Insight Image

بيت العائلة الإبراهيمية وتعزيز منظومة “القيم العالمية”

17 فبراير 2023

بيت العائلة الإبراهيمية وتعزيز منظومة “القيم العالمية”

17 فبراير 2023

مقدمة

تعتبر منظومة القيم في أي مجتمع أساس سلوك ودوافع الأفراد، فهي العنصر الذي يشكّل ثقافة هذا المجتمع ويضبط سلوكه؛ لذا كان الحرص على تعزيز القيم في أي مجتمع هو ما يحقق وحدته وترابطه المأمول، وينعكس بالضرورة على الحالة العامة للمجتمع فيُشِيع فيه التعايش والتسامح والسلام. ولكل مجتمع قيمه التي هي المكوّن لثقافته وتفاعلاته. وبرغم أن لكل مجتمع قيمه وخصوصيته إلا أن هناك قيمًا عالمية تحظى بأهمية لدى كلّ فرد مهما كانت ديانته أو ثقافته. ويمكن تعريف القيم العالمية بأنها مجموعة من الخصائص ومعايير التعايش بين البشر، تشكل جزءًا من الطبيعة البشرية الفطرية التي تميل إلى السلام والتعايش والمحبة والاحترام وغيرها من الصفات الإيجابية التي تُسهم في تحسين وتعزيز قيم السلام العالمي بشكل عام.

وقد أوضحت خطة التنمية المستدامة لعام 2030 التي وضعتها الأمم المتحدة أن القيم العالمية هي التي تمنح أهداف التنمية المستدامة قدرتها على إحداث تحوّلات حقيقية، من خلال وضع الفرد وكرامته المتأصلة في صميم العمل التنموي، وتمكين جميع الأفراد من أن يصبحوا شركاء كاملين في هذا المسعى. وتسمح لنا هذه القيم بالنظر إلى ما وراء المجاميع المجردة لمعالجة قضايا التمييز والعنف والصراع في العالم. وتشير الخطة في أهدافها إلى أهمية تعزيز القيم العالمية المشتركة التي من خلالها يمكن خلق عالم يسوده التسامح والتعايش والسلام، عالم منفتح ومتسامح يُحترم فيه التنوع العرقي والثقافي.

في هذا الإطار جاء تأسيس بيت العائلة الإبراهيمية الذي يهدف بالأساس إلى إعلاء القيم والمشتركات الإنسانية، ونشر قيم المحبة التي أوصت بها الأديان السماوية وتحقيق السلام العالمي، وبذلك يلعب البيت دورًا مهمًا في تعزيز منظومة القيم العالمية.

وتسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على عدد من القضايا والمفاهيم العالمية ذات الصلة المباشرة بمفهوم القيم العالمية وبمشروع بيت العائلة الإبراهيمية، وتوضيح الدور الذي يلعبه البيت في تعزيز هذه القيم وترسيخها في نفوس البشر، وذلك بالنظر إلى أنه رمز جامع لتلاقي الأديان، يدعم الحوار بين أتباعها بهدف تعظيم المشترك.

أ- الأديان وتعزيز القيم العالمية:

إن الدعوة إلى عالم يقدّس قيم التسامح والتعايش والسلام وينبذ التطرف والكراهية والتمييز هي جوهر دعوة الأديان التي تحثُّ تابعيها على الوئام والإخاء وترشيد سلوكهم لتعزيز القيم العالمية التي أصبحت ضرورة لعيش حياة مشتركة، حيث لا يمنع اختلاف الأديان من العيش المشترك؛ ومن هنا كانت فكرة مشروع بيت العائلة الإبراهيمية في جمع مسجد وكنيسة وكنيس في مكان واحد لتشكل رسالة مفادها أن الأديان تتقارب وأن هناك مساحات كبيرة مشتركة بينها ينبغي تعظيمها والاستفادة منها في تحقيق السلام العالمي.

وتمتلك الأديان من الآليات التي تمكنها من أن تلعب دورًا مهمًا في خلق أرضية مشتركة تجمع البشر في عالم تعارفت فيه الشعوب وتداخلت مصالحها، ومن أهم هذه الآليات:

1- تحريك المساحات المشتركة:

تحث الأديان على اكتشاف المساحات المشتركة فيما بينها وعلى تعظيم هذه المساحات والاستفادة منها في تحقيق السلم والوئام بين الجميع، ولا يتأتى اكتشاف هذه المساحات إلا بالحوار بين رموز هذه الديانات واتباعها، هذا الحوار هو لب مشروع بيت العائلة الإبراهيمية.

في هذا السياق، فإن أصحاب الديانات مطالبون بالعمل معًا لتحريك مساحات القيم المشتركة بينهم، أما ما اختُلف فيه من أحكام ومعتقدات فيخص كلَّ أمّة على حدة. ويأتي على رأس هذا المشترك منظومة القيم التي تحتاجها الإنسانية في هذا العصر الذي تعيش فيه حالة من التقارب والتداخل بين شعوبها، ووحدة قضاياها، بشكل لم يكن له نظير سابق. وكل ذلك يستدعي تفعيل مفردات دينية مهمة، والرفع من قيمتها إلى أقصى درجة ممكنة، مثل: التعارف والتدافع وتدبير الاختلاف والسماحة والتراحم والتعاون على الخير مع الغير أيًّا كان[1]. فذلك يعدُّ من الفقه والفكر الواجب في هذا الوقت.

2- ترسيخ القيم الوسطية:

تحض الأديان أتباعها على العمل من أجل ترسيخ قيم التدين الوسطي المعتدل الذي يوفر الأمن والطمأنينة؛ من أجل نشر الوعي لمحاصرة الغلو والتطرف باسم الأديان، والحدّ من الإساءة إلى المقدسات، والتميز العنصري والعرقي، وغيرها من الصور النمطية المغلوطة للأديان.

3- مراعاة الخصوصية:

تؤكد الأديان على ضرورة احترام خصوصية كل دين، إذ إنه في إطار التأكيد على قيم المساواة بين البشر وعمق المشتركات الإنسانية، ينبغي أيضًا تفهّم الخصوصيات الدينية والثقافية لكل دين وعدم الإساءة لأتباعه، والتحاور حول هذه الخصوصيات لإيضاح ما يلزم إيضاحه عملًا بما دأبت عليه الديانات في الإيضاح والبيان.

4- حوار الأديان:

تحض جميع الأديان على الحوار فيما بينها من أجل تفهم الخصوصيات وتعظيم المشتركات، ولا شك أن حوار الأديان يسهم من جهة، في تفنيد وتفكيك بعض المفاهيم التي تحض على الصدام، مثل مفهوم الصراع الحتمي للحضارات وصدامها، كما يساعد من جهة أخرى في تعزيز قيم الصداقة والتعاون بين الأمم والشعوب لصالح الجميع، وفي التأكيد على فطرية القيم الإنسانية ودورها في تكوين شخصية الاعتدال وتفّهم التنوع بين البشر، وعدم تحويلها إلى خوف وكراهية وصراع[2].

 

ب- المواطنة العالمية:

انتشر مصطلح “المواطَنة العالميّة” منذ أكثر من 30 عامًا، وتكرّس رسميًّا على أثر نشر منظمة اليونسكو وثيقة أهداف التنمية المستدامة (2015 ــــ 2030). ويعبّر مصطلح “المواطنة العالمية” عن ثقافة الانفتاح الفكري، والانتماء إلى المجتمع الدولي والإنساني، وتحمُّل المسؤولية تجاه المصلحة العامة في مختلف أنحاء العالم، والالتزام بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية[3].

وتسعى المواطنة العالمية إلى إعداد الأفراد للتفاعل مع عالم يسوده تعدُّد الثقافات والتغيُّر المتسارع، وإلى المساهمة الفاعلة في قيادة العالم نحو التقدم والتطور. فهي تنظر إلى كوكب الأرض باعتباره وطنًا للجميع تجب المحافظة عليه وصَوْن موارده، وتنظر إلى جميع الناس باعتبارهم أسرة واحدة يحترم بعضها بعضًا وتتعايش في إطار من التسامح والتفاهم واحترام الخصوصيات الثقافية لكل شعب، وترى أنّ معظم المشكلات التي تحدث في أي مكان لا يقف تأثيرها على فئة محددة من البشر بل تمتد إلى دول العالم؛ ومن هنا تعتبر عالمية المشكلات والقضايا ركيزة أساسية للاهتمام بالمواطنة العالمية، ويصبح من الضروري تزويد الأفراد بالمعرفة والمهارات والقيم والاتجاهات التي تساعدهم على التكيّف مع هذه المتغيرات ومواجهة تحدياتها بحكم انتمائهم للمجتمع العالمي. وينبع الاهتمام بالمواطنة العالمية من إسهامها في بناء شخصية متكاملة قادرة على التفاعل الإيجابي مع الحاضر والمستقبل، كما أنها تُسهم بشكل فعال في النمو الروحي والأخلاقي والاجتماعي والثقافي للفرد فتجعله مواطنًا عالميًّا يسعى إلى فهم العالم، وقادرًا على اتخاذ القرار المناسب، ويتحمّل المسؤولية ولديه القدرة على المشاركة في تقديم الحلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية على المستويين المحلي والعالمي، ولديه وعي بقيم المواطنة والانتماء واحترام الذات والآخرين وتنوّع الثقافات وتعزيز قيم التعايش السلمي والتعاون بين الشعوب.

وتُعرَّف المواطنة العالمية بأنها إيمان الفرد بضرورة التعايش السلمي مع الثقافات الأخرى حول العالم وإلمامه بالقضايا العالمية ومشاركته في إيجاد الحلول المناسبة لها وشعوره بالانتماء إلى العالم أجمع، واحترامه لمبادئ المساواة وحقوق الإنسان والتسامح والعدالة الاجتماعية واهتمامه بالبيئة العالمية وأهمية المحافظة عليها. وتُعرَّف أيضًا بأنها مشاركة الأفراد ووعيهم وإدراكهم لواجبات والتزامات معيّنة تحقّق الاندماج والتشارك وفق المعايير والقوانين والقيم التي تُعلي من شأن الفرد وتنهض به، وتحافظ على مصالح البيئة العالمية، وتجعل الفرد محققًا أهداف المسؤولية العامة من خلال الأطر الدولية والالتزام بقضايا ومشكلات العالم. وهي مجموعة من القيم، مثل الانتماء والمشاركة الفاعلة والديمقراطية والتسامح والعدالة، التي تؤثر على شخصية الفرد فتجعله أكثر إيجابية في إدراك ما لَه من حقوق وما عليه من واجبات نحو الوطن الذي يعيش فيه ونحو أمته والعالم بأسره[4].

وبناء عليه، فإن متطلبات المواطنة العالمية تتمثل في التعايش مع الآخرين على اختلاف دياناتهم وأجناسهم ومذاهبهم الفكرية، والوعي بحقوق الإنسان والعمل على صيانتها، والإلمام الواسع بالموضوعات والقضايا المحلية والعالمية، والانخراط في مؤسسات المجتمع المدني المحلية والعالمية.

ومن شأن مشروع بيت العائلة الإبراهيمية أن يدعم الجهود التي تبذل من أجل تحقيق المواطنة العالمية، فالمشروع عبر مكوناته التي تضم أماكن عبادة لديانات الإسلام والمسيحية واليهودية في مكان واحد، يشجع الأفراد مهما كانت اختلافاتهم الدينية على التسامح والتفاهم وقبول الآخر واحترام الخصوصيات، كما يحفز الجميع على التعايش السلمي مع الأديان والثقافات الأخرى، وكل من متطلبات تحقيق تلك المواطنة.

 

ج-“القيم العالمية”.. مبادرات فردية وأممية:

يلعب الأفراد والمؤسسات الدولية دورًا مهمًّا في تعزيز القيم العالمية المشتركة؛ وهناك العديد من المبادرات التي طرحت بواسطة أفراد ودول ومنظمات دولية تدعو كلها لترسيخ القيم العالمية. ونظرًا لتعدد المبادرات الفردية وصعوبة حصرها، فإنه سيتم الإشارة إلى بعض المبادرات التي طرحتها الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة مثل اليونسكو.

  • مبادرة تعليم عالمي للأمم المتحدة: وهي مبادرة تهدف من خلال التعليم إلى أن يضطلع الفرد بدوره المركزي كاملًا في مساعدة الناس على العيش في مجتمعات تسودها العدالة والأمن والاعتدال[5]. ووفقًا للأمم المتحدة، يوفّر تعليم المواطنة العالمية للطلاب فهمًا ومهاراتٍ وقيمًا يحتاجون إليها للمساعدة في تجاوز التحديات الفكرية في القرن الـ 21، التي تشمل التغير المناخي، والصراع، والفقر، والمجاعة والتمييز.
  • التعليم من أجل المواطنة العالمية: قدّمت منظمة اليونسكو هذه المبادرة التي تهدف إلى تمكين المتعلّمين من جميع الأعمار من الاضطلاع بأدوار فعالة، سواء على الصعيد المحلي أو العالمي، وإلى بناء مجتمعات أكثر سلامًا وتسامحًا وشمولية وأمنًا. ويستند التعليم من أجل المواطنة العالمية إلى ثلاث مجالات تخص التعلّم المعرفي، والاجتماعي والسلوكي.
  • المجال المعرفي: ويتمثّل في المعارف ومهارات التفكير الضرورية لتحقيق فهم أفضل للعالم وتعقيداته.
  • المجال الاجتماعي العاطفي: ويتمثّل في القيم والسلوكيات والمهارات الاجتماعية التي تمكّن المتعلّمين من النمو بفعالية على المستوى النفسي والجسدي، وهو ما يسمح لهم بالتعايش مع الآخرين على أساس الاحترام والسلام.
  • المجال السلوكي: ويتمثّل في التصرف والأداء والتطبيق العملي والالتزام.

ويسترشد عمل اليونسكو في هذا المجال بإطار العمل الخاص بالتعليم حتى عام 2030، ولاسيما الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة بشأن التعليم، التي تدعو البلدان إلى “ضمان أن يكتسب جميع المتعلّمين المعارف والمهارات اللازمة لدعم التنمية المستدامة، بما في ذلك جملة من السُّبُل، من بينها التعليم لتحقيق التنمية المستدامة واتِّباع أساليب العيش المستدامة، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، والترويج لثقافة السلام ونبذ العنف، والمواطنة العالمية، وتقدير التنوّع الثقافي وتقدير إسهام الثقافة في التنمية المستدامة”[6].

  • مجلس القادة المتعدد الأديان: تعدُّ منظمة “أديان من أجل السلام” إحدى الشركاء الأساسيين للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في تعزيز التزامات القادة وممثلي الأديان والمؤسسات الدينية في سياق الاستعداد للمنتدى العالمي للّاجئين عام 2023، وهي أكبر تحالف قيادي ديني يمثّل التقاليد الدينية العالمية من خلال المنظمات المشتركة بين الأديان على المستويات الإقليمية والمحلية/الوطنية. وحرصًا على تعزيز التعاون مع القادة الدينيين قُبيل انعقاد المنتدى العالمي للّاجئين في عام 2023، شكّلت المفوضية ومنظمة “أديان من أجل السلام” مجلسًا متعدد الأديان لهؤلاء القادة بغرض دعم الجهود المشتركة التي يبذلها القادة الدينيون في مختلف المناطق ومن كلّ العقائد للتصدي للمسببات الجذرية للّجوء، وذلك عبر رفد جهود حشد الدعم العالمية، وتلافي الصراعات، ومبادرات المصالحة وبناء السلام والتلاحم الاجتماعي[7].

ولا شك في أن المجتمع الدولي والأسرة الدولية يبذلان جهودًا كبيرة من خلال مثل هذه المبادرات لتحقيق القيم العالمية، وهو ما يتماشى مع الرسالة التي من أجلها تم تأسيس بيت العائلة الإبراهيمية، إذ إن أهداف هذه المبادرات هي نفسها أهداف البيت الإبراهيمي، فكلاهما يسعى إلى تشجيع التعايش السلمي والانفتاح وقبول الآخر واحترام الخصوصيات، وفيما تعتمد تلك المبادرات على التعليم كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف، يسعى البيت الإبراهيمي إلى تحقيقها عبر تشجيع الحوار بين الأديان وأتباعها كي يسود في النهاية السلم والوئام والعيش في أمان واستقرار، الأمر الذي يجعلهما في النهاية يكمل بعضهما بعضًا في تعزيز هذه القيم السامية.

د- البيت الإبراهيمي ودوره في تعزيز القيم العالمية:

يلعب مشروع بيت العائلة الإبراهيمية أدوارًا عديدة في تعزيز القيم العالمية؛ فعلاوة على ما سبق الإشارة إليه من دوره في تشجيع الحوار بين الأديان الذي يعمل على تعظيم المشترك، ودوره في تحقيق المواطنة العالمية، فإنه – بذاته – يلعب دورًا مهمًا لا غنى عنه في تعزيز منظومة القيم العالمية التي تشمل التعايش والتسامح والمحبة واحترام الخصوصيات وقبول الآخر، وغيرها من القيم التي تُسهم في تعزيز السلام العالمي.

إن اللقاء التاريخي الذي جمع في 4 فبراير 2019 اثنين أهم الرموز الدينية في العالم، هما فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية؛ لتوقيع وثيقة “الأخوة الإنسانية” من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، يعدُّ من أهم الأحداث في التاريخ الحديث للبشرية حيث يعكس أهمية الدين في تعزيز القيم المشتركة وترسيخ ثقافة الحوار والتعاون بين الأديان لخلق مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

وكما كانت وثيقة الأخوة الإنسانية مبادرة فريدة من نوعها تكرس روح التسامح والسلام بين جميع الأديان، فإن مشروع بيت العائلة الإبراهيمية يمثل هو الآخر تجسيدًا لفكرة المجتمع المشترك، واستكمالًا لما نصت عليه الوثيقة من دعوة للتآخي والمصالحة بين الأديان. فهذا المشروع الذي جمع (المسجد، والكنيسة، والكنيس) تحت سقف صرح واحد يعكس القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية واليهودية، ويحفظ في الوقت ذاته لكل دين خصوصيته. كما يجسد المشروع أهمية تواصل الحضارات الإنسانية والرسالات السماوية، وما أكدت عليه وثيقة الأخوة الإنسانية من أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وأن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة هي حكمة لمشيئة إلهية، خلق الله البشر عليها، وجعلها أصلًا ثابتًا تتفرع عنه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على دين بعينه أو ثقافة محددة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر.

إن بيت العائلة الإبراهيمية الذي يشجع الحوار بين الأديان بهدف تعظيم المساحات المشتركة بينها واحترام خصوصية كل منها وذلك من أجل تعزيز التعايش والتسامح بين البشر، يلعب عبر سعيه لتحقيق هذه الأهداف دورًا رئيسيًا في تحقيق منظومة القيم العالمية التي ينبغي أن يتحلى بها البشر في مختلف أنحاء العالم، وهو ما يساعد في خلق المواطنة العالمية التي يتسم حاملها بالرغبة في العيش بسلام وقبول الآخر واحترام خصوصياته الدينية والثقافية.

خاتمة:

شهد القرن العشرون محاولات دائبة لتفعيل منهج الحوار لإيجاد صيغ جامعة تقلِّص الهوة بين الديانات والإيديولوجيات المختلفة، وتضع أرضية مشتركة لقيم أخلاقية إنسانية جامعة تُسهم في نبذ العنف وإرساء التعايش السلمي بين الأديان. وقد ظهرت بوادر التفكير في “أخلاق عالمية جامعة” في المؤتمر الثاني لـ “برلمان أديان العالم” الذي أصدر “إعلان من أجل أخلاق عالمية” الذي صاغ مسودته عالم اللاهوت هانس كينغ الذي أكد من خلاله ضرورة الحوار لترسيخ العيش المشترك والسلام بين الأديان[8].

وفي هذا السياق شهد القرن الحادي والعشرون العديد من المبادرات الدولية لمأسسة وسائل التعايش والسلام العالمي بين الأديان، والتي من أبرزها وثيقة “الأخوة الإنسانية”، التي كانت منطلقًا لتأسيس بيت العائلة الإبراهيمية. هذا المشروع الذي يحظى بأهمية كبيرة تنبع من أهمية الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، وتزداد الحاجة إليه وإلى مزيد من المبادرات المماثلة بالنظر إلى توافر مجموعة من الظروف التي من شأنها أن تشكل بيئة صالحة لنمو الصراع والنزاع، من بينها النتائج الكارثية لانتشار الأمراض والأوبئة، التي ظهرت بشكل جليّ في أزمة كوفيد-19، والتغيّرات المناخية الحادة التي يشهدها العالم وما يترتب عليها من تداعيات سلبية تطال مختلف مناحي الحياة، ونمو اتجاهات التطرف والتطرف العنيف، وتطور طبيعة الحروب في ظل القوة التدميرية الهائلة التي باتت تمتلكها الدول، وتراجع معدلات التنمية ومعدلات التعليم على مستوى العالم، وارتفاع نسب الفقر ومعدلات التهديدات الاجتماعية.

في الختام، لا يسعنا سوى التأكيد على أن بيت العائلة الإبراهيمية ما هو إلا لبنة أولى يجب البناء عليها من كل القيادات العالمية، السياسية والدينية، من أجل ترسيخ القيم العالمية التي تدعو إلى التعايش والتسامح وقبول الآخر واحترامه وذلك وصولًا إلى تحقيق السلام العالمي.

المراجع

[1] – سعيد شبار، “دور الأديان في تعزيز القيم المشتركة لدى الإنسان”، هسبريس، 9 أبريل 2019، https://bit.ly/413kxHB

[2] – “ملتقى القيم المشتركة بين أتباع الأديان: يجب تعزيز السلام والتضامن حول العالم”، العربية نت، 11 مايو 2022، https://bit.ly/3I3jBKD

[3] نضال حيدر، “ثقافة المواطَنة العالمية ودلالاتها”، الآداب، 31 أكتوبر 2018، https://bit.ly/3IrVkzg

[4] – فداء محمود الشوبكي، “المواطنة العالمية ومكانتها في المنهاج الدراسي”، موقع تعليم جديد، 20 مارس 2021، https://bit.ly/3XHQse4

[5] – لمزيد من التفاصيل انظر: https://www.un.org/ar/122256

[6] – ما هو التعليم من أجل المواطنة العالمية؟، اليونسكو، لمزيد من التفاصيل انظر: https://ar.unesco.org/themes/gced/definition

[7] – مجلس القادة متعدد الأديان، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لمزيد من التفاصيل انظر: https://www.unhcr.org/ar/61b1df2d4.html

[8] – “التعددية الدينية والأخلاق العالمية.. قراءة في أطروحات اللاهوت المسيحي المعاصر، جون هيك وهانس كينج نموذجا”، مجلة المعيار، العدد 34، 2013، ص 265–287. https://bit.ly/40XcrAr

المواضيع ذات الصلة