نتوقف في هذه الورقة البحثية عند ظاهرةٍ تُميز حالة الإسلامويين السابقين، نزعم أن الاشتغال البحثي حولها متواضع، ويتعلق الأمر بالتحولات التي تطرأ على المواقف الفكرية والحالات النفسية لنسبة من هؤلاء الإسلامويين، وهي تحولات غريبة كانت في مقام اللامُفكًّر فيه في أثناء مرحلة الانضمام إلى الإسلاموية المعنية، من قبيل الإسلاموية المتمثلة في الإخوان المسلمين، أو تلك المتمثلة في الجماعات الجهادية كتنظيم “القاعدة” أو تنظيم “داعش”.
مما نطمح إليه أيضًا في هذه الورقة، تسليط الضوء على الأسباب التي أفضت إلى ممارسات غريبة عند هذه الفئة تكاد تُصنّف في خانة العداء للدين، بما في ذلك حالة التطرف المادي الأقرب إلى الإلحاد، مع أنهم في مرحلة سابقة؛ أي في مرحلة الانتماء إلى إسلاموية معينة كأن تكون إخوانية أو جهادية، كانوا يعتقدون أنهم يجسدون “الفرقة الناجية” أو “الطائفة المنصورة” أو جماعة “الإسلام الحقيقي” وما جاور هذا الخطاب الأيديولوجي المغلّف بالدين.
تتأسّس الدراسة على فرضية مفادها أن الانفصال عن أي أيديولوجية، أيًّا كان أفقها النظري، يترك مضاعفات متعددة الأوجه، ونخصّ بالذكر المضاعفات التي تطال الجانب النفسي، والأخرى التي تطال الجانب الفكري، ولأن هذه الظاهرة نعاينها مع أتباع سابقين لأيديولوجيات عدة، فقد ارتأينا أن يكون النموذج التطبيقي هنا معنيّ بالأيديولوجية الإسلاموية على وجه التحديد، وذلك لاعتبارين اثنين على الأقل:
· الأول أن الحركات الإسلامية، انطلاقًا من كونها أيديولوجية دينية، هي الأوسع انتشارًا في المنطقة خلال العقود الماضية مقارنة بالأيديولوجيات غير الدينية، كالمرجعيات الاشتراكية أو الماركسية أو الليبرالية، ومن ثَمّ فإنه من الأَولى الاشتغال على ظاهرة حاضرة كمًّا ونوعًا بشكل لافت للنظر مقارنة بتنظيمات في حالة تراجع أقرب إلى الأفول.
· أما الثاني فهو أن الأيديولوجية المعنية هنا تتميز بالنهل من النصوص التراثية، وفي مقدمتها الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية، وبالتالي نحن إزاء نهل من النصوص المقدسة عند المسلمين، وهذا أحد أسباب انتشار الظاهرة في المنطقة، وهو أحد الأسباب التي قد تفسر المواجهة النظرية المركبة للظاهرة، ومن جهة ثانية، فإنه بمقتضى ذلك ترسَّخ التماهي النظري بين النصوص الإسلامية المؤسِسة، والنصوص الإسلاموية أي أدبيات الحركات الإسلامية.
لهذين الاعتبارين بالإضافة إلى اعتبارات أخرى، ارتأينا التوقف في هذه الورقة عند الأيديولوجية الإسلاموية، ولهذا تتوزع الدراسة على محورين اثنين: يعرض الأول بعض النماذج من هذه المضاعفات، بينما يحاول الثاني عرض تفسيرات لهذه الظاهرة، تتبعهما خاتمة الدراسة.
أولًا ــ أنماط المضاعفات على الإسلامويين السابقين
يروم هذا المحور عرض بعض الأمثلة التطبيقية، واستعراض معالم ما قد نصطلح عليه بالمضاعفات النفسية والعقلية على نفسية المتديّن الذي انفصل عن مشروع إسلاموي، بمعنى أن عملية الانفصال التنظيمي، حتى لو صاحبها انفصال نظري، فإنه لا يفيد في جعلها تجري بشكل سلس وسوي، وإنما تصاحبها غالبًا مضاعفات نفسية وفكرية تكون سببًا وراء تلك المواقف التي تصدر عن بعض هؤلاء، وقد تصل إلى حالات العداء للدين أو ما يُشبه الإلحاد، بصرف النظر عن طبيعة هذا الإلحاد وحقيقته، لأنه قد يكون نفسيًّا كما قد يكون دينيًّا.
نزعم أنه يمكن حصر أهم هذه التبعات أو المضاعفات في نوعين على الأقل:
أ ــ تبعات نفسية: نقصد بذلك ظهور علامات تفيد بأن المتديّن المعنيّ يبدو كمن يعاني أزمة نفسية بسبب الاضطراب في المواقف أو التباين بينها في مرحلة ما بعد الانفصال عن التنظيم الإسلاموي الحركي الذي كان ينتمي إليه. وليس المقصود هنا التباين بين مواقف المتدين من موضوع ما بين حقبة الانتماء إلى التنظيم وحقبة الانفصال عنه؛ نظرًا إلى أن هذا أمر متوقع أو طبيعي، وخاصة تجاه القضايا الشائكة، كالموقف من السلطة السياسية، والموقف من رموز التنظيم ضمن قضايا أخرى، لأنه من تبعات الانفصال، وخاصة الانفصال النظري المصحوب بالانفصال عن التنظيم أنه يتبنى غالبًا رؤىً مغايرة نسبيًّا أو كليًّا مقارنة برؤى المشروع الذي كان عضوًا فيه؛ لكن المقصود هنا أن هذه الحالات النفسية قد تتأزم عند بعض النماذج التي نعاينها إلى درجة تصنيف بعضهم من طرف مخالفيهم بأنهم أصبحوا على أبواب الرِّدة أو الانفصال عن المرجعية الإسلاموية، كأننا إزاء “انتقال من تطرّف إلى تطرف مضادّ، أي أن الشخصية المعنية هنا تنهل أساسًا من فكر متطرف، كان في فترة ماضية يلبس لبوس الدين، في أثناء الانضمام إلى حركة إسلاموية ما، وأصبح في مرحلة لاحقة يلبس لبوس الإلحاد. وتُذكّرنا هذه الحالة بظاهرة “المولودون الجدد” [Born Again] في الساحة الغربية، وخاصة في الساحة الأوروبية، أي حالة شباب قادم من مجال مسيحي كان متطرفًا في خطابه وسلوكه، من دون النهل من الدين، واعتنق الإسلام عبر بوابة التطرف العنيف، فبقي متطرفًا في خطابه وسلوكه باسم التديّن القتالي، كما عاينّا ذلك في حالات كثيرة في أثناء صعود أسهم الظاهرة الداعشية في المنطقة العربية”[1].
الشاهد هنا أن تلك المضاعفات النفسية قد تجعل صاحبها ينتقل من تطرّف إلى تطرّف مضادّ، كان الأول يُمارَس باسم الحق في التديّن، أما الثاني فأصبح يُمارَس باسم الحق في التفكر، وبين أيدينا ثلاثة نماذج:
ــ النموذج الأول نموذج الشاب هشام نوستيك الذي كان عضوًا في بعض الحركات الإسلاموية المغربية، وبالتحديد حركة “الإصلاح والتجديد” ثم انتقل بعدها إلى جماعة “العدل والإحسان”، قبل أن يهاجر إلى ألمانيا ثم كندا، وتطور الأمر في مراجعاته الحديّة أو أزماته النفسية إلى درجة تبنّي خيار الإلحاد، كما شرح ذلك في كتاب أصدره منذ سنوات تحت عنوان “مذكرات كافر مغربي”[2].
ــ النموذج الثاني نموذج سعيد بن جبلي، وهو مدوِّن وكاتب وناشط مغربي، اشتهر بالاشتغال على قضايا حقوق الإنسان، وهو قيادي سابق في جماعة “العدل والإحسان” الإسلاموية غير المعترف بها رسميًّا من السلطات المغربية، وكان أحد رموز الجماعة في الحراك المغربي على هامش أحداث يناير 2011 التي مرت بالمنطقة العربية. انقلبت مواقفه لاحقًا وأعلن إلحاده، على إثر زيارة قام بها إلى أمريكا بدعوة من وزارة الخارجية في إطار برنامج الزائر الدولي للقيادات، والمخصص للحوار بين الأديان، حيث كان لمنهج البحث التاريخي وعلوم الآثار تأثير جذري في فكره كما روى ذلك في حوارات عدة أُجريت معه؛ من مثل ما تتضمنه هذه الفقرة الدالة: “تلقى إيماني الضربات تلو الضربات، لكنه كان يقاوم، وفي يوم ما، وعلى حين غفلة اكتشفت أنني فقدت الإيمان، لكن عقلي لا يزال معي سليمًا، فانفتحت أمامي آفاق جديدة للبحث، وصرت أرى الأمور بمنظور مختلف، وأنفتح على فرضيات جديدة كنت أرفضها من قبل بسبب إيماني، كان كل شيء واضح وضوح الشمس، والدين مجرد خدعة”[3].
ــ يمكن إضافة نموذج ثالث، هو حالة الصحفي مصطفى الحسناوي، الذي كان من أتباع الخطاب الإسلاموي المتشدد قبل انخراطه في مراجعات لاحقًا، وهجرته إلى السويد للاستقرار النهائي رفقة زوجته، والشروع في إصدار مذكراته وبعض الأعمال المضادة للخطاب الذي كان يتبنّاه ويؤيده على وسائل الإعلام، وألّف في هذا الشأن عملان اثنان: الأول بعنوان “رحلتي مع المجاطي: من إمارة الملالي إلى خلافة البغدادي”[4]، والثاني بعنوان “قصة الإسلام الانقلابي في المغرب”[5].
انتقل الحسناوي إلى المراجعات وإصدار هذه الأعمال النقدية حول الإسلاموية المغربية في نسختها الجهادية أو القتالية، بصرف النظر عن تواضع الظاهرة في الساحة المغربية، واتضح في مضامين هذه الأعمال، أنه صمت صمتًا مطبقًا عن مقدمات اعتناقه للخطاب الديني الذي ينتقده في تلك الأعمال، من مثل أن أسباب اعتقاله بعد عودته من زيارة لتركيا في 2013 مرتبطة بأهداف تلك الزيارة، وذات صلة بالرغبة في الالتحاق بالجهاديين هناك؛ وخاصة أنه قبل تلك المرحلة، كان من أهم المدافعين إعلاميًّا عن أم آدم المجاطي[6] إحدى أبرز شخصيات الأسرة التي وُصفت بأنها “أشهر أسرة جهادية في المغرب”[7]، كما أن أحدث إصداراته ويحمل عنوان “قصة الإسلام الانقلابي في المغرب”، صمت عن تجربته الإسلاموية تحت لواء جماعة كانت قيد التأسيس تحت اسم “تنسيقية أنصار الشريعة بالمغرب”، حتى إنه كان محرر ورقتها المذهبية المنشورة على مدونته الشخصية، وجاء في خاتمتها: “إن أنصار الشريعة بالمغرب، إطار دعوي تربوي سياسي سلمي، ليس له أي ارتباطات تنظيمية خارجية، وإن تجارب أنصار الشريعة بكل من اليمن وليبيا وتونس، لا يمكن إسقاطها على واقعنا شرعًا وعقلًا، ولأن منطلقاتنا هي الشريعة وأهدافنا هي الشريعة ووسائلنا هي الشريعة ومقاصدنا هي الشريعة، فقد جعلنا اسمنا مرتبطًا بها”[8].
ب ــ تبعات فكرية: نجد في هذا النوع تبعات عدة، قد يكون أهمها انخراط الإسلاموي السابق في إعادة قراءة الذات، وبالتالي إعادة قراءة أحوال المجتمع والعالم، وغالبًا ما تكون إعادة القراءة هذه سببًا وراء تغيير أفكاره وتعامله مع ذلك الآخر، سواء تعلق الأمر بالعائلة أو المجتمع أو العالم، ونعاين أمثلة عدة في هذا السياق على مواقع التواصل الاجتماعي[9].
من بين الأمثلة في هذا السياق الذي يجعل المتديّن الإسلاموي الحركي سابقًا يعيد النظر في تعامله مع الآخر، حالة أحمد الحو، وهو قيادي سابق في “الحركة من أجل الأمة”، سُجن 15 سنة [بين عامي 1983 و1998] بصفة معتقل سياسي محكوم عليه بالإعدام، قبل الإفراج عنه والتفرغ للعمل الحقوقي، سواء عبر البوابة الإعلامية، من خلال صحيفة “النبأ” التي توقفت عن الصدور، وهي لسان مشروع “الحركة من أجل الأمة”، أو عبر الإسهام في بلورة تصور “هيئة الإنصاف والمصالحة” في قضايا جبر الضرر الخاص بالعقود الماضية، وكان المؤلف أحد مؤسسي “منتدى الكرامة لحقوق الإنسان”، أول جمعية حقوقية أسّسها إسلاميون مغاربة، قبل أن تصبح لاحقًا جمعية حقوقية تابعة لمشروع حركة “التوحيد والإصلاح” وحزب “العدالة والتنمية”.
بعد انخراط أحمد الحو في مراجعات، أسهم في تأسيس “المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف” وأصبح موظفًا في المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهي هيئة حقوقية من مؤسسات الدولة، إذ كان مكلفًا بمعالجة الشكايات، ثم مسؤولًا عن تدبير الشؤون التنظيمية، وعضوًا في الأمانة العامة للمجلس، قبل التقاعد. وقد صدر له كتاب يتضمن سيرته الحافلة بالدروس، تحت عنوان “عائد من المشرحة”[10]. ومن مؤشرات المراجعات الفكرية عند أحمد الحو، أنه أصبح من أشد المدافعين عن مناهضة عقوبة الإعدام في المغرب، وهذا أمر لم يكن مُفكّرًا فيه قط أثناء تجاربه الإسلاموية السابقة التي باتت هناك مسافة تفصله عنها.
ثانيًا ــ الأسباب المركبة للمضاعفات النفسية والفكرية
غالبًا ما تكون التحولات التي نعاينها لدى الإسلامويين سابقًا ذات أفق إيجابي على الفكر والسلوك، ومن ذلك أنهم يُعيدون النظر في تعاملهم مع قضايا المرأة والفن والتعددية الثقافية والدينية على نحو مختلف مقارنة بمرحلة الانتماء إلى المشروع الإسلاموي، وهي تحولات في الرؤى مباينة للرؤى السابقة التي كانت لدى هذه الفئة لسبب منطقي مفاده أنهم شرعوا في التحرر شيئًا فشيئًا من النظر إلى الغير، سواء كان هذا الغير المجتمع أو العالم، انطلاقًا من الأفق النظري الذي تسطر معالمه أدبيات التنظيم.
على سبيل المثال، مع جماعة “العدل والإحسان” المغربية، من الطبيعي أن يكون أغلب أتباعها ينهلون من أدبيات مرشد الجماعة ومؤسسها، عبدالسلام ياسين (1928 ــ 2012)؛ وخاصة أنه ألّف في مجالات عدة؛ مثل الدعوة والتربية والسياسة والاقتصاد والمرأة وغيرها، بصرف النظر عن نهله التربوي في أولى مراحل العمل الإسلامي من الخطاب الصوفي، لكن انفصاله عن إحدى الطرق الصوفية وتأسيس تنظيم إسلامي جديد، جعله يؤسس حركة إسلامية جديدة تُضاف إلى باقي الطيف الإسلامي الحركي، لها قيادات وأتباع، ولا تختلف كثيرًا في الأفق النظري عن باقي الجماعات الإسلامية، أي أفق يروم أسلمة المجتمع والدولة والنظام، انطلاقًا من أرضية أيديولوجية تنهل من الدين.
نتوقف في هذا المحور عند بعض المحددات التي نعتقد أنها تساعدنا في قراءة أسباب انخراط المتديّن الإسلاموي الحركي في مراجعات، ثم انخراطه وتبنّيه لبعض المواقف النقدية الحادة في مرحلة تالية تندرج في مقام المراجعات لكنها مراجعات قاسية، لأن السائد إجمالًا أننا إزاء اتجاهين في مقام المراجعات:
اتجاه يعود إلى مرحلة فكرية وسلوكية لا تختلف كثيرًا عن مرحلة ما قبل الانتماء إلى نموذج معين من الإسلاموية، ولكن الفرق أنه يصبح أكثر اتزانًا في مواقفه أو أكثر حكمة، ومن هذه النماذج حالات بعض رموز المراجعات في مصر، مثل ناجح إبراهيم، وبدرجة أقل ثروت الخرباوي؛ وبالتوازي مع ذلك هناك اتجاه انخرط في المراجعات أيضًا، لكنه انتقل الى مقام حدّي في التعبير عن مواقفه إن لم يكن مقامًا أقرب إلى التطرف، وهذا الاتجاه بالذات هو ما تُعنى به هذه الدراسة.
أحصينا مجموعة من المحددات التي تقف وراء انخراط أتباع الإسلاموية في المراجعات، أيًّا كانت طبيعتها، منها محدد مرتبط بأسئلة الجمال أو تأثير علاقات عائلية، عاطفية، مهنية، ضمن محددات أخرى، لكننا ارتأينا التوقف عند محددين بارزين، محدد يُعنى بالشق النفسي وآخر يُعنى بالشق الفكري.
أ ــ محددات نفسية:
تتفرع هذه المحددات إلى أسباب عدة، نذكر ثلاثة منها:
1-عدم تحقق المشروع: والمقصود هنا تأكد المتديّن المعنيّ من عدم تحقق وعود خطاب الإسلاموية التي كانت تبشر بها أدبيات حركة إسلامويةٍ ما طيلة عقود، وهذا ما جرى على سبيل المثال مع عدد من أتباع الجماعات الإسلاموية الجهادية في حقبة ما بعد اندلاع أحداث يناير 2011؛ إذ توهم بعض هؤلاء أن المنطقة اقتربت من ولوج “دولة الخلافة” أو إقامة “الدولة الإسلامية” وخطابات من هذه الطينة الإسلاموية، ولا شك أن متتبع أداء الحركات والجماعات الإسلامية يستحضر طبيعة الشعارات التي روجت لها قيادات إسلاموية في العديد من المؤتمرات كمؤتمر حزب التحرير في تونس[11] وغيره، إذ لم تتحقق تلك الشعارات على أرض الواقع، وأسهم هذا الأمر الذي أصبح واقعًا لا يرتفع، بتعبير المناطقة، في تأزيم الحالة النفسية لنسبة من أتباع تلك الجماعات، ومن ثمّ انخراطهم في مراجعات، إما معتدلة أو قاسية.
2-ــ التناقض بين الخطاب والممارسة: وهذا السبب عايناه في حالات عدة في المنطقة العربية، كتلك التي حدثت مع الإسلاموية في المغرب، سواء تعلق الأمر باستفادة قياداتها من مزايا مادية ورمزية لم يكن يحلم بها أغلب أتباع هذه الإسلاموية، أو جمع كثير من القيادات بين مناصب عدة في مؤسسات الدولة أو في هياكل التنظيم الإسلاموي الحركي، أو مع معضلة القلاقل الأخلاقية التي كشفت عنها بعض وسائل الإعلام، وواضح أن أغلب هذه الأمثلة الميدانية الواقعية أسهمت في تعميق الشرخ بين الجانبين النظري والعملي عند أتباع الإسلاموية المعنية، ومن ثَمّ تشجيع خيار المراجعات؛ بما فيها المراجعات القاسية أو الحادة.
3ــ أفول الأحلام: وهو نتيجة متوقعة لبعض ما جاء في ثنايا السببين الأول والثاني؛ لأن الحديث عن عدم تحقق تطبيقات التنظير الإسلاموي على أرض الواقع، أو ترسيخ التناقض بين الشقين النظري والتطبيقي في المشروع نفسه، من شأنه أن يكون سببًا مباشرًا في انهيار مجموعة من الأحلام التي كانت تراهن عليها نسبة من أتباع الإسلاموية، وفي هذه الحالة، تجد نفسها بين خيارين اثنين على الخصوص: إما تحمُّل مجمل تلك المفارقات والتناقضات والأزمات والاستمرار في الدفاع عن المشروع الإسلاموي مع الإبقاء على خيار الازدواجية، وإما عدم تحمّلها وإعلان الانفصال النسبي أو النهائي عنها، والحديث هنا عن ثنائية الانفصال النظري والانفصال التنظيمي التي سبق أن اشتغلنا عليها بالتفصيل في دراسة سابقة[12].
ب ــ محددات فكرية، على غرار المحددات النفسية، تتوزع هذه المحددات على أسباب عدة نذكر منها سببان رئيسيان:
1ــ يتعلق السبب الأول بالانفتاح الفكري على أدبيات من خارج النسق الأيديولوجي الإسلاموي، ومعلوم عند أغلب من مرَّ بتجربة إسلاموية طبيعة التعليمات الصادرة عن القيادات ذات الصلة بالقراءة والنهل النظري، أي صدور ما يشبه تعليمات أو توصيات بخصوص عدم القراءة لشخصيات معينة، أو الابتعاد عن القراءة لأدبيات تيارات محددة، وغير ذلك، وهذه تعليمات أو توصيات متوقعة من هذه القيادات لسبب بَدهي أو منطقي مفاده أنه من شأن الانفتاح النظري على قراءات للواقع من خارج السياق الذهني الأيديولوجي الذي تسيطر على معالمه الإسلاموية المعنية، أن تتأثر نسبة من الأتباع بتلك القراءات غير الإسلاموية، بما فيها القراءات التي تنتقد الإسلاموية، وبالتالي فإن صدور تلك التعليمات أو التوصيات يكاد يندرج ضمن قاعدة: “كم حاجة قضيناها بتركها”، ولا شك أن بعض المتتبعين لأداء الإسلاموية المغربية مثلًا، يتذكرون بعض النماذج التي تحيلنا إلى هذا المحدِّد، مع ظاهرة “تيار أكادير”، وهو تيار في إحدى مدن جنوب المغرب، كان يتميز بوجود العديد من الباحثين الإسلاميين، من أتباع حركة “التوحيد والإصلاح” الإخوانية أو من المحسوبين عليها، وكانت لديهم حساسيات نظرية وتنظيمية مع رموز الحركة في العاصمة الرباط؛ وخاصة في حقبة تسعينيات القرن الماضي، بخصوص التوصيات بعدم القراءة لبعض الأسماء الفكرية وإن كانت محسوبة على “المرجعية الإسلاموية”، والهدف من هذا التحذير عدم تأثر الأتباع بخطاب تلك الشخصيات، إما لأن هذه الأخيرة تشتغل خارج الأفق الإخواني (صوفية، شيعية، سلفية مثلًا)، أو لأنها غير معنية بمآل هذا الأفق الذي يروم أسلمة المجتمع والنظام والدولة في آن واحد، أو لاعتبارات أخرى.
2ــ أما السبب الثاني فعنوانه تأثير الثورة الرقمية، وهذا محدد يتطلب بعض التدقيق الضروري لأنه اتضح منذ مدة أنه محدد لا يتصل بمصير الإسلاموية وأدائها وحسب؛ بل يتصل بالخطاب الإسلامي بصورة عامة، أي أن تأثير الثورة الرقمية في المجال الإسلامي، والمقصود به على سبيل المثال المنطقة العربية أو محور طنجة جاكارتا، يهم جميع الفاعلين الدينيين، سواء تعلق الأمر بالمؤسسات الدينية، بما يُفسر انخراط العديد من المؤسسات في إطلاق منصات رقمية؛ أو الحركات الإسلامية، الدعوية والسياسية والقتالية، وهذا أمرٌ واقع مع هذه الجماعات، بدليل ما عايناه من أداء الكتائب الإلكترونية الإخوانية خلال العقد الماضي؛ وخاصة مع تداعيات أحداث 2011 ــ 2013؛ أو الطرق الصوفية، وباقي أنماط الخطاب الديني والعمل الديني.
ما جرى في حالة الإسلامويين المعنيين هنا أنهم كانوا ضمن المتأثرين بتداعيات هذه الثورة الرقمية، لأنها أسهمت في فتح آفاق المتفاعل معها، بما في ذلك دفعْه إلى طرح أسئلة عن طبيعة تديّنه الحركي، ومآله وأهدافه، وهي أسئلة كانت في الغالب تُصنَّف ضمن اللامُفكّر فيه عندما كان عضوًا فاعلًا أو منتميًا أو محسوبًا على جماعة إسلاموية.
الخاتمة:
توقفنا في هذه الورقة عند بعض المميزات اللصيقة بأداء فئة من الإسلامويين قرّرت الانفصال التنظيمي والأيديولوجي عن الجماعة التي كانت منتمية إليها، حيث اتضح من خلال أمثلة عدة أن هناك نسبة من هذه الفئة تمر بما يُشبه المضاعفات، وقد حاولنا عرض أهم معالم تلك المضاعفات من خلال التوقف عند نموذجين منها، مضاعفات نفسية وأخرى فكرية، كما توقفنا عند مجموعة من الأسباب التي نعتقد أنها تساعدنا في قراءة المقدمات المؤسِسة لتلك المضاعفات التي تمر بها الفئة نفسها، وقد ارتأينا التوقف هنا أيضًا عند مقدمات نفسية وأخرى فكرية.
إن هذه الظاهرة التي لا يزال الاشتغال عليها من منظور بحثي متواضعًا جدًا في المنطقة العربية أو في مجالات ثقافية مرّت بها الظاهرة الإسلامية الحركية، تمدّنا بأمثلة ميدانية جديدة عن معضلة تزييف الوعي في أثناء المرور بتجربة أيديولوجية ما، وإن كنا قد ارتأينا في هذه الورقة التوقف عند نموذج الأيديولوجية الإسلاموية على وجه التحديد.
[1] منتصر حمادة، إسلاميات.. من المراهقة الإسلاموية إلى المراهقة الإلحادية، موقع “الدار”، 21 أبريل 2022، على الرابط: https://aldar.ma/266797.html
[2] هشام نوستيك، مذكرات كافر مغربي (الرباط، دار الوطن، ط 1، 2019).
[3] سعيد بنجبلي: على حين غفلة فقدت الإيمان لكني لست ملحدًا والإسلام مسألة ثقافية، موقع “لكم”، 24 سبتمبر 2016، على الرابط: https://lakome2.com/interview/50289/
[4] مصطفى الحسناوي، رحلتي مع المجاطي: من إمارة الملالي إلى خلافة البغدادي (الرباط، منشورات دار الوطن، ط 1، 2022).
[5] مصطفى الحسناوي، قصة الإسلام الانقلابي في المغرب (الرباط، دار الأمان، ط 1، 2023)
[6] تعدّ أم آدم المجاطي، أو فتيحة المجاطي، من أبرز الشخصيات في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهي أرملة عبدالكريم المجاطي، المعروف بأبو إلياس، المواطن المغربي من أم فرنسية ومتزوج من أمريكية وكان قياديًّا في تنظيم “القاعدة” قبل مقتله في سنة 2005. وتُعرف فتيحة المجاطي بالمرأة الأشد قسوة داخل التنظيم، وهي مكلفة برئاسة دور “المضافة” أو البيت المخصص لإيواء النساء العازبات والأرامل والمطلقات من نساء تنظيم “داعش” في مدينة الرقة بسوريا.
[7] من القاعدة إلى طالبان إلى داعش.. كتاب يوثق مسار أشهر أسرة جهادية في المغرب، موقع “مو بريس”، 15 مايو 2022، على الرابط: https://mupresse.com/?p=8347
[8] تنسيقية أنصار الشريعة بالمغرب (ورقة مذهبية أولية)، مدونة مصطفى الحسناوي، 7 سبتمبر 2012، على الرابط:
https://elhasnaoui.blogspot.com/2012/09/blog-post_7.html?m=1&
[9] منها حالة الباحث محمد أومليل، الذي أمضى ثلاثة عقود عضوًا في جماعة “العدل والإحسان” المغربية، لكنه انخرط في مراجعات يصطلح عليها بالاستدراك، ومن يقرأ التدوينات الكمية والنوعية التي ينشرها على حسابه الشخصي في مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، يمكنه أن يتبيّن التأثير الإيجابي لتلك المراجعات أو الاستدراك في أفكار الباحث وتعامله. رابط حسابه على “فيسبوك”:
[10] أحمد الحو، عائد من المشرحة (الرباط، دار الوطن، ط 1، 2021)
[11] في هذا السياق، اتخذت السلطات التونسية حينها قرارًا بمنع “الخيم الدعوية” التي كانت ترغب في تنظيمها جماعة “أنصار الشريعة”، وكذا منع تنظيم مؤتمرهم الذي كان مقررًا انعقاده في مدينة القيروان يوم 19 مايو 2013.
[12] سبق أن توقفنا عند ظاهرة “الإخوان سابقًا” مع استعراض أهم الأنماط في الظاهرة، وعددها أربعة. انظر لمزيد من التفصيل: منتصر حمادة، قراءة في ظاهرة “الإخوان السابقين”، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 2 يونيو 2021، على الرابط المختصر: https://shorturl.at/qEKZ3