لأول مرة في التاريخ، أصبح أكثر من نصف أفراد الجنس البشري يقطنون المدن، وهي نسبة مرشحة للزيادة إلى 70%، أي أكثر من اثنين من كل ثلاثة، بحلول عام 2050. هذه الزيادة المستمرة باطراد في أعداد قاطني المدن تترافق بفرص واعدة، وتلازمها في ذات الوقت تحديات جسام، زادت من ثقلها ووقعها التغيرات المناخيةُ، والوباء الحالي، وبالتحديد على صعيد تفاقم الظلم وفقدان العدالة الاجتماعية، كما أنها كشفت مواطن الضعف في نظم الرعاية الصحية، والتي أصبحت تئن تحت الضغوط التي تتعرض لها حاليا، وخصوصا في المدن. ففي العديد من المدن حول العالم، والتي يقطنها الملايين، وأحيانا عشرات الملايين، لا يزال هناك نقص في السكن المناسب للجميع، وفي شبكات المواصلات الفعالة، وفي نظم صرف صحي وإدارة للمخلفات تتمتع بالكفاءة. أضف إلى ذلك نقص الأماكن المتاحة للمشي والتنزه أو ممارسة رياضة ركوب الدراجات، وغيرها من أنواع الأنشطة الرياضية الأخرى، مما يجعل هذه المدن مراكز وبؤر للأمراض المزمنة.
ويحمل هذا التحول الديموغرافي الذي بدأ بالفعل قبل زمن ليس بالقصير، في طياته تحديات ومخاطر صحية كثيرة، تتعلق بتوفر إمدادات مياه الشرب النظيفة، وتأثيرات سلبية على عناصر البيئة الطبيعية داخل المدن والمناطق المجاورة لها، وكذلك زيادة حوادث العنف، ومعدلات الإصابات البدنية لأسباب مختلفة. وتتميز الحياة داخل المدينة بمعطيات صحية خاصة، بسبب انتشار عوامل الخطر المؤهلة للإصابة بالأمراض غير المعدية، مثل العادات الغذائية السيئة، وزيادة معدلات استهلاك التبغ والكحوليات، ومحدودية النشاط البدني والرياضي، وهي عوامل معروف عنها تسببها في الإصابة بالسمنة، وداء السكري، وأمراض القلب والشرايين، كالذبحة الصدرية، والسكتة الدماغية، وازدياد الوفيات المبكرة بوجه عام.
وانطلاقا من التوقعات المستقبلية بزيادة نسبة سكان المدن من إجمالي سكان العالم، ظهر مصطلح أو مفهوم المدن الصحية (Healthy City)، والذي أصبح يستخدم في مجالي الصحة العامة، والتخطيط العمراني أو الحضري، للتعبير عن العلاقة بين البيئة المدنية والسياسات العامة وبين صحة الإنسان. ويعتمد هذا المصطلح أو المفهوم في تعريفه على مبادرة منظمة الصحة العالمية التي حملت اسم “مدن وقرى صحية”، وأطلقتها المنظمة الدولية عام 1986، وتنص على أن المدن الصحية هي تلك التي توفر وتطور بشكل دائم ومستمر، متطلبات البيئات الطبيعية والاجتماعية التي يحيا فيها سكانها، مع السعي الدائم لزيادة المصادر المجتمعية التي تتيح للأفراد دعم بعضهم بعضا، في تأدية المهام والوظائف اليومية، والاستمتاع بالجوانب المختلفة للحياة.
وتشكل المبادرة المعروفة باسم “الشراكة لمدن صحية” (Partnership for Healthy Cities) جزءا من إطار التعاون بين منظمة الصحة العالمية، ومنظمة أخرى تعمل في مجال الصحة الدولية تعرف باسم “الاستراتيجيات الحيوية” (Vital Strategies). وتتضمن حاليا شبكة التعاون بين هذه المنظمات الثلاثة أكثر من 70 مدينة، يتم فيها جميعا تطبيق برامج وسياسات معروف عنها مساهمتها الواضحة في خفض احتمالات الإصابة بالأمراض غير المعدية، والوقاية من الإصابات والحوادث في مدنهم. وتتجلى أهمية هذه المبادرة في حقيقة كون الأمراض غير المعدية، مثل أمراض القلب والشرايين، وداء السكري، والأمراض التنفسية، تتسبب مجتمعة في 80 في المئة من الوفيات بين أفراد الجنس البشري.
ومن المثير أنه عند مقارنة الحالة المزاجية لمن يتاح لهم التمتع بمساحات مفتوحة واسعة، كإطلالة على البحر مثلا، وجد أن مع كل ازدياد في مساحة هذه الإطلالة بنسبة 10 في المئة، انخفض معدل التوتر النفسي بمقدار ثلث نقطة، ولدرجة أن زيادة المتاح من المساحات المفتوحة والإطلالة البحرية، قد ينقل الشخص من تصنيف التوتر المتوسط إلى تصنيف أقل. ومؤخرا، تزايدت الشكوك في أن تبعات تلوث الهواء المدن تمتد لتأثيرات جسدية سلبية لم تكن تخطر على بال أحد من قبل، مثل العلاقة بين تلوث الهواء وازدياد احتمالات زيادة الوزن والإصابة بالسمنة، إذ إن السواد الأعظم من الدراسات تدعم هذه الشكوك على الحيوانات، ورغم أن الميكانيزم الذي يربط بين التلوث والسمنة لا زال غير مفهوم بالكامل، إلا أن الشكوك أصبحت تحوم حول أن التلوث يغير من الميتابوليزم أو العمليات الأيضية الحيوية داخل الجسم، نتيجة الالتهاب الذي تتعرض له الرئتان من جراء جزيئات التلوث، مما يدفع الجسم لإفراز هرمونات تفرز فقط في حالات التوتر والضغوط.