المقدمة
مما لا شك فيه أن التطرف والإرهاب من أهم التهديدات الأمنية الدولية والمحلية التي تواجه عالمنا المعاصر؛ نظرًا إلى تصاعد وتيرة التطرف باسم الدين والعمليات الإرهابية وشدتها منذ عام 1979، مرورًا بأحداث 11 سبتمبر، ووصولًا إلى الوقت الحالي الذي باتت تتصارع فيه الأصوليات المؤدية إلى العنف وجهًا لوجه في حروب وصراعات مفتوحة. ولقد اتخذت دول عديدة والكثير من التحالفات السياسية والأمنية إجراءات متنوعة لمجابهة التطرف المؤدي إلى العنف، وتجفيف منابع الإرهاب، وسعت إلى إنشاء كيانات ومؤسسات لتحقيق هذه الأهداف.[1]
وفي هذا السياق، كان من اللافت للنظر اجتماع القيادات الدينية لمسلمي دول بريكس، في شهر يوليو الماضي، وذلك للمرة الأولى منذ توسيع المجموعة بضم كلٍّ من السعودية، والإمارات، ومصر، وإثيوبيا، وإيران، والأرجنتين، وكان بين الحاضرين المفتي الشيخ راوي عين الدين، رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا، ود. أسامة الأزهري وزير الأوقاف بجمهورية مصر العربية، ود. خليفة مبارك الظاهري مدير جامعة محمد بن زيد للعلوم الإنسانية بالإمارات العربية المتحدة، والشيخ يانغ فامينغ رئيس الجمعية الإسلامية الصينية[2].
فما هي مخرجات ذلك اللقاء، وإلى ماذا تهدف، وما هي مدلولاتها؟ وما هو الدور الذي يسعى البريكس إلى أدائه في مجابهة التطرف العنيف والإرهاب ومكافحته؟ وماهي أهدافه من ذلك؟ وما هي الآليات التي ينوي اعتمادها لتحقيق تلك الأهداف؟ تلك هي الأسئلة التي تطمح هذه الدراسة إلى الإجابة عنها، ولتحقيق ذلك قسّمت الدراسة المكثفة التي نعدّها بداية تفكير وبحث حول الموضوع إلى ثلاثة أجزاء: في الجزء الأول نتناول بالتفصيل مخرجات اجتماع القيادات الدينية لمسلمي دول بريكس، وفي الجزء الثاني نلقي الضوء على أهداف الاجتماع ودلالته. وفي الجزء الثالث نحدّد أهم الأفكار المؤسِسة لرؤية بريكس لكيفية مجابهة ومكافحة التطرف والإرهاب.
أولاً: أهم مخرجات الاجتماع
بحسب ما رشح عن الاجتماع، كان من بين أهم ما أكده المشاركون ما يأتي:
1. رغبة دولهم في توسيع نطاق التعاون في المجال الديني بين الهيئات الدينية الإسلامية لدول أعضاء مجموعة البريكس.2. تعزيز تحول المجموعة إلى منظمة دولية متعددة المهام على المستوى السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والإنساني.
3. تمكين وتعزيز الحوار والتعايش السلمي وحسن الجوار والاحترام المتبادل بين ممثلي مختلف الديانات والشعوب. 4. دعم الجهود الدولية في تحقيق السلام العادل والاستقرار في مناطق الصراع في العالم. 5. التأكيد أن الدين الاسلامي كغيره من الديانات السماوية لا يقبل الإرهاب.ولم يقتصر هذا الاجتماع على وضع مبادئ ومنطلقات لبريكس تتمكن من خلالها من مجابهة التطرف ونشر قيم التسامح والحوار، ولكنه تعدّاها إلى الطموح للرغبة في الإسهام في التنظير لعالم بديل للعولمة، تلتزم فيه المنظمة حمايةَ المعايير والقيم الروحية والأخلاقية، والحفاظ على النسيج الأسري وحب الوطن، وصون الخصائص والتقاليد الثقافية والدينية للشعوب، ومواجهة العولمة التي تهدف إلى طمس الهوية.
ويمكننا القول إن مثل تلك الاجتماعات لا تتوقف عن تخطي الإطار الاقتصادي إلى تقديم رؤية بديلة للعالم؛ فقد ظهر البريكس عام 2006 بصفته مجموعة اقتصادية مكونة من أربع دول هي: (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين)، وأُطلق عليه حينذاك (Bric) ثم انضمت اليها جنوب أفريقيا في عام 2011، وتحول اسمها إلى ((Brics. وبمرور الوقت يتحول التكتُّل من فكرة اقتصادية إلى ما يشبه رؤية بديلة للعالم تهدف في نهاية الأمر إلى مواجهة الهيمنة الأحادية الجانب في العالم من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها من الغرب. قد يفسر ذلك بأن دول البريكس يجمع بينها أنها ذات أهمية استراتيجية في مناطق ممثلة لمناطق العالم غير الغربية، كما أنها تتقاسم موقفًا سلبيًّا إزاء النظام الدولي القائم، وتتفق على حتمية إيجاد مؤسسات قوية يمكنها أن تكافئ المؤسسات الدولية القائمة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون. كما أنها تتشارك رؤية شبه مشتركة، وموقفًا شبه مُوحّد إزاء أبرز القضايا الدولية المختلفة لتحقيق نظام عالمي أكثر استقرارًا.[3] فتجمُّع بريكس أكبر من أن يكون مجرّد تجمع اقتصادي أو نادٍ لاقتصادات ناشئة كما تؤكد الكثير من الدراسات.[4]
ثانيًا: أهداف الاجتماع وأهم دلالاته
يمكننا القول إن الاجتماع كان يهدف في نهاية الأمر إلى تأكيد المبادئ المؤسسة التي ترتكز عليها ما يمكن تسميته رؤية العالم التي ترتكز عليها مجموعة بريكس، وهي على النحو الآتي؛ بحسب أهم الأدبيات حول هذا الموضوع:
- الاحترام المتبادل لسيادة الدول وحدودها وأراضيها.
- عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى إلا وفق قواعد ومعايير متفق عليها وفي إطار متعدد الأطراف.
- تأييد الحلول السلمية للمنازعات الدولية.
- تعزيز المساواة القانونية بين الدول.
- تعزيز المنافع المتبادلة بين الدول.
- دعم مصالح العالم النامي.
- ودعم مسارات التنمية الوطنية.[5]
كما تنظر المجموعة إلى الثقافة بوصفها أهم الأدوات الحيوية التي يجب أن تستخدمها لتحقيق الأهداف السابقة التنمية المستدامة، والتعايش السلمي، والشمولية وصون القيم الثقافية وتعزيز الحوار الثقافي وبأن الثقافة يمكن أن توحّد الناس وتقود جهود التحول العالمي،[6] وهو ما أكده هذا الاجتماع.
ولذلك فإن من المتوقع أن تسعى دول المجموعة إلى تنظيم مهرجانات ثقافية ومعارض فنية، ومهرجانات الأفلام، والمنتديات، والمؤتمرات، لخلق منصات حيوية للمجموعة للاحتفاء بالتنوع الثقافي لدولها وتعزيز الروابط الاجتماعية بين شعوبها.[7] ما سيؤثر بصورة إيجابية في مسار تحقيق هدف هذا الاجتماع الأول بين القيادات الدينية لمسلمي دول بريكس.
ثالثًا: رؤية بريكس في مجابهة ومكافحة التطرف والإرهاب
يمكن أن نستشف الآليات الأربع الأهمّ التي يمكن أن تتبناها مجموعة بريكس مما صرح به وزير الأوقاف المصرية الدكتور أسامة الأزهري:
- مواجهة التطرف من خلال مواجهة فكرية جادة في كل ما يتعلق بمفاهيم الفكر المتطرف، ومحاربة كل صور الإرهاب والتطرف والتكفير والعنف، وتفكيك منطلقات هذه التيارات وأفكارها.
- مواجهة التطرف اللاديني المتمثل في تراجع القيم والأخلاق مثل مواجهة الإلحاد، والإدمان، والانتحار، والتنمر، والتحرش، والزيادة السكانية، وارتفاع معدلات الطلاق، وفقدان الثقة، مواجهةً شاملة لكل مظاهر التراجع القيمي والأخلاقي.
- بناء الإنسان من خلال تكوين شخصيته ليكون قويًّا شغوفًا بالعلم وبالعمران، واسع الأفق، وطنيًّا منتميًّا، مقدٍّمًا الخير للإنسانية، وسعيدًا.
- صناعة الحضارة من خلال الابتكار في العلوم، والإسهام في عالم الذكاء الاصطناعي وفي اختراق أجواء الفضاء وفي ابتكار النظريات والحلول العلمية لعلاج أزمات الإنسان والإجابة عن الأسئلة المحيرة.[8]
ويمكن إضافة المزيد من الآليات من خلال تحليل مضمون بيانات مجموعة بريكس واستراتيجيتها المعلنة لمجابهة التطرف والإرهاب؛ فالتطرف والإرهاب من أهم القضايا التي تهتم بها المجموعة منذ نشأتها، ويمكن إجمال أهم تلك الآليات في النقاط الآتية:
- تعزيز وحدتها في مكافحة الإرهاب الدولي وتمويله[9].
- إدانة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره؛ بصرف النظر عن زمان تنفيذ الأعمال الإرهابية ومكانها وهوية مرتكبها، والرفض الكامل لاعتماد معايير ومواقف مزدوجة في مكافحة الإرهاب والتطرف، وهو ما أكدته دول بريكس في بيانها الختامي لقمتها الـ 13 في نيودلهي في سبتمبر 2021؛[10] على سبيل المثال.
- الكفّ عن السياسات والمعايير المزدوجة في مكافحة الإرهاب والتعهد بمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، بما في ذلك حركة الإرهابيين عبر الحدود، وشبكات تمويل الإرهاب وتوفير الملاجئ الآمنة للإرهابيين.
- التشديد على ضرورة اتباع المجتمع الدولي بأسره نهجًا شاملًا ومتوازنًا لكبح النشاطات الإرهابية.
- إفشال محاولات المنظمات الإرهابية استخدام الأراضي التي تجري فيها صراعات وحروب- مثل أفغانستان- ملاذًا للإرهاب وتنفيذ هجمات ضد دول أخرى.[11]
- تسريع الجهود الرامية إلى تحسين الاقتصاد العالمي للحد من تأثير الفقر على زيادة نسبة التطرف، وهو ما جاء في قمة مجموعة دول بريكس (BRICS) الثامنة، التي عُقدت في ولاية غوا، جنوب غرب الهند عام 2016.[12]
- تشكيل جبهة موحدة ضد الإرهاب وذلك في لقاء دول مجموعة البريكس غير الرسمي في أنطاليا التركية قبيل افتتاح قمة مجموعة “العشرين” عام 2016.[13]
- التأكيد أنه لا ينبغي ربط الإرهاب بأي دين، أو جنسية، أو ثقافة، أو مجموعة إثنية.
- الالتزام بمواصلة الإسهام في الجهود العالمية للتصدي لخطر الإرهاب ومكافحته على أساس مراعاة القانون الدولي؛ ولاسيما ميثاق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان.
- التأكيد أن المسؤولية الأساسية عن مكافحة الإرهاب تقع على عاتق الدول نفسها، مع الحفاظ على الدور المركزي والتنسيقي للأمم المتحدة في هذا المجال.
- تأكيد ضرورة انتهاج المجتمع الدولي بأسره مقاربة شاملة للحد بفعالية من الأنشطة الإرهابية التي تمثّل تهديدًا خطيرًا.
- إكمال العمل بالاتفاقية الشاملة لمكافحة الإرهاب الدولي وتبنيها في إطار الأمم المتحدة، في أقرب وقت ممكن، إضافة إلى إطلاق مباحثات متعددة الأطراف بشأن اتفاقية دولية لمكافحة أعمال الإرهاب الكيميائي والبيولوجي، في إطار مؤتمر نزع السلاح.
- ضرورة التمتين الشامل لآليات للتصدي لاستخدام الإرهابيين ومن يدعمونهم في مجتمع معولم بصورة واسعة التكنولوجيات الحديثة؛ مثل الطائرات من دون طيار والإنترنت وغيرها من تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، بما في ذلك الشبكات الاجتماعية لأغراض إرهابية؛ مثل تجنيد المؤيدين، والتحريض على ارتكاب أعمال إرهابية، وكذلك تمويل وإعداد أنشطتهم.[14]
الخاتمة
كان من أهم التحديات التي تواجه عالمنا اليوم عدم وجود تعريف مجمَع عليه للإرهاب، والاستخدام السياسي، والجيوسياسي لظاهرة الإرهاب، وتأخر تصنيف مَن يجب وضعه ضمن هذا التصنيف، وربما الدور المهم الذي من الممكن أن تؤديه مجموعة بريكس هو السعي لحسم تلك القضايا التي أضر عدم حسمها بالكثير من دوله.
فعلى سبيل المثال عدم وجود تعريف دولي للإرهاب يترتب عليه غياب واجبات وحقوق وآلية محاسبة حتى الآن، ويؤكد فرضية الاستخدام الجيوسياسي للإرهاب، أو غض الطرف عنه لأسباب جيوسياسية. فأي تعريف مبدئي للإرهاب سيكشف عن كمّ من يمكن وصفهم بالإرهابيين.
“فالإرهابي ليس من يُنفّذ أو يُسهّل عملًا إرهابيًّا فقط، وهو استخدام العنف من قبل شخص أو أكثر ليس مخولًا له استخدامه “لأنه عمل من أعمال الدولة والقاصر عليها فقط”، من أجل- أو بالادعاء أنه من أجل- قضية سياسية أو عرقية أو دينية، بهدف إرهاب من استُخدم ضده مباشرة أو المجتمع الذي يعيش فيه، أو أجهزة الدولة التي وقع في نطاقها الفعل، أو مجموعة الدول المتحالفة معها، أو الإقليم أو العالم؛ وإنما الإرهابي هو أيضًا من نظّر وشرعن وبرّر وطبّع للإرهاب؛ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهو أيضًا من تعاون مع الجماعات والخلايا القابلة لاستخدام العنف لنشر أفكارها أو فرضها في الحال أو لاحقًا”.[15]
وفي هذا السياق من المتوقع لقمة البريكس الدورية لمجموعة «بريكس» الشهر الحالي التي تستضيفها مدينة قزان الروسية، وتتولى روسيا رئاستها تحت شعار «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين» أن تخطو خطوة في طريق تحقيق رؤيتها في مجابهة التطرف العنيف ومكافحة الإرهاب.[16] فمن أبرز لقاءات تلك القمة اجتماع مجلس مجموعة البريكس لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، التي تهدف إلى إنشاء مجموعة عمل دائمة حول الموضوع ترسم الآليات التي ستتبناها البريكس في الأيام المقبلة.[17]
[1]وائل صالح ومحمد أبو غزلة، قراءة في إدراج أفراد وكيانات جديدة ضمن قائمة الإرهاب المعتمدة في دولة الإمارات، تريندز للدراسات، 19 سبتمبر 2021، https://urlr.me/pt3Kx
[2] بريكس تتحدى التطرف.. قيادات الدين يؤكدون على دور الإسلام في نشر السلام والتعايش، اتحاد العالم الإسلامي، 27يوليو 2024،
https://www.unitedmuslimworld.com/25107
[3] Cedric de Coning, Thomas Mandrup and Liselotte Odgaard (eds), The BRICS and coexistence: an alternative vision of world order, (New York: Routledge, 2015.
[4] Oliver Stuenkel, the BRICS and the Future of Global Order, (Second Edition. London: Lexington Books,
6161).
[5] المرجع السابق.
[6] الإمارات تشارك في الاجتماع التاسع لوزراء الثقافة في دول “بريكس”، وام، 14 سبتمبر
[7] المرجع السابق.
[8] مصر.. وزير الأوقاف يكشف خطة الوزارة لمواجهة الفكر المتطرف، RT العربية، 08.10.2024، https://urlr.me/gNw5m
[9] BRICS COUNTER-TERRORISM STRATEGY, BRICS, November 2020
https://brics2023.gov.za/wp-content/uploads/2023/07/BRICS-Counter-terrorism-Strategy-2020.pdf
[10] جاك وهبه، مجموعة “بريكس”.. دور ريادي في مكافحة الإرهاب، الثورة، 14 سبتمبر 2021،
[11] عبد الحميد غانم، الثورة أون لاين، 14 سبتمبر، 2021، https://thawra.sy/?p=316145
[12] قمة “بريكس” تختتم أعمالها بالدعوة لمكافحة الإرهاب وتسريع تحسين الاقتصاد العالمي، شبكة مواقع الأناضول، 16.10.2016،
[13] https://sarabic.ae/20151115/1016367824.html
[14] Joint Statement of the BRICS Ministers of Foreign Affairs and International Relations, Cape Town, South Africa, 1 June 2023,
https://mid.ru/en/foreign_policy/news/1873948/?lang=en
[15] وائل صالح، الحرب على الإرهاب والحرب بالإرهاب، العين الإخبارية، 2020/11/5،
https://al-ain.com/article/war-terror-terror
[16] «بريكس».. تحول نوعي في التوازنات العالمية
[17] Meeting of the BRICS Council on Anti-Money Laundering and Countering the Financing of Terrorism, The Ministry of Foreign Affairs of the Russian Federation, October 2024,