لم يكن إعلان وزارة الداخلية الألمانية نهاية شهر أبريل 2020 عن حظر مجمل أنشطة جماعة حزب الله اللبناني وتصنيفه منظمة إرهابية مفاجئاً، وإنما كان أمراً متوقعاً بالنظر إلى الإجراءات التقييدية التي اتخذتها السلطات الألمانية ضد الحزب عام 2019، والتي كانت تشير في مجملها إلى تصاعد القلق من أنشطة الحزب داخل ألمانيا، وانتهاكه القواعد العامة في البلاد.
سيشكل القرار الألماني بتصنيف حزب الله “مُنظمة إرهابية” خطوة ستكون لها تداعياتها ليس فقط على حزب الله، وإنما أيضاً على الموقف الأوروبي العام من الحزب، الذي ما يزال يتردد حتى الآن في حظر كافة أنشطة الحزب، ويكتفي بتصنيف جناحه العسكري فقط ضمن المنظمات الإرهابية. كما سيؤثر هذا القرار على إيران الداعم الرئيسي للحزب؛ وخاصة الاتفاق النووي، الذي تعد ألمانيا من أهم الأطراف المدافعة عن استمراره.
أبعاد القرار الألماني بتصنيف حزب الله “مُنظمة إرهابية”
أعلنت وزارة الداخلية الألمانية نهاية شهر أبريل 2020 حظر ميليشيات حزب الله اللبنانية في جميع أنحاء البلاد، وصنفته “مُنظمة إرهابية”، وأعلن المتحدث باسم الداخلية الألمانية أن الوزارة قامت بملاحقة مشبوهين ينتمون لحزب الله، وداهمت الشرطة بالتزامن مقرات أربع جمعيات تدير مساجد في دورتموند، ومونستر في ولاية نورد راين فستفاليا غرب البلاد، وفي بريمن، وبرلين، يشتبه بأنها على صلة بالحزب[1].
ويأتي هذا القرار استكمالاً للإجراءات التصعيدية المتدرجة التي اتخذتها السلطات الألمانية ضد حزب الله خلال عام 2019، حيث وافق البرلمان الألماني في ديسمبر2019 على اقتراح يحض حكومة المستشارة، أنجيلا ميركل، على حظر جميع أنشطة جماعة حزب الله على الأراضي الألمانية، مبرراً ذلك بما أسماه “أنشطتها الإرهابية” خاصة في سوريا.
وقد تقدم بهذا الاقتراح حزب البديل لأجل ألمانيا، أكبر أحزاب المعارضة في البلاد، للبرلمان في يونيو 2019. ويدعو هذا الاقتراح الحكومة الألمانية إلى التخلي عن سياساتها الراهنة، والتي تفرق بين الجناحين السياسي والعسكري للحزب الذي قاتل إلى جانب النظام السوري، كي لا يتم التسامح إزاء أي نشاط في ألمانيا يتم من جانب ممثلين لهذا التنظيم الذي يعارض أفكار التفاهم بين الشعوب[2].
ويذكر أن بين هذه الإجراءات منح الحكومة الألمانية الادعاء العام الاتحادي في سبتمبر 2019 تفويضاً لملاحقة أعضاء حزب الله جنائيًا، وقد مكن ذلك الادعاء العام من البدء في اتخاذ إجراءات قانونية ضد المشتبه في أنهم أعضاء في الحزب الذي عُد منظمة إرهابية أجنبية[3].
ويتضح في ضوء ما سبق أن القرار الألماني بتصنيف حزب الله “مُنظمة إرهابية” جاء استناداً إلى وقائع ومعطيات كانت تشير في مجملها إلى أن الحزب لم يلتزم بقواعد العمل العام، وبدأ يمارس أنشطة غير قانونية، تمثل تهديداً للأمن القومي الألماني، ومن ثم فإن هذا القرار يشكل ضربة قوية لوجود حزب الله في ألمانيا وأوروبا بوجه عام، بالنظر إلى أنه يفرض العديد من القيود على أنشطة الحزب، على النحو التالي[4]:
- حظر أنشطة حزب الله ودعايته في ألمانيا، وعدم السماح له برفع راياته خاصة في المناسبات السياسية السنوية التي كان ينظمها في ألمانيا، كمسيرة “يوم القدس” التي ينظمها الحزب بالتعاون مع النظام الإيراني، والتي تكون مثار انتقادات داخلية من جانب الأحزاب والقوى السياسية في ألمانيا.
- تراجع قدرة حزب الله على تجنيد أعضاء جدد من داخل ألمانيا وأوروبا، لأن الحزب بمقتضى هذا القرار سيكون خاضعاً للرقابة من جانب الأجهزة المعنية.
- خسارة حزب الله لمصدر كبير من مصادر تمويله، كون ألمانيا تعتبر قاعدة أساسية وملاذ آمن لإدارة أعماله التجارية في شراء العقارات والتبادلات التجارية ومنها غسيل الأموال وتجارة المخدرات. كما أنه ليس من المستبعد مصادرة أموال الحزب باعتبارها جاءت نتاجاً لأنشطة غير قانونية.
- التعامل مع حزب الله باعتباره مُنظمة إرهابية لا تختلف عن تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، وحظر كافة أنشطته التي تمثل تهديداً لأمن ألمانيا واستقرارها، وتقديم عناصره أو حتى المتعاطفين معه إلى المحاكمة في حال اتهامهم بمزاولة أية أنشطة غير قانونية، سيقيد بصورة كبيرة حركة عناصر الحزب والمتعاطفين معه، كما سيضيق من دائرة الحصار المطبقة عليه أوروبياً وعالمياً.
- التحول في السياسة الألمانية تجاه حزب الله: ظلت الحكومة الألمانية لفترة طويلة تفرق بين الجناحين العسكري والسياسي للحزب، فقد صنفت الجناح العسكري باعتباره منظمة إرهابية، لكنها وقفت في السابق ضد إدراج الجناح السياسي للحزب على لائحة الإرهاب، غير أن القرار الأخير بتصنيف حزب الله، بجناحيه السياسي والعسكري، باعتباره منظمة إرهابية يعد تحولاً في السياسة الألمانية، وربما يأتي كمحاولة من الائتلاف الحاكم لاستعادة مصداقيته أو شعبيته التي تراجعت كثيرًا نتيجة الانتقادات التي وجهت له في العامين الماضيين حول سياساته تجاه قضايا اللاجئين والهجرة والتطرف الداخلي، ولهذا فإن القرار الأخير قد يكون نتيجة لتقييمات سياسية واستخباراتية ارتأت ضرورة التحرك سريعاً لاحتواء خطر حزب الله في ألمانيا، وقد يكون مؤشراً على رغبتها كذلك في لعب دور سياسي دولي يتوازى مع حجمها الاقتصادي، وخاصة في قضية ترتبط بالأمن والاستقرار علي الصعيدين الأوروبي والعالمي بوجه عام[5].
- تصاعد القلق من أنشطة حزب الله داخل الأراضي الألمانية: لقد سبق وأن حذرت الاستخبارات الداخلية من تهديدات الحزب داخل البلاد، ففي عام 2018 حذرت من تنامي أنشطة الحزب بشقيه السياسي والعسكري، هذا في الوقت الذي تقدر فيه وكالة المخابرات الفيدرالية الألمانية عناصر الحزب النشطين في الجمهورية الاتحادية بـأكثر من (1050) شخصًا. وقد كشفت وثائق للبرلمان الألماني في ديسمبر 2019، طبيعة الخطر الذي يمثله حزب الله على أمن البلاد، حيث ينظر الحزب إلى الأراضي الألمانية باعتبارها حديقة خلفية لنشاطه ومركز دعم لوجستي.
- تورط الحزب في أنشطة تهدد الأمن والسلم الدوليين بالتعاون مع حليفه الرئيسي إيران: لعل هذا المعطى يفسر أيضا سبب إقدام الحكومة الألمانية على إلغاء الترخيص الخاص بشركة “ماهان إير” الجوية لنقلها عتادا وعسكريين إلى سوريا ومناطق حرب أخرى بالشرق الأوسط، والجدير بالذكر في هذا الشأن أن شركة “ماهان” المقربة من الحرس الثوري الإيراني، كانت قد اتُهمت بنقل السلاح من إيران إلى ميليشيات حزب الله وقوات النظام السوري[8].
- الاستجابة للضغوط الأمريكية في هذا الشأن: قادت الولايات المتحدة حملة في الأشهر الماضية لإقناع ألمانيا باتخاذ هذه الخطوة، حيث أعرب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو خلال زيارته إلى العاصمة الألمانية برلين عام 2019 عن أمله في سير ألمانيا على نهج بريطانيا في حظر جماعة حزب الله؛ في الوقت الذي قام فيه السفير الأمريكي لدى ألمانيا، ريتشارد غرينل، منذ أوائل العام الجاري 2020 بحملة في مقرات الاتحاد الأوروبي ببروكسل، لحمل دول الاتحاد الأوروبي على حظر مليشيا حزب الله اللبناني بالكامل، وتصنيفها “مُنظمة إرهابية”، مؤكداً في هذا الخصوص “أن حظر حزب الله يحرمه من شبكات التمويل والتجنيد، ويمنع انتقال العنف إلى أوروبا”[9].
- على الصعيد الأوروبي: لا شك أن ألمانيا، وبما تتمتع به من ثقل سياسي واقتصادي داخل الاتحاد الأوروبي، قد تدفع دول الاتحاد إلى اتخاذ قرار مماثل يصنف حزب الله، بجناحيه السياسي والعسكري، باعتباره منظمة إرهابية، خاصة أن الاتحاد حتى وقتنا هذا ما زال يصنف الجناح العسكري للحزب فقط كجماعة إرهابية، والجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي قد أدرج الجناح العسكري على قائمة الإرهاب عام 2013.
- وجود دول أوروبية غير ألمانيا اتخذت هذه الخطوة من قبل، كبريطانيا وهولندا، ما يعني أن هناك توجه عام متنامي داخل دول الاتحاد الأوروبي بدأ يتعامل بجدية مع الخطر الذي يشكله حزب الله، وضرورة تصنيفه بجناحيه السياسي والعسكري ضمن التنظيمات الإرهابية، خاصة مع الوثائق التي كشفتها الدول الثلاث، ألمانيا وبريطانيا وهولندا، حول تمدد حزب الله في ألمانيا، وتورطه في العديد من الأنشطة الإجرامية التي تخالف القوانين الأوروبية.
- تزايد عدم القبول بالمنطق الذي كان يستند إليه الاتحاد الأوروبي في الفصل بين الجناح السياسي والعسكري للحزب؛ فالحزب يعمل كمنظومة واحدة متكاملة، ولا توجد لديه وحدات تنظيمية منفصلة، وليس هناك فصل بين أنشطته المختلفة، بما في ذلك عمليات الإرهاب، والإجرام المنظم، ومحاولات التمدد والانتشار العسكري والسياسي والاجتماعي، والتي تتم جميعها من خلال السلطة المركزية للأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، ومن ثم فإن تمسك الاتحاد الأوروبي بفكرة الفصل بين الجناحين السياسي والعسكري للحزب ليست صحيحة وحسب، بل أنها تتيح له المجال لمواصلة أنشطته الإجرامية وأنشطة جمع الأموال في أوروبا وحول العالم دعمًا لأعماله غير القانونية[13].
- تورط الحزب في العديد من الأنشطة التجسسية لصالح إيران في أوروبا، حيث يقوم بإرسال مواطنين يحملون الجنسيتين اللبنانية والأوروبية (من السويد وفرنسا وغيرهما) لتنفيذ هذه العمليات[15]. وقد كشف ميشال كوديلكا رئيس جهاز الأمن والمعلومات “مكافحة التجسس” التشيكي في 8 أكتوبر 2018 أن جهاز الأمن ساهم في تعطيل مخدمي شبكات هاكر لـحزب الله، في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتي كانت تستخدم في عمليات التجسس السيبراني [16].
- ضلوع الحزب في العديد من الأنشطة الإرهابية داخل الأراضي الأوروبية، والتي تعود إلى عام 1985 عندما اختطف طائرة كانت في طريقها من أثينا إلى روما كان الحزب يقف وراءها. كما تعرضت حافلة سياحية عام 2012 في بلغاريا لهجوم إرهابي نسب لعناصر من الحزب كان أسفر عن مقتل ستة مدنيين وإصابة أكثر من 30 آخرين.
- تنامي ضغوط اليمين المتطرف في أوروبا لفرض حظر شامل على الأنشطة التي يقوم بها حزب الله اللبناني، وغيره من التنظيمات المتطرفة التي بدأت تهدد الأمن والاستقرار في العديد من الدول الأوروبية في السنوات القليلة الماضية، بل إن اليمين المتطرف كان يستغل النشاط العلني لحزب الله في ألمانيا والعديد من الدول الأوروبية في توجيه انتقادات إلى الحكومات الأوروبية، واتهامها بالتقاعس في مواجهة تغلغل الحزب في أوروبا وغض النظر عن أنشطته الغير قانونية.
- تدفع جماعات الضغط الموالية للولايات المتحدة وإسرائيل في الاتحاد الأوروبي في اتجاه التحرك لتصنيف حزب الله، بجناحيه السياسي والعسكري، كمنظمة إرهابية؛ خاصة أن هذه الجماعات تنشط بشدة في العديد من الدول المؤثرة داخل الاتحاد الأوروبي، كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا[19].
- العلاقات مع لبنان: لا شك أن القرار الألماني بتصنيف حزب الله منظمة إرهابية سيكون له تداعياته المباشرة على العلاقات مع ألمانيا، خاصة بالنظر إلى الاعتبارات التالية:
- يشكل حزب الله أهم الأطراف المؤثرة في المشهد السياسي اللبناني، ليس فقط لأنه يشارك في السلطة بشكل فاعل، حيث يسيطر على الحكومة حالياً، بعد تولي حسان دياب الموالي للحزب رئاسة الحكومة، وإنما أيضاً لأنه يمتلك قوة عسكرية فاعلة، غير خاضعة للجيش الوطني اللبناني، وهذا يعني أنه قد يدفع الحكومة إلى اتخاذ قرارات في المستقبل تؤثر بالسلب على العلاقات مع ألمانيا.
- تراجع الدور الألماني في الوساطة بين إسرائيل وحزب الله، إذ أن القرار الأخير قد يدفع الحزب مستقبلاً إلى التحفظ على هذه الوساطة، خاصة أنه بات على قناعة الآن أن القرار الألماني جاء استجابة للضغوط الإسرائيلية كما أشار الأمين العام للحزب في تعليقه على القرار، وهذا – كما يرى الحزب – سيفقد ألمانيا صفة الوسيط النزيه والمحايد مع إسرائيل في أية أزمات مستقبلية.
- العلاقات مع إيران والموقف من الاتفاق النووي: لا يمكن تجاهل تأثير القرار الألماني على العلاقات مع طهران، خاصة أن الأخيرة اعتبرت أن هذا القرار موجه بالأساس ضدها وضد حلفائها في المنطقة أو ما تسميه بـ”محور المقاومة”، ولهذا فإن تداعيات هذا القرار قد تؤثر بالسلب على العلاقات بين الدولتين خلال الفترة المقبلة، خاصة أن هذا القرار يتماهى مع الموقف الأمريكي العام من حزب الله اللبناني. في الوقت ذاته فإن هذا القرار قد يؤثر بالسلب أيضاً على مجمل العلاقات الإيرانية – الأوروبية، خاصة مع الدول التي تمتلك ألمانيا قدرة كبيرة في التأثير عليها، وفي ظل اقتناع العديد من العواصم الأوروبية بخطورة السياسات الإيرانية على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وضرورة تغيير هذه السياسات.