Insight Image

الفرص والتحديات.. مستقبل توطين صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا

27 أغسطس 2025

الفرص والتحديات.. مستقبل توطين صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا

27 أغسطس 2025

الفرص والتحديات.. مستقبل توطين صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا

تشهد أفريقيا اهتمامًا متزايدًا بتطوير صناعة الرقائق الإلكترونية، خصوصًا في دول مثل مصر والمغرب وكينيا، حيث تم إطلاق مبادرات وخطط وطنية لتوطين صناعة الرقائق، تشمل تأسيس مجالس وطنية، ووضع استراتيجيات متكاملة، وجذب الاستثمار، فضلًا عن تعزيز التدريب وتأهيل الكوادر الفنية. وتمتلك أفريقيا ما يقرب من (ثلث) المعادن الأساسية في العالم، والتي تُعَدّ موادَّا حيوية لإنتاج أشباه الموصلات، مثل الكوبالت والنحاس والجرافيت والسيليكون والتنتالوم، ومع ذلك، يقتصر دورها على الاستخراج، كما تُسهم بأقل من (1%) من حصة السوق العالمية.[1] لذلك، يهدف هذا التقرير إلى استكشاف الإمكانيات الكامنة والتحديات الهيكلية المرتبطة بتوطين صناعة الرقائق الإلكترونية في القارة الأفريقية، مسلِّطًا الضوء على واقع صناعة الرقائق الإلكترونية عالميًّا، ومن ثم الفرص التي قد تُتيحها هذه الصناعة للاقتصادات الأفريقية، فضلًا عن التحديات التي لابدّ من معالجتها لتوطين هذه الصناعة، وما تعكسه الرؤية المستقبلية لموقع أفريقيا المحتمل في صناعة الرقائق الإلكترونية، وهو ما سنستعرضه فيما يلي:  

أولًا: المشهد العالمي الحالي لصناعة الرقائق الإلكترونية

تلعب صناعة الرقائق الإلكترونية دورًا محوريًّا في الاقتصاد الحديث، كما تُعَدّ من القطاعات العالمية شديدة التنافسية، وتُشكّل هذه الصناعة العمود الفقري للقطاعات التي توجِّه الثورة الرقمية المستمرة، بدءًا من الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية وحتى الذكاء الاصطناعي، فضلًا عن الحوسبة الكمومية وأنظمة الدفاع المتقدّمة؛ وبالتالي تُعتبر هذه الصناعة العمود الفقري للعصر الرقمي؛[2] وهذا ما يجعلها صناعة استراتيجية تتنافس عليها الدول؛ حفاظًا على أمنها القومي، وعلى الرغم من أهميتها ودورها المركزي في القطاعات التي توجّه الثورة الرقمية، إلا أنه تهيمن عليها حفنة صغيرة من الدول؛ أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودول شرق آسيا (خصوصًا الصين وتايوان وكوريا الجنوبية)، ويمكن رصد أبرز الاتجاهات العامة الخاصة بصناعة الرقائق الإلكترونية عالميًّا على النحو التالي:

  • نمو السوق والطلب المتزايد: شهد عام 2024 نموًّا ملحوظًا في صناعة أشباه الموصلات -وهي المادة الأساسية التي تُصنع منها الرقائق الإلكترونية- إذ بلغت مبيعاتها نحو (627) مليار دولار أمريكي، متجاوزةً التوقعات السابقة، ومن المتوقع أن يستمر هذا الزخم القوي، لتبلغ المبيعات في عام 2025 رقمًا قياسيًّا جديدًا يُقدَّر بـ(697) مليار دولار أمريكي. [3]
  • تعقيد سلاسل التوريد والحاجة إلى التنويع: في ظل ما تشهده سلاسل التوريد من توترات كبيرة، وما يشهده المشهد الجيوسياسي من تنافسات حادة، وما تُقدِّمه الحكومات من استثمارات ضخمة، فقد تمكنت دول عدة من فرض نفسها كقادة في تصنيع الرقائق، والبحث والتطوير، والتصميم.
  • الاستثمارات الحكومية المكثَّفة: تحوّلت صناعة الرقائق إلى موضوع أمني واستراتيجي وطني عبر العالم؛ ما دفع العديد من الحكومات إلى ضخّ مليارات الدولارات لدعم تصنيع الرقاقات محليًّا، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز البحث والتطوير، وتوفير الحوافز للشركات الخاصة.
  • هيمنة أطراف محدودة على السوق: حيث يوجد عشر دول تسيطر على صناعة الرقائق الإلكترونية، وستظل مسيطرة في العام الحالي 2025، مع الأخذ في الاعتبار قدراتها التصنيعية والابتكارية، ودورها في توريد المعدات، وحصتها السوقية العالمية.[4] ويمكن عرض الدول الأكثر تأثيرًا وريادةً في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية كما يلي:

تايوان

لاتزال تايوان، بلا منازع، الدولة الرائدة عالميًّا في تصنيع أشباه الموصلات، ويُعزى ذلك بشكل كبير إلى التفوُّق التقني والهيمنة السوقية لشركة ((TSMC “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات”، ومن المتوقع أن تستحوذ (TSMC) في عام 2025 على أكثر من (55%) من سوق التصنيع العالمي، مع إنتاج رقائق متطورة بتقنيات (3(  نانومترات و(2) نانومتر.

وتتفوّق تايوان في مجال التصنيع التعاقدي للرقائق، حيث تُعرف بـpure-play foundries؛ حيث تقدِّم خدماتها لعملاء رئيسيّين مثل Apple -NVIDIA – AMD-Qualcomm، ويعزِّز موقعها العالمي تركيزها المستمر على تطوير البنية التحتية للمصانع، وتوظيف الكفاءات الهندسية، وتكامل سلسلة التوريد. ورغم التوترات الجيوسياسية مع الصين، تواصل تايوان لعب دور محوري لا غنى عنه في صناعة الإلكترونيات العالمية، وتطوير رقائق الجيل المقبل.[5]

الولايات المتحدة الأمريكية

تُعَدّ الولايات المتحدة قوة رائدة في مجال تصميم الرقائق وابتكار معالجات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب ريادتها في تصنيع معدات أشباه الموصلات، وتتصدّر المشهد شركات عملاقة مثل Intel، NVIDIA، AMD، Qualcomm، (Lam Research، التي تقود الابتكار في هذا القطاع الحيوي، وقد أسهم قانون” الرقائق والعلوم” CHIPS and Science Act في تعزيز هذا الدور، حيث خصّصت الحكومة الأمريكية أكثر من 50 مليار دولار لدعم توسيع الطاقة الإنتاجية المحلية، وإعادة بناء سلاسل التوريد الخاصة بأشباه الموصلات.[6]

الصين

تُعدّ الصين أحد مراكز التصنيع الأساسية في العالم، وهي دولة أخرى تعمل على توسيع قدرتها على تصنيع أشباه الموصلات، وشرَعت الحكومة الصينية في توسيع قدرات التصنيع في البلاد بما يمكّنها من تحقيق الاكتفاء الذاتي، وإنتاج الكمية المطلوبة من أشباه الموصلات محليًّا، دون الحاجة إلى الواردات، ومن المتوقع أن تُنتج الصين ما يصل إلى ( 25%) من أشباه الموصلات في العالم بحلول عام 2030.[7]

أوروبا

تُمثّل أوروبا ما يقارب (10%) من إنتاج أشباه الموصلات العالمي، بفضل شركات تصنيع مثل شركة STMicroelectronics الفرنسية، التي تُصنَّف في المرتبة العاشرة عالميًّا، ورغم أنها لا تمتلك القدرة على إنتاج عُقَدٍ متطورة، إلا أنها تتمتع بمكانة مرموقة في تصميم وإنتاج مكونات “أكثر من مور”، More than Moore، والتي تشمل أجهزة الاستشعار، وأجهزة التصوير، ومكونات الطاقة والاتصالات، والمتحكمات الدقيقة، وتُستخدم هذه الفئة في قطاعات متنوعة؛ مثل السيارات، والصناعة، والدفاع، والصحة، كما تتمتع القارّة باحتكارات شبه كاملة في مجالات محدّدة: فعلى سبيل المثال، تُعدّ شركة “ASML” الهولندية الشركة الوحيدة التي أتقنت تصنيع معدات الطباعة الحجرية المتقدّمة بتقنية” “EUV، وهي ضرورية للمسابك.[8]

وخوفًا من ترك صناعة متنامية ومهمة استراتيجيًّا في أيدي عدد قليل من اللاعبين العالميّين، أصدر الاتحاد الأوروبي “قانون الرقائق” في سبتمبر 2023؛ بهدف” تعزيز القدرة التنافسية والمرونة الأوروبية” في مجال أشباه الموصلات. ومنذ صدور هذا الاقتراح، أُعلن عن استثمارات على مستوى الاتحاد الأوروبي تُقدَّر بنحو (100) مليار يورو، وكان الهدف الأوليّ هو زيادة حصة أوروبا في السوق إلى (20%) بحلول عام 2030.[9]

كوريا الجنوبية

تُعدّ كوريا الجنوبية أيضًا قوة عالمية بارزة في مجال إنتاج الرقائق الإلكترونية، حيث تحتضن اثنتين من كبرى الشركات الرائدة عالميًّا، ((Samsung Electronics- SK hynix، اللتين تستحوذان معًا على أكثر من )60%) من سوق شرائح DRAM وNAND، وبدعم حكومي قوي، تواصل كوريا الجنوبية الاستثمار في الجيل القادم من أشباه الموصلات، بما يشمل معالجات الذكاء الاصطناعي، الحوسبة العصبية، وشرائح الذاكرة المتقدمة للسيارات؛ ما يعزز مكانتها كلاعب رئيسي في الصناعة عالميًّا.[10]

اليابان

تُعدّ اليابان، الدولة الجزرية المتقدمة تكنولوجيًا، من بين أبرز الدول في قطاع أشباه الموصلات، إذ تحتضن ما يزيد على (100) مصنع متخصّص في تصنيع الرقائق، تعود ملكية معظمها لشركات يابانية، وأخرى أمريكية وتايوانية. وكغيرها من الدول الرائدة في هذا المجال، تسعى الحكومة اليابانية إلى تعزيز قدراتها الإنتاجية، وتوسيع حضورها في سلسلة القيمة العالمية لأشباه الموصلات.[11]

ثانيًا: واقع صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا

بعد أن كانت صناعة أشباه الموصلات تتمركز تقليديًّا في شرق آسيا وأمريكا الشمالية، بدأت مناطق جديدة تبرز كمنافس محتمل في رسم ملامح مستقبل هذه الصناعة، ومع توافر السياسات الملائمة والاستثمارات الاستراتيجية، تمتلك أفريقيا فرصة حقيقية لترسيخ مكانتها كشريك رئيسي في مساعي تنويع سلاسل التوريد العالمية، وتعزيز التوازن الجغرافي في هذا القطاع الحيوي؛ حيث تمثّل الثروات المعدنية الهائلة التي تزخر بها أفريقيا، إلى جانب طاقتها البشرية الشابة، ركائز استراتيجية واعدة ونقاط قوة تؤهلها للعب دور فاعل في مستقبل صناعة الرقائق الإلكترونية،[12] ويمكن عرض الإمكانات الأفريقية في هذه الصناعة على النحو التالي:

  • امتلاك أفريقيا المعادن الأساسية لصناعة الرقائق الإلكترونية، بما في ذلك الكوبالت والتنتالوم والعناصر الأرضية النادرة، وتُستخرج هذه المعادن في أفريقيا، ثم تُكرَّر وتُعالج عادةً في الخارج.
  • وجود قوة عاملة شابّة متنامية: يأتي ذلك مع تزايد عدد خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وتستثمر دول، مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا ومصر وكينيا، في التعليم التقني ومراكز الابتكار؛ ما يُسهم في توفير قاعدة من المواهب لصناعة الرقائق الإلكترونية.
  • موقع أفريقيا الاستراتيجي بوابة لتعزيز جاذبيتها في التجارة العالمية: وهذا ما يعطيها ميزة نسبية، وهو ما يتّضح في الاضطرابات الأخيرة في سلاسل التوريد الناجمة عن التوترات الجيوسياسية والكوارث الطبيعية، التي أبرزت ضرورة تنويع صناعة الرقائق الإلكترونية.[13]

وقد بدأت دول أفريقية تستفيد من ثرواتها الطبيعية والإمكانات التي تذخر بها، وتُركز على تنمية كوادرها البشرية، وتُبرز هذه التجارب الإمكانات الهائلة للقارة في هذا القطاع الحيوي، وتُقدِّم فرصة قيّمة لاستعراض أهم الدروس المستفادة من مَسيرتها نحو بناء قاعدة صناعية متقدّمة؛ وفي هذا السياق، يمكن عرض أهم التجارب الأفريقية كالتالي:

جمهورية مصر العربية

لم تكن مصر بعيدة عن هذا المجال الحيوي؛ فاتخذت خطوات واعدة في هذا المجال، وقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم (2732) لسنة 2024 بإنشاء المجلس الوطني لتوطين تكنولوجيا صناعة الرقائق الإلكترونية والخلايا الشمسية، فضلًا عن تطوير استراتيجية لتوطين الصناعة في مصر، والاستفادة من موارد مصر الطبيعية وموقعها الجغرافي لحجز مقعد بين الدول الرائدة في المنطقة والإسهام في سلاسل الإمداد العالمية؛ خصوصًا أنها تمتلك بعضًا من مقوماتها؛ وهي المواد الخام الممثَّلة في الرمال البيضاء والسوداء التي تتّسم بنقاء شديد؛ ما يمثّل ميزة نسبية لمصر في هذه الصناعة، كما أن هناك توجّهًا بتدبير مليونَي دولار من موازنة عام 2025 لدراسة إمكانيات الاستفادة من موارد مصر، وتوطين الصناعة، وعمل الدراسات المطلوبة.[14]

كينيا

أطلقت الحكومة الكينية أيضًا، في عام 2022، أول وحدة لإنتاج أشباه الموصلات في البلاد؛ بهدف تطوير القدرات التكنولوجية المتقدّمة وتعزيز مكانة كينيا كمركز صناعي إقليمي في هذا المجال، وتلقّت شركة “Semiconductor Technologies Limited” (STL) في كينيا منحة بقيمة (1.3) مليون دولار أمريكي من وكالة التجارة والتنمية الأمريكية (USTDA) ضمن الصندوق الدولي لأمن التكنولوجيا والابتكار، الذي أُنشئ بموجب قانون “الرقائق والعلوم” لعام 2022، بهدف توسيع تصنيع أشباه الموصلات في البلاد، وتُعدّ ” STL” متخصصة في تصنيع النانو وأشباه الموصلات، ووقّعت “STL” اتفاقية مع شركة “Baylis Emerging Markets” لجمع (250) مليون دولار لتحديث مصنع الرقائق ومختبر الأبحاث؛ في خطوة تعزّز من قدرات الشركة، وتدعم تطوير صناعة أشباه الموصلات في كينيا.[15]

المغرب

 بدأ المغرب في إنتاج أشباه الموصلات بشكل فعلي منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، واستمر في تنمية هذا القطاع ليُصبح من بين الدول الرائدة إقليميًّا في هذا المجال، ويُعدّ مصنع “STMicroelectronics” الواقع في بوسكورة، قرب مدينة الدار البيضاء، من أبرز المنشآت الصناعية المتخصصة، حيث يُنتج سنويًّا نحو (7) ملايين شريحة إلكترونية.[16]

جنوب أفريقيا

اتخذت جنوب أفريقيا خطوات مبكرة بإنشاء “مركز الإلكترونيات الدقيقة وتكنولوجيا النانو” التابع لمجلس البحوث العلمية والصناعية (CSIR) في بريتوريا، وهو منشأة بحث وتطوير تُركِّز على إنتاج أشباه الموصلات والرقائق. وفي عام 2022، نجحت جنوب أفريقيا أيضًا في تصدير أجهزة أشباه موصلات بقيمة متواضعة بلغت 25.9 مليون دولار أمريكي.[17]

ثالثًا: التحديات الرئيسية أمام توطين صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا

على الرغم من أن أفريقيا تمتلك احتياطيات ضخمة من المواد الخام الحيوية لصناعة الرقائق الإلكترونية، فإن مساهمتها في السوق العالمية لاتزال هامشية، حيث تمثّل أقل من (1%) من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات والمعادن النادرة المستخدمة في هذه الصناعة، وأيضًا رغم الخطوات الواعدة التي اتخذتها بعض الدول الأفريقية في سبيل توطين صناعة الرقائق الإلكترونية، إلا أن هناك جملة من التحديات التي لاتزال تُعيق نمو هذا القطاع الحيوي في القارة الأفريقية، ويمكن توضحيها فيما يلي:

  • نقص البنية التحتية الصناعية المتقدّمة: حيثتفتقر معظم الدول الأفريقية إلى البنية التحتية اللازمة لتطوير صناعة الرقائق الإلكترونية، بما في ذلك المصانع المتخصّصة والتكنولوجيا المتقدّمة، والصناعات التحويلية التي يمكن أن تضيف قيمة إلى المواد الخام عبر تصنيع الرقائق والمنتجات الإلكترونية، ولاتزال ضعيفة للغاية؛ ما يؤدي إلى تصدير المواد الخام إلى الخارج دون استفادة محلية كبيرة.[18]
  • الاعتماد بشكل كبير على الشركات الأجنبية: نظرًا لضعف الاستثمار المحلي، تعتمد الدول الأفريقية بشكل كبير على الشركات الأجنبية لتطوير واستغلال مواردها المعدنية، وغالبًا ما تقوم هذه الشركات بتصدير المواد الخام إلى مصانعها خارج القارة لمعالجتها؛ ما يحرم الاقتصادات المحلية من فرص التصنيع والتوظيف.[19]
  • الافتقار إلى أطر تنظيمية وتشريعية محفِّزة للقطاع: فالصناعات المتعلّقة بتعدين ومعالجة المعادن الأرضية النادرة تتطلّب معايير بيئية صارمة؛ نظرًا للتأثيرات البيئية السلبية التي قد تترتب عليها، والعديد من الدول الأفريقية لا تملك الأُطر القانونية والتنظيمية الكافية لضمان استدامة هذه الصناعات؛ وبالتالي يُعقّد إمكانية تنمية هذا القطاع بشكل مستدام.[20]
  • الأوضاع السياسية غير المستقرة: حيث تؤثر الأوضاع السياسية غير المستقرة في بعض الدول الأفريقية على القدرة على جذب الاستثمارات طويلة الأمد في قطاع أشباه الموصلات، فالصراعات والنزاعات الداخلية، فضلًا عن الفساد وعدم الشفافية، تجعل العديد من المستثمرين يتردّدون في ضخّ أموالهم في مشاريع ذات عائد طويل الأجل.[21]
  • اقتصار دور أفريقيا على الاستخراج: تنقسم سلسلة قيمة أشباه الموصلات إلى ثلاث مراحل رئيسية: الاستخراج، والتصميم والتصنيع، ثم التجميع والاختبار والتغليف، وفي حين تسهم أفريقيا بشكل بارز في مرحلة الاستخراج، بفضل وفرة المواد الخام، إلا أن حضورها يتراجع بشكل كبير في المرحلتين التاليتين؛ نتيجة لافتقارها إلى البنية التحتية التقنية، ومحدودية الاستثمارات، وضعف البحث والتطوير، إلى جانب نقص الكفاءات المتخصّصة، وهذه الفجوات تعرقل قدرة القارة على المنافسة في المراحل ذات القيمة المضافة الأعلى ضمن هذه السلسلة الحيوية.[22]

رابعًا: الفرص المتاحة لتوطين الصناعة في أفريقيا

على الرغم من التحديات العديدة التي تواجه القارة الأفريقية في توطين صناعة الرقائق الإلكترونية، فإن هناك أيضًا فرصًا واعدة يمكن البناء عليها، ويمكن توضيحها فيما يلي:

  • المشاركة في مراحل سلسلة القيمة ذات القيمة المضافة؛ فالقدرات المتنامية لأفريقيا في تصنيع أشباه الموصلات، فضلًا عن التجميع والاختبار والتعبئة والتغليف، تمثّل فرصة استراتيجية لتعزيز تنويع سلسلة التوريد، ودعم التقدم التكنولوجي العالمي.
  • الاستفادة من فرص الشراكات الثنائية والمتعدّدة الأطراف: يمكن للقارة الأفريقية أن تستثمر في فرص التعاون الدولي لتعزيز قدراتها في سلسلة قيمة أشباه الموصلات، من خلال الشراكات الثنائية ومتعدّدة الأطراف مع الدول والمنظمات المتقدّمة في هذا المجال؛ ومن الأمثلة البارزة على ذلك اتفاقية دراسة الجدوى الموقَّعة بين “وكالة التجارة والتنمية الأمريكية” وشركة (STL) في كينيا، التي تهدف إلى تعزيز تصنيع أشباه الموصلات في شرق أفريقيا.

 وتسعى الولايات المتحدة من خلال هذا التعاون إلى تنويع مراكز الإنتاج عالميًّا، والحدّ من اضطرابات سلسلة التوريد كما حدث خلال جائحة “كوفيد-19″، وتمثّل هذه الشراكة فرصة استراتيجية لأفريقيا لتكرار مثل هذه النماذج، وتوسيع نطاقها على مستوى القارة، بما يدعم التمركز الصناعي الإقليمي، ويُعزز نقل التكنولوجيا وبناء القدرات المحلية.[23]

  • الاستفادة من الإمكانات والثروات المعدنية الأفريقية: تمتلك أفريقيا ثروات هائلة من المعادن الأساسية الضرورية لصناعة أشباه الموصلات، مثل الكوبالت والنحاس والجرافيت التنتالوم والسيليكون. وفي أكتوبر 2023، فرضت الصين قيودًا على صادرات الجرافيت -معدن حيوي يدخل في صناعة البطاريات وأشباه الموصلات- مبرِّرة ذلك بحماية أمنها القومي، وقد أدى ذلك إلى توجيه كوريا الجنوبية، التي تعتمد بشكل كبير على هذه الواردات، نحو أفريقيا، وتحديدًا موزمبيق وتنزانيا، بهدف تأمين إمداداتها من الجرافيت؛ وبالتالي تعكس هذه التحركات استراتيجية كوريّة أوسع لتعزيز علاقاتها مع القارة الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية، التي تزداد أهميتها في الصناعات التقنية العالمية.[24]
  • التنافس الدولي وتطلّعات الدول الكبرى تجاه أفريقيا: لم تكن كوريا الجنوبية وحدها هي التي أدركت مدى أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه أفريقيا في هذه الصناعة؛ إذ تلتزم الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والمملكة العربية السعودية والهند والصين بتخصيص المزيد من الموارد المالية والطاقة الدبلوماسية للقارة، مع اعتبار الوصول إلى المعادن الحيوية أولوية بالنسبة لها جميعًا.[25]

وتُشكّل حاجة الولايات المتحدة إلى سلاسل توريد أكثر مرونة بعد أزمة “كوفيد-19” فرصة استراتيجية لأفريقيا للدخول في شراكات صناعية وتقنية، خصوصًا في ظل توجّه واشنطن لتعزيز التصنيع محليًّا ودوليًّا عبر قوانين مثل “قانون خفض التضخم”؛ فيمكن للقارة، من خلال استقطاب الاستثمارات الأمريكية في قطاع التكنولوجيا، أن تحقق فوائد اقتصادية كبيرة وتُرسّخ موقعها كمكوّن أساسي في سلاسل الإمداد العالمية للرقائق الإلكترونية.[26]

ورغم أنه لاتزال سلسلة القيمة العالمية لأشباه الموصلات بالغة التعقيد والاستراتيجية والأهمية الجيوسياسية، ورغم تحدياتها الحالية، فإن مزيج القدرات الفريدة الذي تتمتع به أفريقيا، بدءًا من استخراج المواد الخام، وصولًا إلى إنتاج التقنيات الناشئة، يُمثّل فرصة واعدة لأفريقيا في توطين صناعة الرقائق الإلكترونية، لكن لن يحدث ذلك إلا بفضل الاستثمارات الكبيرة في التعليم والبنية التحتية الصناعية والتكنولوجيا، بجانب تعزيز الأطر القانونية.[27]

خامسًا: رؤية مستقبلية لتوطين صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا

تعكس الرؤية المستقبلية لتوطين صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا طموح القارة للتحوّل والانتقال من مجرد مورّد للمواد الخام، إلى شريك فاعل ومتكامل ضمن سلسلة القيمة العالمية لصناعة الرقائق الإلكترونية، وتستند هذه الرؤية إلى مرتكزات رئيسية عدة، وهي أنه تشير هذه الاتجاهات إلى أن هناك الكثير من الفرص أمام أفريقيا لتشكيل دور أكبر وأكثر قيمة لنفسها في سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات في المستقبل، فتقع أفريقيا في المركز الجغرافي لسلاسل توريد أشباه الموصلات العالمية وهي موطن للعديد من المواد الأساسية، وربّما تصبح الوِجهة الأكثر تنافسية التي يلتقي فيها العالم، لذلك؛ هناك فرصة لأفريقيا مستقبلًا لوضع استراتيجية ناجحة في هذا القطاع.

  • في الأمَد القريب: قد لا تتمكن أفريقيا من تصنيع أشباه الموصلات، ولكنها قد تتمكن من المشاركة في أنشطة سلسلة التوريد مثل الاختبار ومراقبة الجودة والبرمجة، من خلال تركز الجهود الأفريقية على تطوير البنية التحتية الداعمة لمجالات التصميم والاختبار والبرمجة ومراقبة الجودة، إضافةً إلى الاستثمار النشِط في تدريب وتأهيل الكوادر البشرية، بالتوازي مع استغلال المواد الخام المتوافرة داخل القارة، بما يخدم الصناعات ذات الصلة.[28]
  • في الأمَد المتوسط: يمكن أن تشهد أفريقيا توسّعًا في الشراكات الاستراتيجية مع الشركات الدولية والحكومات، وبدء إنشاء مناطق صناعية موجهة لتقنيات الرقائق وأشباه الموصلات، مع تعميق الخبرة في التصنيع الجزئي والتجميع والبحث والتطوير، وتبرز بعض الدول، مثل المغرب ومصر، كنماذج أولية للانخراط في التصنيع، أو التعاون ضمن مشاريع إنتاجية مع شركات عالمية.
  • في الأمَد البعيد، ومع استمرار التقدُّم الذي تُحرِزه القارة، سوف يكون لديها القدرة على التحوّل إلى ما يُعرف بــ”سافانا السيليكون” حتى تصبح مركزًا رائدًا عالميًّا في تصميم واختبار أشباه الموصلات.[29]

ورغم أنه يبدو أن مستقبل توطين صناعة الرقائق الإلكترونية في أفريقيا ممكن وواعد، إلا أن هذا سيتطلب جهودًا سياسية مستدامة واستباقية؛ لتعزيز مكانتها كلاعب أساسي في صناعة أشباه الموصلات، وفي نهاية المطاف، سيعتمد طموح أفريقيا في مجال أشباه الموصلات على مدى نجاح القادة الأفارقة في تبنّي رؤية بعيدة المدى، وإعطاء الأولوية للاستثمارات الاستراتيجية، ومواءمة السياسات المحلية مع الأهداف والاستثمارات الدولية، للتغلّب على التحديات القائمة.[30]


[1] Observer Research Foundation, “Charting Africa’s Path to Semiconductor Leadership,” ORF Expert Speak, 2024, https://2u.pw/p67a9.

[2] Techovedas,”Top Semiconductor Manufacturing Countries in 2025: Who’s Leading the Global Chip Race?” 2024, https://2u.pw/kqaAz.

[3] Deloitte, “2025 Global Semiconductor Industry Outlook,” Deloitte Insights, 2024, https://2u.pw/beQEZ.

[4] Adda247, “Top 10 Countries Dominating the Semiconductor Industry in 2025,” Current Affairs – Adda247, 2024, https://2u.pw/N64YQ.

[5] Ibid.

[6] Techovedas, Op. cit.

[7] World Population Review, “Semiconductor Manufacturing by Country,” 2024, https://2u.pw/JCsew8X.

[8] Dauvé, Sébastien. “Semiconductors: Can European Industry Regain Ground?” Polytechnique Insights, 2025, https://2u.pw/XQPNV.

[9]Is Europe Still in the Semiconductor Race?” bobsguide, 2024, https://2u.pw/n9FWq.

[10] Adda247, Op.cit.

[11] World Population Review, Op.cit.

[12] World Economic Forum, “How Africa Could Help to Diversify the Booming Global Semiconductor Industry,” 2025, https://2u.pw/mgyI7.

[13] Ibid.

[14] المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية. “مصر والرهان على توطين صناعة الرقائق الإلكترونية، 2024، https://ecss.com.eg/48705/

[15] Sakwa Kombo, “Kenya to Expand Semiconductor Chip Production with $1.3 Million US Grant,” Techweez, 2024, https://2u.pw/z2iN0.

[16] منتدى الدفاع العربي، “المغرب: رائد في إنتاج أشباه الموصلات في العالم العربي وإفريقيا”، 2024 https://defense-arab.com/vb/threads/195374/.

[17] Harry Clynch, “Africa Looks to Muscle In on the Semiconductor Value Chain.” African Business, 2024, https://2u.pw/UyNe2.

[18] إبراهيم شاهين، “إفريقيا.. روح صناعة الرقائق في العالم بين مطرقة الشرق وسندان الغرب، ”CNN”, 2024  https://2u.pw/3vMb0.

[19] Samir Bhattacharya, “Charting Africa’s Path to Semiconductor Leadership,” Observer Research Foundation, 2024, https://2u.pw/p67a9.

[20] إبراهيم شاهين، مرجع سابق.

[21] Ibid.

[22] Samir Bhattacharya, OP. Cit.

[23] Samir Bhattacharya, OP. Cit.

[24] African Business, “Africa Looks to Muscle in on the Semiconductor Value Chain,”, 2024, https://2u.pw/UyNe2.

[25] Ibid.

[26] African Business, OP. Cit.

[27]Samir Bhattacharya, OP. Cit.

[28] المستقبل الأخضر، “أفريقيا تدخل كلاعب أساسي في صناعة الرقائق الإلكترونية.. ميزة استراتيجية”، 2024، https://2u.pw/IVUZV.

[29] Ibid.

[30] Samir Bhattacharya, OP. Cit.

المواضيع ذات الصلة