فتح مركز تريندز للبحوث والاستشارات في أبوظبي عبر سلسلة الإصدارات التي يعدها عن حركات الإسلام السياسي، نافذة جديدة تكشف الأحداث والوقائع التاريخية التي أسست جماعة الإخوان المسلمين مع إضاءات قل نظيرها في الوطن العربي رغم كثافة الإنتاج الفكري في هذا المجال.
وبطريقة علمية وسلسة، تستند إلى زخم البيانات والتحاليل والأرقام، أصدر المركز مؤخراً دراسة حديثة تحت عنوان: “الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين: السمات.. الأهداف.. المستقبل“، تبرز الأهمية المركزية للبناء التنظيمي بالنسبة للجماعة، باعتباره الأداة الرئيسية في ترجمة أفكار الجماعة ومبادئها على أرض الواقع من ناحية، وتنفيذ مشروعها السياسي في الوصول إلى السلطة والتمكين في المجتمع من ناحية ثانية.
نظرة تحليلية موضوعية عميقة
وتعد الدراسة الثانية لمركز “تريندز” إضافة نوعية جديدة للمكتبة العربية، إذ أنها تقدم نظرة تحليلية موضوعية عميقة تكشف الحقيقة بعيداً عن الانطباعات والانحيازات والرؤى الشخصية غير العلمية. كما تسهم في إلقاء الضوء على ظاهرة حركات الإسلام السياسي من مختلف أبعادها وسياقاتها الداخلية والإقليمية والدولية وتحليل الإطار الفكري والإيديولوجي، والجانب التنظيمي والعملي لهذه الحركات، واستشراف مآلاتها المستقبلية في ضوء التطورات التي شهدتها المنطقة منذ ما يسمى بـ”أحداث الربيع العربي”، وحتى وقتنا الحالي بما يسهم في فهم تحركاتها على جميع المستويات، ويساعد على بلورة رؤى استراتيجية واضحة للتعامل مع خططها في المستقبل.
استشراف المستقبل بالمعرفة
وقد شكلت مسألة استشراف مستقبل جماعة الإخوان المسلمين لوقت طويل بعد أحداث ما يسمى بـ”الربيع العربي”، الركيزة الأساسية للدراسات التي تناولت بالتحليل المشروع الإخواني، لذلك نجد أن عدداً قليلاً من الدراسات والكتب يتناول الهيكل التنظيمي والإداري للجماعة برغم كثرة المؤلفات التي تعج بمواضيع عن حركات الإسلام السياسي، ومن هنا تكمن الأهمية البالغة لدراسة مركز “تريندز” الجديدة حيث نجحت في التركيز على الهيكل التنظيمي والإداري للجماعة الذي يعد ركيزة المشروع الإخواني.
فصول الدراسة
تقع الدراسة في نحو 231 صفحة، تضم سبعة فصول، بالإضافة إلى المقدمة والنتائج العامة والمراجع والمصادر. وقد تم الاعتماد في إعدادها ودعم أطروحتها على مجموعة كبيرة من المراجع العلمية المتخصصة باللغتين العربية والإنجليزية يبلغ عددها نحو 192 مرجعاً يتمثل في الوثائق، والكتب، والدوريات، والصحف، والمجلات، والمواقع الإلكترونية، بالإضافة إلى المقابلات.
تناولت الدراسة في فصلها الأول تحت عنوان “المنهجية والإطار النظري للدراسة“، المناهج العلمية التي تم اتباعها في إعداد الدراسة كالمنهج التحليلي/التفسيري والمنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، وأبرز المقاربات التي تسمح بتقديم تحليل وافٍ ودقيق حول الظاهرة.
وتتطرق الدراسة، بطريقة عرض تتسم بالعمق وسهولة الفهم، إلى عملية تطور الهيكل التنظيمي والإداري لجماعة الإخوان المسلمين من منظور شامل، يأخذ في الاعتبار السياق الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي الذي نشأت فيه الجماعة، وكيف انعكس ذلك في وحداته الإدارية.
وتتعرض الدراسة في فصلها الثاني إلى السمات العامة لهيكل الإخوان التنظيمي سواء في ما يتعلق بالمركزية أو الشخصنة في عملية صنع القرار أو في ما يتعلق بسيطرة النزعة العسكرية وهيمنة الإيديولوجيا وغياب الطابع الديمقراطي.
ويهتم الفصل الثاني الذي يحمل عنوان “الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين.. السمات العامة” بتوضيح الفرق بين القادة والأتباع، ولتوضيح مقاصد الجماعة، يجب أن يكون لدى حركاتها الاجتماعية قدر من الإطار التنظيمي لإقناع الناس بالمشاركة فيها أو لدعمها، واعتماد أساليب مختلفة لتحقيق الأهداف.
وما بين صفحات وسطور الدراسة، تظهر العديد من الأفكار والأسرار التي تكشف تأثيرات الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين في استمرار أنشطتها برغم ما تعرضت له من حظر وملاحقات، وكيف تمكن هيكلها القيادي، من الهيمنة على شؤون الجماعة واتجاهاتها، وتحقيق المفهوم الرئيسي للبنية التنظيمية القائم على الطاعة العمياء. كما بينت الدراسة المهام والمسؤوليات التي تضطلع بها المكاتب التنفيذية والإدارية وصولاً إلى القواعد، وكيف يتم اختيار الأفراد لتجنيدهم في جماعة الإخوان المسلمين، وشروط العضوية الواجب توافرها.
وتلقي الدراسة الضوء في فصلها الثالث بأسلوب يثير الحماس لدى القارئ لما فيه من رشاقة وسلاسة في العرض والتحليل، إلى مسألة تأقلم الهيكل التنظيمي للجماعة مع التحديات التي واجهته على مر العقود، وكيف سيؤثر الانشقاق الذي لحق بهيكلها التنظيمي بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 على مستقبل الجماعة ومشروعها السياسي.
وترصد الدراسة في الفصل الثالث الموسوم ب “تطور الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين” أهم مراحل تطور الهيكل التنظيمي والإداري منذ نشأة الجماعة عام 1928 حتى ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، مع توضيح سمات كل مرحلة، وكيف جاءت تجسيداً لطبيعة العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والحكومات المصرية المتعاقبة. كما تحلل الدراسة طبيعة دور المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين والهيئات التنظيمية المرتبطة به مباشرة، وكيف أسهمت السمات الخاصة لكل مرشد في تطور بناء الجماعة التنظيمي والإداري.
وخصصت الدراسة فصلها الرابع للبحث في دور مرشد جماعة الإخوان المسلمين والهيئات التنظيمية المرتبطة به مباشرة التي تتمثل في مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى والتنظيم الخاص (الجهاز السري) وتنظيم الأخوات المسلمات.
وتتمثل أهمية الفصل الرابع في أنه يشرح الدور المحوري والمهيمن لمرشد الإخوان والمؤسسات التابعة له في التنظيم الإداري وفي حياة الجماعة بشكل عام، وهذا يرجع إلى الصلاحيات الواسعة التي تمنحها لوائح وقوانين الجماعة للمرشد بشكل خاص، فهو إلى جانب كونه السلطة العليا، يمثل أفكار وأيديولوجية الجماعة للجمهور العام؛ فهو يحتكر السلطة التشريعية والتنفيذية، إذ يخوله القانون الأساسي للجماعة بترؤس كل من مكتب الإرشاد، ومجلس الشورى، بالإضافة إلى ذلك، فإن مرشد إخوان مصر تؤول إليه قيادة التنظيم العالمي للإخوان.
ثم تنتقل الدراسة في فصلها الخامس إلى مستوى آخر من التراتبية التنظيمية، يتمثل في المكاتب الإدارية للجماعة وتقسيماتها المختلفة بدءاً من المنطقة ثم الشعبة ومن بعدها الأسرة، والكيفية التي يتم بموجبها التواصل مع القيادة.
ويتناول الفصل الخامس اللجان المركزية والأقسام التي تنظم عمليات الحشد والتجنيد والدعم، وتشرف على نشاط الجماعة متعدد الاتجاهات وتحليل طبيعة الدور الذي تقوم به. كما نجد أن الفصل الخامس يحلل بعمق الطبيعة الديناميكية والخصائص الهيكلية والأهداف التي تسعى لها الصيغ التنظيمية لجماعة الإخوان، وتبيان العلاقة بين بنية جماعة الإخوان المسلمين الهيكلية وأهدافها وأشكال الإجراءات.
وتؤكد الدراسة أن جماعة الإخوان المسلمين اعتمدت على الوحدات التنظيمية، من مكاتب ولجان وأقسام، لترسيخ وجودها في المجتمع من خلال إيلاء المسألة الاجتماعية أولوية خاصة توفر لها ظهيراً مجتمعياً قابلاً للتوظيف في دعم مشروعها السياسي على غرار ما حدث في الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية التي شهدتها مصر بعد أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011.
ويقدم الفصل السادس الذي يحمل عنوان “اختبار فرضيات قوة ضعف البناء التنظيمي وفقاً للمقاربات النظرية والمنهجية“، رؤية شاملة للتنظيم تأخذ في الاعتبار الأبعاد السوسيولوجية والسلوكية والبيروقراطية والقيادية والمجتمعية، وهي الأبعاد التي غالباً ما يثيرها الباحثون لدى تقييم قوة جماعة الإخوان المسلمين، وتحديداً قوة بنائها التنظيمي والإداري، الذي ضمن لها تماسكها واستمراريتها طوال العقود الماضية، وعزز من قدرتها على التكيف مع التطورات الداخلية والخارجية.
ويحلل الفصل السابع من دراسة “تريندز”، جوانب القوة ومظاهر الضعف التي تعتري الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين بناء على خبرة التنظيم في التعامل مع مختلف الأزمات والتحديات التي واجهته منذ نشأة الجماعة حتى مرحلة ما بعد ثورة الـ30 من يونيو عام 2013.
كما يستشرف الفصل السابع المعنون بـ “الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين ما بين الاستمرارية والتغيير” احتمالات حدوث تعديلات على الهيكل التنظيمي للجماعة، بعد تحليل عوامل قوته وضعفه، واختبار معايير قوة التنظيمات المتعارف عليها، والمتمثلة في التماسك والاستمرارية والتكيف.
هيكل التنظيم وسيلة لتحسين الصورة
أما الخاتمة فتتناول خلاصات الدراسة، وما توصلت إليه من نتائج على ضوء الإجابة على تساؤلاتها واختبار الفرضيات الرئيسية التي انطلقت منها، حيث توصلت إلى 13 نتيجة منها أنه في الوقت الذي يبدو أن الهيكل التنظيمي والإداري لجماعة الإخوان يتسم بالطابع المؤسساتي، فإن طريقة تسيير شؤون الجماعة تنحو إلى الفردية والشخصية، وهذا يعني أن مجلس الشورى الخاص بهذه الجماعة ليس سوى واجهة أو شكل يستهدف تحسين صورتها لدى الغرب وإعطاء الانطباع بأنها تؤمن بالديمقراطية الحديثة وتلتزم بمبادئها.
وتؤكد الدراسة أن الهيكل التنظيمي والإداري لجماعة الإخوان المسلمين يعكس عدم إيمانها بقيم الديموقراطية، خاصة في ظل هيمنة المرشد ومكتب الإرشاد على القرارات، نتيجة ثقافة السمع والطاعة التي يلتزم بها عناصر التنظيم، والتي تكرس الطاعة العمياء للمرشد وعدم مراجعته في أي قرارات. كما تظهر هذه السمة أيضاً في العلاقة بين التنظيم الدولي للإخوان وفروعه المنتشرة في العديد من دول العالم، التي تدين بالولاء له، وتخضع لقراراته وتوجيهاته حتى لو كانت ضد مصلحة دولها الأصلية، الأمر الذي يؤكد في الوقت ذاته، عدم إيمان جماعة الإخوان المسلمين بالدولة الوطنية، بل تتجاوزها إذا ما تعارضت مع مصلحة التنظيم.
لا شك في أن هذه النوعية من الدراسات الرصينة والرشيقة تمثل مصدراً مهماً لصناع القرار، والخبراء والباحثين والأكاديميين، لاطلاعهم بدقة على جميع أوجه وجوانب الجماعة الإسلامية بعيداً عن التهويل والتهوين، خاصة أن الوطن العربي يعيش حالياً لحظات فارقة مع فشل وانكشاف جميع مشاريع جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.