قبل حوالي 400 سنة وتحديدا عام 1630، أبحر جون وينثروب الأرستقراطي الإنجليزي والشخصية البارزة في حركة التطهيريين الدينية (بيوريثان) منطلقاً من جزيرة وايت Wight مع أكثر من ألف شخص من أتباعه متجهين نحو العالم الجديد. وقبل وصولهم إلى خليج ماساشوستس، وهم على متن باخرة أرابيلا Arabella لخّص وينثروب مهمتهم المتمثلة في الاستيطان على مسافة آلاف الأميال بعيداً عن موطنهم الأم قائلاً: “سنكون مثل مدينة على تلة، وعيون الناس ستكون علينا”.
ظلت الفكرة القائلة بأن الشعب الأمريكي يبني دولة نموذجية تستحق أن تنظر إليها بقية دول العالم باهتمام، وتستحق الإعجاب والاقتداء بها من قبل باقي الدول موجودة طوال قرون في سيكولوجية الدولة الأمريكية. وقد اقتبس الرئيس جون كينيدي منذ 60 سنة مضت مقولة وينثروب هذه عندما كان يتحدث إلى المجلس التشريعي لولاية ماساتشوستس عشية تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة كما فعل الرئيس رونالد ريغان الشيء نفسه في خطابات عديدة خلال فترة رئاسته.
وقد ألمح الرئيسان إلى ما اعتبراه قدر أمتهما أن تصبح منارة للحكم الرشيد والحرية على غرار ما جاء في جوهر رؤية أبراهام لينكولن في خطابه الشهير في جيتيسبيرغ عن الحكومة الأمريكية: “حكومة من الشعب، يختارها الشعب، ولخدمة الشعب” ولكن في 6 يناير 2020 وبينما كان العالم والأمريكيون يتابعون ما يجري في مبنى الكونغرس، صُدموا بما رأوه من حالة الرعب، والدهشة، والقرف في مشهد احتشد فيه آلاف البيض المتعصبين من أصحاب نظرية المؤامرة المخزية المؤيدين للرئيس ترامب، وفرضوا حصاراً على مبنى الكونغرس واقتحموه وعاثوا فيه فساداً في سلوك أقل ما يمكن وصفه به أنه فعل تمرد وإرهاب.
إذا كانت فترة ترامب في منصب رئيس البلاد لم تُلحق أضراراً كافية بمكانة الولايات المتحدة ودورها كقائدة للعالم وشوهت صورة نظامها الديمقراطي الفعال، فإن هذه الأحداث التي تتصف بالهمجية السياسية، والمدفوعة بتصريحات الرئيس وشركائه المقربين، حددت مصير واحدة من الفترات الرئاسية الأكثر إثارة للقلق في تاريخ الولايات المتحدة. لقد انتشرت الصور في جميع أنحاء العالم، ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، إرهابيون من أبناء البلد ينهبون مبنى الكابيتول الذي يُعتبر أقدس مؤسسة ديمقراطية في البلاد أمام أعين قوات أمنية غير مستعدة نهائياً لمواجهة الحدث، وهذه الصور ستبقى في ذاكرة العالم لفترة طويلة من الزمن.
العنصر الوحيد المدهش في هذا الهجوم العنيف غير المسبوق على قلب الديمقراطية الأمريكية، هو أن أي شخص يمكن أن يُفاجأ بهذا العمل، مع الأخذ في الاعتبار أننا قضينا أربعة أعوام حافلة بهجمات مستمرة من جانب ترامب على كل جانب من جوانب النظام الديمقراطي، وتصريحات “ترامبية” تحريضية ســامّة ضد خصومه السياسيين وضد وسائل الإعلام الحر. كما أن السياسيين الأمريكيين الذين عبروا عن دهشتهم أمام هذه الأحداث إما ساذجون للغاية، أو يتظاهرون بالبراءة لخوفهم من العواقب المحتملة لعدم قيامهم بمسؤولياتهم، ولدعمهم لترامب المبني على أنانية المصلحة الذاتية وانعدام الضمير. وقد كان هذا الوضع على حساب الخطاب العام في الولايات المتحدة، وأدى إلى هذا الانفجار المروّع للعنف في نهاية المطاف.
طوال فترة وجود ترامب في البيت الأبيض، كانت كتاباته – توجهاته – واضحة للجميع. وجاء رفضه الهمجي الغريب لنتيجة الانتخابات ليزيد من احتقان الأوضاع، وأعقب ذلك ضغط “ترامبي” بلا رادع على المسؤولين لكي يقلبوا النتيجة لصالحه. كما لوّح، في الوقت نفسه، بالقصاص ضد كل من يختلف معه، وتفاقم الوضع عندما رفضت المحاكم النظر في مزاعمه بأن الانتخابات كانت مزورة. وبعد رفضه الاعتراف بنتيجة الانتخابات، قال إنه لن يحضر حفل تنصيب الرئيس المنتخب بايدن، والموقف المُقلق أكثر أن ترامب حاول عرقلة الانتقال السلس للسلطة، وخلق مناخاً متوتراً أدى إلى العصيان المسلح في 6 يناير وأفضى إلى الهجوم على الكابيتول.
صوت معارض للتعددية
كان يُنظر إلى الولايات المتحدة كقوة عظمى على أنها سلعة متضائلة القيمة قبل زمن طويل من وصول ترامب إلى الرئاسة عام 2016، وكان ترامب يجسد أعراض المرض وعامل تسريع للانحدار الحادث في المكانة الدولية لأمريكا؛ ففي أعقاب الهجمات الإرهابية في 11 من سبتمبر 2001، جاءت التدخلات الأمريكية اللاحقة في أفغانستان والعراق، وبرز مفهوم العولمة الذي دفع الكثير من وظائف الياقة الزرقاء للانتقال إلى الدول الأجنبية، وتحول الشعور السائد بين العديد من الأمريكيين ضد التعددية.
ركب ترامب هذه الموجة الشعبوية التي تُصنف في أقصى اليمين، وقد نجح في ركوب تلك الموجة وفاز بكرسي الرئاسة، ولاحقاً تابع المسيرة ذاتها وكسب دعم أكثر من 75 مليون ناخب أمريكي في الانتخابات الأخيرة في نوفمبر 2020، رغم أنه خسر النتيجة النهائية للانتخابات. كانت هزيمته تُعزى بشكل أساسي إلى فشله الشنيع في التعامل بالشكل المناسب مع جائحة كوفيد-19 التي حصدت أرواح أكثر من 400 ألف أمريكي إضافة إلى عواقب وتداعيات يصعب قياس حجمها على المجتمع والاقتصاد في الولايات المتحدة.
لقد فضح سوء التعامل مع الجائحة مرة ثانية أداء رئيس لا يخضع لقواعد، وليس هذا فحسب، بل فضح وضع دولة غير مستعدة لمواجهة أزمة من العيار الثقيل، وتعاني من انقسامات عميقة على المستوى الأيديولوجي. كما عَرَّت الجائحة النظام الفيدرالي الأمريكي وأظهرته كنموذج للخلاف والشلل؛ وجعل هذا العالم بأسره يتساءل باستغراب عن كيف يمكن لقوة اقتصادية وعلمية بهذا الحجم الهائل أن يكون سجلها من أسوأ السجلات في ما يتعلق باحتواء الجائحة.
خلّف الاعتداء على مبنى الكابيتول شرخاً عميقاً في سمعة أمريكا. وقد تركز هذا الشرخ بالأساس في عمل الإدارة الأمريكية وتحديداً في المحاولات المستمرة والخائبة لقلب نتيجة الانتخابات إذ كان عمل الإدارة يمكن أن يتوقف لأي شيء وأي سبب. وقبل وقت قصير من توجه الحشد لمهاجمة الكابيتول، ألقى ترامب خطاباً تحريضياً لمؤيديه حضّهم فيه على القتال بصلابة أكبر ضد ما أسماه “تزوير” الانتخابات؛ وقال لهم “إنكم لن تستعيدوا بلادنا بالضعف.. ويجب عليكم إظهار القوة.. وعليكم أن تكونوا أقوياء”، وأمرهم بالتوجه إلى الكابيتول “لكي يستعيدوا بلادهم”.
تم تأكيد هذه الرسالة في تصريح المدعي العام رودي جولياني في التجمع الحاشد نفسه عندما طالب “بإجراء محاكمة عن طريق القتال”. وهذه الدعوة كانت مقاربة شعبوية نموذجية من أقصى اليمين، حيث قدمت للمتظاهرين إيماءة صريحة لكي يذهبوا ويفعلوا كل ما يرونه ضرورياً لمنع الكونغرس من الموافقة على نتائج الانتخابات الرئاسية (التي فاز بها بايدن).
المجتمع الدولي
يمكن تقسيم ردود الفعل الدولية على أحداث مهاجمة الكابيتول إلى فئتين رئيسيتين: الأولى – الليبراليون وحلفاء أمريكا في مختلف أنحاء العالم كانوا حقاً يشعرون بالقلق إزاء تدهور الخطاب الاجتماعي- السياسي في الولايات المتحدة، وقد ازداد الأمر سوءاً بسبب تصرفات ترامب وأنصاره، وهذا سيترك آثاراً سلبية كثيرة؛ وهذه الفئة من المجتمع الدولي كانت تنتظر لحظات التحول طوال السنوات الأربع الماضية، ويأملون بأن تأتي لحظة مغادرة ترامب للبيت الأبيض، لأنه أجهض جهود احتواء آثار التغير المناخي عندما أعلن الانسحاب بشكل أحادي من اتفاقية باريس للمناخ. كما أضعف جهود الأمن الجماعي عندما أعلن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني، وكان ينتقد بشكل متكرر وبشراسة المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وحلف الناتو، ومنظمة الصحة العالمية، وشن، في الوقت نفسه، حربا تجارية ضد الصين.
نظراً لأن الولايات المتحدة تقود هذا المعسكر (الليبرالي والديمقراطي) كما أن هذه القيم الأمريكية شكلت الركيزة الأساسية للأمن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، ولذا فقد راقب هؤلاء الحلفاء الأحداث في واشنطن بقلق شديد. ووجهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل انتقادات حادة لترامب، وصرحت أن مزاعمه العارية عن الصحة في ما يخص نتيجة الانتخابات التي شكلت حافزاً لأنصاره، خلقت ظروفاً مواتية لاندلاع العنف في العاصمة الأمريكية، وهذه الأحداث جعلت ميركل “غاضبة وحزينة”.
كما شجب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التمرد الفاشل ووصفه بأنه عمل غير أمريكي، أما رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي كان في فترة سابقة من أكبر مشجعي ترامب، فقد وجه انتقادات غير مباشرة للرئيس المنتهية ولايته لأنه يعرقل انتقال السلطة بصورة سلسة وسلمية ومنظمة. وكانت وسائل الإعلام في جميع أنحاء أوروبا أكثر قسوة في توجيه الانتقادات لترامب، وفي الوقت نفسه كانت تندب حالة تدهور الديمقراطية الأمريكية والمخاطر التي تجلبها هذه التحولات إلى العالم بأسره.
الفئة الثانية من الردود جاءت من المنافسين وأولئك الذين يريدون تصفية حسابات مع الولايات المتحدة. بالنسبة لهذه الفئة، كانت الأحداث الأخيرة في واشنطن تشكل لحظة فرح لأن خصمهم يواجه أوقاتاً عصيبة، وفي بكين، وموسكو، وطهران كان هناك شعور قوي بالسرور والفرح والشماتة (سرور يشعر به شخص ما لأن شخصاً آخر يواجه مصيبة).
هناك رجل قانون روسي مخضرم وصف التمرد والهجوم على الكابيتول بأنه نهاية الولايات المتحدة كنموذج يُحتذى للديمقراطيات في كل أنحاء العالم. وفي الوقت نفسه هاجمت وزارة الخارجية الروسية ما أطلقت عليه النظام الانتخابي الأمريكي العتيق، ووصفته بأنه “لا يلبي المعايير الديمقراطية الحديثة، ويخلق فرصاً لانتهاكات كثيرة ومتنوعة، ووسائل الإعلام الأمريكية أصبحت أداة للاقتتال السياسي الداخلي”.
أما بكين، فقد اختارت توجيه الانتقاد إلى وسائل الإعلام الأمريكية التي أطلقت على مثيري الشغب في واشنطن اسم “متظاهرين”، بينما وصفت مُحتجي هونغ كونغ الذين اقتحموا مقر السلطة التشريعية عام 2019 بأنهم “أبطال الديمقراطية”، وإضافة إلى هذه الملاحظات الساخرة أصدرت فنزويلا بيانا رسميا عبرت فيه عن قلقها بشأن استقرار الديمقراطية الأمريكية في أعقاب أعمال الشغب، وهذا البيان يُعتبر سخرية جادة بطريقة مرحة مخففة تحاكي اللغة التي يستخدمها ترامب عندما يتحدث عن الأزمة السياسية المستمرة في كاراكاس.
عملية التعافي
هناك مهمة حتمية في أعقاب أحداث التمرد والهجوم على مبنى الكونغرس التي توّجت أربعة أعوام فوضوية عدوانية، وهذه المهمة ملقاة على عاتق الإدارة الجديدة برئاسة بايدن، وبداية المهمة تتطلب إطلاق عملية تعافي في الداخل الأمريكي، وفي الوقت نفسه السعي لاستعادة نفوذ الولايات المتحدة في الخارج؛ وهي مهمة هائلة في ساحة الأرض المحروقة التي خلّفتها إدارة الرئيس المنتهية ولايته ترامب وراءها، ولكنها ليست بالمستحيلة.
العالم يراقب التطورات: الحلفاء يأملون في تعافي سريع للولايات المتحدة، والعودة إلى مكانتها السابقة التي تتمسك بقيمها التاريخية الجوهرية؛ وهناك المنافسون الذين يتمنون أن يروا أمريكا تواصل انحدارها المميت. هذه العوامل مجتمعة تشكل صورة السنوات الأربع القادمة لرئاسة جو بايدن، وهي الفترة الحاسمة والأشـــدّ حساسية في تاريخ البلاد، بالنسبة للشعب الأمريكي وبقية شعوب العالم.