هناك زخم إعلامي غير مسبوق من قبل واشنطن (رسمياً ومؤسساتياً) باتجاه الشرق الأوسط تحضيراً وتزامناً مع زيارة الرئيس جو بايدن للمنطقة، إلا أن قمة جدة هي من يحظى بالأولوية السياسية “إعلاميا” حتى من قبل الإعلام الإسرائيلي لا الأمريكي فقط، مما يضاعف من حجم الضغوط على البيت الأبيض.
تل أبيب تعوّل كثيرا على نجاح هذه الزيارة لما لها من تأثير مباشر على المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد وذلك تحضيراً للانتخابات البرلمانية المقبلة مطلع نوفمبر المقبل، إلا أن الأبعاد الاستراتيجية هي الماثلة والحاضرة في الرسائل الإسرائيلية المباشرة للرياض، متمثلة عبر حزمة من القرارات لم يكن أولها تجميد الأنشطة الاستيطانية، وكذلك تقديم حزم للفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلي، ذلك بالإضافة لمشاريع إسكانية في محيط القدس. ويهدف لابيد من خلال ذلك إلى تعميق التفاهمات مع شركائها في المواثيق الإبراهيمية، والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأصوات العربية في الانتخابات المقبلة.
ويظل الملف الأكثر حضوراً هو بالتأكيد تفاصيل الملف الإيراني، حيث ستسعى تل أبيب إلى التحصل على ما هو أبعد من ميثاق القدس الذي وُقّع بين الجانبين (الأمريكي والإسرائيلي)، حيث تعهدت واشنطن بضمانات أمنية لإسرائيل تتجاوز كل ما قدمته الولايات المتحدة سابقا، والميثاق هو بمثابة رسالة مباشرة لطهران، ذلك بالإضافة إلى إبقاء الحرس الثوري ضمن قائمة التنظيمات المصنفة “إرهابية” على القائمة الصادرة عن الخارجية الامريكية. إلا أن لابيد سيسعى لما هو أبعد من ذلك، وخصوصا في المساريين الفلسطيني والسعودي، فهو يسعى لتقديم ضمانات بتطوير آليات من شأنها تحفيز أطر جديدة لمقاربات إسرائيلية فلسطينية، وأن تلعب واشنطن وباقي الشركاء في المواثيق الإبراهيمية دور “الشريك الداعم”، فالظروف الموضوعية الإسرائيلية والفلسطينية غير مهيئة الآن لطرح مسار مباحثات سلام ملزمة للطرفين.
يائير لابيد والرئيس بايدن يسعيان لتحقيق مكاسب سياسية على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، كما كان الحال آبان توقيع المواثيق الإبراهيمية من قبل الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حينها، وقد تمثل “عرابين” حسن نوايا مشتركة تسبق وصول الرئيس بايدن لقمة جدة. إلا أن الواقعية تفرض مراعاة الأجندة السياسية الخاصة لكل منهما، فالرئيس بايدن في حاجة ماسة لتحقيق اختراق في ملف إمدادات الطاقة قبل غيره من الملفات، وذلك لما لذلك الملف من تأثير مباشر على المستهلك الأمريكي قبل ضمان إمدادات الطاقة للحلفاء الأوروبيين. أما على الصعيد الأمني، فإن مشروع المظلة الصاروخية الدفاعية المشتركة، قد يمثل أرضية مشتركة للنقاش مع الأخذ في الحسبان التحديات السياسية واللوجستية، ناهيك عن قابلية المنظومات على التكافل والتكامل.
الرئيس بايدن، سيسعى عبر زيارة الضفة الغربية لإيصال رسالة لجناح اليسار في الحزب الديمقراطي بمواصلة تعهده بحل الدولتين، إلا أن الرئيس عباس هو من سيملك اليد العليا في ذلك اللقاء لإدراكه حاجة بايدن لتأكيدات إيجابية من السلطة الفلسطينية. لذلك يجب أن يقدم الرئيس بايدن ما يتجاوز إعادة فتح القنصلية في القدس الشرقية، أو إعادة وحدة الارتباط العسكري، أو تقديم 100 مليون دولار لدعم الخدمات الطبية. وما تقدم قد يخدم إعادة الدفء للعلاقات السعودية الامريكية.
الأمن والتوازن لإقليمي هو الملف الذي سيكون الأكثر إجهاداً للرئيس بايدن في جدة خصوصا وأن ميثاق القدس قد خلا من وضع تنظيم الحوثي ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية التي تحظى برعاية ودعم إيران، فذلك التصنيف سيعزز من فرص عودة الحوثي إلى مائدة المفاوضات اليمنية بمسؤولية أكبر تجاه مسؤوليته الوطنية.
أمر إعادة الدفء للعلاقات السعودية الأمريكية يستلزم رسائل واضحة من واشنطن، إلا أنها تبقى متضاربة نسبيا رغم خروج جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي عبر وسائل الإعلام عشية مغادرة الرئيس بايدن لواشنطن، كي يسهم في تبيان موقف الإدارة من الرياض تحديدا، وأهمية السعودية استراتيجيا من المنظور الأمني للإقليم وكذلك الانتقال الدولي من الاعتماد على الطاقة الاحفورية الى المتجددة.
فبدون الشريك السعودي، فإن أمن واستقرار أسواق الطاقة، سيكون جسراً بعيد المنال للجميع، لذلك سيتعين على الولايات المتحدة، إن أرادت إنجاح التحول الدولي لمصادر طاقة بديلة ومتجددة، التنسيق الاستراتيجي مع أهم منتج للنفط وكذلك لمصادر الطاقة المتجددة مثل الهيدروجين الأخضر؛ فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تعدان أهم وأكبر الدول المستثمرة في مصادر الطاقة المتجددة والتقليدية، ويعد موقعهما الاستراتيجي وبالإضافة للأهمية السوقية لكليهما أحد أهم مصادر استقطاب رؤوس الأموال الأمريكية.
إقليميا، على واشنطن إدراك ثلاثة أمور، أولها أننا لسنا خصوما للولايات المتحدة رغم كل ما مرت به العلاقات الخليجية الأمريكية، بل نحن حلفاء من حقنا تمثيل مصالحنا من خلال علاقاتنا مع جميع الأطراف. ثانيها، على واشنطن أن تدير تفاصيل التزاحم الاستراتيجي مع الشرق (الصين وروسيا) بأدوات أقل خشونة في فضاء الشرق الأوسط. وثالثها، الدبلوماسية الرخوة لن تحقق الاختراق المطلوب في الحالة الإيرانية.