Insight Image

التضخم وسلاسل الإمداد.. لمحة من أزمتي كورونا والحرب في أوكرانيا

02 يونيو 2022

التضخم وسلاسل الإمداد.. لمحة من أزمتي كورونا والحرب في أوكرانيا

02 يونيو 2022

تعددت المجاهيل في معادلة الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة التي تجسدت أبرز تداعياتها في صورة موجات تضخمية عنيفة ضربت معظم دول العالم. الاقتصادات الكبرى التي ارتكزت على معدلات للفائدة قرب الصفرية لسنوات عدة أو عقود بدأت في اتخاذ تدابير التشديد النقدي، واتخذت أسعار الفائدة الأساسية فيها اتجاهاً تصاعدياً، في محاولة لاحتواء عملية التضخم المنفلتة التي بلغت في الولايات المتحدة الأمريكية مستوى لم تشهده منذ أربعين عاماً. حيث سجل معدل التضخم السنوي 8.5% نهاية مارس الماضي متخطياً معدل التضخم المستهدف والبالغ 2% بـ 6.5 نقاط مئوية[1]. وتجدر الإشارة إلى أن معدلات التضخم قد سجلت ما نسبته 7.4% في منطقة اليورو، و8.1% في الاتحاد الأوروبي[2]، وما نسبته 7% في المملكة المتحدة[3] في الفترة نفسها، في موجة لم تعرفها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

أولاً: أسباب التضخم العالمي وروافده خلال الأزمات الراهنة:

تأتي روافد التضخم دائماً من عوامل تتصل بالطلب وأخرى تتصل بالعرض؛ لكن الأزمة الحالية تشهد مزيجاً من تلك العوامل. فعلى صعيد الطلب كانت فترات الإغلاق الطويلة التي اتخذتها دول عدة عام 2020 كنوع من التدابير الوقائية الرامية إلى احتواء جائحة “كوفيد-19” سبباً في كبت الطلب على عدد كبير من المنتجات خلال العام، أبرزها السلع الرأسمالية والوسيطة ومدخلات الإنتاج. بينما ارتفع الطلب على منتجات استهلاكية وتقنية خاصة عبر منصات التسوق الإلكتروني وأدوات الشراء الرقمية المختلفة. وكانت الحزم التحفيزية التي أنفقتها الدول لتعويض المواطنين رافداً تضخمياً إضافياً عزز من ارتفاع الطلب على المعروض السلعي والخدمي خاصة مع بدء أمارات التعافي من الأزمة بحلول عام 2021 [4].

سرعة تعافي الطلب والحزم التحفيزية التي كانت سبباً في دعم الطلب بالقدرة الشرائية التي قابلها تباطؤ تعافي العرض نتيجة عدد من العوامل الفنية واللوجيستية والتمويلية التي سنتعرض لها لاحقاً، وهذان التعافيان كانا سبباً في حدوث فجوة كبيرة بين العرض والطلب نتج عنها ارتفاع المستوى العام للأسعار مع تمرير الزيادة في أسعار منتجات الطاقة المختلفة إلى سائر الصناعات والأنشطة الاقتصادية، وتمرير ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل والشحن والتخزين إلى المستهلك كلما ساعدت مرونات الطلب على ذلك، حتى لا يتحمل المنتج وحده الخسائر كلها.

وقد ضاعف من حدة تلك الأزمة اشتعال الحرب الأوكرانية – الروسية قبل مرور عام واحد على استعادة الأنشطة الاقتصادية لقدر من مستوياتها قبل الجائحة. تلك الحرب كانت آثارها التضخمية مرتكزة على اضطراب سلاسل الإمداد للأسباب التالية سواء بشكل مباشر:

  • القيود على الملاحة والتجارة في البحر الأسود.
  • تقييد النقل الجوي بين آسيا والولايات المتحدة، نتيجة لحظر الطيران فوق روسيا مما ينعكس مباشرة على طول مسارات الطيران وارتفاع تكلفة النقل.

أو بشكل غير مباشر نتيجة الاضطراب الراهن في سلاسل الإمداد الدولية، ولتأثّر المعروض السلعي من المنتجات الزراعية ومنتجات الطاقة والخامات الصناعية، لتوقف صادرات دولتي الصراع اللتين تتحكمان في صادرات عدد كبير من المجموعات السلعية.

إذن بعد مرور أكثر من عامين على بدء انتشار جائحة “كوفيد-19″، فقد جاءت الحرب الروسية-الأوكرانية ليؤذنا معاً بأهمية الاستقلال الوطني والإقليمي (في بعض التجارب) عن ركب العولمة، خاصة فيما يتعلق بتوفير الاحتياجات الأساسية لكل دولة في ظل اضطراب وتقييد حركة التجارة العالمية وتدفق رؤوس الأموال وارتفاع كبير في التكاليف اللوجيستية وخاصة تكاليف النقل على نحو غير مسبوق منذ عقود.

ثانياً: ارتفاع تكاليف النقل واضطراب سلاسل الإمداد:

على مدى العقدين الماضيين، تم بناء المخططات اللوجيستية للتجارة العالمية على أساس النقل غير المكلف نسبياً (مع تمايز الأسعار وفقاً لطبيعة المنتجات المنقولة). وقد أعطى مفهوم “تحول الطاقة” لمحة عن بعض الجهود التي يمكن أن تنعكس مستقبلاً على مزيد من الخفض في تكاليف النقل. لكن تختلف ميزانيات النقل لعام 2022 تماماً عن ميزانيات عام 2019. فقد أدت جائحة “كوفيد-19” إلى ارتفاع أسعار نقل البضائع بشكل ملحوظ ثم جاءت الحرب في أوكرانيا كعامل مفاقم من شأنه تعميق الأزمة وإطالة أمدها بمرور الوقت. وقد اتضح تضخم أسعار النقل أولاً في كل من الشحن البحري للحاويات والشحن الجوي، ويكتسب حالياً زخماً في تكاليف النقل البري الأوروبي[5]. والفقرات التالية توضح بعضاً من أسباب ذلك ونتائجه:

  • تكاليف النقل البحري للحاويات:

شهد العام الماضي زيادة مطردة في “مؤشر شحن الحاويات”، والذي يعكس تكلفة نقل البضائع عبر خطوط الشحن. وقد بلغ المؤشر ذروته عند 10839 دولاراً في سبتمبر الماضي، ووصل إلى مستوى كان أعلى بعشر مرات تقريبا مقارنة بعامين سابقين (1،279 دولار)[6].

ولقد استهلكت تدابير الجائحة وتداعياتها القدرات المالية لعدد كبير من شركات الشحن في عام 2020. ومع تعافي الطلب بقوة بداية من النصف الثاني من عام 2021، تمكّنت تلك الشركات من زيادة أسعار النقل والشحن في الممرات الرئيسية في أنحاء العالم كافة، كما تمكّنت من استعادة السيطرة على محفظة عملائها وتحقيق أرباح كبيرة. فعلى سبيل المثال تضاعفت تكاليف نقل البضائع بين آسيا وأوروبا بأربعة أمثال ما كانت عليه من ثلاث سنوات بزيادة بلغت نحو 6000 إلى 7500 دولار أمريكي لكل حاوية سعة 40 قدماً. بينما كان من المتوقع حدوث هدوء طفيف بمناسبة عطلات العام الصيني الجديد، فإن تداعيات الحرب في أوكرانيا من شأنها أن تحافظ على مستويات الأسعار المرتفعة، لاسيما من خلال الرسوم الإضافية. وتوقعت منظمة “أونكتاد” في تقرير لها نُشر في 16 مارس الماضي استمرار الضغط التصاعدي على أسعار النقل البحري[7].

هناك أسباب أخرى لاضطراب حركة النقل متعلقة بزمن تفريغ البضائع أيضاً خاصة عندما كانت الموانئ تعاني نقص العاملين بسبب المرض أو العزل. وقد أدى النقص في سائقي مركبات البضائع الثقيلة (HGV) في عدد كبير من دول العالم التي اعتمدت سياسات الإغلاق إلى ترك مستودعات الموانئ مملوءة لفترات أطول. وهذا يؤدي إلى انتظار السفن لدخول الميناء وتفريغ البضائع، ما يزيد من زمن الشحن وبالتالي التكاليف. ونتيجة لكل ذلك، يتم تمرير تلك الزيادة في التكاليف إلى عملاء شركة الشحن[8].

  • تكاليف النقل الجوي:

إحدى القوى الدافعة وراء ارتفاع تكاليف الشحن الجوي هي ارتفاع أسعار النفط، ولكن هناك عوامل مرتبطة مباشرة بـجائحة “كوفيد-19” أيضاً. هناك تأثير غير مباشر لتراجع قدرة شركات الطيران وربحيتها على خلفية قيود السفر، خاصة داخل قارة آسيا وخارجها. ولأن الطائرات التي تنقل البضائع تسافر شبه خاوية من الركاب، ولهذا فإن تكلفة نقل البضائع جواً قد ارتفعت بشدة، وأصبح من المناسب أن تنقل تلك البضائع (عالية القيمة في الأساس) عن طريق البحر. منافسة تلك البضائع للبضائع الأخرى منخفضة القيمة أدى إلى إزاحة الأخيرة وارتفاع تكاليف نقلها بشكل كبير. كما أن إعادة تقييم أولوية شحنات البضائع يعني أن الاضطرابات التجارية تؤثر في بعض السلع أكثر من غيرها. تلك البضائع منخفضة القيمة التي يتم شحنها تواجه تكاليف أعلى.

وأدى الشلل الذي أصاب النقل الجوي للركاب في عام 2020 (الذي عادة ما يعوّل عليه في نقل ما يقرب من 60% من البضائع العالمية) إلى انخفاض حاد في جانب العرض بينما ظل الطلب ديناميكياً، لا سيما فيما يتعلق بنقل معدات الحماية الشخصية. ومن ثم فقد ارتفعت أسعار الشحن بشكل حاد للغاية. واستمر الاتجاه في عام 2021 حيث أدى الانتعاش في الاستهلاك إلى تفضيل استخدام الشحن الجوي لتلبية الطلب. في حين زاد متوسط ​​تكلفة نقل الوحدة من 1.79 دولار/كجم إلى 2.71 دولار بين عامي 2019 و2020، فقد بلغ ذروته عند 3 دولارات/كجم في عام 2021 وفقاً لتقديرات الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA).

وقد توقع اتحاد النقل الجوي الدولي (في تقرير نشر أكتوبر الماضي) انخفاضاً للتكاليف خلال عام 2022 إلى 2.67 دولار/كجم، لكن الحرب في القرم غيّرت المعادلة. وقد أعلن مدير الاتحاد عن زيادة مرتقبة في الأسعار بنسب وصفها بكونها: “لا يزال من المستحيل قياسها”. ولم تصدر توقعات رسمية بعد عن الاتحاد الدولي للنقل الجوي حتى كتابة تلك السطور، علماً بأن القطاع كله لا يزال رهن القيود المفروضة على النشاط الدولي المتمحور حول الصين، والمتصلة باستراتيجية الصين المعروفة بـ “صفر كوفيد”[9].

  • تكاليف النقل البري:

ساعد التعافي الاقتصادي النسبي في عام 2021 على زيادة أسعار النقل البري، الذي مازالت قدرته على تمرير الزيادة السعرية إلى المستهلك محل دراسة وتقييد حكومي في عدد من الدول التي تفرض رقابة صارمة على الأسواق خلال الأزمات. أما في نقل البضائع بالسكك الحديدية، فقد كانت صدمته الكبرى متصلة بالحرب الروسية – الأوكرانية لا سيما بعدما انكشفت صعوبة المضي قدماً في المشروعات الواعدة مثل مشروع “طريق الحرير” الذي تبنّـته الصين كمشروع دولي عظيم.

ثالثاً: تضخم تكاليف الإنتاج:

كانت الزيادة في أسعار النقل في عام 2021 مدفوعة بالأساس بتعافي الطلب على خلفية حزم التحفيز وانطلاق الطلب المكبوت كما تقدّمت الإشارة، الأمر الذي أدى إلى إرباك التوازن فيما يتعلق بالإمداد المتاح وبالتالي قوى تفاوضية أكبر لشركات النقل. وكان الارتفاع في أسعار الشحن مدفوعاً أيضاً (ولو جزئياً) بالضغوط التضخمية من مصادرها المختلفة، لا سيما تلك الناشئة عن ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية نتيجة الانتعاش الاقتصادي على شكل حرف V (سريع الارتداد). وقد انعقدت الآمال على أن يتحقق التوازن التدريجي بين العرض والطلب، وذلك قبل أن يتعرض الاقتصاد العالمي لصدمة أخرى نتيجة الحرب في أوكرانيا. وقد تمثلت الصدمات التي تعرضت لها تكاليف الإنتاج في أسعار منتجات الطاقة، والمدخلات الصناعية والزراعية وتأثر الدخول. والنقاط التالية تشرح ذلك.

  • ارتفاع أسعار الطاقة:

ارتفعت أسعار النفط بداية من عام 2021 وشهدت ارتفاعات وتقلبات أكثر حدة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. بشكل عام، يبدو أن الأسعار تستقر عند أكثر من 100 دولار للبرميل، لكن الوضع يبدو مقلقاً إلى درجة دعت وكالة الطاقة الدولية في 18 مارس إلى نشر خطة طوارئ تدعو إلى اتخاذ 10 إجراءات لخفض الطلب العالمي على النفط بمقدار 2.7 مليون برميل يومياً، وبالتالي تقليل مخاطر حدوث نقص حاد. الوضع يهدد مشتقات النفط وبدائله وإمدادات الغاز الطبيعي على وجه الخصوص، حيث تعتمد أوروبا بشكل كبير على الإنتاج الروسي[10].

  • ارتفاع أسعار السلع الصناعية والزراعية الغذائية:

بالإضافة إلى تضخم أسعار منتجات الطاقة وتقلباتها، هناك عوامل أخرى تسهم في ارتفاع تكاليف الإنتاج. إذ ارتفعت أسعار المواد الخام الصناعية باليورو بشكل حاد على أساس شهري في يناير وفبراير الماضيين (7.7% في يناير و5.1% في فبراير) بالتزامن مع ارتفاع أسعار المواد المعدنية (7.4% في يناير و5.8% في فبراير). وأسعار المعادن الحديدية (12.8% في يناير و7.5% في فبراير) كما ارتفعت أسعار المعادن غير الحديدية (7.7% في يناير و5.2% في فبراير) وفقاً لتقرير نشرته INSEE (المعهد القومي للدراسات الإحصائية والاقتصادية في فرنسا) في 18 مارس الماضي[11].

ويلاحظ حدوث تباطؤ في ارتفاع الأسعار في شهر فبراير مقارنة بشهر يناير، لكن هذا التباطؤ يتوقع ألا يستمر في ظل ظروف الحرب التي من شأنها التأثير في أسعار المنتجات الزراعية والغذائية أيضاً. وقد أظهرت أسعار المنتجات الزراعية والسلع الغذائية المستوردة اتجاهاً تصاعدياً في فبراير 2022 (عشية الحرب)، علماً بأن الاتحاد الروسي وأوكرانيا يمثلان لاعبَين عالميين في أسواق الأغذية الزراعية. وقال تقرير لمنظمة “أونكتاد” إن هاتين الدولتين تمتلكان 53% من التجارة العالمية في زيت عباد الشمس والبذور، و27% للقمح، و23% للشعير، و16% لبذور اللفت، و14% للذرة[12].

  • التأثر المحتمل للدخول وعلاقته بتكاليف الإنتاج:

في نشرتها الاقتصادية لشتاء عام 2022، قامت المفوضية الأوروبية بمراجعة توقعاتها لمستويات الأسعار للعام بأكمله[13]، حيث أعلنت أنه من المتوقع أن يبلغ التضخم في منطقة اليورو 3.5% مقارنة بتوقعات سابقة في نشرة الخريف 2021 بلغت فيها معدلات التضخم السنوي لمنطقة اليورو 2.2% فقط. وعلى الرغم من المراجعة الأخيرة، فإنه يبدو أن التوقعات مازالت متحفظة مقارنة بالأداء الفعلي لمستويات الأسعار. فقد بلغ معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو 7% في مارس، و5.9% في فبراير 2022. أما في الولايات المتحدة فقد بلغ التضخم 8.5% في مارس، و7.9% في فبراير من العام نفسه، بينما يبلغ التضخم المستهدف 2% فقط (كما سبقت الإشارة).

هذا الأداء لمستويات الأسعار يؤيد مطالب رفع الأجور، ويعتبر قطاع النقل والخدمات اللوجستية قطاعاً كثيف العمالة، وكان يعاني بالفعل صعوبات في التوظيف قبل الأزمات، وسيكون الضغط التصاعدي على الأجور أكبر وبالتالي سيؤثر في إجمالي التكاليف في عام 2022.

رابعاً: الحرب في أوكرانيا وضعف سلاسل التوريد في معظم القطاعات:

تأتي الأزمة العالمية الجديدة التي أثارتها الحرب في أوكرانيا في وقت لا يزال فيه الوضع الصحي بعيداً عن الاستقرار. وسلاسل التوريد لم تستعد بعد مستويات السيولة التشغيلية مثلما كانت قبل الجائحة. بينما يتناقص تكدّس سفن الحاويات في الموانئ، إلا أنه لم يختف تماماً، ومن المبكر جداً الحديث عن سياق ما بعد الجائحة.

وكما تقدّمت الإشارة تؤدي استراتيجية الصين المعروفة بـ “صفر كوفيد” إلى فرض قيود إضافية على حركة التجارة والشحن المتمحورة حول الصين. فعلى سبيل المثال أعلنت شركة “فوكسكون” Foxconn المورد الرئيسي لشركة أبل الأمريكية، في منتصف شهر مارس الماضي أنها ستوقف أنشطتها مؤقتاً في مركز التكنولوجيا الصيني في مدينة “شنزن” الصينية بسبب القيود الصحية المفروضة على مختلف الأنشطة[14].

كذلك تأثرت مصانع أشباه الموصلات بالاضطرابات المرتبطة بالجائحة. فعلى الرغم من كون تلك المصانع المنتشرة في قارة آسيا تواجه بالفعل حجم طلب كبير، فإن مصانع عدة قد اضطرت إلى الإغلاق في بداية الوباء عندما كان على موظفيها اتباع قواعد الإغلاق. وانعكست فترات التوقّف على تراكم الطلب وارتفاع تكاليف إعادة التشغيل وتجهيز بيئة خاصة جداً لإنتاج تلك المنتجات التي تمت إضافتها إلى الأسعار للموزع والمستهلك. وهذا يعني أن العديد من السلع الاستهلاكية التي تعتمد على أشباه الموصلات كمدخل إنتاج (مثل الهواتف النقالة والسيارات والأجهزة الطبية…) قد تأثر إنتاجها ومن ثم معروضها وأسعارها للمستهلك. وكمثال على سياسات معالجة هذا الخلل، أعلنت شركة “إنتل” الأمريكية العملاقة عن خطة استثمار بقيمة 80 مليار يورو في الاتحاد الأوروبي على مدى السنوات العشر المقبلة، وستقوم بإنشاء مصنع لها في ألمانيا لهذا الغرض[15].

وإذا كانت شركة “نايكي” Nike الشهيرة والمتخصصة في إنتاج المستلزمات والسلع الرياضية تعتمد إلى حد كبير على مصانعها في فيتنام لإنتاج الأحذية، فإن الإغلاق الذي تسببت فيه الجائحة قد أفقدها عشرة أسابيع من الإنتاج. علماً بأن الشركة صارت تنتظر 80 يوماً في المتوسط ​​لوصول الأحذية المنتجة في آسيا إلى تجار التجزئة في أمريكا الشمالية، وهي تمثل ضعف المدة التي كانت قبل الوباء. نتيجة لذلك فقد ارتفعت أسعار الأحذية في الولايات المتحدة بشكل متسارع[16].

مثال آخر لتجارة التجزئة في الأثاث يذكرهMalouf  (مقره في ولاية يوتا الأمريكية)، الذي يفيد بأن لديه 55% فقط من مخزونه العادي في متناول اليد بسبب تأخيرات الشحن. بينما تتعطل السيارات في الموانئ بسبب نقص قطع الغيار. وقد ارتفعت أسعار أثاث غرف المعيشة والمطبخ وغرفة الطعام بنسبة 13.1% عن العام الماضي.[17]

بالنسبة إلى شركات الشحن، تزداد صعوبة إدارة الوضع مع احتمالات التوقف والإغلاق وعدم انتظام العملية الإنتاجية، وعلى الرغم من كون أوكرانيا وروسيا ليستا من المصادر الرئيسية لإنتاج السلع المصنعة، لكن الحرب تشكل تهديداً لحركة الملاحة والنقل في الطرق البحرية، والجوية، والسكك الحديدية، والبرية.

ويشير “شن” و “شو” Shen &Xu   إلى أن الجائحة قد أدت إلى حدوث عجز في الإمدادات الأولية ومدخلات الصناعة upstream shortage في الصين، كما تواجه صناعة الطاقة وصناعة المعلومات الإلكترونية ارتفاعاً كبيراً في الطلب على المنتجات ذات القيمة المضافة downstream demand. أما “زو” وآخرون Zhu et al فقد وجدوا أن الصناعات النسيجية والكهربائية والمعدنية وعدداً من الصناعات الأخرى تواجه مخاطر تحوّل الطلب المحلي في الصين من الداخل إلى الخارج نتيجة للجائحة.

كذلك استخدم “زاو” و “يانج” Zhao & Yang نموذج توازن ديناميكي ليستنتجا أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين سيزداد بمقدار 0.9%. وأن القيمة المضافة لكل من قطاعات النسيج والملابس، والورق والطباعة، والمنتجات الكيماوية والدوائية، والمنتجات المعدنية سوف ترتفع بنسب 1.2%، و1.8%، و2.2%، و2.0% على التوالي والترتيب. أما القيمة المضافة للصناعات الأكثر تعقيداً مثل: الآلات ومعدات النقل فمن المقدّر أن ترتفع بنسب 0.8% و1.4% على التوالي.

تجدر الإشارة إلى أن الصناعات لا تتأثر بشكل متساوٍ. فعادة ما تتأثر أسعار السلع التي تنتج عبر سلسلة توريد طويلة بشكل أكبر؛ لأن كل خطوة على طول السلسلة ستضاعف التأثير التضخمي من كل من المدخلات الخام والسلع الوسيطة. اللحوم المصنعة (مثلاً) تستلزم من بداية سلسلة توريدها إطعام وإيواء الحيوانات المنتجة للحوم، علماً بأن الأعلاف التي تستخدم لإطعام الحيوانات هي منتج ثانوي للزراعة تحتاج إلى وقود وكهرباء لإنتاجها، وينطبق الشيء نفسه على كل خطوة في عملية حصاد وتحويل وتخزين وتسليم الأعلاف الحيوانية إلى المزرعة، ثم تسليم الحيوان إلى المجزرة وتسليم اللحوم إلى تجار الجملة ثم التجزئة ثم إلى يد المستهلك.

إن الشركات تكتسب قوة تفاوضية أكبر في عملية التسعير وذلك عندما ترتفع أسعار المدخلات ويقابلها نمو في الطلب، أي إنها تكون قادرة على فرض أسعار أعلى دون الخوف من تحوّل الطلب أو تراجعه، خاصة عندما تعلم الشركات أن المنافسين يواجهون ضغوط تكلفة مماثلة أيضاً [18].

خامساً: مخاطر تحوّل الطاقة وفرصها:

مثلما أثرت جائحة كورونا في إعادة تشكيل القطاعات الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة في بعض المجالات الاستراتيجية، فإن الحرب في أوكرانيا تعمل على زيادة الوعي بأهمية “تحوّل الطاقة”. فعلى المدى القصير، تخشى منظمة “أونكتاد” من ردة إلى الوراء في مجال تحوّل الطاقة. وذكرت في تقرير لها ما ترجمته “إن الزيادة الكبيرة في أسعار النفط والغاز قد تحوّل الاستثمار مرة أخرى إلى الصناعات الاستخراجية وتوليد الطاقة القائمة على الوقود الأحفوري، ما يهدد اتجاهات التحوّل الإيجابية نحو الطاقة المتجددة التي سجّلت خلال السنوات الخمس إلى العشر الماضية”[19].

إذن يمكن أن نفهم من ذلك أن ارتفاع أسعار منتجات الطاقة التقليدية بشكل يخلو من الصدمات العنيفة يؤدي إلى توجيه الاستثمارات إلى قطاعات الطاقة الجديدة والمتجددة، لكن الارتفاع الكبير في الأسعار يؤدي إلى نتيجة عكسية نتيجة تحقيق المستثمرين في قطاعات الطاقة الأحفورية لإيرادات استثنائية. علماً بأن نسبة كبيرة من الاستثمارات الموجهة لمشروعات الطاقة المتجددة تأتي من منتجي الطاقة التقليدية وليس مستهلكيها[20].

خاتمة: التضخم ومخاطر انخفاض الطلب وأثرها في نمو الاقتصاد العالمي:

في توقعاتها لشتاء عام 2022، راجعت المفوضية الأوروبية وتيرة الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو لتنخفض من 4.3% إلى 4%. وإذا تم تمرير الزيادات في تكاليف الإنتاج إلى أسعار البيع، فإن خيارات المستهلك محدود الدخل تكون قليلة، ويتسبب ذلك في إحداث صدمة سلبية في الطلب. الشركات تواجه بخيارات صعبة أيضاً، فقد علّقت عدد من شركات الأسمدة (على سبيل المثال) نشاطها بسبب ارتفاع تكلفة الغاز الطبيعي على خلفية الحرب في أوكرانيا، مثال على ذلك ما أعلنته شركة الأسمدة “يارا” مطلع مارس الماضي من تعليق الإنتاج في مصنعها في “لوهافر” و”فيرارا” في إيطاليا، بسبب ارتفاع أسعار الغاز، وهو مكون أساسي من منتجات النيتروجين[21].

وترى منظمة “أونكتاد” إن تأثير الحرب في أوكرانيا على السلع الغذائية الزراعية “مقلق بشكل خاص”ـ إذ تعتمد بعض البلدان بشكل كبير على المنتجات الغذائية الزراعية المستوردة من كل من روسيا وأوكرانيا. كذلك يعكس الضغط على أسعار السلع في جانب منه التغيير الجذري في أنماط الاستهلاك منذ بداية الوباء، سواء كان ذلك بدافع الضرورة لمعالجة ترتيبات المعيشة والعمل الجديدة في ظل الحظر والإغلاق وتقييد الحركة، أو بسبب اضطرار العديد من القطاعات إلى التوقف عن النشاط. فقد تحول الطلب بسرعة من نشاط الخدمات (مثل تقديم الطعام والإقامة والترفيه) إلى نشاط السلع (مثل الطعام والمشروبات والسلع الاستهلاكية). أثر هذا الطلب المفاجئ في الإنتاج وفي توافر تلك السلع وبالتبعية على أسعارها.[22]

 المراجع

[1]. https://www.cnbc.com/2022/04/12/consumer-prices-rose-8point5percent-in-march-slightly-hotter-than-expected.html PUBLISHED TUE, APR 12 20228:33 AM EDTUPDATED TUE, 12 APR 2022:07 PM EDT jeff cox

[2].https://ec.europa.eu/eurostat/documents/2995521/14636041/2-18052022-AP-EN.pdf/9ac63755-4fec-2a70-c149-2edbda92849#:~:text=The%20euro%20area%20annual%20inflation,%2C%20the%20rate%20was%202.0%25.

[3]. https://edition.cnn.com/2022/04/13/economy/uk-inflation-march/index.html#:~:text=The%20annual%20inflation%20rate%20climbed,official%20data%20showed%20on%20Wednesday.

[4]. https://www.afr.com/markets/debt-markets/supply-chain-chaos-threatens-to-spur-inflation-higher-20220401-p5aa4k

[5]. Anne Kerriou, https://market-insights.upply.com/en/inflation-is-invading-the-entire-supply-chain, March 25 2022

[6]. https://www.economicsobservatory.com/what-is-supply-chain-inflation-and-why-is-it-driving-up-consumer-prices-now

[7]. https://unctad.org/system/files/official-document/osginf2022d1_en.pdf

[8]. https://www.economicsobservatory.com/what-is-supply-chain-inflation-and-why-is-it-driving-up-consumer-prices-now, Op.cit

[9]. Ganyi Zhang, https://market-insights.upply.com/en/the-accelerated-reconfiguration-of-global-supply-chains,  03 May 2022

[10]. https://www.iea.org/news/emergency-measures-can-quickly-cut-global-oil-demand-by-2-7-million-barrels-a-day-reducing-the-risk-of-a-damaging-supply-crunch

[11]. https://www.insee.fr/en/statistiques/6216843

[12]. https://unctad.org/system/files/official-document/osginf2022d1_en.pdf

[13]. https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_22_926

[14]. https://www.cnbc.com/2022/03/14/apple-supplier-foxconn-pauses-operations-in-shenzhen-amid-covid-outbreak.html

[15]. https://www.washingtonpost.com/technology/2022/03/15/intel-europe-investment-manufacturing/

[16]. https://theconversation.com/why-are-prices-so-high-blame-the-supply-chain-and-thats-the-reason-inflation-is-here-to-stay-169441

[17]. https://theconversation.com/why-are-prices-so-high-blame-the-supply-chain-and-thats-the-reason-inflation-is-here-to-stay-169441

[18]. مدحت نافع، “تداعيات أزمة كورونا على القطاع الصناعي”، مؤتمر آفاق تطوير الصناعة المصرية الإمكانيات والفرص، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 26 مارس 2022.

[19]. https://unctad.org/system/files/official-document/osginf2022d1_en.pdf

[20]. https://www.powermag.com/oil-and-gas-majors-focus-on-renewable-energy-hydrogen-and-carbon-capture/

[21] https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_22_926 . Op. cit.

[22] https://unctad.org/system/files/official-document/osginf2022d1_en.pdf. Op. cit.

المواضيع ذات الصلة