المقدمة
كانت لعودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان منتصف أغسطس الماضي تداعيات تجاوزت الحدود الإقليمية لمنطقة آسيا الوسطى إلى مناطق أخرى من العالم، ولاسيَّما تلك التي تتمتع فيها الجماعات المسلحة والمتطرفة بنفوذ كبير مثل منطقة الساحل والصحراء. وتشكل هذه الجماعات أكبر تحدٍّ تواجهه اليوم مجموعة الدول التي يطلق عليها دول الساحل الخمس، وهي: (مالي، موريتانيا، النيجر، بوركينا فاسو، تشاد)؛ وهو تحدٍّ لم يعد مقتصراً على الجانب الأمني فقط، وإنما تجاوز ذلك إلى بقية العوامل الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمنذ أن استوطنت الجماعات المسلحة منطقة الصحراء الكبرى، وخاصة إقليم أزواد في شمال مالي، منذ أكثر من عقد، تغيرت معادلة الصراع السياسي في المنطقة، حيث تحولت جهود التنمية المحلية لدول المنطقة إلى صراع محتدم من أجل فرض الاستقرار، ومجابهة الكثير من التحديات الاجتماعية الناجمة عن اختراق التنظيمات الإرهابية لبعض التجمعات المحلية، خاصة في شمال مالي، وفي المثلث الحدودي الذي يربط بينها وبين دولتي بوركينا فاسو والنيجر. ولذلك فإن هذه الدول، تواجه اليوم أكبر التحديات الأمنية، بينما يسود قلق كبير من إمكانية أن يسهم ما حدث في أفغانستان في تعزيز نفوذ الجماعات المتطرفة والإرهابية في منطقة الساحل والصحراء.
وتهدف هذه الورقة إلى بيان مدى تأثير عودة طالبان إلى الحكم في الجماعات المسلحة في تلك المنطقة؛ ولاسيَّما المرتبطة منها بالقاعدة أو تنظيم داعش. وفي هذا الإطار، لابدَّ أولاً من التعرف على طبيعة تلك الجماعات؛ وبيان كيف استطاعت أن تنسج خيوطها في المنطقة وخارجها؛ وثانياً، الإجابة عن السؤال المطروح هنا حول آلية الربط بين الطرفين، وإذا ما كانت هناك علاقة أم لا، وأخيراً استكشاف حدود تأثير طالبان المباشر وغير المباشر في الجماعات المسلحة المتطرفة والإرهابية في منطقة الساحل والصحراء.
الجماعات الإرهابية المسلحة في منطقة الساحل
الحديث عن الجماعات الإرهابية المسلحة في منطقة الساحل يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن التكتل الذي ظهرَ في الثاني من شهر مارس 2017 تحت اسم “نصرة الإسلام والمسلمين”؛ لأن هذا الأخير ضم أبرز الحركات المسلحة الناشطة في منطقة الساحل، والمنبثقة في الأصل عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
أما أبرز تلك التنظيمات فهي:
- تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي: وهو التنظيم الأصلي لبقية التنظيمات الأخرى، ومرجعيتها الأيديولوجية والرمزية، والمحدِّد لخطها المسلح، وهو التنظيم الأقدم تاريخياً، والأكثر خبرة، وتنتمي إليه أكثر العناصر خبرة وتجربة في العمل المسلح في منطقة الصحراء والساحل. فضلاً عن كونه يمثل الخيط الذي يربط بقية التنظيمات الأخرى بتنظيم القاعدة الأم.
وبعد مقتل، عبد المالك دروكدال – الزعيم التاريخي للتنظيم- في عملية عسكرية فرنسية شمال مالي في 5 يونيو 2020، اختار التنظيم لقيادته، الجزائري مبارك بن يزيد، المدعو أبو عبيدة يوسف العنابي في 22 نوفمبر 2020.
- تنظيم “المرابطون“: وقد أسسه الإرهابي المختفي، مختار بلمختار، الملقب بالأعور عام 2013؛ جرَّاء تحالف مع حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، لكن التنظيم شهد انقساماً في أكتوبر 2015، عندما أعلن أحد قادة التوحيد والجهاد، وهو أبو الوليد الصحراوي (قتل يوم 15 سبتمبر 2021 على يد القوات الفرنسية) ضم المرابطين لتنظيم داعش، وهو ما رفضه مختار بالمختار، الذي أعلن تمسكه حينها بالولاء لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، قبل أن يصبح لاحقاً جزءاً من جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. ولا يعرف اليوم من هو القائد الفعلي لتنظيم المرابطين، خاصة بعد اختفاء مؤسسه مختار بلمختار.
- تنظيم حركة أنصار الدين: تأسس عام 2013 على يد الزعيم الطوارقي، إياد آغ غالي، الذي يتولى اليوم قيادة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وقد اعتمد التنظيم في بداية تأسيسه على قومية الطوارق (أحد مكونات سكان شمال مالي)، لكنه تبنّى أيديولوجية تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وكان بمنزلة الغطاء السياسي والاجتماعي لها خلال سيطرتها على منطقة شمال مالي في تلك الفترة.
وبعد استعادة الحكومة المالية بدعم فرنسي، السيطرة على مدن شمال مالي، اختفى إياد آغ غالي، ليظهر لاحقاً في أكثر من تسجيل صوتي برفقة زعماء تنظيم القاعدة، قبل أن يُعلن عنه رسمياً كأمير لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في إعلان تأسيسها عام 2017.
- جبهة تحرير ماسينا: البدايات الأولى لنشأة هذه الجبهة تعود إلى الصـراع بين الحكومة المالية وتمرد حركة تحرير أزواد التي كانت تضم أغلبية من الطوارق نهاية عام 2011، إضافة إلى القوميات العرقية الأخرى، بما في ذلك قومية الفولان التي ستكون النواة الحقيقية لجبهة تحرير ماسينا نهاية عام 2012 [1].
لكن طغيان النزعة القومية لدى الأقلية الفولانية في وسط مالي، دفعت بعض قادتها إلى الانضمام لحركة “أنصار الدين” التي تبنَّت، حينذاك، أيديولوجية تنظيم القاعدة، ليُعلن قادتها في وقت لاحق تأسيس كتيبة “تحرير ماسينا”، الخاصة بقومية الفولان تحت قيادة أمادو غوفا، إذ استطاع هذا الأخير استقطاب آلاف المقاتلين من قومية الفولان من ذوي التوجه الديني- القومي. وهو توجه سيتمكن زعيم الحركة من تطويعه لمصلحة التحالف مع تنظيم القاعدة ومن ثم الانخراط في جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.
الامتداد الإقليمي للجماعات المسلحة في الساحل:
لطالما شكل التمدد الإقليمي واحداً من أكبر أهداف الجماعات المسلحة في الساحل والصحراء، وهو ما جسده الظهور الإعلامي المتكرر لقادة تلك التنظيمات، الذين يثنون فيها على بعض العمليات التي تُنفَّذ من طرف مجموعات إرهابية أخرى خارج فضائها الذي تتحرك ضمنه.
وبرغم أن استراتيجية تنظيم القاعدة تقوم على التقسيم الترابي لمجال تحرك الكتائب والسرايا؛ فإن ذلك لم يشكل حاجزاً أمام رغبتها في التمدد الإقليمي على حساب منافسيها من الجماعات الإرهابية الأخرى، خاصة تنظيم داعش الذي بات له وجود في الحيز الجغرافي نفسه الذي تتحرك فيه نصـرة الإسلام والمسلمين. وقد نجم عن ذلك التمدد حدوث بعض المواجهات المسلحة مع الخصوم المحليين، مثلما حدث مع فرع تنظيم داعش في سبتمبر 2020 [2].
من جهة أخرى لا يمكن تجاهل العلاقة التي رُصِدَت بداية تشكلها بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجناح حركة بوكو حرام الموالي لتنظيم القاعدة الأم، وهي علاقة ستتحول مع مرور الوقت إلى مرحلة تبادل الخبرات الإرهابية.
ويذهب بعضهم إلى القول إن تشابه ظروف بعض المجموعات المنضوية تحت نصـرة الإسلام والمسلمين وحركة بوكو حرام، كفيلة بوجود علاقات بين الطرفين. فجبهة تحرير ماسينا – التي تشكل قومية الفولان الأفريقية أغلبية عناصرها- لديها روابط مشتركة مع بوكو حرام بدءاً من الانتماء العرقي، مروراً بالتوجه الديني، وانتهاء إلى البعد القومي. فضلاً عن وجود عدو مشترك لكلا الطرفين، وهو حكومات دول المنطقة مثل مالي ونيجيريا [3].
جذور العلاقة بين طالبان والجماعات المسلحة في الساحل
لا يمكن الحديث عن العلاقة بين حركة طالبان والجماعات المسلحة في الساحل والصحراء، دون الحديث عن السياق العام الذي يؤطر تلك العلاقة، وهو ما يحيلنا مباشرة إلى العلاقة بين تنظيم القاعدة الأم، وحركة طالبان في تسعينيات القرن الماضي؛ ذلك أن أغلب الجماعات المسلحة، التي تنشط اليوم في منطقة الساحل والصحراء، تُعدُّ جزءاً من تنظيم القاعدة الأم في أفغانستان، وبالتالي فإن نسج أي علاقة بين طالبان وأي فرع من فروع تنظيم القاعدة سيمر حتماً عبر قيادة التنظيم الأم، الذي هو المسؤول بدرجة أو بأخرى عن السياسات العامة للفروع، بما في ذلك التوجيه والتأطير والمشاركة في رسم الأهداف، وفق ما تقتضيه العلاقة بين التابع والمتبوع [4].
ومن خلال تتبع الخيوط الأولى للتواصل المفترض بين الجماعات المسلحة في الساحل والصحراء، وحركة طالبان، يمكننا الحديث مباشرة عن بعض العناصر التي زارت أفغانستان قادمة من منطقة الساحل، إبان حكم طالبان لها في الفترة ما بين الأعوام من 1996 حتى 2001 سواء كان ذلك بهدف الانخراط في تنظيم القاعدة، أو الهجرة إلى ما كان يُعدُّ حينها، أرض الإمارة الإسلامية، للاستلهام من تجربتها.
ومن أبرز تلك الشخصيات، نذكر القيادي التاريخي في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الجزائري مختار بلمختار، الملقب بالأعور، واسمه الحقيقي خالد أبو العباس [5]، وهو العضو المؤسس للعديد من الكتائب والسـرايا داخل جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التي تضم اليوم أغلبية الجماعات المسلحة، التي كانت تنشط في منطقة الساحل تحت مسميات مختلفة.
فبحسب العديد من المصادر، فإن عودة مختار بلمختار في تسعينيات القرن الماضي من القتال ضد قوات الحكومة الأفغانية، يمكن اعتباره بمنزلة الخيط الأول للتواصل بين الجماعة السلفية للدعوة والقتال – التي تحولت لاحقاً إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي – ومقاتلي حركة طالبان [6]، إذ سرعان ما تحول بعد عودته إلى قائد بارز في التنظيم حتى اختفى عن الأنظار منذ عام 2016 [7].
وبرغم عدم وجود ما يشير إلى أي دور لمختار بلمختار لمصلحة حركة طالبان بعد عودته؛ فإن نشاطه داخل الفرع المغاربي لتنظيم القاعدة، قد مكَّنه من التأثير في التوجه العام للتنظيم لمصلحة تنظيم القاعدة الأم، حيث أصر خلال عام 2015 على إبقاء ولاء “كتيبة المرابطين” – التي كان يقودها – لمصلحة تنظيم القاعدة الأم، كما كانت كتيبته (تنظيم المرابطين) جزءاً من إعلان ولاء “جماعة نصـرة الإسلام والمسلمين” لزعيم القاعدة أيمن الظواهري، وزعيم حركة طالبان، الملا هبة الله آخوند زاده، وذلك غداة إعلان تأسيسها في بداية مارس 2017 [8].
آليات ربط الصلة بين الطرفين
بما أن العديد من المصادر اليوم تتحدث عن اختفاء مختار بلمختار، ميتاً كان أو مريضاً، فإن ذلك الوضع كفيل بأن يؤثر في أي وسيلة للتواصل بين جماعة “نصـرة الإسلام والمسلمين” التي ينتمي إليها وحركة طالبان أو تنظيم القاعدة هناك. هذا إضافة إلى وجود عامل آخر، قد أثر بشكل كبير في حركة التواصل بين التنظيمات المسلحة في منطقة الساحل وغيرها من التنظيمات المماثلة لها في العالم.
ويتمثل العامل الأخير في وجود القوات الفرنسية وحليفتها الأفريقية والأممية في منطقة الساحل عموماً، مثل القوة المشتركة لمجموعة دول الساحل التي تأسست عام 2017، وبعثة الأمم المتحدة المتمركزة في قاعدة “أجلهوك” شمال مالي المعروفة اختصاراً بـ”MINUSMA”، وقوة “تاكوبا” الأوروبية التي تأسست في أكتوبر 2020، بهدف تدريب الجيوش المحلية ومواكبتها [9].
فالحملات العسكرية المكثفة التي شنتها القوات الفرنسية في إطار عملية “برخان” منذ عام 2014، قد مكنتها من تحييد العديد من قادة تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، ومن أبرزهم زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (عبد المالك دروكدال) الذي قتل بداية يونيو 2020. كما قتل قبل ذلك بأشهر كل من “أبي عبدالرحمن المغربي” الرجل الثاني في “جماعة نصـرة الإسلام والمسلمين”، التابعة لتنظيم القاعدة، والجزائري جمال عكاشة، المعروف بـ”يحيى أبو الهمام” أمير إمارة الصحراء في التنظيم نفسه [10].
وإذا أدركنا أن التنظيمات المسلحة في منطقة الساحل قد باتت تعتمد في تواصلها مع العالم الخارجي على الشبكة العنكبوتية وشبكات التواصل الاجتماعي، للاحظنا أن نشاطها في هذا المجال قد بات محدوداً جداً خلال السنوات الأخيرة؛ وذلك بسبب تكثيف القوى الغربية، وخاصة فرنسا الحاضرة بقوة في المنطقة، لآليات رصد نشاط تلك الجماعات ومتابعتها [11].
وبالتالي فإن وسائل التواصل الأكثر اعتماداً من طرف الجماعات المسلحة في منطقة الساحل مع غيرها تكاد تختصر على نشر البيانات وأشرطة الفيديو المسجلة على المنتديات التابعة لها، وهي عملية باتت تأخذ وقتاً أكثر، بسبب المراقبة الإلكترونية. وهذا بدوره يحد من مواكبة تلك الجماعات لتطورات الأحداث والتفاعل معها في الوقت المناسب، كما يكاد يحصر نشاطها الخارجي في دائرة التعاطف الوجداني فقط [12].
وبناء على ذلك، يمكننا اليوم، استنتاج طبيعة علاقة التأثير والتأثر بين الحركات المسلحة في الساحل والصحراء وحركة طالبان.
مظاهر تأثير طالبان في جماعات الساحل
لا يخفى على المتابع وجود العديد من العوامل التي تجعل الجماعات المسلحة في الساحل والصحراء تتأثر بحركة طالبان، وهي التي يمكن حصرها في النقاط التالية:
- إن حيازة حركة طالبان للسبق بإعلانها إمارة إسلامية في الفترة ما بين عام 1996 إلى غاية إسقاطها على يد قوات التحالف الغربي في عام 2001، جعل منها نموذجاً يُحتذى به بالنسبة إلى التنظيمات المسلحة في الساحل، وهو ما جعل الأخيرة تعلن في 26 مايو 2012؛ تأسيس إمارة إسلامية في شمال مالي بعد القضاء على نفوذ الدولة المالية في إقليم أزواد الذي يضم ولايات تمبكتو، وغاوة، وكيدال[13].
- تشترك حركة طالبان، وحركة أنصار الدين -أحد فروع تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين- في كونهما نتاجاً محلياً بحتاً، وهو ما جعل المتابعين يلقبون حركة “أنصار الدين” بـ”طالبان الأزواد”؛ أي إن المنخرطين في الحركتين ينتمون ثقافياً وعرقياً إلى المجتمع المحلي، وهذا يجعل إحداهما، خاصة أنصار الدين، ترى في حركة طالبان نموذجاً يجدر الاحتذاء به [14].
- يمكننا الحديث عن تشابه السياقين السياسي والأمني في كل من مالي وأفغانستان أيضاً، إذ لم يتمكن البلدان من تحقيق استقرار سياسي يسمح لهما بإحداث تنمية محلية أو تهدئة اجتماعية، بل فشلت حكومتا البلدين، خلال العقدين الأخيرين، في التوصل إلى إجماع سياسي، فضلاً عن فشلهما الذريع في ضبط الجوانب الأمنية، وهو ما مهد إلى عودة حركة طالبان في أفغانستان، وتكثيف نشاط الجماعات الإرهابية في شمال مالي، ومنطقة المثلث الحدودي بينها وبين النيجر وبوركينا فاسو.
- حققت حركة طالبان العديد من الانتصارات العسكرية على حساب الحكومة المركزية في كابول خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي تمكنت فيه الجماعات المسلحة في منطقة الساحل من تنفيذ المزيد من العمليات الدموية في بعض دول الساحل، خاصة مالي والنيجر وبوركينا فاسو[15].
- تخوض كل من حركة طالبان، ونصرة الإسلام والمسلمين، حرباً ضد عدو خارجي، ممثلاً في الولايات المتحدة في أفغانستان، وفرنسا في منطقة الساحل، كما يتوق الطرفان -أي طالبان وجماعة نصـرة الإسلام والمسلمين- إلى ملء الفراغ الذي تخلفه الدولتان، خاصة أن فرنسا أعلنت إيقاف عملية “برخان” العسكرية التي كانت أطلقتها قبل سبع سنوات [16].
- ترى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان انتصاراً لحركة طالبان، وهو انتصار تتوق إلى إعلان تحقيقه، بعد انسحاب القوات الفرنسية من منطقة الساحل [17].
لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: إلى أي حد يمكن للجماعات المسلحة في منطقة الساحل أن تستلهم من انتصار حركة طالبان الأخير؟
شكّلت سيطرة طالبان على أفغانستان منتصف أغسطس الماضي، مرحلة جديدة في مسار الصـراع الطويل بين الحكومة المركزية وحليفها الولايات المتحدة من جهة، وحركة طالبان من جهة أخرى. وهو انتصار يعد تتويجاً للكثير من الإصرار وترجمة للنفس الطويل الذي تمتلكه حركة طالبان. ولهذا يمكن القول إن هذا الحدث الذي اتخذ طابعاً عسكرياً محلياً وإقليمياً، حمل الكثير من الأبعاد ذات التأثير الجيوسياسي والأمني على مستوى العالم أيضاً، خاصة على المناطق التي تعيش ظروفاً مشابهة كما هي الحال في منطقة الساحل.
وبما أن التداعيات الأمنية على منطقة الساحل الأفريقي هي ما يعنيها في هذا المقام، فإنه يمكننا القول إن المنطقة، كغيرها من المناطق، قد نالت دورها من التأثر بما حصل في أفغانستان خلال الأسابيع الأخيرة، وإن كان يمكن حصر ذلك في بعض المعطيات الراهنة فقط [18].
ومن أبرز تلك المعطيات، حالة الاحتفاء الكبير، التي أبداها تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين”، من خلال الخطاب الذي ألقاه زعيمه إياد آغ غالي، في خطاب مسجل بعد إعلان دخول حركة طالبان للعاصمة الأفغانية كابُل [19]. فقد هنَّأ إياد آغ غالي في كلمة مصورة، حركة طالبان على انتصاراتها في أفغانستان. وقال – بحسب ما نشر على موقع صحيفة الواشنطن بوست بتاريخ 27 أغسطس الجاري “…إن صبر عشرين عاماً من الجهاد هو الذي مكّن الإخوة في أفغانستان من الانتصار الاستراتيجي على الولايات المتحدة الأمريكية”.
إلا أن موقف إياد آغ غالي مما حصل ويحصل في أفغانستان لمصلحة حركة طالبان يُعدُّ أمراً متوقعاً، وذلك بحكم وحدة المنطلقات الفكرية، والاشتراك في الأهداف، بالنسبة إلى كل من حركة طالبان وتنظيم نصـرة الإسلام والمسلمين، التي ترى في نفسها امتداداً لتنظيم القاعدة الأم في أفغانستان، وتعتقد حتى الساعة باستمرار وجود علاقة قوية بين القاعدة وطالبان.
لكن اشتراكهما في الخلفية العقدية، والمنطلقات الدينية، قد لا يكون سبباً كافياً بالضـرورة لتوافر شروط الانتصار نفسها لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وبالتالي فإن انتصار حركة طالبان على حكومة كابُل، لن يتجاوز تأثيره في منطقة الساحل مرحلة الحماس والتفاعل العاطفي للحركات المسلحة في الساحل والصحراء الأفريقية؛ وذلك يعود إلى أسباب عدة يمكن إجمالها في النقاط التالية:
فشل في الأهداف
أولاً: من أبرز تلك الأسباب هو أن حركة طالبان استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تتخلص من صورة الحركة العنيفة التي لا همَّ لها سوى القتل، ولهذا حرصت على حضور المفاوضات التي احتضنتها قطر خلال السنوات الماضية، بمشاركة أمريكية [20].
ثانياً: تسعى حركة طالبان اليوم إلى إظهار وجه مختلف عما عرفه العالم في تجربة حكمها الأولى قبل عقود، وهو مسعى تحاول تأكيده بالتعبير عن استعدادها إلى ربط علاقات طبيعية مع بعض الدول، وذلك في التصريحات المتكررة لبعض مسؤوليها [21].
ثالثاً: حقيقة أن قضية حركة طالبان يمكن قراءتها من زاوية محلية بحتة، ذلك أن قضيتها قد لا تخرج عن إطار الصـراع المحلي؛ لأن عناصر الحركة هم أبناء القبائل الأفغانية، وتتخذ دعوتهم ونشاطهم العسكري طابعاً محلياً، فيما يتخذ نشاط الحركات المسلحة في الساحل والصحراء طابعاً أكثر شمولية، بدعوتها إلى تأسيس إمارة إسلامية جامعة لكل من يؤمن بطرحهم، أي إنها تضم مجموعات وعناصر يجمعها الفكر “الجهادي” أكثر من أي شيء آخر [22].
وحتى إذا افترضنا أن طوارق مالي تمثل أغلبية عناصر “حركة أنصار الدين” ، ويمثل أبناء “الفولان” أغلبية المنتمين إلى “جبهة تحرير ماسينا”؛ فإن التنظيمين لا يلعبان دور الموجه الفعلي لبوصلة جماعة نصـرة الإسلام والمسلمين، وإنما يأتمران بأوامر تنظيم القاعدة الأم، كما يخضعان لتوجيهات ما يسمى بـ”مجلس شورى المجاهدين”، الذي يجمع عناصر مختلطة من أبناء منطقة الساحل وما يسمى في لغة التنظيم بالمهاجرين [23]، كما لا يمكننا التغاضي عن وجود مجموعات مسلحة من الطوارق لا تنتمي في الأساس إلى الإطار المرجعي لجماعة أنصار الدين وحلفائها.
رابعاً: لا تؤمن الجماعات المسلحة في الساحل والصحراء بمنطق أي مفاوضات لا تخضع لمنطقها الخاص، ويستجيب إلى تطلعاتها في تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو منطق لا يعترف بوجود دول وسيطة ولا يؤمن بمفهوم الدولة الوطنية.
خامساً: ثمة تحدٍّ آخر من شأنه أن يعوق استفادة الجماعات المسلحة في الساحل من تجربة طالبان أيضاً، وهو الحضور القوي لتنظيم داعش، وذلك حينما أعلنت “جماعة التوحيد والجهاد” في 2015 الانضمام إلى تنظيم “داعش”، وأصبحت تسمي نفسها بـ”داعش الصحراء الكبرى”، بقيادة القيادي المقتول عدنان أبو وليد الصحراوي، إذ يتمركز نشاط هذه الجماعة بشكل أساسي في المثلث الحدودي بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر [24].
الخاتمة
يمكن القول، بناء على كل ما سبق إيراده، إن احتمال تكرار السيناريو الأفغاني في منطقة الساحل غير ممكن التحقق في الوقت الراهن، ويستبعد أن تتمكن الجماعات المسلحة في المستقبل القريب من تأسيس “إمارة إسلامية” مكتملة الأركان، وإن كان بإمكانها الاستمرار في زعزعة أمن بعض دول الساحل، من خلال تكثيف الهجمات، دون الوصول إلى درجة السيطرة الكاملة على دولة بعينها في المنطقة.
فالمنطقة الجغرافية التي تتحرك فيها الجماعات المسلحة في الساحل، تتقاسمها دول عدة، (مالي، النيجر، موريتانيا، تشاد، بوركينا فاسو)، تتحرك في إطار عسكري منسق هو القوة المشتركة لدول الساحل، التي تتألف من أكثر من خمسة آلاف جندي، تدعمها قوات فرنسية، فضلاً عن وجود خمسة عشر ألف جندي أممي، ومئات عدة من القوات الأوروبية الخاصة ضمن عملية “تاكوبا”، ومئات آخرين من القوات الأمريكية في المنطقة.
وإذا كانت الجماعات المسلحة قد راهنت في وقت سابق على تصـريح فرنسا بسحب قواتها العسكرية من منطقة الساحل خلال عام 2022، فإن التصريحات اللاحقة للمسؤولين الفرنسيين، أكدت أن فرنسا لن تنسحب بشكل كلِّي من منطقة الساحل، وإنما ستعيد تنظيم نشـر قواتها من خلال استبدال المهمة الفرنسية الحالية، المعروفة باسم عملية “برخان”، بفريق أصغر من القوات الفرنسية الخاصة [25]. من جهة أخرى، فإن دول الساحل والقوى الأوروبية الداعمة لها، وبقية الدول التي أسهمت في تمويل قوة الساحل، لن تسمح بتكرار تجربة طالبان في المنطقة.
واستناداً إلى هذه المعطيات كلها، يمكننا تأكيد أن تأثير انتصار طالبان على الجماعات المسلحة في منطقة الساحل؛ لن يتجاوز مرحلة المشاركة الوجدانية من طرف قادة تلك الجماعات والمتعاطفين معها من الأشخاص والأحزاب والتنظيمات ذات التوجه الإسلامي. لكن الشيء الذي يصعب التكهن به اليوم هو متى ستوقف الجماعات المسلحة في المنطقة هجماتها المستمرة على الجيوش والتجمعات القروية في دول المنطقة.
المراجع
[1]. للمزيد من التفاصيل، انظر: كتيبة تحرير ماسينا.. الإرهاب العرقي الجديد في الساحل الأفريقي، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 13 يناير 2020، على الرابط: https://bit.ly/3ozD51A
[2]. للمزيد من التفاصيل، انظر: لماذا تجددت المواجهات بين “القاعدة” و”داعش” في الساحل والصحراء؟، مركز المستقبل للأبحاث للدراسات المتقدمة، 07 أكتوبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3a4K6yV
[3]. للمزيد من التفاصيل، انظر: المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، مصدر سبق ذكره.
[4]. للمزيد من التفاصيل، انظر: مختار بلمختار.. ماذا تعرف عن ‘السيد مالبورو’؟ الموقع الإلكتروني لقناة الحرة، بتاريخ 16 يونيو 2015، على الرابط: https://arbne.ws/3a6S5vf
[5]. المصدر السابق.
[6]. محمد محمود أبو المعالي، القاعدة وحلفاؤها في أزواد، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2014، صفحة 34.
[7] للمزيد من التفاصيل، انظر: أنباء متضاربة عن وفاة الإرهابي “الأعور” بلمختار بعد إعلان انتقاله إلى ليبيا: سي إن إن، 14 إبريل 2015، على الرابط: https://cnn.it/3A62rGf
[8]. Jared Thompson: Examining Extremism: Jama’at Nasr al-Islam wal Muslimin. Center for Strategic and International Studies. July 15, 2021: https://bit.ly/3B8dQGS
[9]. قوة “تاكوبا” الأوروبية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل تخطو خطواتها الأولى في مالي: مونت كارلو الدولية، 05/11/2020، على الرابط: https://bit.ly/3A7xd1o
[10] فرنسا تعلن مقتل الرجل الثاني في “جماعة نصـرة الإسلام والمسلمين” في منطقة الساحل، فرانس 24، 05/11/2019، على الرابط: https://bit.ly/3uyudu1
[11] المصدر السابق.
[12] للمزيد من التفاصيل عن استخدام الجماعات المتطرفة والإرهابية للإعلام، انظر: آمنة فايد، تأثير الصورة: كيف يستغل تنظيم “داعش” الإعلام المرئي؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 10 يوليو 2021، على الرابط: https://bit.ly/3uE7JHY
[13] la rébellion crée un État islamique .: LE FIGARO, le 27/05/2012: Nord-Mali: https://bit.ly/3l3IvQ0
[14]. السيناريو الأفغاني يطرق أبواب الساحل الإفريقي، وكالة أنباء الأناضول، 27/08/2021: عن طريق https://bit.ly/3B1RIho
[15]. د. حمدي عبدالرحمن، فراغات أمنية: توسع القاعدة وداعش في أفريقيا، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 21/06/2021، على الرابط: https://bit.ly/3ouxY2I
[16] Emmanuel Macron annonce la fin de l’opération Barkhane au Sahel. Le parisien. 10/06/2021. https://bit.ly/3ouy0HS
]17] Ibid.
]18] France’s drawdown in West Africa fuels local extremists’ hope for a Taliban-style victory. Washington post. 27 August 2021 https://wapo.st/3iMPkEn
]19] Ibid.
[02]. للمزيد من التفاصيل، انظر: أفغانستان: قطر وتركيا تمثلان حبل نجاة لحركة طالبان وحلقة وصل لها بالعالم الخارجي، بي بي سي، سبتمبر 2021، على الرابط:
[21]. للمزيد من التفاصيل، انظر: طالبان تتعهد بضمان أمن العاملين في مجال المساعدات الإنسانية “رجالاً ونساء” الشرق الأوسط، 7 سبتمبر 2021 على الرابط: https://bit.ly/3iuKNGs
] 22] L’élimination des chefs djihadistes a-t-elle des impacts ? dw.com. 27/4/2021. shorturl.at/vFHS7
[23]. “نصرة الإسلام والمسلمين” الموالية لـ”القاعدة” توسع نفوذها في الساحل الأفريقي، الشـرق الأوسط، 12 يناير 2021، على الرابط: https://bit.ly/2ZS12Xr
[24]. عدنان أبو الوليد الصحراوي، موجزات سردية لأسباب إدراج الأسماء في القائمة، الأمم المتحدة- مجلس الأمن، 9 أغسطس 2018، على الرابط: https://bit.ly/3iyvNr0
[25]. مالي تتهم فرنسا بـ”التخلي عنها في منتصف الطريق”، موقع الحرة، 26 سبتمبر 2021، على الرابط: https://arbne.ws/3BfrKHe