مقدمة:
يمثل البرنامج النووي الإيراني واحداً من أكثر التحديات التي تواجه المنطقة والعالم كله. فالبرنامج الذي يجري التفاوض لإحياء الاتفاق بشأنه والذي توقف عملياً منذ انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منه منتصف عام 2018، يثير في الحقيقة شكوكاً وقلقاً إقليمياً وعالمياً كبيرين. فمع تعثر المفاوضات وعدم التوصل إلى حل نهائي وفقاً للتقارير والتصريحات التي تصدر من مختلف الأطراف، حيث تصر إيران على رفع العقوبات كلها وتطالب بتعهد أمريكي طويل الأمد بعدم الانسحاب منه في المستقبل، بينما تصرّ الولايات المتحدة على عودة متزامنة، ورفع تدريجي للعقوبات، تبدو خيارات الدول المعنية بشكل مباشر بالملف، مفتوحة على الاحتمالات كلها بما فيها استخدام القوة العسكرية. ولطالما كان هذا الخيار مطروحاً من قِبل الولايات المتحدة لاسيما خلال إدارة ترامب بينما لا تستبعد إدارة بايدن هذا الخيار إذا فشلت المفاوضات. ولكن هذا الخيار كان ولا يزال مطروحاً من قِبل إسرائيل؛ ولا يكاد يمر يوماً لا نسمع فيه تصريحاً إسرائيلياً عن الاستعداد للخيار العسكري للتعامل مع الملف النووي الإيراني؛ وبما أن مثل هذا الخيار أمر غير متوقع من دون موافقة أو حتى مشاركة أمريكا، فإن ما نقلته صحيفة “جيروزاليم بوست”، يوم السبت 11 ديسمبر عن مصدر دبلوماسي إسرائيلي بأن “الأمريكيين لم يعبروا عن معارضتهم للاستعدادات الإسرائيلية لهجوم ضد إيران”، وأنه “لم يكن هناك فيتو”[1]، يثير الكثير من التساؤلات حول هذا الخيار، وإذا ما كان التهديد به فعلياً أم لممارسة مزيد من الضغوط على إيران وعلى الأطراف التي تتفاوض معها في فيينا حتى لا تقدم تنازلات خاصة في ظل الحديث عن وجود تقدم.
الإشكالية
الإشكالية التي تتعامل معها هذه الورقة تتمحور حول إمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري من عدمه في ظل المعطيات القائمة الآن. والسؤال المثار هنا ذو شقين: الأول، ما مدى احتمالية هجوم (إسرائيلي أو أمريكي) على المنشآت النووية الإيرانية إذا فشلت المفاوضات أو وصلت إلى طريق مسدود، حيث يتوقع ألا تسمح هذه الدول والغرب عموماً لإيران بامتلاك سلاح نووي، وستتصرف إذا صارت طهران قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ذلك؛ والثاني، ما ردّ إيران على مثل هذا الهجوم، حيث يتوقع أن يلقي عمل من هذا القبيل عواقب أو ردود أفعال منها أيضاً، وهذا العامل سيكون الأكثر حسماً في اتخاذ قرار استخدام القوة العسكرية من عدمه. ومن المنطق أن ينطلق رد فعل إيران من تقييمٍ لحجم التكاليف التي يتوقعها الطرف الآخر، ويمكن أن تمثل رادعاً قوياً لأي هجوم محتمل. ومع ذلك، يمكن للمهاجم أن يتوقع أن لدى إيران ليس حوافز قوية فقط، وإنما الإرادة والقدرة على الرد والانتقام أيضاً. ويمكن لإيران بدورها محاولة توقع إذا ما كان المهاجم يأخذ مثل هذا الموقف بشأن الانتقام على محمل الجد أم لا.
هنا نحن أمام معادلة صعبة، بل ومعقدة تمثل في الواقع معضلة أمنية حقيقية للأطراف كلها؛ وليس من السهل الإجابة عليها بسهولة؛ ولكن يمكن لنظرية المباريات أن تقدم لنا تصوراً أكثر وضوحاً للخيارات المتاحة للأطراف كافة: القيام بعمل عسكري من قِبل الولايات المتحدة أو/وإسرائيل، وخيارات إيران للردع أو الرد في حالة حدوث الهجوم. فالتفاعل القائم في هذه الحالة يمكن تصنيفه على أنه يشكل مباراة، أي حالة من الاعتماد المتبادل الاستراتيجي، حيث يجب على كل طرف أو صانع قرار أن يأخذ في الاعتبار الإجراءات التي يمكن للطرف الآخر أن يتخذها. أي إن أفضل خيارات سواء للمهاجم (الولايات المتحدة وإسرائيل) أو المدافع (إيران) تعتمد في النهاية على توقعات كل منهما لسلوك الآخر.
الإطار النظري
نظرية المباريات أو اللعبة عملية نمذجة رياضية للتفاعل الاستراتيجي بين لاعبين أو أكثر في موقف يحتوي على قواعد ونتائج محددة[2]. والنظرية توفر أدوات لتحليل المواقف التي تتطلب من الأطراف (اللاعبين) اتخاذ قرارات أو تبنّي استراتيجيات في ظروف التنافس بشكل مستقل، وهذه الاستقلالية تدفع كل طرف لأخذ حسابات أو قرارات أو استراتيجيات الطرف الآخر في الاعتبار[3]. بمعنى آخر، تستخدم النظرية في دراسة المسائل والأوضاع الاستراتيجية المتعلقة بالمنافسة والصراع على المكاسب ضمن أسلوب منطقي ورياضي وقواعد تحكم طريقة الألعاب وتحدد الفائز المنتصر (والخاسر) المنهزم. وهنا يحاول اللاعب الذي يدرك أن حظوظه في اللعب ليست جيدة أن يختار استراتيجية تحقق له أقل قدر ممكن من الخسائر.
وبحكم جذورها الاقتصادية تُستخدم نظرية الألعاب بشكل متزايد كأداة في دراسة علم الاقتصاد؛ ومع ذلك فقد توسعت تطبيقاتها ويجري استخدامها في مجالات مختلفة من بينها العلاقات الدولية، فهي أداة مفيدة للمساعدة في التحليل السياسي في التفاعلات الاستراتيجية بين الدول[4]. فعندما يكون موقف فيه فاعلين أو أكثر لدينا ويتضمن مكتسبات (عوائد) أو عواقب (خسائر) قابلة للقياس الكمي، يمكننا استخدام نظرية المباراة للمساعدة في تحديد النتائج الأكثر احتمالية.
الافتراضات الرئيسية للنظرية الرئيسية
تتطلب نظرية المباراة توافر مجموعة من العناصر وهي: وجود لاعبين لكل منهم أهدافه وقدراته ولديه استراتيجية خاصة في مواجهة استراتيجية خصمه (أو خصومه)، وذلك ضمن البيئة التي تجري فيها المباراة، وصولاً إلى النتيجة النهائية. وفي هذا السياق، هناك فرضيات لابد من توفرها وتمثل أسس هذه النظرية[5]، وهي:
أولاً، العقلانية وتعظيم المكاسب [6]، فالنظرية تفترض أن يكون الفاعلون داخل اللعبة عقلانيين، أي إنهم يختارون البديل أو يتخذون القرار بناء على حسابات الربح والخسارة، وفي هذا السياق فهم يسعون جاهدين لتعظيم مكاسبهم في اللعبة، أي جعل احتمال الحصول على المكاسب (سواء كانت تفوق أو ربح،…إلخ) أكثر احتمالاً، بحيث تعلو المكاسب أو الأرباح المتوقعة على الأضرار أو التكاليف المصاحبة.
ثانياً، السلوك الاستراتيجي، فالافتراض السابق يتطلب بدوره أن يتصرف اللاعبون استراتيجياً؛ أي إنهم يتوقعون أو يتكهنون بسلوك أو حركة المنافس أو اللاعب الآخر ويدخلونها دائماً في حساباتهم.
إضافة إلى هذين الافتراضين الرئيسيين هناك عناصر مهمة تقع ضمن شروط النظرية أيضاً، وهي[7]:
ثالثاً، الأهداف، وهي مرتبطة بالخيارات العقلانية بشكل مباشر، حيث يتم اختيار البديل بناء على طبيعة الأهداف التي يحددها اللاعب مسبقاً ويسعى للوصول إليها.
رابعاً، المعلومات، ويقصد بها المعلومات المتوافرة في نقطة معينة من اللعبة؛ والحقيقة أن المظهر الحاسم لخصوصية اللعبة هو توفير المعلومات التي تمكّن اللاعبين من اختيار استراتيجيتهم بدقة، حيث يساعد توافر المعلومات اللاعب على تحديد موقفه من الطرف الآخر (خصمه) ومن ثم المسار الذي ستتخذه المباراة.
خامساً، المنفعة/ المكسب، ويقصد به العائد الذي يحصل عليه اللاعب من الوصول إلى نتيجة معينة. فالعقلانية والأهداف الخاصة بكل لاعب ترتبط بما يحاول أن يحصل عليه من المباراة، حيث تعتبر المنفعة هي الأساس الذي ينطلق منها كل طرف، وهي أصلاً الغاية من العملية برمتها: سواء كانت تنطوي على صراع أو تنافس أو تعاون.
أقسام ونماذج المباريات
تقسم المباريات إلى أقسام عدة وفقاً لطبيعتها، ومدى توافر المعلومات للفاعلين فيها، ودرجة التعاون القائمة بينهم.
بالنسبة إلى طبيعتها، فقد تكون الألعاب ساكنة، حيث يجب على اللاعبين جميعاً اختيار استراتيجياتهم في الوقت نفسه؛ أي إن كلاً منهم يتخذ قراره في اللحظة نفسها دون أن يتمكن من معرفة ماذا فعل منافسه، ثم يتخذ قراره بناء على ذلك؛ وهذه الألعاب التي تتميز بثبات القواعد وعدد الأطراف الفاعلة فيها. وهناك ألعاب ديناميكية؛ حيث يمكن للاعبين أن يتخذوا قراراتهم بالتوالي: الواحد تلو الآخر؛ ويتعلق الأمر هنا بالألعاب التي تتميز بالتغير المستمر في القواعد والفواعل.
وفيما يتعلق بالمعلومات، فهناك ألعاب بمعلومات كاملة؛ أي إن اللاعبين كلهم يعرفون نوايا منافسيهم (أي النتيجة التي يريد الخصم الوصول إليها)، ومنافسيهم يعرفون ذلك. أما الألعاب بمعلومات منقوصة، فهي التي يكون فيها أحد اللاعبين على الأقل ليس له علم كامل بنوايا منافسيه.
وتقسم الألعاب أيضاً إلى ألعاب تعاونية وأخرى غير تعاونية؛ فالأولى هي اللعبة التي يقتنع بها اللاعبون بتبنّي استراتيجية معينة من خلال المفاوضات والاتفاقيات بينهم، حيث تقوم فيها مجموعات من اللاعبين بإظهار سلوك تعاوني فيما بينهم، وبالتالي هي لعبة بين تحالفات من اللاعبين، وليس بين لاعبين فرديين يتصرف كل واحد بمفردة بعيداً عما يمكن أن يقوم به الآخرون، والثانية هي الألعاب غير التعاونية، التي يلعب فيها اللاعبون بشكل فردي.[8] وغالباً ما يتم تحليل المباريات التعاونية من خلال إطار نظرية اللعبة التعاونية، التي تركز على التنبؤ بالتحالفات التي ستتشكل، والإجراءات المشتركة التي تتخذها المجموعات، والمكاسب الجماعية الناتجة[9].
التفاعل الاستراتيجي وتطبيقات النظرية في العلاقات الدولية
تُستخدم نظرية المباريات في العلاقات الدولية لبيان إمكانية التعاون وكذلك احتمالية الصراع بين الأطراف المعنية. فالصراعات في السياسة الدولية يمكن النظر إليها على أنها لعبة تفاوض أو بمعنى أكثر دقة مساومة تتضمن المصالح المشتركة والمصالح المتضاربة[10]. وهنا تدرس النظرية سلوك صانعي القرار في حالات الاعتماد المتبادل الاستراتيجي، ولهذا يطلق عليها اسم نظرية القرار التفاعلي أيضاً. بل إن النزاعات الدولية حتى الظواهر الأخرى كلها في العلاقات الدولية تحدث كنتيجة للقرارات التي يتخذها صناع القرار. وهنا تتفاعل الدول من خلال محاولة التنبؤ بردود فعل الدول الأخرى على قراراتها، ومن ثم فهي تتخذ القرارات أو الاستراتيجيات في ضوء ما تتوقعه من الطرف الآخر وهذا هو جوهر نظرية المباريات.
في المباريات على المستوى الاستراتيجي، يكون لدينا اللاعبون (الفواعل) واستراتيجياتهم (القرارات) وتفضيلاتهم (النتائج المرجوة). ويتم تناول غالبية نماذج المباريات في العلاقات الدولية عند هذا المستوى. وهذا المستوى من التحليل يفترض أنه إذا أراد كلا الطرفين تحقيق أفضل النتائج الممكنة فإنهم مجبرون على التعاون. ومع ذلك يعتقد الكثير من العاملين في حقل العلاقات الدولية أن نظرية اللعبة لا تفيد إلا في أطر تفاعل دولي تسيطر عليه مفاهيم واقعية مثل القوة ودوافع التوسع والأنانية وتعظيم المصلحة الذاتية.[11]
وهذا ليس دقيقاً بالضرورة، حيث يتم تقييم تفضيلات اللاعبين، التي هي القوة الدافعة لنماذج الألعاب، من خلال أفكار اللاعبين ورغباتهم والتي تدفعهم إلى التعاون، وليس بالضرورة دائماً قوتهم وقدراتهم. من هنا، لا تتطلب نماذج نظرية الألعاب أن يتم تصوير جميع الحالات على أن الانانية هي ما يحركها. على العكس، فقد تتصرف الدول بإيثار (سواء كانت مضطرة إلى ذلك أم لا)، حيث يتطلب تحقيق مصالح الدولة مراعاة مصالح الدولة أو الدول الأخرى. وهذا ما يوصلنا إلى حالة مهمة جداً، بل ومحورية في المباريات وتتمثل في توازن ناش[12]. وتقوم فكرة هذا التوازن أن على المرء (صانع القرار) أن يسأل عما سيفعله اللاعب مع الأخذ في الاعتبار ما يتوقع أن يفعله الآخرون. وهو الطريقة الأكثر شيوعاً لتحديد حل لعبة غير تعاونية تضم لاعبين أو أكثر. في توازن ناش، يُفترض أن يعرف كل لاعب استراتيجيات التوازن للاعبين الآخرين، بحيث لن يستطع أي من اللاعبين أن يستفيد شيئاً بتغيير استراتيجيته التي يلعب بها بشكل منفرد بينما يحافظ بقية اللاعبين على استراتيجياتهم نفسها[13].
أمثلة على توازن ناش
في حالة المباريات غير التعاونية
مثال معضلة السجين يعد حالة شائعة ومفيدة لفهم توازن ناش في المباريات غير التعاونية. في هذا النموذج، تم القبض على شخصين بجريمة قتل ووضع كل منهما في الحبس الانفرادي دون أي وسيلة للتواصل مع الآخر. لا يملك المدعون الدليل لإدانة الاثنين، لذا فهم يعرضون لكل سجين فرصة إما أن يخون الآخر من خلال الشهادة بأن الآخر ارتكب الجريمة وإما بالتعاون من خلال التزام الصمت.
نموذج معضلة السجين
إذا خان كلا السجينين بعضهما بعضاً، يقضي كل منهما عشر سنوات في السجن. إذا خان “أ” “ب” ولكن “ب” بقي صامتاً، يُطلق سراح السجين “أ” ويقضي السجين “ب” المؤبد في السجن أو العكس. إذا ظل كل منهم صامتاً، فكل منهما يقضي عاماً واحداً في السجن فقط لعدم وجود أدلة كافية.
توازن ناش في هذا المثال هو أن يخون اللاعبان بعضهما بعضاً. على الرغم من أن التعاون المتبادل يؤدي إلى نتيجة أفضل. وإذا اختار أحد السجناء التعاون المتبادل والآخر لم يختره، فإن نتيجة أحد السجينين ستكون أسوأ.
في حالة المباريات التعاونية
لنتصور لعبة بين شخصين هما: أحمد وعيسى، وكل منهما عليه أن يختار من بين استراتيجيتين. يمكن لكليهما اختيار الاستراتيجية “أ” لتلقي دولار واحد أو الاستراتيجية “ب” لخسارة دولار واحد. عقلانياً أو منطقياً، سيختار كلا اللاعبين الاستراتيجية “أ” ويحصلان على مكافأة قدرها 1 دولار، كما هو موضح في الجدول. هنا النتيجة المثلى لكلا اللاعبين هي الاستراتيجية “أ” وهذه تمثل توازن ناش.
تطبيق النموذج التعاوني على حالة الملف النووي الإيراني
يمثل خلاف إيران مع الغرب عموماً والولايات المتحدة ومعها إسرائيل على وجه التحديد حول برنامجها النووي حالة مثالية، ولكن واقعية لاختبار نظرية المباريات؛ فهي تنطوي على تفاعل استراتيجي واضح وهناك حسابات دقيقة يتطلبها الموقف من الأطراف كلها المنخرطة. ومجال الاختبار هنا هو الخيار العسكري من قِبل الولايات المتحدة أو/وإسرائيل في حالة فشل المفاوضات. وباستخدام هذه النظرية، نحن نتعامل في الواقع مع الموقف على أنه لعبة، مثل أي لعبة تفاعلية أخرى كالشطرنج مثلاً، حيث يتناوب الرسيلان[14] (المتنافسان) على التحرك ويبدأ الأبيض الخطوة الأولى، وهي هنا الولايات المتحدة وإسرائيل التي عليها أن تقرر إذا ما كانت ستلجأ لهذا الخيار أم لا؛ بينما تعود الخطوة الثانية بالضرورة إلى إيران لاختيار كيفية الرد.
ونحن نفترض هنا أن الولايات المتحدة وإسرائيل تمثلان طرفاً واحداً وهو الطرف الأول، بحكم أنه من سيقوم بالخيار العسكري، بينما تمثل إيران الطرف الثاني.
وهنا نفترض أن الطرف الأول يعرف أن إيران تسعى أو على الأقل ترغب في امتلاك سلاح نووي، ولكن لأسباب سياسية تخشى القيام بأي عمل أو تحرك عسكري ما لم تكن إيران قريبة للغاية من إنتاج سلاح فعلي. ولا شك بالطبع أن درجة القرب هنا مختلفة من دولة إلى أخرى، بل وهناك تفاوت في التقارير ذات المصداقية؛ ولكنها تتحدث عادة عن بضعة شهور أو سنة. وبعيداً عن التفاصيل في هذه المسألة فإن إيران بالمقابل وفي ظل تأكيد إدارة بايدن على خيار التفاوض كخيار أساسي، تدرك أن واشنطن ومن ورائها الغرب لا يرغبون في مثل هذا الخيار وهم في الحقيقة في موقع المحجمين ولكن إلى حد معين وهو ضمان أن إيران لا تزال بعيدة عن تطوير السلاح النووي. وهنا يبرز سؤال مهم فيما يتعلق بموقف طهران على مثل هذا الإدراك، يتمحور حول كيفية إدارتها لبرنامجها النووي: أي ما أفضل استراتيجية يمكن أن تتبعها إيران على افتراض أنها تريد تطوير أسلحة نووية بالفعل؟
ووفقاً للكثير من الخبراء فإن أسرع طريقة لتحقيق هذا الهدف هو القيام بأمرين متوازيين: تخصيب اليورانيوم بمستويات مرتفعة، ولكن بطريقة بطيئة، وتطوير أنظمة التوصيل العسكرية الخاصة بحمل هذه الأسلحة واستخدامها. وفي ظل متابعة الطرف الأول، الولايات المتحدة وإسرائيل، والتهديد المستمر باستخدام القوة، فإن الثاني إيران تعلم أن الطريق الأسرع ليس الأفضل لأنها تدرك أنه إذا أظهرت نواياها في امتلاك أسلحة نووية، فسوف تتم مهاجمتها.
بالمقابل هناك معطيات أخرى قد تغري إيران للمضي قُدُماً في برنامجها، ومن بينها أنه لا يوجد دعم سياسي كبير للحرب في الولايات المتحدة، ولا في الغرب عموماً. وبالتالي، فإن يُفترض أن تقوم استراتيجيتها على عدم تجاوز الحد أو العتبة[15] التي ستدفع الولايات المتحدة ومعها إسرائيل إلى استخدام القوة العسكرية. طبعا هناك حسابات مختلفة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكنهما متفقتان تماماً على عدم السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي والفرق بينهما، أن الأولى لا تستبعد الخيار العسكري بينما ترى الثانية أنه الخيار الوحيد الذي سيمنع طهران من امتلاك سلاح نووي. ولكننا نفترض هنا وفقاً لمواقفها المعلنة التي يتم التأكيد عليها باستمرار أن كليهما سيكون مع استخدام القوة العسكرية إذا تجاوزت طهران العتبة المحددة.
لذلك فإن الخيار الأفضل لإيران الإقرار بأنها تخصب اليورانيوم للأغراض السلمية فقط، والامتناع عن تحويل اليورانيوم المخصب إلى أسلحة نووية حتى آخر لحظة ممكنة. وبما أنه من غير المتوقع أن تلجأ الولايات المتحدة إلى الخيار العسكري إذا لم يتم تخطي العتبة، فإن طهران ستتابع برنامجها النووي، وبمجرد أن تكون جاهزة وتمتلك اليورانيوم الكافي سواء من حيث المستوى أو الكمية والتقنيات المتعلقة الأخرى، وما لم يتم التوصل إلى اتفاق، فعندها قد تندفع إيران بقوة وبسرعة لاستكمال الخطوات النهائية للحصول على السلاح النووي قبل أن تتمكن الولايات المتحدة وإسرائيل من الرد؛ وهنا تصبح إيران قوة نووية بحكم الأمر الواقع.
إذاً نحن هنا أمام معادلة صعبة:
إيران ستستمر في برنامجها النووي، بينما لن تستخدم الولايات المتحدة وإسرائيل القوة العسكرية إذا لم تجاوز طهران العتبة. ولكن المعضلة هي في المعلومات التي تمثل عنصراً مهماً في تحليل نجاعة تطبيق نظرية المباريات. ففي حين أنه من الصعب جداً معرفة، بالضبط، ما تفكر فيه القيادة الإيرانية، فإن التحليل باستخدام نماذج نظرية اللعبة يساعد على فهم خيارات كلا الطرفين ولكن في ظل أفضليات كل طرف وحساباته الدقيقة لرد فعل الطرف الآخر. وسنختار هنا أبسط نموذج ممكن على المستوى الاستراتيجي وهو لعبة 2 × 2.
هذا يعني أن علينا أن نفترض أن إيران لديها خياران: مواصلة برنامجها النووي والتخصيب بمستويات مرتفعة، أو وقف البرنامج؛ ولدى الولايات المتحدة وإسرائيل خياران أيضاً: استخدام القوة العسكرية أو الإحجام عن القيام بذلك. وبالتالي، لدينا هنا طرفان أي فاعلان رئيسيان متفاعلان كل منهما لديه استراتيجيتان، كل استراتيجية تعتمد أو يتم تبنّيها بناء على ما يتخذه الطرف الآخر، الذي يفترض أن يتصرف بشكل عقلاني ويتخذ القرار وفقاً للتفضيلات المتوقعة منه والتي يتم تحديدها كما في الجدول رقم (1).
من المهم التأكيد على أن الجدول يتضمن القرارات أو الاستراتيجيات المتخذة بعيداً عن الظروف التي ستقود إليها. على سبيل المثال عندما نفترض خيار إيران “وقف برنامجها النووي” فهذا بالطبع لن يكون مجانياً ودون اتفاق. ولكن نحن نتعامل هنا مع النتيجة النهائية لأن الهدف تحديد أي استراتيجية في النهاية سيتخذ كل طرف على افتراض أنه سيتصرف بعقلانية لتعظيم مكاسبة أخذاً بالاعتبار حسابات الطرف الآخر. وعليه سيكون لدينا الجدول التالي [16]:
جدول (1-1): جدول يظهر الفواعل والاستراتيجيات الممكنة فيما يتعلق بالخيار العسكري.
هذا الجدول يظهر لنا خيارات أو استراتيجيات كل طرف، والنتيجة التي سيحصل عليها في حالة كل خيار. وهنا نحتاج إلى تحديد التفصيلات التي بموجبها سيتخذ كل طرف خياره أو قراره. وهذا بالطبع مرتبط بالهدف الذي يسعى كل طرف للوصول إليه. وهنا نفترض أن هدف إيران هو الحصول على قوة نووية وهدف الولايات المتحدة وإسرائيل، منعها من تحقيق ذلك؛ وهذا سيكون من خلال القوة العسكرية إذا فشلت المفاوضات أو لم تحقق شيئاً في وقت قريب. ولكن القوة العسكرية ليس بالضرورة أن تحقق هذا الهدف، فربما لا تتمكن من تدمير جميع المنشآت النووية. في هذه الحالة فإن إيران ستفضل النتيجتين الـ 3 والـ 4، بالطبع مقارنة بالنتيجتين الـ 1 والـ 2، لأن توقفها سيحرمها من تحقيق هدفها المفضل وهو هنا امتلاك سلاح نووي. ولنفترض أن إيران تفضل النتيجة الـ 4 على النتيجة الـ 3 والنتيجة الـ 2 على النتيجة الـ 1، لأنها بالتأكيد لا تفضل هجوماً عسكرياً، فهذا يعني ترتيب الأفضليات لإيران سيكون كما يلي:
جدول (1-2): جدول النتائج المفضلة لإيران بالترتيب.
وبالنسبة إلى الطرف الأول، الولايات المتحدة وإسرائيل، فهي من الناحية العقلانية وفي الغالب بالطبع ستفضل النتيجة الأولى والثانية مقارنة بالنتيجة الثالثة والرابعة لأن قرار إيران بالتوقف يؤدي إلى تحقيق هدف إسرائيل الرئيسي، وهو ألا تمتلك إيران سلاحاً نووياً. وبالتالي بالنسبة إلى الطرف الأول، فإن النتيجة 1، 2 مفضلة على النتائج 3، 4. ولنفترض – وهذا هو المنطقي – أن يفضل النتيجة الثانية على النتيجة الأولى، والنتيجة الرابعة على النتيجة الثالثة، لأنه يخشى من فشل الخيار العسكري أيضاً، فإن هذا يعني أن ترتيب الأفضليات لهذا الطرف سيكون كما يلي:
هذا فيما يتعلق بالمستوى الرقمي أو الكمي، ولكن فيما يتعلق بالمستوى الترتيبي، فإن النتيجة الـ 4 هي الأفضل، ويليها بالأفضلية النتيجة الـ 3، بينما تعد النتيجة الـ 2 هي الأسوأ ويليها في السوء النتيجة الـ 1. وعليه يصبح لدينا الجدول التالي:
جدول (1-4): جدول يظهر النتائج المتوقعة للاستراتيجيات التي تختارها الأطراف.
وفقاً للجدول إسرائيل تحصل على نتائج أفضل باختيارها استراتيجية “عدم استخدام القوة العسكرية” بغض النظر عن خيارات إيران؛ بينما ستحصل على النتيجة الـ 4 بدلاً من النتيجة الـ 3 في حالة كان قرار إيران “وقف برنامجها النووي “، والـ 2 بدلاً من الـ 1 مقابل قرار إيران “مواصلة البرنامج النووي” باختيار “عدم استخدام القوة العسكرية”. وبالمثل، تحصل إيران على نتائج أفضل من خلال اختيار الاستراتيجية الثانية “مواصلة البرنامج النووي” بغض النظر عن الخيارات الإسرائيلية، بينما تحصل على الـ 3 بدلاً من الـ 1 مقابل القرار الإسرائيلي “استخدام القوة العسكرية” و الـ 4 بدلاً من الـ 2 ضد القرار الإسرائيلي “عدم استخدام القوة العسكرية “. وبالتالي، التوازن الذي يتم الوصول إليه في هذا التفاعل هو “مواصلة البرنامج النووي (الاستمرار)، وعدم استخدام القوة العسكرية (عدم القيام بهجوم)؛ وهذا يبدو أمراً غير ممكن؛ لأن الطرف الأول لن يقبل الاستمرار دون رقابة لأن هذا ينطوي على خطر كبير وهو إمكانية امتلاك إيران سلاح نووي، ومن ثم ينتهي الأمر، وننتقل إلى مرحلة جديدة تتطلب خيارات واستراتيجيات أخرى ومن ثم نموذج آخر من المباريات.
في هذه اللعبة، سيكون الحل الأكثر فعالية هو تعاون كلا اللاعبين؛ رغم أن الحل العقلاني يبدو كأنه تضليل الخصم للاستفادة من جميع المكاسب؛ ولكن مثل هذا الخيار لا يحل المشكلة. من الناحية المثالية، يجب على كلا الطرفين الابتعاد عن المنافسة، نظراً لأن محصلتها وفقاً لفرضيات المباريات ستكون صفر، حيث يفوز أحد اللاعبين فقط عندما يخسر الآخر. وبالتالي، فإن تفسير الوضع الراهن بين الطرف الثاني المتمثل في إيران، والطرف الأول، المتمثل في الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما يتعلق بالملف النووي هو على الشكل التالي:
لدينا فاعلان لكل منهما استراتيجيتان، ويتفاعلان في الوقت نفسه مرة واحدة فقط، ويتم ترتيب تفضيلاتهما وفقاً للأهداف الأولية والثانوية، ويسعى كل لاعب للحصول على أعلى نتيجة ممكنة في ضوء خيارات الآخرين. ولكن لأن الخيارات التي أفرزها التحليل السابق ترتبط بمعطيات أخرى، كما أن هناك فواعل أخرى مؤثرة غير الطرفين المعنيين، فإن العقلانية تقتضي ألا تلجأ الولايات المتحدة وإسرائيل إلى الخيار العسكري طالما: أولاً، بقيت المفاوضات مستمرة ولم يعلن عن فشلها تماماً؛ وهي مازالت مستمرة ويبدو أن هناك إرادة لدى كل الأطراف للاستمرار فيها وفقاً للتصريحات الصادرة من الأطراف جميعها؛ وثانياً، ما لم تتوافر معلومات شبه مؤكدة أن إيران تجاوزت العتبة، وهذا أمر يبدو مستبعداً في ظل الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين إيران ووكالة الطاقة الذرية، مؤخراً، والقاضي بتركيب كاميرات متطورة، ما يضمن متابعة حثيثة لتطور البرنامج النووي الإيراني، كما أنه ينطوي على مخاطر حقيقية لإيران حيث سيكون الخيار العسكري شبه مؤكد بمجرد تجاوز العتبة، وما بين العتبة وامتلاك سلاح نووي هناك – وفقاً للخبراء – بضعة أشهر. ومع ذلك قد يتم تحييد هذا الخيار إذا ما باغتت إيران المجتمع الدولي وأعلنت أنها امتلكت السلاح النووي. وفق افتراضات اللعبة فإن التزام الدول بخيار الأفضليات كما تم شرحه سابقاً يعني أن هذا النتيجة ممكنة، وممكنة جداً كلما طال أمد المفاوضات؛ لأن هذا سيتيح لإيران تطوير برنامجها ببطء. وهذه النتيجة ستكون لها تداعيات قد لا تستطيع نظرية اللعبة ولا غيرها من نظريات العلاقات الدولية التنبؤ بها.
الخلاصة
هذا الواقع لا يسمح لأي من الفاعلين بتعظيم مكاسبه، على حساب الطرف الآخر وإلا ستكون النتيجة كارثية على الجميع، لذا لا بد من التفكير في سيناريو مربح للأطراف كلها، وهذا يعني تنازلات محسوبة، وهي لا تبدو ممكنة من قِبل إيران ما لم يكن هناك حوافز قوية وأهمها رفع العقوبات التي فرضت بعد عام 2018 أو ربما معظمها مع تعويضات، مقابل أن توقف إيران برنامجها النووي؛ فهذه هي النتيجة التي يمكن الوصول إليها في توازن ناش، ومن ثم تحقيق المكاسب المطلقة من التعاون وفقاً للمنظور الليبرالي الجديد، حيث تبدو المكاسب النسبية التي يركز عليها الواقعيون الجدد أمراً غير ممكن فضلاً عن كونه محفوفاً بالمخاطر إذا أصرت الأطراف كافة أو أحدها عليه.
المراجع
[1]. غانتس يطالب الجيش “بالاستعداد لخيار عسكري” ضد إيران، عربي بوست، 12 ديسمبر 2021: https://bit.ly/3rUReIg
[2] .Tom R. Burns and Ewe Roszkowska, Generalizaed game Theory: Assumptions, Principles, and Elaborations Grounded in Social Theory, Studies in Logic, Grammar and Rhetoric 6 (21) 2005, p. 7.
[3]. Morton D. Davis, Game Theory Mathematics, Encyclopedia Britannica, 24 January 2021:
[4]. Duncan Snidal, The Game Theory of International Politics, Cambridge University Press: 13 June 2011
https://bit.ly/3pWk74g World Politics , Volume 38 , Issue 1 , October 1985 , pp. 25 – 57
[5]. انظر على سبيل المثال: نظرية الألعاب في العلاقات الدولية، الموسوعة السياسية: https://bit.ly/3IHPMPr
[6]. Daniel Mcnulty, The Basics of Game Theory, Investopedia, 12 October 2021: https://bit.ly/3ymvUfU
[7]. Daniel Mcnulty, Ibid.
[8]. 5 Types of Games in Game Theory (With Diagram), Economics Discussion, 13 April 2018: https://bit.ly/3yKysF2
[9]. Press Book, Game Theory: https://bit.ly/3FdrLOb
[10]. توماس شيلينج، استراتيجية الصراع، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010، ص 12.
[11]. Robert Powell, Neorealism and Game Theory. In: Hanami A.K. (eds) Perspectives on Structural Realism. Palgrave Macmillan, New York, 2003, p. 9: https://doi.org/10.1057/9781403981707_2
[12]. نسبة إلى عالم الرياضيات الأمريكي جون فوربس ناش الحاصل على جائزة نوبل لإنجازاته في هذا المجال.
.[13] Tom R. Burns and Ewe Roszkowska, Ibid. p. 30
[14]. المنافس في الشطرنج يسمى “رسيل” وليس “خصم” لأن اللعبة تقوم على الذكاء وتبادل الأفكار والخطط.
[15]. يُستخدم مصطلح “تجاوز العتبة النووية” كثيراً في المحادثات والمناقشات الجارية بشأن برنامج إيران النووي، وهو يشير من الناحية القانونية إلى الوقت الذي تتجاوز فيه دولة ما تطمح أو تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، الالتزامات التي تعهدت بها بموجب “معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية”، بينما يشير تجاوز العتبة من الناحية التقنية، إلى الوقت الذي تحقق فيه دولة ما القدرة على إنتاج أسلحة نووية ويصبح هذا أمراً واقعاً يصعب إيقافه سواء بالدبلوماسية أو القوة العسكرية. لمزيد من التفاصيل انظر:
سايمون هندرسون، تجاوز إيران للعتبة النووية: ما هي وكيفية احتسابها، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 24 مارس 2021: https://bit.ly/3GUMLcM
[16]. تم الاسترشاد في إعداد الجداول بورقة سيردر غونر؛ حيث تعد الخيارات الواردة معايير أساسية لأي دراسة لأنها مأخوذة أصلاً من النموذج النظري للمباريات؛ ولكن تم إجراء تعديلات تتناسب والفرضيات التي ننطلق منها وهي إمكانية التعاون وليس انعدام التعاون كما يفترض سيردر، وهذا يؤثر في النتيجة التي تحقق توازن ناش:
Serdar Guner, A Short Note on the Use of Game Theory in Analyses of International Relations, E-International Relations, 21 June 2012: https://bit.ly/3oOZHuJ