Insight Image

الحوكمة والاستثمار المشترك في الجنوب العالمي: منظور إماراتي–صيني

26 نوفمبر 2025

الحوكمة والاستثمار المشترك في الجنوب العالمي: منظور إماراتي–صيني

26 نوفمبر 2025

الحوكمة والاستثمار المشترك في الجنوب العالمي: منظور إماراتي–صيني

في العصر النيوليبرالي الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، أصبحت الجغرافيا السياسية التقليدية موضع جدل ونقاش كبيرين. صُمم مصطلح الجغرافيا السياسية التقليدية لتصوير العلاقة بين الجغرافيا أو التوسع الجغرافي والقوة السياسية. تعمل الجغرافيا السياسية التقليدية في سياقين: الأدوات العسكرية والمكانية الجغرافية المحددة. في العصر النيوليبرالي، تراجع دور الأدوات العسكرية إلى حد كبير في السياسة الدولية، كما قللت العولمة والاعتماد الاقتصادي المتبادل من أهمية المكان كشرط رئيسي للقوة السياسية. لذا، ظهر مصطلح الجغرافيا الاقتصادية في محاولة لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية التقليدية من منظور واقعي في العصر النيوليبرالي، الذي أصبحت فيه الجغرافيا الاقتصادية هي السياسة المفضلة لجميع الدول لتأسيس الهيمنة الإقليمية أو العالمية. بالإضافة إلى أن النظام الدولي يمر بتحولات بنيوية عميقة أدت إلى تآكل الهيمنة الأحادية القطبية وفتحت المجال أمام بزوغ واقع دولي أكثر تعقيدًا وتنافسية.

في خضم هذا التحول، لم تعد القوة العسكرية هي المحدد الأوحد لنفوذ الدول، بل برزت “الجغرافيا الاقتصادية” كساحة رئيسية للتنافس، حيث تُستخدم أدوات الاستثمار والتجارة والتكنولوجيا لخدمة الأهداف الاستراتيجية للدول. وضمن هذا السياق، تبرز الشراكة الاستثمارية بين دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية الصين الشعبية في دول الجنوب العالمي كظاهرة تستحق التحليل العميق.

فهذه الشراكة لا تمثل مجرد تعاون اقتصادي بين قوة صاعدة عظمى (الصين) وقوة إقليمية محورية هي دولة الإمارات العربية المتحدة، بل هي تجسيد لنموذج جديد من التعاون “جنوب-جنوب” يمتلك القدرة على إعادة تشكيل الممرات التجارية، ووضع معايير تكنولوجية جديدة، وفي نهاية المطاف، التأثير في هيكل القوة في النظام الدولي.

إن تدفق رأس المال والخبرة الإماراتية جنبًا إلى جنب مع القدرة الصناعية والتكنولوجية الصينية في مشاريع البنية التحتية والطاقة في آسيا وأفريقيا، يتجاوز المنطق التجاري البحت ليصبح أداة فعالة في بناء النفوذ وتأسيس شبكات بديلة عن تلك التي قادتها القوى الغربية تاريخيًّا.

ومن هنا، ينبثق التساؤل المحوري لهذه الورقة البحثية: إلى أي مدى تُسهم الاستثمارات الإماراتية-الصينية المشتركة في إعادة تشكيل موازين القوى، وهل تقود هذه الديناميكية نحو عالم متعدد الأقطاب بشكل متوازن، أم أنها تعزز من بزوغ تكتلات إقليمية متنافسة وذات طابع جيوسياسي واضح؟

تفترض هذه الدراسة أننا نشهد بزوغ واقع هجين، وهو “التعددية القطبية الإقليمية”، حيث لا تتوزع القوة بشكل متساوٍ بين دول منفردة، بل تتكتل ضمن محاور وشبكات إقليمية مترابطة، تمثل الشراكة الإماراتية-الصينية نواتها الصلبة في الشرق.

أولًا، الإطار النظري: الجغرافيا الاقتصادية في عالم ما بعد الهيمنة

لفهم الأبعاد الاستراتيجية للشراكة الإماراتية-الصينية، لا بد من تأصيل التحليل في إطار نظري يجمع بين مبادئ الجغرافيا الاقتصادية (Geoeconomics) ونظريات تحول النظام الدولي. يعود الفضل في صياغة مصطلح “الجغرافيا الاقتصادية” إلى إدوارد لوتواك، الذي رأى أنه مع نهاية الحرب الباردة، فإن “منطق الصراع” سيستمر، لكن “قواعده” ستتغير، حيث ستحل الأدوات الاقتصادية محل القوة العسكرية كأداة أساسية للتنافس بين الدول[1]. وفي تطوير معاصر لهذا المفهوم، يعرّف منظرون مثل روبرت بلاكويل وجنيفر هاريس الجغرافيا الاقتصادية بأنها “استخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق الأهداف الجيوسياسية”، مما ينقل التنافس بين الدول من الساحة العسكرية التقليدية إلى ساحات التجارة، والاستثمار، والتحكم في سلاسل الإمداد والمعايير التقنية.[2]

وفي هذا النموذج، لا يُنظر إلى الموانئ والمناطق الاقتصادية الخاصة وشبكات الألياف البصرية كأصول تجارية فحسب، بل كبنى تحتية استراتيجية تمنح الدول التي تسيطر عليها نفوذًا هيكليًّا طويل الأمد. إن التحكم في عقدة لوجستية حيوية كميناء خليفة في أبوظبي، أو الهيمنة على معايير الجيل الخامس (5G) التكنولوجية، يمنح الدولة الفاعلة القدرة على تشكيل قواعد اللعبة الاقتصادية، والتأثير على خيارات الدول الأخرى دون اللجوء إلى الإكراه المباشر[3] .

يتزامن صعود الجغرافيا الاقتصادية مع جدل أكاديمي واسع حول طبيعة النظام الدولي الناشئ بعد حقبة الهيمنة الأمريكية الأحادية التي تلت الحرب الباردة. وقد طرح المنظرون تصورات متباينة تتجاوز فكرة “التعددية القطبية” (Multipolarity) الكلاسيكية التي تحذر من عودة التنافس بين قوى عظمى متعددة[4]، حيث ظهرت أفكار أكثر حداثة مثل “عالم اللاقطبية “(Nonpolar World) لريتشارد هاس[5]، أو عالم “جي-زيرو” (G-Zero)  الذي يصفه إيان بريمر بأنه فراغ في القيادة العالمية لا تستطيع فيه أي قوة منفردة أو تكتل فرض أجندته[6].

ضمن هذا السياق، يبرز مفهوم “العالم المتعدد المراكز” الذي طرحه أميتاف أشاريا، والذي يقر بوجود فاعلين متنوعين (دول، شركات عابرة للحدود، منظمات غير حكومية) بمستويات قوة مختلفة، يتفاعلون ضمن شبكات إقليمية وعالمية معقدة[7]. ويمكن القول إن الشراكة الإماراتية-الصينية تقدم دليلًا ملموسًا يدعم هذه الرؤية، فالنظام القادم لن يكون مجرد تكرار للتاريخ، بل سيتسم بظهور تكتلات وتحالفات مرنة تُبنى ليس على أساس أيديولوجي كما في الحرب الباردة، بل على أساس المصالح الاقتصادية المتشابكة والبنية التحتية المترابطة.

هذه الشراكة هي تجسيد لتعاون “جنوب-جنوب” الذي يحمل في طياته تحديًا ضمنيًّا للنموذج التنموي الذي روجت له “مؤسسات بريتون وودز” (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، والذي ارتبط غالبًا بما عُرف بـ”إجماع واشنطن “(Washington Consensus) القائم على التحرير الاقتصادي والخصخصة وتقليص دور الدولة[8]. في المقابل، تقدم الصين نموذجًا بديلًا، يُشار إليه أحيانًا بـ”إجماع بكين “(Beijing Consensus)، ويُنسب مصطلح “إجماع بكين” في الأصل إلى المحلل الاقتصادي والسياسي جوشوا كوبر رامو (Joshua Cooper Ramo) في عام 2004، وقد أصبح منذ ذلك الحين إطارًا شائعًا لوصف النهج الصيني في التنمية. ويركز على السيادة الوطنية، والتنمية القائمة على البنية التحتية بقيادة الدولة، مع شروط سياسية أقل صرامة مقارنة بالغرب[9]. هذا النموذج، الذي تبلور بشكل واضح في “مبادرة الحزام والطريق”، يجد صدى لدى دول مثل الإمارات التي تسعى لتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية وتعتمد على نموذج تنموي تقوده الدولة لتحقيق طموحاتها الاقتصادية العالمية.

ثانيًا، ديناميكيات الشراكة الاستراتيجية بين الإمارات والصين: تكامل الرؤى والمصالح

لا يمكن فهم عمق التعاون الاستثماري الإماراتي-الصيني من دون تحليل الدوافع الاستراتيجية المتكاملة التي تحرك كلا البلدين، والتي تتجاوز الحسابات التجارية قصيرة المدى. فبالنسبة للصين، لم تعد مبادرة “الحزام والطريق”:

 “(Belt and Road Initiative – BRI) مجرد مشروع اقتصادي لتصدير فائض قدرتها الصناعية وحل أزمة الإنتاج المفرط محليًّا، بل هي رؤية جيوسياسية كبرى تهدف إلى إعادة تشكيل “الجغرافيا السياسية للاتصالات” (Geopolitics of Connectivity) في القرن الحادي والعشرين ، وهو مفهوم حديث يصف التنافس بين القوى العالمية الذي لم يعد يركز فقط على السيطرة على الأراضي والمواقع الجغرافية، بل على السيطرة على شبكات البنية التحتية وسلاسل الإمداد العالمية التي تربط العالم بعضه مع بعض، حيث تُقاس القوة في القرن الحادي والعشرين ليس فقط بمساحة الدولة أو قوة جيشها، بل بقدرتها على التحكم في تدفقات التجارة، والطاقة، والبيانات، ورؤوس الأموال، والبشر، فمن يسيطر على هذه التدفقات وممراتها، سوف يمتلك نفوذًا هائلًا.[10] تسعى بكين من خلال هذه المبادرة إلى إعادة ربط أوراسيا وأفريقيا بشبكة من الممرات التجارية والبنى التحتية التي تكون هي مركزها العصبي، ما يمنحها نفوذًا هيكليًّا يمكنها من وضع المعايير التجارية والتقنية وتأمين خطوط إمداد الطاقة والسلع الحيوية بعيدًا عن نقاط الاختناق البحرية التي تهيمن عليها البحرية الأمريكية[11].

في هذه الرؤية الكبرى، لا تمثل الإمارات مجرد محطة عابرة، بل هي “العقدة اللوجستية والمالية:

 “(Logistical and Financial Node) المحورية التي تحقق التكامل بين “طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين” وأسواق الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. إن اختيار الصين للإمارات لم يكن اعتباطيًّا، بل استند إلى ما يسميه المنظرون” الميزة التنافسية للموقع، فالإمارات لا تمتلك موقعًا جغرافيًّا استراتيجيًّا فحسب، بل أسست على مدى عقود بنية تحتية عالمية المستوى، وبيئة تنظيمية وتشريعية جاذبة لرأس المال الأجنبي. فموانئ دبي العالمية، بخبرتها التشغيلية في أكثر من 40 دولة، ومراكز المال في أبوظبي (ADGM) ودبي (DIFC)برؤوس أموالها الضخمة وأنظمتها القانونية المستقلة، توفر للصين منصة مثالية لتنفيذ مشاريعها بكفاءة وموثوقية في منطقة تتسم بالتقلبات الجيوسياسية[12].

من منظور إماراتي، يمثل هذا التعاون ركيزة أساسية في استراتيجيتها القائمة على “التحوّط الاستراتيجي “(Strategic Hedging) وتنويع الشراكات الدولية. ففي ظل عالم يتجه نحو التعددية القطبية وتراجع اليقين بشأن الالتزامات الأمنية للحلفاء التقليديين، تسعى أبوظبي إلى بناء علاقات متوازنة مع كافة القوى الكبرى، مما يعزز من استقلاليتها ومناعتها ضد الصدمات الخارجية. إن احتضان الاستثمارات الصينية لا يهدف فقط إلى تحقيق مكاسب اقتصادية، بل هو أيضًا وسيلة لترسيخ دور الإمارات كلاعب عالمي لا غنى عنه في شبكات التجارة والخدمات اللوجستية، أي التحول من مجرد دولة غنية بالنفط إلى “دولة-بوابة “(Gateway State) تربط بين الاقتصادات الكبرى وتستمد نفوذها من دورها كوسيط ومركز خدمي عالمي[13].

على الجانب الآخر، تنظر الإمارات إلى هذه الشراكة كجزء لا يتجزأ من استراتيجيتها الوطنية الكبرى التي تتجاوز مجرد تنويع الاقتصاد والشركاء لتشمل إعادة تموضع جيوسياسي مدروس، وهو ما يُعرف بـ”التوجه شرقًا”. هذا التوجه ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو استجابة حتمية للتحولات البنيوية في النظام الدولي. ففي ظل ما يُنظر إليه كتراجع نسبي في اليقين بشأن الالتزامات الأمنية الأمريكية طويلة الأمد في الشرق الأوسط، والتحولات في أولويات واشنطن الاستراتيجية[14]، تسعى أبوظبي إلى بناء سياسة خارجية أكثر استقلالية ومرونة.

ضمن هذا الإطار، تمنح الشراكة مع الصين الإماراتِ عمقًا استراتيجيًّا حيويًّا. فبينما تظل الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة قائمة، توفر العلاقة مع بكين ثقلًا موازيًا وتفتح آفاقًا جديدة تدعم طموحات الإمارات في التحول إلى اقتصاد ما بعد النفط. هذا التحول، الذي تُشكل رؤى مثل “مئوية الإمارات 2071” إطاره العام، يعتمد بشكل أساسي على قطاعات المستقبل: التكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الرقمي، والطاقة المتجددة. وتُعد الصين، كرائدة عالمية في هذه المجالات، الشريك الأمثل الذي لا يوفر رأس المال والأسواق فحسب، بل يوفر أيضًا التكنولوجيا والخبرة اللازمة لتسريع هذه الأجندة التنموية الطموحة[15]. ولضمان استدامة هذه العلاقة وتحصينها ضد التقلبات السياسية، تجاوز البلدان منطق الصفقات التجارية قصيرة الأجل إلى مستوى المأسسة العميقة. يتجلى ذلك بوضوح في إعلان “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” بين الصين والإمارات، وهي أعلى درجات العلاقات الثنائية في الدبلوماسية الصينية، ما يرسخ التزامًا طويل الأمد بالتعاون في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية[16].

أما على المستوى العملي، فقد تم إنشاء آليات مالية مشتركة مثل “صندوق الاستثمار الإماراتي الصيني المشترك. هذا الصندوق ليس مجرد وعاء مالي، بل هو أداة متطورة من أدوات “الدبلوماسية المالية” حيث يعمل على مواءمة المصالح الاستراتيجية للبلدين بشكل ملموس. فمن خلال الاستثمار المشترك، يتقاسم الطرفان المخاطر والمكاسب، ما يخلق شبكة من الاعتماد المتبادل الإيجابي. والأهم من ذلك أن هذا الصندوق يحوّل دور الإمارات من مجرد “محطة” على مسارات الحزام والطريق إلى “شريك فاعل” ومستثمر ومساهم في تشكيل وتوجيه المشاريع على طول هذه الممرات التجارية، خاصة في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا[17]، ما يعزز مكانتها كلاعب محوري في الجغرافيا الاقتصادية العالمية الجديدة.

ثالثًا، الأبعاد الجيوسياسية للاستثمارات المشتركة في دول الجنوب العالمي

تتحول النوايا الاستراتيجية إلى واقع جيوسياسي ملموس من خلال المشاريع المشتركة على الأرض. فالاستثمار في البنية التحتية الحيوية ليس عملًا محايدًا، بل هو فعل يرسم خرائط القوة والنفوذ المستقبلية. على سبيل المثال، يمثل التعاون الصيني-الإماراتي في تطوير المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في مصر نموذجًا فريدًا لتطبيق الجغرافيا الاقتصادية، حيث يتجاوز هذا المشروع كونه استثمارًا تقليديًّا ليصبح مثالًا على “التعاون الثلاثي”، حيث تجتمع القدرة الصناعية ورأس المال الصيني، مع الخبرة الإدارية واللوجستية العالمية الإماراتية، في موقع جيوسياسي استراتيجي توفره مصر[18].

فمن خلال ضخ استثمارات ضخمة في ميناء العين السخنة وتطوير مناطق صناعية متكاملة تديرها شركات مثل “تيدا” الصينية (TEDA) وموانئ دبي العالمية  (DP World)، لا يسهم البلدان في دعم الاقتصاد المصري فحسب، بل يرسخان نفوذًا بنيويًّا في إحدى أهم نقاط الاختناق في التجارة العالمية. إن السيطرة هنا ليست سيطرة عسكرية، بل هي سيطرة تشغيلية ومعيارية؛ فالتحكم في إدارة الموانئ والمناطق الصناعية الملاصقة لها يمنح القدرة على تحديد كفاءة وسرعة وتكلفة عبور البضائع، ما يخلق اعتمادًا هيكليًّا على الشركات الصينية والإماراتية[19].

هذا الحضور الاستراتيجي يخدم أهدافًا أعمق لكلا البلدين. بالنسبة للصين، فإن هذا المشروع يندرج ضمن استراتيجيتها الكبرى لـ”مبادرة الحزام والطريق”، كما يخدم هدفًا استراتيجيًّا جوهريًّا يتمثل في التخفيف من “معضلة ملقا”؛ أي اعتمادها المفرط على مضيق ملقا الذي يمثل نقطة ضعف محتملة أمام أي صراع جيوسياسي قد يؤدي إلى تعطيله. وفيما يخص الإمارات، فالمشروع يعزز من مكانتها كـ”قوة لوجستية عظمى”، عبر تصدير نموذجها المتمثل في موانئ دبي العالمية، وتوسيع قدرتها على التأثير في إدارة شرايين التجارة العالمية، لتتحول من فاعل إقليمي إلى شريك لا غنى عنه في المنظومة اللوجستية الدولية[20].

في المحصلة، يُمثل هذا الاستثمار المشترك تجسيدًا لكيفية استخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف جيوسياسية؛ فهو يمنح بكين وأبوظبي القدرة على تأمين سلاسل إمدادهما، والتأثير في تدفق التجارة بين آسيا وأوروبا، والأهم من ذلك، بناء منظومة لوجستية دولية موازية تقلل من اعتمادهما على الممرات التي تهيمن عليها تاريخيًّا القوى البحرية الغربية.

وفيما يخص الفضاء الرقمي، فإن التنافس الجيوسياسي لم يعد يقتصر على السيطرة على البحار والممرات المادية، بل امتد إلى ساحة أكثر حيوية وتأثيرًا متمثلة في السيطرة على تدفق البيانات والمعلومات والبنية التحتية التي تحملها. هذا المجال، الذي يُعرف بـ”الجغرافيا السياسية الرقمية”، هو ميدان المعركة الرئيسي في القرن الحادي والعشرين، حيث تُعد السيطرة على المعايير التقنية لا تقل أهمية عن السيطرة على المضايق البحرية[21].

من هذا المنطلق، تلعب الشراكة بين شركات الاتصالات الإماراتية العملاقة (مثل مجموعة e& وشركة “هواوي” الصينية) دورًا حاسمًا. فالتعاون لا يقتصر على نشر شبكات الجيل الخامس (5G) داخل الإمارات، بل يمتد إلى تصدير هذا النموذج بشكل مشترك إلى العديد من دول أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. هذا النشاط يتجاوز كونه صفقة تجارية لتوفير خدمات اتصالات متقدمة؛ بل يمثل مساهمة فعالة في معركة المعايير العالمية[22]. يسهم هذا التعاون بشكل مباشر في تشكيل مجالات تكنولوجية بديلة. هذه المجالات هي أنظمة بيئية متكاملة من الأجهزة والبرمجيات والمعايير والمنصات التي تعمل بشكل متناغم، ولكنها قد تكون غير متوافقة مع نظيرتها الغربية. ومع تزايد الحديث عن انقسام الإنترنت أو الفصل التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، فإن بناء هذه البنى التحتية الرقمية يضع الأسس العملية لنظام بيئي رقمي عالمي يكون أقل اعتمادًا على وادي السيليكون، وأكثر ارتباطًا بالمنظومة التكنولوجية الصينية[23].

هذا النموذج، القائم على مفهوم السيادة السيبرانية الذي تروج له بكين، يجد قبولًا لدى العديد من الدول التي ترغب في ممارسة سيطرة أكبر على فضائها الرقمي، وهو ما يتناقض مع النموذج الغربي القائم على الإنترنت المفتوح[24]. وبذلك، لا تصبح الإمارات مجرد مستخدم للتكنولوجيا الصينية، بل هي شريك استراتيجي وبوابة رئيسية في نشرها ضمن مشروع “طريق الحرير الرقمي” الصيني، ما يعزز من طموحاتها كقوة تكنولوجية إقليمية ويخدم في الوقت ذاته رؤية الصين طويلة الأمد.

في قطاع الطاقة، الذي يُعد تاريخيًّا المحرك الأساسي للديناميكيات الجيوسياسية، يقود التعاون الإماراتي-الصيني ما يمكن وصفه بـ”استراتيجية تحول مزدوجة”. هذه الاستراتيجية لا تعكس تناقضًا، بل براجماتية عميقة تهدف إلى تأمين الحاضر ورسم ملامح المستقبل في آن واحد، حيث يمثل التعاون حجر الزاوية في معادلة أمن الطاقة التقليدية. فمن خلال هذا التعاون، تضمن الإمارات، كواحدة من أكثر منتجي النفط موثوقية في العالم، تدفقًا مستقرًا للطاقة الهيدروكربونية اللازمة لتأمين احتياجات الصين الصناعية الهائلة وحماية اقتصادها من تقلبات الأسواق. هذا المحور يمثل أساس الثقة والمصالح المادية الراسخة التي بنيت عليها الشراكة. ومن جهة ثانية، وهي الأكثر أهمية استراتيجيًّا، يقود البلدان تحولًا في الجغرافيا الاقتصادية للطاقة الخضراء؛ فلم يعد التنافس العالمي يقتصر على التحكم بآبار النفط، بل امتد ليشمل السيطرة على سلاسل توريد المعادن النادرة، وتصنيع الألواح الشمسية وتوربينات الرياح، وتمويل مشاريع الطاقة النظيفة[25]. وهكذا، تتجلى عبقرية الشراكة؛ حيث يجتمع رأس المال والخبرة التشغيلية الإماراتية، المتمثلة في شركات عالمية مثل “مصدر”، مع القدرة التصنيعية الصينية الهائلة والتكنولوجيا المتقدمة لإنشاء تكتل قوي.

 تُظهر الاستثمارات الضخمة التي تضخها كل من الصين ودولة الإمارات العربية المتحدة في مشاريع الطاقة المتجددة في دول الجنوب العالمي تحولًا استراتيجيًّا في خريطة الطاقة العالمية. هذه الاستثمارات، التي تتركز بشكل خاص في أفريقيا وآسيا الوسطى، لا تهدف فقط إلى تسريع التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة، بل تعكس أيضًا طموحات اقتصادية وجيوسياسية عميقة لهذين البلدين. فمن خلال تطوير مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح على نطاق واسع، تساهم بكين وأبوظبي في تشكيل مستقبل التنمية المستدامة في هذه المناطق الحيوية، مع تعزيز نفوذهما كقوى فاعلة على الساحة الدولية. تستند استثمارات الصين والإمارات في قطاع الطاقة المتجددة بالجنوب العالمي إلى دوافع متعددة الأوجه تتجاوز مجرد السعي لتحقيق عائد مالي. بالنسبة لبكين، تندرج هذه المشاريع ضمن إطار مبادرة الحزام والطريق، وهي استراتيجية عالمية ضخمة تهدف إلى تعزيز الروابط التجارية والبنية التحتية، وبالتالي زيادة نفوذ الصين السياسي والاقتصادي. اقتصاديًّا، تسعى الشركات الصينية، التي تهيمن على سلسلة التوريد العالمية للألواح الشمسية وتوربينات الرياح، إلى تأمين أسواق جديدة لتقنياتها. كما أن تصدير قدراتها الصناعية في مجال الطاقة المتجددة يساعد الصين على تحقيق أهدافها المناخية الداخلية والتخفيف من حدة التلوث البيئي في مدنها.[26]

وفيما يخص الإمارات، تنظر، وهي دولة بَنَتْ ثروتها على صادرات النفط والغاز، إلى الاستثمار في الطاقة المتجددة كجزء أساسي من رؤيتها لتنويع الاقتصاد والاستعداد لمستقبل ما بعد النفط. تقود شركات مملوكة للدولة مثل شركة أبوظبي لطاقة المستقبل “مصدر” هذا التوجه، حيث تعمل على ترسيخ مكانة الإمارات كمركز عالمي للابتكار في مجال الاستدامة. دبلوماسيًّا، تُستخدم هذه الاستثمارات كأداة لتعزيز العلاقات الثنائية وتوظيف “القوة الناعمة”، حيث تقدم الإمارات نفسها كشريك إنمائي رئيسي للدول النامية[27].

هذه الدبلوماسية الخضراء هي أداة قوة ناعمة بامتياز. فمن خلال تقديم حلول لمشكلة عالمية ملحة مثل تغير المناخ، يقدم كل من الصين والإمارات نفسيهما كقائدين مسؤولين في تحول الطاقة العالمي، ما يعزز صورتهما الدولية. لكن الأهم من ذلك، هو بناء روابط تبعية بنيوية جديدة؛ فالدول المستفيدة من هذه المشاريع لا تحصل على الكهرباء النظيفة فحسب، بل تصبح معتمدة على التمويل الصيني-الإماراتي، والتكنولوجيا الصينية، والخبرة الإدارية الإماراتية لتأمين مستقبلها الطاقوي. هذا النموذج يخلق شبكة من التحالفات والنفوذ تقع خارج الأطر الغربية التقليدية، ويضع أبوظبي وبكين في قلب خريطة الطاقة العالمية الجديدة للقرن الحادي والعشرين[28].

خاتمة: نحو تعددية قطبية إقليمية بقيادة محاور جيو-اقتصادية

في ختام هذا التحليل، يتضح أن الشراكة الاستثمارية بين الإمارات العربية المتحدة والصين في دول الجنوب العالمي ليست مجرد علاقة اقتصادية ثنائية، بل هي محرك رئيسي لإعادة تشكيل موازين القوى في نظام دولي يمر بتحولات بنيوية عميقة.  لقد أثبت التحليل أن هذه الشراكة، المبنية على تكامل استراتيجي عميق، تمثل تجسيدًا حيًّا لمفهوم “الجغرافيا الاقتصادية”، حيث تُستخدم أدوات رأس المال والتكنولوجيا والبنية التحتية لتحقيق أهداف جيوسياسية تتجاوز الربح المادي. فمن خلال التحكم في شرايين التجارة العالمية كما في قناة السويس، ورسم معايير “طريق الحرير الرقمي”، وقيادة التحول في “الجغرافيا الاقتصادية للطاقة الخضراء”، لا تعمل أبوظبي وبكين على تعزيز نفوذهما فحسب، بل تقومان فعليًّا ببناء منظومة اقتصادية دولية موازية تتحدى الهياكل التي قادتها القوى الغربية تاريخيًّا.

وهنا نعود إلى التساؤل المحوري للدراسة: إلى أي مدى تُسهم هذه الاستثمارات في إعادة تشكيل موازين القوى، وهل تقود نحو عالم متعدد الأقطاب بشكل متوازن، أم أنها تعزز بزوغ تكتلات إقليمية متنافسة؟

الإجابة التي تقدمها الشواهد المستعرضة هي أن هذه الديناميكية لا تقود إلى تعددية قطبية كلاسيكية، حيث تتنافس دول عظمى منفردة، بقدر ما تعزز بزوغ واقع هجين وأكثر تعقيدًا هو التعددية القطبية الإقليمية. في هذا النموذج، لا تتوزع القوة بشكل متساوٍ، بل تتكتل ضمن محاور وشبكات إقليمية مترابطة، تمثل الشراكة الإماراتية-الصينية نواتها الصلبة في الشرق، ولا تكون الإمارات في هذا النموذج مجرد تابع للصين، بل هي “شريك فاعل” و”عقدة لوجستية ومالية” لا غنى عنها لنجاح الرؤية الصينية، ما يجعلها قطبًا محوريًّا ضمن هذا التكتل الجديد.

إن هذا المحور الشرقي، القائم على نموذج تنموي بديل لـ”إجماع واشنطن”، لا يسعى بالضرورة إلى المواجهة المباشرة، بل إلى بناء شبكات وبنى تحتية بديلة تقلل من الاعتماد الهيكلي على الغرب. وبذلك، فإن التأثير الأعمق لهذه الشراكة لا يكمن فقط في بناء الموانئ أو شبكات الجيل الخامس، بل في قدرتها على تغيير “قواعد اللعبة” وتأسيس نظام عالمي جديد متعدد المراكز، تكون فيه القوة لمن يسيطر على تدفقات التجارة والتكنولوجيا والطاقة.


[1] Luttwak, Edward N. “From Geopolitics to Geo-Economics: Logic of Conflict, Grammar of Commerce.” The National Interest, no. 20 (1990): 17–23, available at: https://amseif.ir/wp-content/uploads/2025/02/42894676.pdf

[2] Blackwill, R. and Harris, J. (2016), War by Other Means Geoeconomics and Statecraft, The Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge, MA.

[3] Strange, Susan. States and Markets. London: Pinter Publishers, 1988.

[4] Mearsheimer, John J. The Tragedy of Great Power Politics. Updated edition. New York: W. W. Norton & Company, 2014.

[5] Haass, Richard. “The Age of Nonpolarity: What Will Follow U.S. Dominance.” Foreign Affairs, vol. 87, no. 3, 2008, pp. 44–56.

[6] Bremmer, Ian. Every Nation for Itself: Winners and Losers in a G-Zero World. New York: Portfolio/Penguin, 2012.

[7] Acharya, Amitav. “After Liberal Hegemony: The Advent of a Multiplex World Order.” Ethics & International Affairs, Vol. 31, No. 3 (2017): 271–285, available at: file:///C:/Users/a/Downloads/2017-AfterLiberalHegemony-TheAdventofaMultiplexWorldOrder.pdf

[8] Williamson, John. “What Washington Means by Policy Reform.” In Latin American Adjustment: How Much Has Happened?, edited by John Williamson, 7–20. Washington, DC: Peterson Institute for International Economics, 1990.

[9] Ramo, Joshua Cooper. The Beijing Consensus. London: The Foreign Policy Centre, 2004, p. 3, available at: https://fpc.org.uk/wp-content/uploads/2006/09/240-1.pdf

[10] Khanna, Parag. Connectography: Mapping the Future of Global Civilization. New York: Random House, 2016.

[11] Gong, Xue. “The Belt and Road Initiative and China’s Influence in Southeast Asia.” The Pacific Review 32, no. 4 (2019): 635–65.

[12] الإمارات.. قوة اقتصادية مؤثرة في مبادرة الحزام والطريق، سكاي نيوز عربية، 10 سبتمبر 2024، متاح على الرابط التالي: https://surl.li/sliuaw

[13] El-Dessouki, Ayman, and Mansour, Ola Rafik, Small States and Strategic Hedging: The United Arab Emirates’ Policy towards Iran, Review of Economics and Political Sciences, Vol. 8, No. 5, pp. 394-407, available at: https://www.emerald.com/reps/article-pdf/8/5/394/2322644/reps-09-2019-0124.pdf

[14] Almujeem, N. S. (2021). GCC countries’ geoeconomic significance to China’s geopolitical ends. Review of Economics and Political Science, 6(4), 348-363. https://doi.org/10.1108/REPS-11-2019-0152

[15] El-Dessouki, Ayman, and Mansour, Ola Rafik, Op. Cit.

[16] Huwaidin, M. B. (2022). China’s strategic partnership with the UAE: Foundation and prospects. Comparative Strategy41(3), 296-313. https://doi.org/10.1080/01495933.2022.2057734

[17] Ludes, James M. “A Dragon in the Desert: China’s Growing Inroads in the Middle East.” Wilson Center. October 26, 2023. https://www.wilsoncenter.org/article/dragon-desert-chinas-growing-inroads-middle-east.

[18] Calabrese, John. “China-UAE Nexus: A Partnership of Ambition in a Changing World.” Middle East Institute, July 24, 2019, available at: https://www.mei.edu/publications/china-uae-nexus-partnership-ambition-changing-world.

[19] Mohamed, Amr Salah. “China’s growing maritime presence in Egypt’s ports and the Suez Canal.” Middle East Institute. November 3, 2023. https://mei.edu/publications/chinas-growing-maritime-presence-egypts-ports-and-suez-canal.

[20] الحزام والطريق: الصين ولعبة السيطرة على مفاصل العالم “إضاءات”، موقع إضاءات، 14 مايو 2017https://www.ida2at.com/belt-and-road-china-and-the-game-of-controlling-the-world/

[21] Chari, Srinivasan Gopal. 2025. “Power, Pixels, and Politics: The Geopolitics of Emerging Technologies in the Digital Age.” London Journal of Research in Humanities and Social Sciences 25, no. 2: 1-99. https://journalspress.uk/index.php/LJRHSS/article/view/1273

[22] Segal, Adam. The Hacked World Order: How Nations Fight, Trade, Maneuver, and Manipulate in the Digital Age. Revised and Updated ed. New York: PublicAffairs,2016.

[23] Malcomson, Scott. Splinternet: How Geopolitics and Commerce Are Fragmenting the World Wide Web. New York: OR Books, 2016.

[24] Council on Foreign Relations. “Assessing China’s Digital Silk Road Initiative: A Transformative Approach to Technology Financing or a Danger to Freedoms?” CFR, access date Month Day, Year. https://www.cfr.org/blog/assessing-chinas-digital-silk-road-transformative-approach-technology-financing-or-danger

[25] Almujeem, N. S., Op. Cit.

[26] Xu, Lan Role of belt and road initiative in the development of renewable energy: Mediating role of green public procurement, Renewable Energy, Vol. 217, November 2023, available at: https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0960148123008698

[27] وكالة أنباء الإمارات (وام)، استثمارات الإمارات في الطاقة المتجددة: مشاريع رائدة تعزز حلول الاستدامة محليًّا وعالميًّا، 3 مايو 2023، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/9t0Rc

[28] سعد، عماد، “نموذج الإمارات: الريادة في الدبلوماسية الإنسانية البيئية باستخدام الطاقة المتجددة.” شبكة بيئة أبوظبي 29 أبريل 2025. https://abudhabienv.ae/2025/04/29/نموذج-الإمارات-الريادة-في-الدبلوماسية.

المواضيع ذات الصلة