إن استهداف السائحين في الجزء الهندي من إقليم كشمير لا يمكن اختزاله في كونه حادثًا معزولًا أو ذا طبيعة أمنية صِرف، بل يعكس تراكبًا دلاليًّا بين العوامل الجيوسياسية المتصلة بالصراع الهندي–الباكستاني من جهة، والتحولات الداخلية المرتبطة بصعود النزعة القومية في الخطاب الهندي الرسمي والشعبي من جهة أخرى. وفي هذا السياق، لا يعود “المجال السياحي” مجرد فضاء اقتصادي أو ثقافي، بل يتحول إلى مسرح متقدم للتعبير عن التوترات السيادية والهوياتية في منطقة تمثّل بؤرة مزمنة للنزاع.
وعليه، تطرح هذه الورقة تساؤلًا مركزيًّا مفاده: إلى أي مدى يعكس استهداف السائحين في كشمير بُعدًا مرتبطًا بالصراع الجيوسياسي الهندي-الباكستاني، مقابل كونه مظهرًا من مظاهر تصاعد القومية الهندوسية وتحوّلات الدولة الهندية في تعاملها مع الهويات والمجالات المتنازع عليها؟
من خلال هذا السؤال، تسعى الورقة إلى تحليل السياحة بصفتها أداة دالة في الجغرافيا الأمنية، واستكشاف الكيفية التي تُستثمَر بها حوادث استهداف المدنيين في إعادة إنتاج سرديات القوة والسيادة، سواء من قبل الدولة أو الفاعلين من غير الدول.
أولاً: السياحة في مناطق النزاع – الإطار النظري والمفاهيمي
- تعريف السياحة في السياقات غير المستقرة
في السياقات التي تتسم بعدم الاستقرار السياسي أو العنف الممتد، تتخذ السياحة طابعًا مختلفًا عمّا هو مألوف في المناطق الآمنة. فالسياحة هنا لا تكون فقط مرهونة بجاذبية المقاصد أو توافر البنية التحتية؛ بل يُعاد صوغها من خلال متغيرات مرتبطة بالخطاب السياسي، والصورة الإعلامية، ومواقف الدول والجهات الفاعلة من النزاع. وتشير دراسات إلى أن السياحة في مناطق النزاع تتأثر بالتصورات الجماعية للمخاطر السياسية والاجتماعية، وليس بالتهديدات المباشرة على الأرض فقط. وقد أظهرت دراسة تحليلية صادرة عام 2020 أن انعدام الاستقرار السياسي يشكل عاملًا مؤثرًا سلبيًّا في القرار السياحي، وأن معالجة آثار النزاع على القطاع السياحي تتطلب أدوات طويلة المدى تتجاوز البُعد الأمني المباشر.[1]
- من السياحة الثقافية إلى “السياحة المُؤمّنة”: تحولات المفهوم في أدبيات العلاقات الدولية
لم تعد السياحة تُعرّف ضمن إطارها الثقافي أو الترفيهي فقط، بل ظهرت تحوّلات في النظر إليها باعتبارها قطاعًا يخضع لمعادلات الأمن والسيادة. في هذا السياق، ظهر مفهوم “السياحة المؤمّنة (secured tourism) بوصفه تصورًا جديدًا يدمج بين إدارة الخطر وتوجيه حركة الزوار لأغراض أمنية أو سياسية ضمن مناطق نزاع أو ما بعد النزاع. إذ تتحول السياحة هنا إلى أداة ضمن استراتيجية أشمل لإعادة تأهيل صورة الدولة أو تعزيز مشروعها الوطني، بما في ذلك كسب الاعتراف الرمزي أو إعادة بناء الهيمنة. كما تُظهر بعض الدراسات كيف تُستخدم السياحة لتأكيد السيطرة الجغرافية والرمزية في سياقات ما بعد الحرب، كما في البلقان في فترات سابقة على سبيل المثال.[2]
- السياحة بصفتها أداة لإنتاج الشرعية أو لإعادة ترسيم السيطرة على الفضاء
يتجاوز دور السياحة في مناطق النزاع الطابع الاقتصادي، ليصبح جزءًا من سرديات إنتاج الشرعية وإعادة ترسيم الهوية والسيادة. فالدول والجهات الفاعلة غير الحكومية على السواء قد تستثمر في المجال السياحي بوصفها وسيلة لإعادة بناء صورتها السياسية أو تأكيد سيطرتها الرمزية على منطقة ما. وفي هذا السياق، تكتسب الأماكن السياحية وظيفة مزدوجة: فهي تُستثمر كأداة للتهدئة الرمزية أمام المجتمع الدولي، وفي الوقت ذاته تُوظّف داخليًّا في صناعة الشعور بالسيادة والانتماء الوطني. في حالات النزاع الممتد، كما في فلسطين وكشمير والبوسنة، تُستخدم الممارسات السياحية لإعادة إنتاج روايات تاريخية معينة أو تطبيع أشكال الهيمنة على الأرض[3].
ثانيًا: كشمير بين الهند وباكستان – السياق الجيوسياسي للنزاع
- جذور النزاع التاريخية
يُعزى أصل النزاع في كشمير إلى عام 1947، حين قُسّمت الهند البريطانية إلى دولتين: الهند ذات الأغلبية الهندوسية، وباكستان ذات الأغلبية المسلمة. واختار حاكم كشمير، المهراجا هاري سينغ، ضم الولاية – التي كانت ذات أغلبية مسلمة – إلى الهند، ما أدى إلى اندلاع الحرب الأولى بين البلدين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت كشمير نقطة اشتعال رئيسية في العلاقات الهندية الباكستانية، وظلت المنطقة خاضعة لتقسيم فعلي مع استمرار المطالبات من الجانبين.[4]
https://ichef.bbci.co.uk/ace/ws/640/cpsprodpb/84E3/production/_105691043_b_rzncpq.png.webpالمصدر/
- تحوّلات المواجهة بعد 2019 (إلغاء المادة 370)
في الخامس من أغسطس 2019، أعلنت الحكومة الهندية إلغاء المادة 370 من الدستور، وهي المادة التي منحت جامو وكشمير قدرًا من الحكم الذاتي منذ انضمامها إلى الاتحاد الهندي. ونتج عن ذلك إعادة هيكلة الوضع الإداري للولاية وتحويلها إلى منطقتين اتحاديتين. ترى الحكومة أن هذه الخطوة ضرورية لتعزيز التكامل الوطني، بينما يعدّها مراقبون إجراءً مركزيًّا يهدف إلى تقويض الهوية المحلية وفرض مشروع الدولة الهندوسية الحديثة.[5]
- السياحة بوصفها مؤشرًا إلى إعادة السيطرة السياسية
بعد إلغاء المادة 370، استخدمت الحكومة الهندية السياحة بوصفها أداة رمزية لإعادة تأكيد سيطرتها على الإقليم، من خلال الترويج لصورة كشمير مقصدًا آمنًا ومستقرًا. ونُظّمت مهرجانات ومؤتمرات دولية في سريناغار، مع زيادة الاستثمارات في البنية التحتية السياحية. إذ تُستخدم السياحة أداة ضمن مشروع سياسي يسعى إلى إعادة تشكيل الفضاء الكشميري ضمن خطاب الدولة القومية الجديدة.[6]
ثالثًا: السياحة تحت النيران – قراءة في استهداف السائحين
- الحادثة الأخيرة: خلفياتها الأمنية والرمزية
في 22 أبريل 2025، شهدت منطقة بيساران فالي بالقرب من باهالجام في كشمير الهندية هجومًا مسلحًا أسفر عن مقتل 28 سائحًا، والحصيلة النهائية لم تُعلن بعد حتى كتابة هذه الورقة، معظمهم من المواطنين الهنود، وإصابة آخرين، وقد وقع الهجوم خلال زيارة رسمية لنائب الرئيس الأمريكي، ما أضفى عليه طابعًا رمزيًا خاصًّا. أعلنت جماعة تُدعى “جبهة مقاومة كشمير” مسؤوليتها عن الهجوم، مشيرة إلى معارضتها للتغييرات الديموغرافية التي تنفذها الحكومة الهندية في المنطقة، يُعد هذا الهجوم من أكثر الهجمات دموية في المنطقة منذ عقود، ويعكس تصاعد التوترات في كشمير بعد إلغاء المادة 370 من الدستور الهندي في عام 2019.[7]
- رمزية استهداف الأجانب في الصراع المحلي
استهداف السائحين في مناطق النزاع يحمل دلالات رمزية تتجاوز البُعد الأمني. في حالة كشمير، يُنظر إلى السائحين بصفتهم رموزًا للسيطرة الهندية ومحاولات تطبيع الوضع في المنطقة. إذ يُرسل الهجوم الأخير رسالة مفادها أن المنطقة لا تزال غير مستقرة، وأن محاولات الحكومة الهندية لإظهار الاستقرار من خلال تعزيز السياحة قد لا تمثل أو تلقى قبول بعض الفئات في المجتمع الكشميري، كما أن توقيت الهجوم خلال زيارة مسؤول أمريكي رفيع المستوى يُشير إلى محاولة الجماعات المسلحة التأثير على الرأي العام الدولي وتسليط الضوء على القضية الكشميرية.[8]
- الفاعلون غير الدوليون في النزاع الكشميري
تلعب الجماعات المسلحة غير الحكومية دورًا محوريًا في النزاع الكشميري. من بين هذه الجماعات، تبرز “جبهة مقاومة كشمير” التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم الأخير. تُستخدم مثل هذه الهجمات كوسيلة لإبراز المعارضة للسياسات الحكومية، ولتعزيز خطاب المقاومة بين السكان المحليين. كما تُسهم هذه الجماعات في تعقيد الوضع الأمني والسياسي في المنطقة، ما يجعل من الصعب تحقيق الاستقرار الدائم[9].
رابعًا: القومية الهندوسية وتحولات المجال العام في كشمير
- صعود حزب بهاراتيا جاناتا وخطاب “هندَنة” كشمير
منذ تولي حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) السلطة في الهند عام 2014، تبنّى الحزب أيديولوجية “الهندوتفا” (Hindutva)، التي تسعى إلى تعريف الثقافة الهندية من منظور القيم الهندوسية، ومعارضةً للسياسات العلمانية السابقة في سياق كشمير[10]، تجلى هذا التوجه في إلغاء المادة 370 من الدستور الهندي عام 2019، مما ألغى الوضع الخاص للمنطقة وفتح الباب أمام تغييرات ديموغرافية وثقافية. تُعدّ هذه الخطوة جزءًا من مشروع أوسع لإعادة تشكيل الهوية الوطنية الهندية على أسس قد لا تمثل المجتمع الكشميري ككل كالهندوسية، ما أثار مخاوف بشأن تآكل الهوية الثقافية والدينية للمجتمع الكشميري المسلم.[11]
خامسًا: إعادة تشكيل الجغرافيا الأمنية لكشمير
- من الحدود الصلبة إلى الفضاءات الرمزية
شهدت كشمير تحوّلًا في مفهوم الجغرافيا الأمنية، حيث لم تعد الحدود الصلبة هي العامل الوحيد في تحديد الأمن، بل أصبحت الفضاءات الرمزية مثل المواقع السياحية والدينية تلعب دورًا محوريًّا. يعكس هذا التحوّل تداخل العوامل الثقافية والسياسية في تشكيل الأمن؛ إذ تُستخدم الرموز الثقافية والدينية أدواتٍ لتعزيز السيطرة والنفوذ.[12]
- السياحة بوصفها أداة للهيمنة الناعمة أو كعبء أمني
تُستخدم السياحة في كشمير كأداة للهيمنة الناعمة، حيث تسعى الحكومة الهندية إلى تعزيز صورتها الدولية من خلال الترويج للمنطقة كمقصد سياحي آمن وجميل. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تواجه تحديات أمنية، حيث تُستهدف المواقع السياحية من قبل الجماعات المسلحة، ما يُبرز التوتر بين السعي للترويج السياحي والحفاظ على الأمن.[13]
- كيف يعيد الفاعلون إنتاج المعنى الأمني للمكان
تؤدي الجماعات المسلحة دورًا في إعادة تشكيل المعنى الأمني للمكان في كشمير، حيث تستهدف المواقع السياحية والدينية لإرسال رسائل سياسية وأمنية. تُعيد هذه الأفعال تعريف الفضاءات العامة، ما يُعقّد الجهود الحكومية لتعزيز الاستقرار ويُبرز التحديات في تحقيق الأمن المستدام في المنطقة.[14]
الخاتمة
- استنتاجات رئيسية حول السياحة بصفتها مرآة للنزاع
يتبيّن من مجمل التحليل أن السياحة في كشمير لم تعد مجرّد نشاط اقتصادي أو ثقافي، بل تحوّلت إلى مرآة مركّبة للنزاع، تعكس الخلافات الجيوسياسية، والصراعات الأيديولوجية، والتحولات الاجتماعية. لقد أضحت المواقع السياحية بمثابة فضاءات دلالية للصراع، تُستثمر من قبل الدولة والفاعلين غير الدولتين على حدّ سواء لبناء سرديات تتجاوز البُعد الترفيهي التقليدي للسياحة، نحو معانٍ تتعلق بالسيادة، والهوية، والأمن.
- حدود التفسير الجيوسياسي مقابل الداخلي
بينما يُمكن تفسير استهداف السائحين في بعض جوانبه ضمن سياق الصراع الجيوسياسي الهندي-الباكستاني، إلا أن هذا الإطار يظلّ قاصرًا عن الإحاطة بكامل التعقيد القائم في كشمير. فإعادة انتاج الهوية الهندية – وخاصة في عهد حزب بهاراتيا جاناتا – باتت تؤدي دورًا لا يقل أهمية عن العوامل الإقليمية. وهنا يُصبح من الضروري الجمع بين التفسيرين في تحليل بنيوي يضع في الحسبان التشابك بين الهويات، والسياسات، والرموز في إعادة تشكيل المجال العام الكشميري.
- آفاق مستقبلية للتعامل مع المجال السياحي في مناطق النزاع
في النهاية؛ تعكس خبرة كشمير الحاجة إلى نماذج حَذِرة لإدارة السياحة في مناطق النزاع، تتجنب التوظيف الأيديولوجي أو الأمني المفرط لهذا القطاع، وتسعى بدلًا من ذلك إلى إرساء توازن بين التنمية والاعتراف بالتعقيدات السياسية والاجتماعية. إذ يعتمد مستقبل السياحة في كشمير، وفي مناطق نزاع مماثلة على القدرة على تخيل الفضاء السياحي كمجالٍ للتعددية لا للهيمنة، وأداة لتعزيز المصالحة لا لتعميق الانقسام. وهذا يفرض مقاربة متعددة المستويات، تشمل الأطراف المحلية، والدولة، والمجتمع الدولي، لإعادة تعريف أمن السياحة كجزء من أمن الإنسان، لا وسيلة لفرض السرديات الرسمية فقط.
[1] Alvarez, M., Campo, S., and Fuchs, G. “Tourism in Conflict Zones: Animosity and Risk Perceptions.” International Journal of Culture, Tourism and Hospitality Research 14, no. 2 (2020): 189–204.
[2] Ploner, Josef, and Patrick Naef, eds. Tourism, Conflict and Contested Heritage in Former Yugoslavia. Routledge, 2017.
[3] Buda, Dorina Maria. “Tourism in Conflict Areas: Complex Entanglements in Jordan.” Journal of Travel Research 55, no. 7 (2016): 835–846.
[4] Sumantra Bose, Kashmir: Roots of Conflict, Paths to Peace (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2003), 20–45.
[5] Anuradha Bhasin, A Dismantled State: The Untold Story of Kashmir After Article 370 (Gurugram: HarperCollins India, 2023), 17–39.
[6] Hafsa Kanjwal, Colonizing Kashmir: State-Building under Indian Occupation (Stanford, CA: Stanford University Press, 2023), 88–109.
[7] The Guardian, “At least 26 tourists killed by suspected militants in Kashmir attack,” April 22, 2025, https://www.theguardian.com/world/2025/apr/22/tourists-killed-by-suspected-militants-in-kashmir-attack.
[8] CNN, “Gunmen open fire on tourists in Himalayan region, killing at least 26,” April 22, 2025, https://www.cnn.com/2025/04/22/asia/gunmen-open-fire-jammu-kashmir-intl/index.html.
[9] START.umd.edu, “Violent Non-State Actors and the Kashmir Conflict,” https://www.start.umd.edu/publication/violent-non-state-actors-and-kashmir-conflict.
[10] Britannica, “Bharatiya Janata Party (BJP),” https://www.britannica.com/topic/Bharatiya-Janata-Party.
[11] Georgetown Journal of International Affairs, “The Politics of Identity: State-building and Erasure in Modi’s ‘New’ India,” https://gjia.georgetown.edu/2023/12/02/the-politics-of-identity-state-building-and-erasure-in-modis-new-india/.
[12] Navlakha, Gautam. “Kashmir: The Clash of Identities.” Beyond Intractability. https://www.beyondintractability.org/casestudy/navlakha-kashmir.
[13] Raikwar, Aishwarya Singh. “The Key Role of Tourism and Soft Power in India’s Diplomacy.” World Governance Institute. https://www.wgi.world/the-key-role-of-tourism-and-soft-power-in-india-s-diplomacy/.
[14] “Militants kill at least 26 tourists at a resort in Indian-controlled Kashmir.” Associated Press. https://apnews.com/article/dc7067a18899d9e7ff7726d4e05982c3.