” التكنولوجيات أصبحت تتوسع وتندمج بطريقة لم يسبق لها مثيل… ولم يحدث، في التاريخ، إنتاج القيمة بهذه السرعة”.
دانيال كانمان –
الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد
ملخص:
لا يمكنك رؤية الطريق أمامك من خلال مرآة الرؤية الخلفية.
سيكون التطور المستقبلي لاقتصاد المعرفة العالمي خلال العقد المقبل أكبر بكثير مما كان عليه في الماضي، وذلك بفضل نضج مجموعة كاملة من التكنولوجيات وحجمها وتقاربها، مثل: الذكاء الاصطناعي، وشبكة الجيل الخامس 5-جي، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة، والتصنيع بالطباعة ثلاثية الأبعاد.
ورغم هذا المشهد الإيجابي المحتمل، كان الاعتقاد السائد بشأن النمو العالمي المستقبلي سلبياً بوضوح، قبل كوفيد-19 (الجدال حول الركود المزمن، على سبيل المثال) وما بعده. وترى هذه الورقة أن الاعتقاد السائد خطأ، وأن الاقتصاد العالمي يقف على أعتاب بداية نقطة انعطاف تصاعدي في الإنتاجية والنمو العالميين ابتداءً من منتصف عشرينيات القرن الحادي والعشرين فصاعداً: الانعطاف الكبير[1].
ربما كان السؤال الأهم في علم الاقتصاد قبل وباء كوفيد-19 هو: لماذا تنمو الإنتاجية ببطء شديد في وقت تشهد فيه التكنولوجيا تغيراً سريعاً للغاية؟ لقد كان هناك إحساس بالقلق يخيِّم على الاقتصاد العالمي وحديث كثير عن الركود المزمن. ولا شك في أن الانفصال أو التباين بين التكنولوجيا والإنتاجية أمر مهم للازدهار الفردي والوطني، أو كما قال بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، “نمو الإنتاجية ليس كل شيء، ولكنه يصبح كل شيء تقريباً على المدى الطويل”.
ولو لم يتباطأ نمو الإنتاجية الأمريكية منذ 2005، لكان الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي اليوم أكبر بنحو ثلاثة تريليونات دولار أو يزيد، ولكان دخل الأسرة أعلى بمقدار 25 ألف دولار، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكبر بمقدار 10 آلاف دولار؛ فهل عادت اليوم “مفارقة سولو” Solow Paradoxالتي حدثت في ثمانينيات القرن العشرين عندما قيل أن الحواسيب منتشرة في كل مكان ما عدا إحصاءات الإنتاجية؟ وقال معهد ماكينزي العالمي[2] “ربما نشهد اليوم تجديداً لـ “مفارقة سولو” التي حدثت في ثمانينيات القرن العشرين مع سيادة العصر الرقمي من حولنا وغيابه عن إحصاءات الإنتاجية”.
وعلى العكس من الحجج القائلة بعودة “مفارقة سولو”، تقدم هذه الورقة رؤية مناقضة هي أنه ما كان ينبغي أن نتوقع حدوث طفرة في نمو الإنتاجية قبل الآن، ولكن يجب أن نتوقع هذه الطفرة من الآن فصاعداً؛ أي في عشرينيات القرن الحادي والعشرين وما بعده، لأن من المرجح أن يؤدي نضج التكنولوجيات وحجمها وتقاربها – مثل: الذكاء الاصطناعي، وشبكة الجيل الخامس 5-جي، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة، والتصنيع الإضافي ثلاثي الأبعاد – طوال عشرينيات القرن الحادي والعشرين إلى تحوُّل كبير في قطاعات واسعة من الاقتصاد العالمي.
ولا ينبغي، مع هذا، أن نستغرب من كون الاقتصاديين لا يرون هذا مسبقاً؛ فالكثير منهم يرتكبون الخطأ نفسه الذي يرتكبونه دائماً، ويقعون فيه باستقرائهم الماضي القريب وافتراض امتداد حقائقه إلى المستقبل. إنهم يغفلون عن النقطة الجوهرية أن المرء لن يرى الطريق أمامه في العقد الثالث من القرن الحادي العشرين من خلال مرآة الرؤية الخلفية العائدة للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
لا يفضي ضعف النمو في الأمس واليوم إلى الشيء نفسه مرة أخرى في الغد، حيث توجد علاقة اقتصادية ضعيفة بين نمو الإنتاجية[3] في عقدٍ ما ونموها في العقد التالي، ولا يُعد أداء الإنتاجية الماضي مرشداً للمستقبل؛ ففي بداية القرن التاسع عشر، جاء توماس مالتوس، بما لا شك في أنه أسوأ توقُّع في التاريخ الاقتصادي (مؤكداً للاعتقاد السائد)، حيث غفل تماماً عن تأثير الثورة الصناعية وتوقَّع استمرار الركود الاقتصادي الذي دام قروناً، رغم أن الثورة الصناعية كانت تمضي قدماً بالفعل. ويمكن أن يصبح الفشل في توقُّع الانعطاف الكبير ثاني أسوأ التوقعات الاقتصادية في التاريخ!
التفاؤل التكنولوجي
ظل الاقتصاديون قلقين بشأن الركود المزمن، في الوقت الذي يقول لنا فيه خبراء التكنولوجيا إننا على مشارف ثورة تكنولوجية. ويقول مؤسس شركة أمازون، جيف بيزوس[4]، إننا نقف على “أعتاب عصر ذهبي”. ويُقال لنا إن حجم التغيير المحتمل مذهل، مع تكهنات – غير واقعية بعض الشيء – بأننا قد نشهد خلال الأعوام العشرين المقبلة تغييراً تكنولوجياً أكبر مما حدث خلال الأعوام المائتين الماضية.
وكما يقول المدير التنفيذي السابق لشركة غوغل وألفابيت، إيريك شميت[5]، “إننا على أعتاب عصر ذهبي. ويقول إيريك برينجولفسون، أحد رواد الاقتصاد الرقمي في العالم[6]، إن “ثورة تكنولوجيا المعلومات ستحقق نمواً تحوُّلياً”. وكتب برينجولفسون وماكافي[7] أن “التكنولوجيات الرقمية تقدِّم للقوة العقلية البشرية ما قدّمه المحرك البخاري والتكنولوجيات المتصلة به للقوة العضلية البشرية خلال الثورة الصناعية… وأن العالم يعيش مخاض تغير تكنولوجي غير مسبوق سيُحدث تأثيراً عميقاً في قدرة الاقتصاد العالمي”.
ويرى خبراء مستقبليات التكنولوجيا، مثل باتريك ديكسون[8]، “أننا ما زلنا في الساعة الأولى من اليوم الأول للإنترنت”؛ وهذا يعني أن حتى الاقتصاد الأمريكي، الأكثر تقدماً تقنياً، لم يستغل حتى الآن سوى جزء صغير من قدرته الرقمية الكامنة، حيث يشير أحد التقديرات إلى أن النسبة لا تتجاوز 18%[9].
التشاؤم الاقتصادي
يوجد بعضٌ آخر أقل تفاؤلاً، حيث يقول الاقتصادي البارز في جامعة نورث ويسترن، روبرت غوردون[10]، إن القرن الممتد من 1870 إلى 1970 كان قرناً استثنائياً لا يمكن أن يتكرَّر، بما تميز به من نمو في الكهرباء والغاز والمياه والهواتف والإنتاج واسع النطاق والسيارات والنقل الجوي. ويرى غودرون أنه لو مضى نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة منذ عام 1970 بالوتيرة نفسها التي كان عليها في السنوات الخمسين السابقة له (حتى عام 1920)؛ فسيكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة اليوم ضعف قيمته الحالية؛ أي، سيحصل الأفراد على ضعف الدخل الذي يحصلون عليه حالياً ولهذه الأرقام دلالاتها حيث أنها توضح مدى أهمية التسارع أو التباطؤ في نمو الإنتاجية.
ويرى غوردون أيضاً أننا لا نشهد ثورة تكنولوجية في الوقت الراهن، وأن أي محفزٍ لنمو الإنتاجية نابع من الاقتصاد الرقمي في القرن الحادي والعشرين قد حدث وانتهى منذ تسارع نمو الإنتاجية الأمريكية الذي تحقق بين عاميْ 1995 و2004 – والذي تلاشى بعدها. لقد كان متوسط نمو إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج في الولايات المتحدة (محسوباً على أساس إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج) يبلغ 2.1% سنوياً طوال سنوات الطفرة الاقتصادية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية من 1947 إلى 1973.
وقد تراجع معدل نمو إنتاجية عوامل الإنتاج بعد ذلك إلى 0.5% سنوياً خلال الفترة 1974-1995، ثم صعد إلى 1.5% سنوياً خلال الفترة 1995-2007، ثم تراجع إلى 0.5% سنوياً بعد ذلك خلال الفترة 2007-2017[11]. ويوضح غوردون أن ما نراه الآن هو عودة إلى المستوى الطبيعي لنمو الإنتاجية بعد انحراف مسيرتها من منتصف تسعينيات القرن العشرين إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين[12].
ولكن هذه الآراء غير مقنعة؛ فالعقد السابق يُعدّ مؤشراً ضعيفاً جداً لنمو إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج في العقد التالي. ولا يُشار مسبقاً إلى نقاط التحوُّل المهمة على غرار ما قال المؤرخ الاقتصادي البريطاني البارز نيكولاس كرافتس[13]:
“الاتجاهات العكسية الحادة في أداء نمو إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج على المدى المتوسط لا تُحدَّد مسبقاً؛ وأيّ تنبؤ قائم على هذا الأساس كان سيُغفل تباطؤ الإنتاجية الذي حدث في سبعينيات القرن العشرين، وتسارعها في منتصف تسعينيات القرن العشرين وتباطؤها في السنوات الأخيرة – أي سيغفل كل الأحداث الرئيسية خلال تلك الفترة”.
ويخلص كرافتس إلى أن “التقديرات الاقتصادية القياسية لاتجاه نمو إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج المستمَدّة من أداء الماضي القريب لا ينبغي إعطاؤها أهمية كبيرة في توقعات متوسط معدلات نمو إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج خلال السنوات العشر المقبلة”. ولا ينبغي أن نتفاجأ من هذا، لأن الناتج المحلي الإجمالي يقيس تأثير التكنولوجيات السابقة.
أسباب عدم الانعطاف التصاعدي قبل عشرينيات القرن الحادي والعشرين
توجد، في نظري، ثلاثة تفسيرات واقعية جداً لعدم حدوث انعطاف تصاعدي في نمو الإنتاجية خلال مسيرة الثورة التكنولوجية حتى الآن، وهي تفسيرات سهل فهمها:
-
أولاً: يعلِّمنا التاريخ الاقتصادي أن هناك فترات تأخر طويلة في التأثير الاقتصادي للتكنولوجيا الجديدة بسبب الوقت المستغرَق بين مرحلة اختراع التكنولوجيات ومرحلة تغلغلها الواسع في السوق، والوقت المستغرَق بين التغلغل الواسع في السوق ومرحلة وضع نماذج الأعمال والمنتجات والعمليات الإنتاجية الجديدة. وتمثل طبيعة التغير التكنولوجي حتى الآن أكثر الحجج إقناعاً بأننا ما كان ينبغي أن نتوقع انعطافاً تصاعدياً في الإنتاجية قبل الآن.
وتميل، وفقاً لماكينزي[14]، طفرات الإنتاجية إلى التأخُّر عن طفرات التكنولوجيا بنحو ثمانية أعوام، لأن انتشار التكنولوجيا ببطء في جميع القطاعات الإنتاجية يستغرق وقتاً. وتستغرق التأثيرات الكاملة وقتاً بسبب الحاجة إلى بناء مخزون من التكنولوجيا واكتشاف وتطوير موجات ابتكار تكميلية تعيد تشكيل كلٍّ من المنتجات والعمليات الداخلية، وسلاسل الإمداد والتوزيع.
إذا نظرنا إلى التاريخ الاقتصادي، نجد أن تأثيرات الفجوة الزمنية كانت أكبر؛ فقد تم إنشاء أول محطة لإنتاج الكهرباء في الولايات المتحدة عام 1881. ولم تكن، بحلول عام 1890، الطاقة الكهربائية تتجاوز 1% فقط من إجمالي الطاقة التي تستخدمها الشركات (كان البخار أو الماء المنافس الرئيسي وقتها). وبلغت، بحلول عام 1900، النسبة 5% فقط، ثم ارتفعت إلى 25% في عام 1910، ثم إلى 53% عام 1920، ثم قفزت إلى 76% عام 1930. لقد أحدثت الكهرباء إعادة تصميم أساسية للمصانع من أجل تعظيم الإنتاجية باستخدام التكنولوجيا (خصوصاً حالة هنري فورد عام 1913)، ولكن هذا لم يحدث إلا بعد أكثر من ثلاثين عاماً من اختراع توليد الكهرباء.
وكان تطوير السيارات في حد ذاته أحد آثار تكنولوجيا الأغراض العامة. فقد أنتج كارل بنز أول سيارة عام 1885، ولكن تسجيلات السيارات في الولايات المتحدة كانت ما تزال صفراً في عام 1900، قبل أن تقفز بسرعة إلى 8 ملايين في عام 1920 ثم إلى 23 مليون في عام 1930. وبحلول عام 1927، أنتجت شركة فورد 15 مليون سيارة من طراز “تي”، ولكن هذا حدث بعد أربعة عقود من اختراع السيارة. إضافة إلى هذا، كان الإنتاج المبكر لتكنولوجيات الأغراض العامة، مثل السيارات والكهرباء، يتميَّز بحقبة من الانخفاض في نمو الإنتاجية العامة (في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر).
اقتصر الاقتصاد الرقمي إلى حدٍّ كبير على القطاع الرقمي حتى الآن. وتوجد فجوة واسعة بين الشركات الرائدة والشركات غير الرائدة؛ مثل الفارق الضخم في الإنتاجية لصالح شركات التكنولوجيا الأمريكية الأربع البارزة: فيسبوك وأمازون ونتفليكس وغوغل[15]، على سبيل المثال. وعلينا أن نتوقع، من الآن فصاعداً، حلول فترة من اللحاق بالركب مع اتجاه عدد ضخم من الشركات غير الرقمية إلى سد الفجوة، وأن تصبح كل الشركات رقمية في أعقاب الثورة التكنولوجية وتأثير كوفيد-19 على السرعة التي يتم بها العمل والتسوُّق والتعلُّم عبر الإنترنت.
-
ثانياً، تشير العوامل المتصلة بالأجيال المتعاقبة إلى ضرورة تعديل الحجم النسبي للأجيال المختلفة المعتادة إلى حد ما على التكنولوجيات الجديدة قبل أن يتم امتصاص كل تأثير للتكنولوجيات الجديدة في جميع أجزاء الاقتصاد. وبعد تقاعد الأجيال الأقل معرفةً بالتكنولوجيا، سيسيطر العارفون بها حقاً على الساحة ويقدمون نماذج أعمال جديدة.
للاختلافات بين الأجيال أهمية في تبنّي التكنلوجيا. فقد كان الجيل الصامت (مواليد 1920-1945) وجيل طفرة المواليد (مواليد 1946-1965) ضعيفيْن جداً أو ضعيفيْن في ما يتعلق بمهارتهم التكنولوجية. وكان الجيل X (مواليد 1966-1979) يتمتع بمعرفة تقنية جيدة، ولكن الجيليْن Y (مواليد 1980-1995) وZ (مواليد عام 1996 وما بعده) هما اللذان نضجا وسط التكنولوجيا والإنترنت.
ومن منظور الأعمال، كان جيل طفرة المواليد ما زال مسيطراً خلال العقدين الماضيين، ولذلك “لم يفهم التكنولوجيا بالضرورة” في ما يتعلق بنماذج الأعمال الرقمية. وما زالت هناك فجوة تكنولوجية قائمة حتى الآن بين كبار التنفيذيين والموظفين الذين في أسفل الهرم الوظيفي. وكان قادة الأعمال في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ما زالوا يفكرون في كثير من الأحيان بالطريقة التناظرية وليس بالطريقة الرقمية، ولم يمتلكوا عقلية الجيل X أو الجيل Y أو جيل الألفية البارع في التكنولوجيا ويعيش من خلال هواتفه المحمولة؛ هؤلاء هم موظفو الألفية الماهرون في التكنولوجيا في عشرينيات القرن الحادي والعشرين الذين اندمجت مستوياتهم الاستثنائية في مجال الاستجابة الحركية والمعرفة التكنولوجية، وأنشطتهم الترفيهية ومهارات العمل.
يصف تقرير[16] صادر عن شركة سامسونغ الخصائص المميزة لجيل العمال الصاعد الذي نشأ محاطاً بالتكنولوجيا ونادراً ما يتذكر الزمن السابق للإنترنت. ويتطلّع هؤلاء الناجحون، أعضاء الجيل التالي، إلى الأفضل والأحدث في كل شيء، ومن المحتمل أن يُحدثوا تأثيراً تحوُّلياً في نماذج الأعمال واستراتيجياتها، وهم ينتقلون إلى أعلى هرم المؤسسات.
وفقاً لاستطلاع أجراه معهد إنسيد[17]، يرى 40% فقط من جيل الألفية أن القدرات الرقمية لمؤسساتهم تبلغ المستوى المطلوب. ولتوضيح السبب وراء هذا الانفصال، تقول شركة سامسونغ “إنه خليط من الابتعاد، والرضا الذاتي، وانعدام الفهم، وحتى الغرور نيابة عن الإدارة العليا في بعض الأحيان”. وبتعبير آخر، يتخذ أعلى الموظفين رتبةً القرارات المهمة ليس لأنهم ملمون تماماً بمستجدات التكنولوجيا بل ببساطة لأنهم في موقع السلطة.
وما يضاعف الصعوبات أن من غير المرجح أن يُعجَب ناجحو الجيل التالي بالتسلسل الهرمي داخل المؤسسات؛ لذا فإن الأفراد البارعين في التكنولوجيا يتجنبون المؤسسات الأكثر تراتبية، ما يقلل احتمال أن تتّبع هذه الشركات أي استراتيجية خاصة بالتكنولوجيا الرائدة. مع هذا، ورغم أن هذا الاتجاه قد يكون سائداً في الماضي، فإنه ليس دليلاً مُرشداً للمستقبل مع تحوُّل أجيال الأعمال.
-
ثالثاً، استخدام الإنترنت في مكان العمل لأغراض شخصية ونقص الانتباه – تشير الأدلة إلى إهدار الكثير من الوقت خلال العقد الماضي لأن الناس أصبحوا أكثر معرفة بالتكنولوجيات الجديدة وأدمنوها. وشهدت فترة التكيُّف هذه ضعفاً في نمو الإنتاجية خلال ما يمكن وصفه بالفترة الانتقالية. وينص، في هذا الصدد، قانون ميتكالْف على أن فائدة أي شبكة تزداد بمعدَّل مربَّع عدد المستخدمين، ولكنها قد تنطوي على جانب مظلم حيث يُغمَر الناس بطوفان من المعلومات[18].
وإضافة إلى الغمر المعلوماتي، يقول أحد المعلقين[19] إننا نعيش في “أزمة انتباه ثقافية” وإن أذهاننا مشتّتة لما يقرب من 50% من وقتنا، وهذا مصدر قلق كبير نظراً إلى أن حياتنا تعادل في الأساس ما نوجّه انتباهنا إليه. وتشير بيانات الاستطلاعات[20] إلى أن نصف المواطنين الأمريكيين يقولون إنهم لا يستطيعون العيش من دون هواتفهم الذكية.
يوفّر الهاتف الذكي مستوى غير مسبوق من الإلهاء، حيث يمكن الوصول إلى جميع الوسائط الجماهيرية من جهاز واحد: الهاتف، والرسائل النصية، والموسيقى، والفيديو، والإنترنت، وألعاب الفيديو، والذكاء الاصطناعي المفعَّل بالصوت، وهذا إلهاء إلى حدٍّ بعيد. وهناك دراسة يُستشهَد بها على نطاق واسع[21] وجدت أننا نتفقد هواتفنا المحمولة نحو 150 مرة كل يوم. كما زعمت دراسة أخرى[22] أن الناس يمضون على هواتفهم ثلاث ساعات وخمس عشرة دقيقة يومياً في المتوسط. وتشير البحوث التي أجرتها شركة ديلويت[23] أن المستهلكين على نطاق العالم يتفقدون هواتفهم أكثر من 80 مليار مرة في اليوم.
واضح أن بعضاً من هذا الوقت سيكرَّس لأغراض العمل، ولكن مع ذلك يوجد إلهاء، الأمر الذي قد يفسر لماذا كان انفجار الهواتف الذكية خلال العقد الماضي متزامناً مع ضعف نمو الإنتاجية. وتشير، في هذا السياق، مدوَّنة تابعة لبنك إنجلترا[24] إلى آليتين محتملتين للانتقال من الإلهاء إلى انخفاض نمو الإنتاجية:
-
استخدام الإنترنت في مكان العمل لأغراض شخصية والتأثير المباشر للإلهاءات على مقدار الوقت الفعلي المبذول في العمل. فقد وجدت دراسة أجرتها مؤسسة غرفة التجارة الأمريكية أن الناس يمضون عادةً ساعة واحدة من يوم عملهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويزداد هذا الوقت إلى ساعة وثماني وأربعين دقيقة بالنسبة إلى جيل الألفية.
ووجدت دراسة أخرى أن اللجوء إلى مواقع التسوق الإلكتروني ازداد بين الساعة الثانية ظهراً والسادسة مساءً خلال فترات ما بعد الظهر من كل يوم من أيام الأسبوع. كما أن الوقت الذي يستنفد على الإنترنت لا يعكس حقيقة الوقت الكلي الضائع لأن الدراسات تشير إلى أن عمّال المكاتب سيستغرقون 25 دقيقة إضافية لكي يعيدوا تركيزهم على عملهم الحقيقي. يؤدي، إضافة إلى هذا، التدفق في المعلومات إلى تشويش العقول، وقد قُدِّر بأنه يعادل انخفاضاً في معدل الذكاء بمقدار 10 نقاط.
- استمرار الإنتاجية المنخفضة بسبب العقول المشتّتة عادةً. يمكن أن تقود اللحظات المشتّتة إلى أيام مشتّتة بسبب تكوُّن العادة ودور تكنولوجيات المستهلك المصممة لتكون ذات مفعول إدماني ما أمكن و”تختطف العقل” نتيجة لذلك: “كلما كان لدينا في مكان العمل المزيد من المصادر المختلفة للإشعارات التي تتنافس لجذب اهتمامنا، فإننا سنُكثر من تفقد القنوات المختلفة باستمرار في محاولة للبقاء على إلمام بكل ما يجري. وتكمن المشكلة في أن هذا النمط من العمل – الذي يُطلق عليه “الانتباه الجزئي المستمر” – يعمل على تشتيت انتباهنا، ومن ثم يقلل تركيزنا على المهمة التي بين أيدينا… وتعمل الوسائط، مثل البريد الإلكتروني، على تقليل مهارة القوة العاملة بدلاً من تعزيز إنتاجيتها”.
ويبقى السؤال الحاسم هو هل من المحتمل أن تنحسر مشاكل الانتباه واستخدام الإنترنت في مكان العمل لأغراض شخصية في المستقبل أم لا. إن قناعة كاتب هذه الورقة هي أن التقدُّم في الذكاء الاصطناعي وشبكة الجيل الخامس سيلغي استخدام الإنترنت في مكان العمل لأغراض شخصية وعجز الانتباه لأنه يجعلنا أكثر كفاءة على المستويين الشخصي والمهني من خلال هواتفنا. وستبدأ التكنولوجيا في تغيير استخدام الوقت بالنسبة للأفراد من خلال المساعدات الرقمية الشخصية عبر إنترنت الأشياء، كالصيانة التنبئية على سبيل المثال. لذا يمكننا أن نرى أن هناك تفسيرات مقنعة لعدم وجوب توقُّعنا حدوث انعطاف تصاعدي في نمو الإنتاجية قبل اليوم. ولكن ماذا عن الوضع من الآن فصاعداً، بعيداً عن قضايا الفوارق الزمنية، والتغيُّر المتصل بالأجيال المتلاحقة، وعجز الانتباه؟
من الآن فصاعداً
يزعم برينجولفسون وروك وسيفرسون[25] ما يلي: “… يوجد فعلاً سبب وجيه للتفاؤل بشأن قدرة التكنولوجيات الجديدة على تعزيز نمو الإنتاجية في المستقبل، مع الإقرار في الوقت نفسه بأن نمو الإنتاجية كان منخفضاً في الآونة الأخيرة. غير أن هذه العملية تستغرق وقتاً طويلاً – أطول من ما يُقدَّر عادةً – لكي يتم تسخير التكنولوجيات الجديدة على نحوٍ كافٍ… وكلما كانت إعادة الهيكلة المحتملة أعمق وأوسع مدى، كانت الفجوة الزمنية أطول بين الاختراع الأولي للتكنولوجيا وظهور تأثيرها الكامل في الاقتصاد”.
يشير رتشارد بولدوين، أستاذ الاقتصاد الدولي في معهد الدراسات العليا في جنيف[26]، إلى أن الحواسيب لم تصبح إلا مؤخراً، منذ 2016-2017، “جيدة كالبشر أو أفضل منهم في بعض المهام العقلية الفِطْرية اللاواعية – أشياء مثل التعرف على الكلام، وترجمة اللغات وتحديد الأمراض من صور الأشعة السينية… حيث يُعطي التعلُّم الآلي أجهزة الحاسوب – والروبوتات التي تشغّلها – مهارات جديدة مفيدة في الأعمال المكتبية. ويمكن لهذه الأجهزة اليوم تقليد التفكير البشري في المهام التي تتطلب الفهم، والحركية، والتعرف على الأنماط”.
ويعزو بولدوين هذا التغيير الأخير إلى التقدُّم في التعلُّم الآلي، ويرى أن النتيجة هي أن الأتمتة ستؤثر تأثيراً كبيراً في الأعمال المكتبية، وليس في وظائف المصانع فحسب. ويمكن، إضافة إلى هذا، أن تقود التكنولوجيات الجديدة نفسها وإرث جائحة كوفيد-19 إلى نقل الأدوار إلى الخارج من خلال العمل عبر الإنترنت الذي يسهِّل القيام بنماذج أعمال رقمية حقيقية.
ورغم أن هذه التطورات التكنولوجية لم تحدث إلا مؤخراً جداً، لا ينبغي أن نتوقع التأخيرات الطويلة التي شوهدت في التاريخ الاقتصادي – من حيث التأثير الاقتصادي لهذه التطورات التكنولوجية. ويقول بولدوين إن “العولمة، بعد التحوُّل العظيم، بدأت بعد قرن من بداية الأتمتة. وبدأت العولمة، خلال تحوّل الخدمات، بعد عقدين من الأتمتة؛ وفي ظل التحوُّل العولمي الروبوتي السائد اليوم، تنطلق العولمة والأتمتة في الوقت نفسه وتتقدم كلتاهما بوتيرة هائلة”[27].
يبيِّن بولدوين مستوى التحسن الأخير في الحوسبة مع توضيح باستخدام مثال هاتف آبل آيفون، ” …أخذت سرعات المعالجة الحاسوبية تتضاعف كل 18 شهراً تقريباً. ويستطيع آيفون 6 إس، الذي ظهر عام 2015، أن يعالج المعلومات بسرعة تفوق سرعة الحاسوب الكبير، الذي وجَّه أبولّو 11 إلى القمر عام 1969، بنحو 120 مليون مرة؛ وهذا شيء مدهش، ولكنه يزداد إثارة للدهشة، حيث إن سرعة آيفون إكس، الذي ظهر عام 2017، تفوق سرعة آيفون 6 إس بنحو ثلاث مرات. لقد كانت الزيادة في القوة خلال العامين التاليين لعام 2015 ضعف كل التقدم الذي أُحرِز بين عاميْ 1969 و2015؛ أي أن التقدم الذي تحقق في عامين يساوي ضعف التقدم الذي تحقق في الأعوام الـ 46 السابقة”.
يُعد التسارع الأخير في قوة الحوسبة عاملاً جوهرياً للنمو الاقتصادي في المستقبل، لأن تدريب نُظم الذكاء الاصطناعي على التعرُّف على الصور أو فهم اللغة المنطوقة يتطلب قدراً هائلاً من القوة الحاسوبية، كما يشير بولدوين: “بالنسبة لخوارزمية تقوم بمعالجة مئات الألوف من وحدات البكسل، على سبيل المثال، فإن أي عملية قلب واحدة تتطلب ملايين المليارات من العمليات الحسابية. وهذا لن يكون ممكناً إلا بوجود قوة معالجة لم يكن يمكن تصورها في أي شيء سوى أسرع الحواسيب العملاقة (التعقيد الحسابي لقلب مصفوفة مربعة من الدرجة N يكون من الدرجة N³).
وقد أزال قانون مور هذا القيد، وأصبحت سرعات الحواسيب التي كانت بعيدة المنال في عام 2014 شيئا عادياً عام 2016. والسبب الآخر في حدوث هذا الآن هو أن من الممكن جمع البيانات الضخمة وتخزينها ونقلها. ويوجد ارتباط بين الحوسبة السريعة والبيانات الضخمة لسبب بسيط جداً؛ فإذا كانت قدرة الحاسوب تمثل المحرك النفاث للتعلُّم الآلي، فإن البيانات هي وقود المحرك. وفي حين أن قانون مور زاد من قوة المحرك، فقد حافظ قانون غيلدر على ضخ الوقود. وكان حجم مجموعات البيانات المستخدمة شيئاً يمكن التفكير فيه ولكنه لم يكن عملياً قبل بضع سنوات فقط”.
إننا على علم بضخامة الثورة التكنولوجية الجارية، ولكننا كثيراً ما ننسى مدى حداثة بعض تأثيراتها الكبرى. فقد تم إنتاج الهاتف الذكي لأول مرة قبل أكثر من عقد بقليل، بإصدار الجيل الثالث من شبكة آيفون. ولم يبلغ تغلغل شبكة الجيل الرابع اللاسلكية في أوروبا سوى ربع السكان في 2017-2018. وكان تغلغل شبكة الجيل الرابع في أمريكا الشمالية أعلى، ولكنه لم يبلغ سوى نصف السكان في 2017-2018. ولم يتجاوز نصيب الهواتف المحمولة من حركة زيارة المواقع 50% إلا عام 2017، وكان حتى عام 2014 لا يشكِّل سوى ربع حركة زيارة المواقع. وازداد متوسط سرعة الترابط الشبكي العالمي بوتيرة عالية في السنوات الأخيرة ولكنه كان أقل من 20 ميغابت في الثانية خلال السنوات الخمس الماضية.
ربما يكون الذكاء الاصطناعي هو التحوُّل الأكبر في الثورة التكنولوجية الجديدة. فقد حوّلت شركة غوغل أولويتها فعلاً إلى “الذكاء الاصطناعي أولاً”. وذكر معهد ماكينزي العالمي أن الذكاء الاصطناعي بدأ يغير المجتمع، وأن هذا “يحدث بوتيرة أسرع بمقدار عشر مرات ونطاق أوسع بمقدار 300 مرة، أو ما يقارب 3,000ضعف تأثير” الثورة الصناعية. وذكرت طبعة حديثة من مجلة “هارفارد بزنس ريفيو”[28] استطلاعاً للرأي شمل 250 تنفيذياً على دراية باستخدام التكنولوجيا المعرفية حيث أظهر الاستطلاع أن 75% منهم يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي سيُحدث تحولاً كبيراً في شركاتهم خلال ثلاثة أعوام. وما زالت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في مرحلة التطور في الوقت الراهن لأن “معظم الشركات ما زالت لا تملك ما يكفي من الكوادر التي تعرف كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي السحابي … وحالما تضع الحوسبة السحابية التكنولوجيا في متناول الجميع تقريباً، يمكن أن تبدأ ثورة الذكاء الاصطناعي الحقيقية”.
الجدول 1:
نقاط التحول المتوقَّع حدوثها بحلول عام 2025
10% من الناس يرتدون ملابس مرتبطة بالإنترنت | 91.2% |
90% من الناس لديهم سعة تخزين غير محدودة ومجانية (مدعومة بالإعلانات التجارية) | 90.0% |
ترليون جهاز استشعار مرتبط بالإنترنت | 89.2% |
أول صيدلي روبوتي في الولايات المتحدة الأمريكية | 86.5% |
10% من نظارات القراءة مرتبطة بالإنترنت | 85.5% |
80% من الناس لديهم وجود رقمي على الإنترنت | 84.4% |
إنتاج أول سيارة بالطباعة ثلاثية الأبعاد | 84.1% |
أول حكومة تستخدم مصادر البيانات الضخمة بديلاً عن إجراء إحصاء سكاني | 82.9% |
أول هاتف محمول يمكن زراعته في الجسم يتم توفيره تجارياً | 81.7% |
5% من منتجات المستهلك منتجة بالطباعة ثلاثية الأبعاد | 81.1% |
90% من السكان يستخدمون الهواتف الذكية | 80.7% |
90% من السكان لديهم منفذ منتظم إلى الإنترنت | 78.8% |
السيارات ذاتية القيادة تساوي 10% من إجمالي السيارات على الشوارع الأمريكية | 78.2% |
أول زراعة كبد مصنوعة بالطباعة ثلاثية الأبعاد | 76.4% |
30% من عمليات مراجعة حسابات الشركات يؤديها الذكاء الاصطناعي | 75.4% |
أول مرة تقوم حكومة بجمع الضرائب عبر “بلوكتشين” | 73.1% |
أكثر من 50% من تدفق البيانات عبر الإنترنت إلى المنازل للأدوات والأجهزة المنزلية | 69.9% |
المزيد من الرحلات على نطاق العالم عن طريقة مشاركة السيارات بدلاً من السيارات الخاصة | 67.2% |
أول مدينة تعداد سكانها أكثر من 50 ألف نسمة وليس فيها إشارات مرور | 63.7% |
10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يخزَّن في تكنولوجيا البلوكتشين | 57.9% |
أول آلة ذكاء اصطناعي تكون عضواً في مجلس إدارة شركة | 45.2% |
المصدر: Deep Shift – Technology Tipping Points and Societal Impact, Global Agenda Council on the Future of Software and Society, World Economic Forum, September 2015.
يقول قانون أمارا إننا نميل إلى المبالغة في تقدير تأثير التكنولوجيا على المدى القصير، خلال مرحلة التطوير الصاخبة، ولكننا نقلل كثيراً من تأثيرها على المدى الطويل حيث تتوالد الأفكار والمنتجات والعمليات ونماذج الأعمال التي لم تكن متوقعة في البداية. ويوجد طيف واسع من الرؤى في ما يتعلق بتأثير التكنولوجيا على الاقتصادي؛ من متشائمين يؤكدون أن تعزيز الاقتصاد الرقمي لنمو الإنتاجية قد حدث وانتهى – في العقد السابق للأزمة المالية – إلى مفرطين في التفاؤل بالتكنولوجيا، مثل رأي كيرزويل، يتوقعون “تفرُّداً” تكنولوجياً يحمل في طياته نمواً اقتصادياً أسّيّا محتملاً.
ويحدث هذا التفرد – في وقت ما في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين – عندما يتجاوز الذكاء الآلي الذكاء البشري في النهاية، وما ينتج عن ذلك من آثار إيجابية هائلة على النمو الاقتصادي وأيضاً على كل شيء آخر تقريباً. ويتوقع بيتر دايامانديس، خبير مستقبليات التكنولوجيا، تفرداً اقتصادياً “سنكون فيه، خلال جيل واحد، قادرين على توفير السلع والخدمات لكل من يحتاج إليها أو يرغب فيها، بعد أن كانت حكراً على القلة. إن الوفرة للجميع أصبحت حقاً في متناول اليد”.
لا ترى هذه الورقة أننا على وشك الدخول في عصرٍ من الوفرة بالمعنى الطوباوي الذي طرحه دايامانديس، ولكنها ترى أننا سنشهد تأثيراً قوياً لتكنولوجيا الأغراض العامة، مع “موجة رقمية” ستنتشر في النهاية في جميع قطاعات الاقتصاد. كما حدث مع الكهرباء عند بداية القرن العشرين. وتجدر الإشارة إلى أنه لا حاجة لوجود تفرُّد لكي يحدث تسريع كبير في نمو الإنتاجية. وتمتد، إضافة إلى هذا، التشابهات التاريخية إلى إرث وباء الإنفلونزا الإسبانية في 1918-1919، التي تلتها “العشرينيات الهادرة” (في الولايات المتحدة الأمريكية) عندما تحوَّل المجتمع بفعل تأثيرات تكنولوجيا الأغراض العامة الناجمة عن الكهرباء والسيارات.
أفكار ختامية
ترى هذه الورقة أن ثالوث التأثيرات المتأخرة والتغيّرات المتصلة بالأجيال المتلاحقة واستخدام الإنترنت في مكان العمل لأغراض شخصية قد حال دون تسريع نمو الإنتاجية حتى الآن ولكنه لن يستمر في منتصف عشرينيات القرن الحادي والعشرين وما بعده. ومن المحتمل أن يتلاشى هذا الثالوث المخفِّض للإنتاجية بعد أن ترسخ نماذج الأعمال الجديدة وتتحول كل الشركات إلى شركات رقمية.
ومن المتوقع أيضاً أن تقلل التكنولوجيا من استخدام الإنترنت في مكان العمل لأغراض شخصية بعد أن تبدأ تطبيقات المساعد الرقمي الشخصي، المحَرَّكة بالذكاء الاصطناعي، في تولّي أداء العديد من المهام التي نؤديها بأنفسنا حالياً – ومن المرجح أن يقود هذا إلى تعزيز إنتاجيتنا “الشخصية” غير المسجلة اقتصادياً في المنزل ومن ثم يسهّل تحسين إنتاجيتنا “المهنية” المسجلة. ومن المرجح أن تسهّل التكنولوجيا حدوث تحول في استخدام الوقت.
مع هذا، لا تنتهي مسألة تسريع نمو الإنتاجية هنا، لأن من المحتمل أن تظهر عوامل أخرى مع تلاشي أثر الثالوث المذكور أعلاه:
- مسرِّع كوفيد-19: من المرجح أن يتم تسريع انعطاف الإنتاجية التصاعدي بسبب الإرث الاقتصادي الدائم الذي يخلفه كوفيد-19 على المجتمع، الأمر الذي يعجِّل بحلول اقتصاد رقمي حقيقي لأن الطريقة التي نعمل ونتعلم ونتسوق بها تشهد تحولاً جوهرياً.
- التغلب على ما يسمى “مرض بومول”: إمكانية أن يتغلب الذكاء الاصطناعي والأتمتة على العجز التاريخي المزمن عن زيادة إنتاجية الأشخاص العاملين في القطاعات الخدمية مثل الصحة والتعليم.
- عالم واحد: أصبح العالم اقتصاداً واحداً لأول مرة في التاريخ، وقد يُنظر إلى كوفيد-19 وسلاسل الإمداد والشعبوية والحمائية في السنوات الأخيرة على أنها تجلب فترة من تراجع العولمة، ولكن التكنولوجيا نفسها ما زالت تسرِّع وتيرة العولمة في الوقت الحالي – على الرغم من أن التصنيع الإضافي ثلاثي الأبعاد قد يقوِّض تدفقات التجارة العالمية على المدى الطويل.
- التحول في جانب العرض: سيحدث تحول في جانب العرض عندما يصبح الذكاء الاصطناعي بمنزلة الكهرباء الجديدة. وما زال تركيز الاقتصاد الرقمي حتى الآن منصبّاً على المستهلك إلى حدٍّ كبير. ولكن، في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، سيحدث تحوُّل في جانب العرض في اتجاه المنتجين بعد أن يتغلغل الذكاء الاصطناعي في جميع الأنشطة الاقتصادية.
- إنترنت الأشياء: يشير إنترنت الأشياء إلى التعزيز المحتمل للإنتاجية البشرية نتيجة لزيادة الكفاءة في عمل الأشياء غير الحية، مثل تحسين الصيانة بسبب أجهزة الاستشعار وإنترنت الأشياء، على سبيل المثال.
- التأثيرات الاندماجية: بروز اختراعات وابتكارات جديدة بسبب مزيج من تكنولوجيات مختلفة.
- طبيعة الاقتصاد غير الملموس: وتشمل الآثار غير المباشرة، والتضافر بين القطاعات، وإمكانية التوسع، ونتائج تراجع التكاليف الحدية نحو الصفر.
- ثورة ريادة الأعمال: من المرجح أن يؤدي التغير المتصل بتعاقب الأجيال وطبيعة الاقتصاد غير الملموس إلى إحداث ثورة في ريادة الأعمال.
إننا نقف على مشارف حقبة جديدة، ولكننا نخاطر بفقدان الانعطاف الإيجابي الكبير إذا واصلنا النظر إلى الطريق أمامنا من خلال مرآة الرؤية الخلفية.
المراجع
[1] يعكف المؤلف على كتابة كتاب سيصدر قريباً عنوانه: الانعطاف الكبير، يتناول نقطة التحول التصاعدية المحتملة في نمو الإنتاجية في الاقتصاد العالمي في عشرينيات القرن الحادي والعشرين.
[2] https://www.mckinsey.com/business-functions/mckinsey-digital/our-insights/is-the-solow-paradox-back
[3] As measured by total factor productivity growth (TFP).
[4] https://www.businessinsider.com/ap-amazons-jeff-bezos-golden-era-of-technology-is-coming-2016-6?r=US&IR=T
[5] The New Digital Age, Transforming Nations, Businesses and Our Lives, E. Schmidt & J. Cohen, Penguin Random House.
[6] https://www.nber.org/system/files/working_papers/w24001/w24001.pdf
[7] The Second Machine Age, Work, Progress and Prosperity in a Time of Brilliant Technologies, E. Brynjolfsson & A. McAfee.
[8] The future of almost everything, P. Dixon, 2015.
[9] https://www.mckinsey.com/~/media/mckinsey/business%20functions/mckinsey%20digital/our%20insights/twenty-five%20years%20of%20digitization%20ten%20insights%20into%20how%20to%20play%20it%20right/mgi-briefing-note-twenty-five-years-of-digitization-may-2019.ashx
[10] The Rise and Fall of American Growth, Robert J. Gordon, 2016.
[11] Need to update to 2018 figures. The acceleration and subsequent decline in productivity growth can also be seen in labor productivity. US output per hour worked rose 1.8 percent per annum over the 1990-1995 period, accelerating to just over 2 percent per annum over the 1995-2007 period. Since the economic recovery began, the growth rate of US output per hour worked has halved to just 1 percent.
[12] John Fernald, at INSEAD also argues that what is happening at present is simply a case of getting back to normal after the exceptional period of productivity growth over the 1995-2004 period.
[13] https://voxeu.org/article/slow-productivity-growth-may-not-be-new-normal-us
[14]https://www.mckinsey.com/~/media/mckinsey/featured%20insights/meeting%20societys%20expectations/solving%20the%20productivity%20puzzle/mg-solving-the-productivity-puzzle–report-february-2018.pdf
[15] FANGs are Facebook, Amazon, Netflix and Google.
[16] https://www.samsung.com/us/business/short-form/next-mobile-economy-workforce-enablement/
[17] https://flexsystems.co.uk/blog/mind-the-tech-gap
[18] Research by Bain & Company analyzed the approximate number of communications per executive per year. In the 1970s it was 1,000. In the 1980s, with the rise of voice mail, it rose to 4,000. In the 1990s with the emergence of e-mail it rose to 9,000. In the 2000s it surged to 25,000 and in the 2010s it has risen well above 30,000.
[19] https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2017/09/has-the-smartphone-destroyed-a-generation/534198/
[20] https://www.huffingtonpost.co.uk/entry/pew-study-cell-phones_n_6985004?ri18n=true&guccounter=1&guce_referrer=aHR0cHM6Ly9jb25zZW50LnlhaG9vLmNvbS92Mi9jb2xsZWN0Q29uc2VudD9zZXNzaW9uSWQ9M19jYy1zZXNzaW9uXzdiOGIzODllLWY0MDctNGNmNS05ZmRmLWNiMmY2YjFkMGJmNg&guce_referrer_sig=AQAAAKC8Ssr2OLDbAVrurunA6tYaPpwll-GHAPOEWiOeE05uHQseyzR1kBz7XVlq1mh-B1_tn1_OIYXdS-bGZFonP7dw3v2VCtNzflyUpCTmTRdwXTN58JLewKIwX17QnPPAkkfdvm9NHH1Ju0hKI_5n6oHJeTWafR0gdCbzKiEWwqEi
[21] https://www.lifedatacorp.com/smartphone-prevalence/
[22] https://www.theguardian.com/lifeandstyle/2019/aug/21/cellphone-screen-time-average-habits
[23] https://www2.deloitte.com/qa/en/pages/about-deloitte/articles/Mobile-consumers-check-their-phones-over-80-billion-times-a-day.html
[24] https://bankunderground.co.uk/2017/11/24/is-the-economy-suffering-from-the-crisis-of-attention/
[25] Artificial Intelligence and the Modern Productivity Paradox: A Clash of Expectations and Statistics, NBER Dec. 2017 Brynjolfsson, Rock & Syverson.
[26] The Globotics Upheaval, Richard Baldwin, 2019.
[27] Baldwin (2019) refers to the original Industrial Revolution shift from an agrarian to an industrial society as The Great Transformation, and the shift from an industrial to services economy (roughly 1970 onwards) as The Services Transformation.
[28] Harvard Business Review, January-February 2018.