحتمل أن تكون المطالب الثنائية الخاصة بخفض التصعيد والانسحاب من المناطق المتنازع عليها كافية في هذه المرحلة، كما ينبغي على البرلمان الإثيوبي الجديد رفع جبهة تحرير التيغراي من قائمة التنظيمات الإرهابية والتعامل معها كشريك سياسي من أجل بناء السلام. لقد أرسل رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي في بداية هذا العام الدبلوماسي الموريتاني المتقاعد محمد الحسن ولد لبّات إلى كلٍّ من أديس أبابا والخرطوم؛ لاستطلاع الآراء ومعرفة مدى استعداد كل جانب لقبول وسيط خارجي بشأن النزاع الحدودي المتصاعد. وعلى الرغم من عدم إحراز أي تقدم، فإنها مبادرة تستحق البناء عليها. وبالفعل قام الاتحاد الأفريقي بتعيين الرئيس النيجيري الأسبق أولوسيجون أوباسانجو مبعوثاً سامياً للاتحاد الأفريقي للقرن الأفريقي، وهو ما يشكل خطوة مهمة في طريق تعزيز السلم والأمن والاستقرار والحوار السياسي في المنطقة.

  • التنسيق بين مبادرات الوساطة الخارجية

هناك حاجة ماسة إلى وساطة خارجية منسقة رفيعة المستوى لتجنب العواقب الوخيمة المحتملة للنزاع، ليس فقط على السكان المدنيين في المنطقة الحدودية، بل أيضاً على البلدان الواقعة في قلب النزاع والقرن الأفريقي ككل. وقد اقترح السودان مؤخراً وساطة خارجية للمرحلة النهائية من مفاوضات سد النهضة التي ستشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. إن رعاية الوساطة الحدودية من قبل هذه المجموعة تحت قيادة شخصية بارزة ذات صلاحيات تستحق الاهتمام؛ نظراً للمخاطر الكبيرة التي يتعرض لها السلام والأمن الدوليان، وإمكانية قيام أكبر الجهات المانحة للأطراف المتنازعة بتوظيف النفوذ المالي لخدمة الجهود المبذولة للتوصل إلى حل. وفي هذا السياق تبرز أهمية دور الدول الخليجية، ولاسيما دولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

ونظراً لأن كل هذه الخلافات والنزاعات مرتبطة بعضها ببعض، فإنه لا توجد عملية منفردة أو مؤسسة واحدة قادرة على تسوية السياسات المتداخلة والمعقدة للصراعات المتنافسة. الأمر الضروري هنا هو التنسيق بين كافة المبادرات المختلفة، ويجب أن تظل أي عملية يمكن وضعها للمساعدة في خفض تصعيد الحرب في تيغراي في مسارها الخاص، وكذلك الأمر بالنسبة لقضيتي سد النهضة، وعملية تهدئة التوترات العسكرية والقوات المحتشدة على الحدود، والتي يجب تحديدها بشكل ضيق ومحدودة زمنياً، حتى لا يتم استغلالها كنقطة ضغط محتملة في أي عمليات وساطة أخرى، ولكن يجب تنسيق كل ذلك من قبل مجموعة اتصال مركزية تتمتع بالسلطة والنفوذ والشرعية لدفع خيارات الحل وإنفاذ النتائج التي تسهم في تحقيق السلام الشامل.

  • تجنب الخيار الكارثي

يجب إطلاق مثل هذه المبادرات بالسرعة المناسبة لتجنب ما يمكن تسميته الانحدار اللولبي (أو نظرية الدومنيو)، وهناك العديد من الخطوات الفورية التي يمكن للدول الأوروبية والولايات المتحدة اتخاذها للقيام بذلك؛ على سبيل المثال ينبغى أن تعطى الأولوية لعقد جلسة خاصة لمجلس الأمن لمناقشة الأزمات المتعددة الناشئة في القرن الأفريقي، مع مزيد من الاهتمام بالصراع الذي لايزال يتكشف في التيغراي وحالة الجمود في سد النهضة. ونظراً للعديد من المصالح المتنافسة في القرن الأفريقي من قبل الأطراف الدولية المتنافسة، يجب أن تتضمن جلسات مجلس الأمن مناقشة لمجموعة الاتصال الدولية التي يمكنها تعزيز لغة الحوار والشفافية.

ولدعم هذا الجهد واستكماله، يجب على المبعوث الأمريكي في القرن الأفريقي أن يطور مجموعة واضحة من أهداف السياسة والأدوات اللازمة للنهوض بها. لقد بات على إدارة بايدن أن تغير من نهجها في المنطقة، إذ على النقيض من نهجها في منطقة البحيرات العظمى أو الساحل، نظرت واشنطن لفترة طويلة إلى البلدان الواقعة في القرن الأفريقي الواعد والمتقلب من خلال دعم الدولة المحورية في المنطقة، إثيوبيا، لإبراز قوتها، والتأثير في ضبط النزاعات الإقليمية. ومع فقدان أديس أبابا القدرة على ممارسة هذا الدور بعد حرب التيغراي، انتقل العبء إلى واشنطن لتصبح أكثر فاعلية في حماية مصالحها في المنطقة، ومن المحتمل أن تكون هذه العملية معقدة وفوضوية.

خاتمة:

خلاصة القول، طبقاً لأليكس دي وال، فإن أيّاً من الفاعلين السياسيين اليوم لا يرى تفكيك الدولة الإثيوبية هدفاً مرغوباً، فلكل منهم طموحات لإنشاء نوع مختلف من نظام الدولة أو ترسيم الحدود بشكل معين، وكل منهم على استعداد للقتال من أجل تحقيق ذلك. بيد أن النضال العنيف من أجل هدف غير قابل للتحقيق هو وصفة سهلة لحدوث فظائع جماعية. فكلما طال أمد القتال والدمار والمجاعة، كانت النتائج المتربة عليها بعيدة الأمد، وزادت احتمالية أن يضطر الإثيوبيون وجيرانهم إلى القبول بالعيش في عوالم مستقبلية لا تختلف كثيراً عن أكثر فتراتهم اضطراباً وعنفاً في الماضي. وما لم تكن إثيوبيا وحلفاؤها في الخارج على استعداد لإعطاء فرصة لطريقة جديدة لحل الخلافات السياسية، فإن الحلقة المفرغة من العنف ستستمر بلا هوادة، ويجب أن يكون هناك مجال واستعداد لتغيير القواعد والانفتاح على المبادرات السياسية الجديدة. إن الاعتماد على لغة السلاح لحل المشكلات السياسية لا يخدم إلا مصالح من هم في السلطة، ويساعدهم في الحفاظ على مناصبهم من خلال خلق أعداء، بما يمكنهم من حشد التأييد الشعبي حولهم.

المواضيع ذات الصلة