Insight Image

“حرب العشرين سنة”: الجهادية ومحاربة الإرهاب في القرن الحادي والعشرين. تأليف: مارك هيكر وإيلي توننبوم

22 يوليو 2022

“حرب العشرين سنة”: الجهادية ومحاربة الإرهاب في القرن الحادي والعشرين. تأليف: مارك هيكر وإيلي توننبوم

22 يوليو 2022

تراكمت منذ عام 2001 المئات من المؤلفات المخصصة لموضوع الإرهاب والحركات الجهادية والإسلام السياسي، مكتوبة في العديد من اللغات، أُلّف عدد منها باللغة العربية أو نُقل إليها. وقد تفاوتت هذه المؤلفات في القيمة بين ما يغلّب التحليل الرصين وما يختار الإثارة.

 لكن كتاب “حرب العشرين سنة: الجهادية ومحاربة الإرهاب في القرن الحادي والعشرين”، الصادر سنة 2021 عن دار النشر الباريسية روبارت لافون، كتاب يكاد يكون فريداً من نوعه لأنه يجمع بين ميزات عدة. أولها أنه مؤلف شامل يرصد الأحداث الرئيسية للإرهاب كلها منذ تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك بتاريخ 11/09/2001 إلى اتفاق الدوحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركه طالبان في 29/02/2020، الذي أنهى مواجهة تواصلت عشرين سنة. ونجد فيه الأحداث الأساسية كلها معروضة بالأسماء والتواريخ، وبأسلوب تأليفي يحلّل الأسباب والنتائج.

وهو إلى ذلك كتاب لا ينظر إلى موضوعه من زاوية الإرهاب فحسب، بل يتضمن توثيقاً دقيقاً أيضاً، يكاد يكون غير مسبوق، لمختلف الاستراتيجيات التي وضعتها الدول، وأساساً الولايات المتحدة الأمريكية، لمحاربة الإرهاب. وهذه ميزة ثانية فيه. إذ نجد عرضاً دقيقاً للوثائق الاستراتيجية الأمريكية، سواء المعلنة أو التي رُفعت عنها السرية، ونتبين من خلالها كم غيرت واشنطن من سياساتها في هذا الموضوع بسبب تواصل الإرهاب رغم كل جهودها لصده. ويذهب الكتاب إلى أن الإرهاب كانت له استراتيجياته أيضاً، فينزّل بعض النصوص المعروفة مثل “إدارة التوحش” لأبي بكر ناجي في سياق العمليات الإرهابية، ليبيّن أنها لم تكن مجرد أفكار فردية بل وثائق استراتيجية أخذتها الإدارة الأمريكية مأخذ الجد.

 أما الميزة الثالثة فهي الطابع الأكاديمي الميسّر للكتاب، فهو يلتزم من جهة بالقواعد الأساسية للعمل الأكاديمي، مثل: الدقة والتوثيق لكل المعلومات المعروضة والتزام الحياد، ويتفادى من جهة أخرى التعقيدات والاستطرادات ويعرض المضمون بطريقة سلسة في متناول الجميع.

أخيراً، نشير إلى ميزة رابعة هي احتواء الكتاب لمجموعة من الدروس الاستراتيجية التي تم التوصل إليها بعد دراسة دقيقة لوقائع الإرهاب على مدى عشرين سنة. وسنشير إلى نماذج منها لاحقاً. كما يتضمن الكتاب تقديرات للكلفة البشرية والمالية لهذه الحرب ضد الإرهاب، فهي نحو 800 ألف قتيل، منهم 150 ألفاً ضحايا العمليات الإرهابية، والباقي ضحايا الحرب ضد الإرهاب! ولا يحتسب هذا العدد ضحايا حروب أخرى مرتبطة بالإرهاب حصلت في نيجيريا (نحو 30 ألف قتيل) والصومال (نحو 45 ألف قتيل) وسوريا (نحو نصف مليون قتيل) واليمن (نحو 250 ألف قتيل). أما التكلفة المالية فيصعب تحديدها عالمياً لكنها في الولايات المتحدة وحدها قد جاوزت حسب دراسة جامعة براون الأمريكية 6400 مليار دولار من نفقات مباشرة محسوبة على ميزانية الدولة.

 والكتاب من تأليف خبيرين استراتيجيين مشهود لهما بالكفاءة وينتميان إلى أحد أهم مراكز البحوث الفرنسية وهو المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI) في باريس. أولهما مارك هيكر، مدير البحوث في المعهد المذكور، رئيس تحرير المجلة المتخصصة “السياسة الدولية” الصادرة عن المعهد، وهو يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية. والثاني إيلي توننبوم، المسؤول عن مخبر البحث المتخصص في شؤون الدفاع في المعهد.

 ارتأى المؤلفان أن يقسما كتابهما الممتد على 440 صفحة إلى خمسة أقسام أساسية تعبّر برأيهما عن المراحل المتتابعة التي تطورت خلالها الظاهرة الإرهابية. المرحلة الأولى تمتد من سنة 2001 إلى سنة 2006 وفيها انتقل الإرهاب من ظاهرة معروفة إلى ظاهرة “فائقة” (Hyperterrorisme) أصبحت تهيكل السياسة الدولية. وابتدأت هذه المرحلة بتأسيس تنظيم “القاعدة” على يدي أسامة بن لادن وأيمن الظواهري (يؤرخ عادة لهذا التأسيس بتاريخ 23/02/1998، بمناسبة صدور إعلان الجهاد العالمي ضد اليهود والصليبيين)، وانتهت بتحول العراق إلى ساحة رئيسية للمواجهة بين “القاعدة” والولايات المتحدة الأمريكية. وقد توفي 2979 شخصاً كانوا في برجي التجارة العالمي، إضافة إلى 25 ألف جريح وخسائر مالية قدرت بعشرة مليارات دولار. ومع أن أمريكا قد شهدت قبل هذا الحدث عدداً من العمليات الإرهابية ضد مصالحها (مثل المحاولة الفاشلة لتفجير برجي التجارة سنة 1993 على يدي الإرهابي رمزي يوسف وقد أسفر عن ستة قتلى. وهذا الإرهابي هو من عائلة خالد شيخ محمد، أحد العقول المدبرة لتفجيرات 11/09/2001)، وأن ابن لادن كان معروفاً لدى مخابراتها التي خصصت جائزة بخمسة ملايين دولار لمن يساعد على القبض عليه، فإنها عجزت على التوقي من هذا الهجوم لأنه كان يبدو مستحيل الإنجاز.

لم يتردد الرئيس الأمريكي، آنذاك، من تشبيه هذا الحدث بالهجوم الياباني على السفن الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية وأطلق مقولة “الحرب على الإرهاب” منذ لحظات ظهوره الأولى، مع أن العديد من الخبراء كانوا يعارضون هذا الاستعمال، لأنه يلزم الولايات المتحدة بتطبيق قانون الحرب على الإرهابيين، ويرون أن هؤلاء مجرمون لا محاربون. لكن العبارة التي احتدم حولها الجدل في البداية سرعان ما أصبحت مستعملة على نطاق عالمي. وكانت أولى الخطوات التي بادرت بها الأجهزة الأمنية الأمريكية هي تحليل قائمة المسافرين على الطائرات الثلاث التي حولت وجهتها لتكتشف أن العديد من الإرهابيين كانوا معروفين لديها.

وقد دفع ذلك إلى مراجعات سريعة وحاسمة للعديد من الإجراءات السائدة. وقامت الإدارة الأمريكية بالضغط على باكستان للسماح باستعمال أراضيها في الهجوم على أفغانستان بعد أن رفض قادة طالبان تسليم زعيم القاعدة. واقتُرح على حامد كرزاي الرئاسة المؤقتة للبلاد باعتباره من قبيلة الباشتون وكان قد شارك مشاركة صغيرة في الجهاد ضد السوفييت. فعقد مؤتمراً في مدينة بون الألمانية اتفق حوله على أن يتولى الإعداد لدستور للبلاد عبر مجلس قبلي. وبدا الأفغان سعداء بالتخلص من حكم طالبان، لكن النظام المؤقت انهمك في الفساد، والعديد من الولاة الجدد أساؤوا معاملة مرؤسيهم، فبدأ التذمر يتصاعد شيئاً فشيئاً، ورجال طالبان الذين دُحروا بقسوة في الأسابيع الأولى من الغزو بدؤوا يسترجعون تدريجياً مكانتهم. وقد عرض عدد من قيادات طالبان على الولايات المتحدة اتفاق سلام مقابل السماح لهم بالمشاركة في الحكم الجديد فكان الرد الأمريكي الرفض المطلق. وكان على رأس هؤلاء المطالبين الملا عبدالغني باردار، وهو الذي عادت إليه واشنطن بعد عشرين سنة لتعقد معه معاهدة سلام الدوحة وتعيد له أفغانستان على طبق من ذهب. وخلال هذه الفترة أعادت أمريكا تنظيماتها الأمنية، فاستنجدت بالحرس الوطني لمراقبة المطارات، وأصدر الرئيس بوش الابن أذوناً باستعمال التنصت في الداخل والخارج دون الالتجاء إلى القضاء، ولم يكشف الموضوع إلا سنة 2006 بفضل مقال استقصائي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”. لكن العديد من الإجراءات الأخرى كانت معروفة ومثلت إجراءات غير مسبوقة وغير معهودة في بلد يقدس الحرية الشخصية، وهي المتضمنة في قانون “باتريوت آكت” المشهور.

وفي هذه المرحلة وضعت الولايات المتحدة برنامجاً عسكرياً يعتمد استعمال الطائرات المسيّـرة للقضاء على الإرهابيين في أي مكان في العالم ودون مراعاة سيادة أي دولة. وكان أول ضحايا هذا البرنامج القيادي في القاعدة اليمني أبو علي الحارثي الذي اغتيل في نوفمبر 2002. وتم اختطاف العديد من القادة الآخرين وإيداعهم في سجون سرية في العالم وفي سجن غوانتنامو المشهور.

وفي هذه المرحلة أطلقت الولايات المتحدة برنامجاً عُرف إعلامياً بحرب الأفكار أيضاً، وأنشأت أجهزة إعلامية عدة على غرار القناة التلفزيونية “الحرة” سنة 2004. واشترت مؤسسة “أي-تورن” المتخصصة في إنتاج الأشرطة الإباحية وحولتها لإنتاج ومضات إشهارية ضد الإرهاب. وشجعت على تبادل رحلات الطلبة مع البلدان الإسلامية لإطلاعهم على الحضارة الأمريكية. وتأسست إدارة خاصة لبث وجهات النظر الأمريكية في العالم، إلا أن الإعلام الأمريكي اتهم هذه الإدارة بنشر الأكاذيب وحصلت مجادلات عدة اقنعت الرئيس بوش الابن بأن من الأفضل التخلي عنها.

وقد تبين من خلال سبر آراء ضخم قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط أن كل هذه المبادرات لم تنجح نجاحاً تاماً وظلت صورة القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن صورة إيجابية لدى قسم مهم من المسلمين، والسبب الأكبر في ذلك حرب احتلال العراق الذي ربطته الولايات المتحدة بطريقة متعسفة بحربها ضد الإرهاب، وهو أمر لم يقنع الرأي العام في الشرق الأوسط وحوّل التعاطف مع أمريكا إلى نقمة عليها، فضلاً على أن هذا الاحتلال أسهم مساهمة ضخمة في عولمة الإرهاب وانتشاره في كل العالم. وفي حين كان التخبط على أشده بين الخبراء الأمريكيين لمواجهة هذه الوضعية المعقدة، أصدر القيادي في القاعدة “أبو مصعب السوري” سنة 2005 نصوصاً عدة على “الواب” تتضمن توجهات جديدة للعمل الجهادي ستثبت نجاعتها من خلال العمليات الإرهابية التي ستشهدها أوروبا، بعد أن أصبح مستحيلاً على القاعدة إعادة مهاجمة أمريكا. ويرى المؤلفان أن “أبو مصعب السوري” قد تفطن إلى أن “الواب” يدخل مرحلة جديدة يصعب فيها التحكم في محتوياته، وأنه وظفه للجهاد ولم تعد القاعدة رهينة قناة “الجزيرة” لبث رسائلها وتوجيهاتها، فقد أنشأت إعلامها الخاص بها.

نجحت القاعدة حينئذ في فتح جبهات جديدة لعملياتها الإرهابية شملت المملكة العربية السعودية التي كانت تبدو محصنة منه سابقاً، ثم شملت بعض المدن الأوروبية منها: مدريد (إسبانيا) في سنة 2004 (أكثر من 200 قتيل)، ولندن في سنة 2005 (52 قتيلاً). أدرك الأوروبيون أن الولايات المتحدة لم تعد وحدها المستهدفة وبدؤوا يتخذون إجراءات صارمة للتوقّي، بعضها مقتبس من أمريكا وكان محل انتقادهم. وبدأ يتشكل تحالف عالمي ضد الإرهاب، كما دعت إليه أمريكا بعد سنة 2001. لكن الأوروبيين ظلوا يُحمّلون الولايات المتحدة مسؤولية انتشار الإرهاب في العالم بسبب احتلال العراق دون القدرة على السيطرة عليه.

 ثم تمتد المرحلة الثانية من سنة 2006 إلى سنة 2011، لقد أوشك العراق أن يقسّم بين الشيعة الموالين إلى إيران وتنظيم القاعدة الإرهابي، لولا التغيير الحاسم الذي قامت به في الولايات المتحدة الأمريكية في استراتيجيتها العراقية، والمتمثل في إعادة الاعتبار للمكون السُّني في البلاد وتشجيع الحركات السُّنية المعروفة بالصحوة، كي يقع الفصل بين المطالب السُّنية المشروعة والمطالب الإرهابية لتنظيم القاعدة. وقد شهدت واشنطن، آنذاك، منافسات وخصومات بين المسؤولين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين للوصول إلى تحديد الخطط الأفضل لمواجهة الكارثة التي تردى فيها العراق بعد الاحتلال الأمريكي؛ لأن هذا الاحتلال لم يكن مستعداً لإدارة البلاد بعد السيطرة عليها عسكرياً. فكانت حرب العراق عاملاً أساسياً لتوسيع رقعه الإرهاب. عدا التكلفة الباهظة التي تحملتها أمريكا في العراق. وكان للجنرال دايفيد بتريوس، الفضل الأكبر في التغيير الاستراتيجي، وهو الذي خصص أطروحته للدكتوراه لدراسة الحرب الفيتنامية. لقد وضع دليلاً إرشادياً جديداً (Field Manual 3.24) عُمم على القيادات العسكرية كلها يتضمن مجموعة من القواعد منها محاولة التقرب من السكان والمراهنة عليهم للقيام ببعض المهام وخروج الجنود من الثكنات والتريث قبل إطلاق النار. لم يكن يسيراً فرض هذه القواعد الجديدة لأنها زادت من عدد الضحايا بين الجنود الأمريكيين عند محاولاتهم الامتزاج بالسكان المحليين، مقابل تراجع عدد المحليين الذين يقع قتلهم على وجه الخطأ (من 3000 ضحية سنة 2007 إلى 900 ضحية سنة 2008). لكن هذه الاستراتيجية الجديدة أثبتت لاحقاً صلاحيتها، وكانت حركة الصحوات (أكثر من 100 ألف مقاتل) مثالاً بارزاً لهذا النجاح، ومع ذلك فإنها واجهت مصاعب أخرى بسبب سياسة نوري المالكي الطائفية.

مع وصول باراك أوباما إلى الرئاسة سنة 2009، بدا هذا الخط وكأنه يتدعم أكثر، لكن الحقيقة أن أوباما لم تكن لديه نية حقيقية لمعالجة الأمور وكانت رغبته قوية في سحب القوات الأمريكية في أسرع وقت من أفغانستان والعراق، وذهب إلى القاهرة في يونيو 2009 ليقترح بداية جديدة بين أمريكا والإسلام، وأمر بالتخلي عن استعمال عبارة “التطرف الإسلامي” واستبدالها بعبارة “التطرف العنيف”. ويعتبر المحللون الاستراتيجيون أنه ارتكب أخطاء عديدة، منها: تحديد سقف زمني للانسحاب بما يغري الحركات الجهادية بالاستعداد لتحل محل القوات الأمريكية، والظهور بمظهر الضعف بما سمح لنوري المالكي من تشديد سياسته المناهضة للسُّنة بعد النجاح الذي تمثل في حركات الصحوة. وفي نهاية هذه الفترة، لم يستطع أوباما تحقيق رغبته في الانسحاب الكامل، ولا في إغلاق معتقل غوانتنامو. وحاول فتح قنوات تواصل سرية مع طالبان أفسدتها المخابرات الباكستانية باغتيال الملا بارادار في فبراير 2010. وبدأت أصوات عديدة تعارض الاستراتيجية التي وضعها الجنرال بتريوس لأنها تتضمن تحويل تمويلات الصناعة العسكرية إلى مساعدات للعراقيين (على سبيل المثال، كان رجال الصحوة وعددهم بالآلاف يحصلون شهرياً على مبلغ 300 دولار أمريكي). وتكبدت أمريكا خسائر مالية بمئات المليارات وخسرت 4500 من جنودها دون أن تحقق أهدافها. لكن يحسب لأوباما أنه قام بتجميل صورة أمريكا في البلدان الإسلامية. فقد بيّـن سبر آراء أمريكي أن نسبة المناهضين للحرب الأمريكية ضد الإرهاب قد تراجعت بشكل واضح (من 46% سنة 2013 إلى 18% سنة 2010 في باكستان، ومن 56% سنة 2010 إلى 13% في الأردن،… إلخ). وفي الأثناء، نشأ جيل جديد من الإرهابيين أكثر قدرة على التواصل وبدأ الإعداد لعمليات تثير الرعب في كل مكان في العالم.

 ثم تأتي المرحلة الثالثة الممتدة ما بين السنوات من 2011 إلى 2014 وقد تزامنت مع انطلاق ما سُمي آنذاك بـ “الربيع العربي” الذي بدا في أول وهلة منعرجاً تاريخياً سيفتح مجال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في المنطقة فيتراجع الإرهاب نتيجة ذلك. لكن ما حصل على أرض الواقع هو العكس تماماً وانتقل الوضع بسرعة من ربيع عربي إلى خريف إرهابي، وزادت رقعة العمليات الإرهابية انتشاراً وعنفاً واستفادت الحركات الجهادية من سقوط بعض الأنظمة أو انهيار الأجهزة الأمنية في أنظمة أخرى، يضاف إلى ذلك سوء تقدير البلدان الغربية لمجريات الأمور وتخبطها أمام أوضاع غير مسبوقة، بما ترك المجال واسعاً للإرهاب كي يتمدد ويهيمن. ومع ذلك، حققت الحرب ضد الإرهاب انتصاراً ضخماً عندما تمكنت فرقة خاصة أمريكية من اغتيال أسامة بن لادن في مايو 2011. وشهدت هذه الفترة تغيراً آخر في الاستراتيجية الأمريكية من هندسة نائب الرئيس، آنذاك، جو بايدن، مستوحى من عملية اغتيال ابن لادن. فقد دافع نائب الرئيس على استراتيجية تتضمن التقليص من الحضور العسكري مقابل الاستعمال المكثف للطائرات المسيّـرة والعمليات الخاصة. كما راهنت أمريكا على ما سمي بـ “الربيع العربي” لتشجيع حركات إسلامية غير معادية لها وتقليص الشعور بالمعاداة تجاهها في الشرق الأوسط. وطرحت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مفهوم الهيمنة الذكية. بل إن الحركات الجهادية ذاتها شهدت بوادر انقسامات بين مَنْ يدعو إلى مواصلة الجهاد ومَنْ يدعو إلى الاستفادة من الظرفية الجديدة للعمل الجماهيري. وحصلت “مراجعات” عدة مختلف حولها بين القيادات الإرهابية. لكن انهيار التجارب الديمقراطية كلها سرعان ما أعاد الجميع إلى مربع الجهاد واستعمال العنف. وأضيفت سوريا بؤرة ثالثة عالمية للإرهاب بعد أفغانستان والعراق، وظهرت “داعش” ممثلة الجيل الجديد من الإرهابيين وأصبحت تسعى إلى إقامة دولة.

ولعل السمة الأبرز في هذه المرحلة تتمثل في فتح جبهة إرهابية جديدة في المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء. وهي الجبهة التي يرى مؤلفا الكتاب أنها ما فتئت تتعاظم وقد تكون الأكثر خطراً في المستقبل. وقد سيطرت “القاعدة” على التنظيمات في هذه الأقاليم قبل أن تخلفها “داعش” لاحقاً. وبرزت قيادات إرهابية ذات صيت كبير على غرار (مختار بالمختار وعبد المالك دروكدال)، وبلغ الأمر حدّ إلغاء سباق السيارات باريس – داكار خوفاً من العمليات الإرهابية. وأصبح تنظيم “أنصار الشريعة” من التنظيمات التي يحسب له ألف حساب، ومن مؤسسيه التونسي سيف الله بن حسين الملقب بأبي عياض. وكان لتسريح المساجين بعد “الربيع العربي” دور مهم في تشكل هذه التنظيمات الإرهابية.

 نتج عن تطور هذه الجبهة الجديدة اقتراب أكبر للإرهاب من أوروبا، وفي المرحلة الرابعة الممتدة ما بين السنوات من 2014 إلى 2017 ضرب أوروبا وفرنسا خاصة (241 قتيلاً و900 جريح)؛ ما دفعها إلى أن تعتمد مفهوم الحرب ضد الإرهاب بعد أن أصرت على عدم استعماله منذ سنة 2001، وأن تقتبس الوسائل التي استعملتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كانت حريصة على انتقادها. وكان للعائدين من بؤر التوتر، وخاصة من سوريا، الدور الأكبر في تنفيذ هذه العمليات، ومنهم أوروبيون سافروا للمساهمة في الجهاد. ومن الأسماء البارزة في هذا المجال (مهدي نموش، ومحمد أشملان، والأخوان فابريس وجون ميشال كلين، وتوماس برنوين، وعمر ديابي،… إلخ). أما أفريقيا جنوب الصحراء فقد شهدت عمليات شنيعة على غرار احتجاز منظمة “بوكو حرام” 276 طالبة يوم 15/04/2014 وتحويلهن إلى جوارٍ. وبالنظر إلى المخاطر العالية التي مثلها الإرهاب في هذه المرحلة، تنامت فكرة تشكيل تحالف عالمي ضد الإرهاب قرّب بين واشنطن وباريس وبلدان الخليج وبقية بلدان العالم التي أصبحت جميعها قلقة من مواجهة ذات طابع استراتيجي ووجودي ضد الإرهاب.

أقامت “داعش” دولتها بعد أن سيطرت على الموصل في يونيو 2014 نتيجة الفرار المفاجئ لوالي المدينة بالانسحاب مع أن جيشه كان بأضعاف مقاتلي “داعش”. وأعلنت الخلافة في شخص أبي بكر البغدادي وهو عضو سابق في تنظيم الإخوان المسلمين، ودانت له بالولاء منظمات عديدة في أفريقيا وآسيا. وبدت العمليات التي نفذتها “داعش” في أماكن عدة من العالم أكثر عنفاً وجرأة من عمليات القاعدة سابقاً، مثل: عمليات المتحف الوطني وسوسة والحرس الرئاسي في تونس وعمليات قاعة العرض الباتكلان وملعب كرة القدم في باريس وعملية المطار في إسطنبول.

 كان للتقارب الدولي لمحاربة الإرهاب الذي اتخذ أحياناً شكل التحالف دور في نحر جزء من الإرهاب خلال المرحلة الخامسة والأخيرة الممتدة ما بين السنوات من 2018 إلى 2021. ففي يوم 27/10/2019، أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن مقتل “الخليفة” أبي بكر البغدادي على يد فرقة خاصة أمريكية. وكانت الإدارة الأمريكية قد أصدرت قبل ذلك وثيقة استراتيجية عنوانها “استراتيجية الدفاع القومي” أكدت فيها أن الحرب على الإرهاب لم تعد الاهتمام الأول للأمن القومي. وقد قرر ترامب التخفيض إلى النصف في عدد الجنود الأمريكيين العاملين في العراق وأفغانستان، وخفض الموازنات المالية المخصصة لذلك من 3.6 مليار دولار سنة 2017 إلى 1.2 مليار دولار سنة 2019. وقرر أن كل بلد يطلب مساعدة عسكرية أمريكية عليه أن يتكفل بمصاريفها. ولأول مرة، أذن ترامب بتطبيق خطة القتل عن بُعد المستعملة عادة ضد الإرهاب لاغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني الذي كان يشرف على الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق. وحث الأوروبيين وكل بلدان العالم على استرجاع أسراهم الموجودين في غوانتنامو وفي السجون العراقية بتهم الإرهاب. وفتح مفاوضات مباشرة مع طالبان في العاصمة القطرية الدوحة تمهيداً لعقد اتفاق سلام.

وقد أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أكثر من مرة عن نهاية الحرب ضد الإرهاب، وأعلم مواطنيه أن هذه الحرب أرهقت بلاده اقتصادياً وسمحت للصين بأن تستغلها لتصبح قوة عالمية تتحدى أمريكا، ورأى أن المطلوب أن تطوي واشنطن صفحه الإرهاب وتخوض الحرب الاقتصادية ضد الصين إذا كانت راغبة في المحافظة على تفوقها وريادتها في العالم. لكن الإرهاب لم ينته بهذه الإعلانات وإنما اتجه، حسب الباحثين، إلى مناطق أخرى في العالم وخاصه أفريقيا. ولذلك لا يستبعد الكاتبان انبعاث موجة جديدة من الإرهاب ولكن في أشكال أخرى، بعد فتره تطول أو تقصر، ويحذران من أن نهاية حرب العشرين سنة ضد الإرهاب لا تعني نهاية الإرهاب ذاته. ويقدران أن أكثر من 30 ألف إرهابي موجودون حالياً بين العراق وسوريا، فضلاً عن المئات الموزعين حالياً في بقاع العالم كلها.

ويعرض الكاتبان، من هذا المنطلق، مجموعة من “الدروس” والتوصيات الاستراتيجية المقتبسة من تحليل عشرين سنة من الحرب ضد الإرهاب لتفادي الوقوع في الأخطاء الماضية نفسها، منها بعث وتشجيع مراكز دراسات تعمل في البلدان المعنية مباشرة بالإرهاب، ومتابعة الحلفاء والاتقاء منهم بعد نهاية التحالف معهم، والتدخل المبكر لصد الأخطار، والاهتمام بالأحداث التي تحصل في أماكن بعيدة جداً؛ لأن واقع العولمة يجعل تأثيراتها قابلة أن تشمل البلدان كلها، والاعتماد على السكان والفاعلين المحليين ونيل ثقتهم.

 نشير إلى أن عنوان الكتاب يتضمن دلالة يدركها المطلع على تاريخ الحروب الدينية في أوروبا، فقد شهدت هذه القارة في القرن السابع عشر حرباً دينية مدمرة دعيت بحرب الثلاثين سنة تواصلت من سنة 1618 إلى سنة 1648 واعتبرت، آنذاك، من أكثر الحروب دموية في التاريخ (بين أربعة إلى سبعة ملايين قتيل) وانتهت بانهيار النظام الأوروبي القديم القائم على الإمبراطورية وهيمنة الكنيسة وقيام نظام ويستفاليا القائم على مبدأ الدولة-الأمة، وقد تعولم بعد ذلك ليشمل العالم كله. فلعل عنوان الكتاب إشارة إلى أن حرب العشرين سنة ستخلف بدورها تغيرات أساسية في النظام الإقليمي والعالمي تضاف إلى تكلفتها البشرية والمادية الباهظة.

هذا الكتاب مهم في قيمته التوثيقية ورصانة تحاليله، وفيما يعرضه من وثائق ويقترحه من توصيات. وهو كتاب يدفع إلى التأمل والتفكير في ظاهرة يذهب أكثر دارسيها ومحلليها إلى أنها تراجعت لكن أسبابها لم تختفِ، فهي مؤهلة للعودة من جديد في أشكال أخرى.

المواضيع ذات الصلة