Insight Image

حوكمة الذكاء الاصطناعي: تصورات بشأن استدامة السحب السيادية

14 نوفمبر 2025

حوكمة الذكاء الاصطناعي: تصورات بشأن استدامة السحب السيادية

14 نوفمبر 2025

حوكمة الذكاء الاصطناعي: تصورات بشأن استدامة السحب السيادية

يشهد العالم تحوّلًا كبيرًا في وضع التشريعات والقوانين بصفة عامة، خصوصًا التي تتصل بالذكاء الاصطناعي أو تتأثر به بصفة خاصة، حيث أضحى الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًّا في مختلف القطاعات الحيوية والمؤثرة على مستقبل العالم. ورغم الانتشار المتزايد لمراكز البيانات حول العالم فإن التحديات المتعلقة بهذا المجال متزايدة وعديدة، إذ تتسع لتشمل استهلاك الطاقة، والقدرات الحوسبية، وخصوصية البيانات، والمنافسة على استقطاب المواهب؛ وهي التحديات في مجملها التي تؤدي إلى زيادة المخاوف التي تتعلق بملف استدامة الموارد، وتبنّي استراتيجية الذكاء الاصطناعي السيادي في مجال صياغة السياسات والتشريعات وتصميمها.

وقد تجاوز الموضوع بتحولاته الراهنة مسألتَي الخصوصية وتنظيم البيانات، وأصبح قضية أمن قومي واستقلال اقتصادي ومنافسة جيوسياسية، حيث باتت الدول اليوم تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كساحة تنافسية (Geo-tech Competition)، لينعكس في صراع حاصل على الموارد المستخدمة في التكنولوجيا وتأمينها وكيفية استخدامها. وأصبحت العديد من الدول تنظر إلى قضية التحكم في البنية التحتية السيبرانية وسلاسل الإمداد الرقمية التي تدار بواسطة الذكاء الاصطناعي كأولوية استراتيجية عليا؛ لتأثيرها الكبير على الأمن القومي والاقتصاد المستقبلي، اللذين يعتمدان هذه التقنية.

ومن هذا المنطلق، تكتسب دراسة حوكمة الذكاء الاصطناعي أهمية متزايدة للبحث والإجابة عن هذه الأسئلة؛ في ظل اعتماد الحكومات والشركات، على حدٍّ سواء، على الذكاء الاصطناعي بدرجات متفاوتة، وهو ما يجعل فَهم الوضع الراهن أمرًا شديد الأهمية للعديد من الدول الساعية لحيازة تقنيات الذكاء الاصطناعي من منظور أمني؛ لعدم الانجراف تحت مظلة قوى متحكمة سياديًّا وتقنيًّا تفرض على الدول المستخدمة لتقنياتها التبعية بسبب انحياز التقنية نفسها لهذا النوع من السياسات. وهنا، تظهر ضرورة توجيه سياسات حيازة وتشغيل وإدارة مراكز البيانات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في العالم. لذلك، يهدف هذا البحث إلى دراسة حالة بعض الدول الكبرى في تبنّي الموارد المطلوبة لتحقيق السيادة الرقمية التي تمكّنها من ضمان تحكّمها في مسار تحوّلها الرقمي المتسارع، وتأمين مصالحها الوطنية في الفضاء السيبراني، وتقديم إطار عملي في حوكمة الذكاء الاصطناعي. وهنا، يظهر سؤال بالغ الأهمية: كيف يمكن حوكمة مراكز البيانات وإدارتها، والسعي في متطلبات التحوّل الرقمي الراهن في ظل تسارع الطفرات التقنية في الذكاء الاصطناعي؟ وبناء على ذلك، سوف يتم تقسيم هذا البحث إلى خمسة محاور رئيسية، وهي: الضبط اللغوي والاصطلاحي لمفاهيم الدراسة؛ ثم تحليل إطار حوكمة الذكاء الاصطناعي وحدود الاستقلال السيبراني؛ وسبل السيطرة على البيانات؛ وحماية البنية التحتية الحيوي والحوسبة السحابية السيادية؛ وتصورات حول حوكمة الحوسبة السحابية السيادية.

الضبط اللغوي والاصطلاحي لمفاهيم حديثة نسبيًّا

 قبل البدء في تحليل موضوع الدراسة لابد من توضيح بعض المفاهيم الرئيسية المرتبطة بها، حيث شهد مفهوم الحوكمة تطورًا واسعًا خلال العقود الأخيرة نتيجةً لتزايد الحاجة إلى أنظمة إدارة أكثر شفافية وانضباطًا، فقد أصبح هذا المفهوم محورًا رئيسيًّا في مجالات السياسة والإدارة والاقتصاد، وانتقل من نطاق إدارة المؤسسات إلى أبعاد أشمل مثل ضبط الأداء العام وصناعة القرار ضمن أطر ومعايير واضحة. ومع التحول الرقمي وظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، اتسع نطاق الحوكمة ليشمل الجانب التقني أيضًا، حيث بات من الضروري وجود أطر تنظّم العلاقة بين التكنولوجيا والإنسان من منظورَين أخلاقي وتشريعي.[1]

 ولغويًّا، تُشتق كلمة الحوكمة من الفعل (حَكَمَ) أي تولّي الإدارة أو التوجيه أو التسيير، وتدل على إدارة وضبط شؤون المؤسسات من خلال أنظمة وقواعد تهدف إلى تحقيق الانضباط والشفافية.[2] أمّا اصطلاحًا، فتُعرّف الحوكمة بأنها عملية صنع القرار الجماعي وتنفيذ السياسات، وتُستخدم غالبًا لتمييزها عن مفهوم “الحكومة” من حيث تركيزها على القواعد والمعايير والرقابة والانضباط، إذ تهدف إلى وضع الضوابط التي تحكم السلوك المؤسسي بما يضمن قيادة فعّالة، ورقابة منضبطة حازمة.[3]

 ومن هذا المنطلق، تُعدّ حوكمة الذكاء الاصطناعي الامتداد المعاصر لهذا المفهوم، حيث تعبّر عن التكامل بين الأطر والسياسات والإجراءات التي تهدف إلى ضمان تطوير واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي بصورة آمنة وأخلاقية، بما يحقق العدالة ويحترم الحقوق، ويشمل ذلك إدارة المواهب، والحوسبة، والبحث والتطوير، وموارد الطاقة، وخصوصية البيانات. وعليه، تُعدّ هذه الحوكمة إحدى الركائز الأساسية لتحقيق الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، وضمان توافقه مع القيم الإنسانية والمجتمعية. [4]

أما ثاني المفاهيم التي يتناولها الباحث بالضبط اللغوي والاصطلاحي فهو مصطلح السيادة الرقمية

 وحقيقة الأمر، لقد تطور مفهوم السيادة مع نشوء الدولة، حيث ارتبط بمبدأ الاستقلال والقدرة على اتخاذ القرار دون أي تدخل من طرف خارجي، ولا تكمن فقط في الوصف القانوني لسلطة الدولة، بل تعبّر عن إدارتها الحرة في شؤونها الداخلية والخارجية. ومع التحولات المتسارعة في النظام الدولي، تطور المفهوم من الإطار السياسي في الفكر السياسي والتقني بعد أن كان مرتبطًا فقط بسلطة الملك او الدولة المركزية، ومن الممكن أن نلاحظ ظهور مصطلحات حديثة؛ مثل السيادة الرقمية التي تعتبر امتدادًا للمجالَين؛ التقني، أو الافتراضي.[5]

وبالنظر إلى الأصل المصطلح في اللغة، فإن كلمة سيادة تحمل دلالات العلو والريادة والتمكن، وهي مشتقة من الفعل “ساد”؛ أي تعني السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة أخرى.[6] أما اصطلاحًا، فإن كلمة سيادة تعني امتلاك الدولة سلطة القرارات العليا على أراضيها ومواطنيها دون الخضوع لتدخل خارجي. وانطلاقًا من هذا المعنى فإن السيادة الرقمية تعبّر عن قدرة الدولة على إدارة بياناتها وأنظمتها التقنية والاستقلال في البنية الرقمية ضمن إطار وطني خالص.[7] والآن، سوف نقوم بتسليط الضوء على أهم ركائز السيادة الرقمية، وهي:

أولًا/ تحليل إطار حوكمة الذكاء الاصطناعي وحدود الاستقلال السيبراني

 في ظل التحول الرقمي العالمي، أصبحت العلاقة بين مراكز البيانات والسيادة الرقمية والحوكمة من أبرز القضايا الاستراتيجية التي تحدد مكانة الدول في نظامها الرقمي الجديد. وعلاوة على ذلك، تعتمد فعالية مراكز البيانات على أطر واضحة لإدارة البيانات، وضمان الامتثال للمعايير الوطنية والدولية في الأمن السيبراني وحماية البيانات، حيث توجِّه الحوكمة البوصلة التي تترجم المفاهيم السابقة إلى ممارسات عملية، من خلال التشريعات والتطبيقات التي تمنح الدولة السيطرة على بياناتها وبنيتها الرقمية. وهنا يفترض الباحث أن هذه المفاهيم تعمل ضمن نموذج متكامل، حيث تشكل البيانات والخوارزميات البنية الرقمية، وتوفر الحوكمة الإطار التنظيمي لإدارتها، بينما تُعدّ السيادة الرقمية الهدف النهائي الذي تسعى هذه المنظومة لتحقيقه.[8]  

 وعليه، لم تَعُد الأمم تنظر إلى مراكز البيانات للحصول على السيادة الرقمية بينما تتسارع الدول في بنائها والحصول على أكبر قدر ممكن من المراكز البيانات وقدرة حوسبة متقدمة؛ سعيًا منها للحصول على الوفرة في تخزين البيانات؛ كونها موردًا واعدًا ولها استخدامات مستقبلية،[9] حيث إن إدارة مراكز البيانات تشكل المحور الأساسي لأي منظومة وطنية للسيادة الرقمية وتمكنها من تشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبنى السحابية المحلية، وتساعد أيضًا في تخزين البيانات محليًّا؛ ما يعزز الأمن الرقمي.

 وتعويلًا على ما سبق، فإن وجود هذه الموارد يحتاج إلى أطر حوكمة تضمن الامتثال لخصوصية وحماية البيانات، سواء للموظفين في الشركات، أو المقيمين في الدولة. ومع انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي في معظم القطاعات، ومنها الرعاية الصحية والتنقل والبيئة والزراعة، وأيضًا الخدمات العامة، يزداد الطلب على القرار المدعوم ببيانات؛ وهذا يساعد في تفادي تحديات مستقبلية من خلال التنبؤ وتعلّم الآلة، وزيادة الإنتاجية بشكل أكبر أيضًا، بحكم اعتمادنا الضخم على البيانات، وسرعة معالجتها، والاستدلال عليها في تنفيذ المهام.[10]

ثانيًا/ سبل السيطرة على مراكز البيانات في عصر الذكاء الاصطناعي

 وهنا، يتضح أن هناك حاجة إلى أطر تنظيمية واضحة مهمة للاستفادة من التطور التقني بشكل آمن وفعال. كما أن المنظمات العالمية في الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة بدأت في وضع الأساس القانوني للتبادل الآمن للبيانات بين المؤسسات والدول، ولاسيّما أن غياب الحوكمة في بيئات معالجة البيانات رقميًّا سيؤدي إلى فجوات تنظيمية وتضارب في إدارة البيانات؛ وهو ما قد ينعكس سلبًا على البُعدين السيادي والاستراتيجي.[11]

وجدير بالذكر أن معالجة حوكمة مراكز البيانات وسبل السيطرة عليها لا يتوقفان عند حدودهما الحقيقية، وإنّما يتّسعان ليمتدّ تأثيرهما إلى تأمين سلسلة الإمداد الرقمية، حيث يُعدّ تأمين إمداد التقنية، وعلى رأسها أشباه الموصلات (الرقائق)، الحجر الأساسي في بناء الاستقلال التكنولوجي الاستراتيجي والسيادة الرقمية الحديثة، ولاسيّما بعد أن شهد العالم أزمة الرقائق بين عامَي 2020 و2022 ومخاطر اضطراب سلاسل التوريد. فعلى سبيل المثال، قام الاتحاد الأوروبي في (EUChips Act) [12]باتخاذ التدابير التشريعية في محاولة منه لكسر حلقة الاحتكار في مجال تصنيع الشرائح المتقدّمة في الولايات المتحدة والصين وغيرهما؛ بهدف زيادة حصة الإنتاج العالمي لـ20% بحلول 2030. إضافةً إلى أن الاستثمارات الأوروبية في هذا المجال كانت عبارة عن تمويلات عامة وخاصة لإنشاء مصانع ضخمة لإنتاج الشرائح المتطورة بأقل من 5 نانومترات، وهي الاستثمارات التي تستهدف القطاعات الحيوية في الذكاء الاصطناعي وتوطين التقنيات المتصلة به.[13]ومثال آخر بشأن البنية التحتية الرقمية – من غير الشرائح – في أهمية تطوير شبكتَي الجيلَين الخامس (5G) والسادس (6G) باعتبارهما عصب الاتصالات والاقتصاد الرقمي، حيث تحرص الصين وكوريا الجنوبية على الاستثمار في هذا القطاع الحيوي؛ لأهمية الحفاظ على بنية تحتية موثوق بها وآمنة لشبكات الاتصالات بعيدًا عن الدول المنافسة. وبهذا، يتضح أن الجهود السيادية في بعض الدول الكبرى تعمل على الاستقلال الرقمي من خلال تأمين سلاسل الإمداد وتحقيق الريادة في التقنيات المادية (hardware tech) كونها شرطًا أساسيًّا لضمان السيادة الرقمية بشكل حقيقي وليس فقط ميزة اقتصادية، ولاسيّما أن هناك عوامل أخرى تربط بين الأمن التقني والقدرة على التحكم في البيانات في سحابه رقمية من خلال الحوسبة السحابية.[14]

ثالثًا/ حماية البنية التحتية الحيوية والحوسبة السحابية السيادية

 وحقيقة الأمر، فإن دور الدول وسعيها للوصول إلى السيادة الرقمية لا يكتملان من دون وجود بيئة سحابية وبيانات ضخمة والتحكم فيها بشكل سيادي؛ ما يستدعي الاستثمار في الحوسبة السحابية السيادية بما يسمّى (Edge). وجدير بالذكر أن اعتماد معظم الدول على تقنيات سحابية خارجية يُوقِع بها في فخّ التبعية؛ وهو ما يُشكّل خطرًا كبيرًا، حيث تتركز الغالبية العظمى من بيانات العالم في منصات تابعة لشركات أمريكية؛ ما يمثل حالة تحكّم أو احتكار عمالقة التكنولوجيا على سوق الحوسبة السحابية الأجنبية، وعلى اقتصادات الدول، خصوصًا مع تزايد استهلاك البيانات، والحاجة إليها، وخصوصيتها في تنمية الدول.[15]

 ونظريًّا، عادة ما تُعرّف السحابة السياسية (sovereign Cloud) بأنها حلّ يضمن أن تخضع البيانات لقوانين الدولة المستضيفة. وتفصل عملياتها عن أي طرف آخر خارج السلطة السيادية في حوكمتها، وهي محورية في القطاعات الحيوية في الدول لتأمين جميع البيانات الخاصة في العمليات الداخلية، سواء للخدمات والرعاية الصحية والدفاع والنقل وغيرها، وكذلك في المؤسسات وبيانات الخطط والأفكار، وأيضًا الموظفين وخصوصياتهم.[16]

 ومثال على ذلك مبادرات Gaia-x في أوروبا، وهي نموذج للتعاون بين القطاعَين العام والخاص في بناء بنية تحتية للبيانات الأوروبية تسمح في مشاركتها مع ضمان السيادة؛ هدفها إنشاء نظام للبيانات الأوروبية في بيئة جديرة بالثقة من خلال نظام اتحادي يربط بين مستخدمي ومزوِّدي الخدمات السحابية بكل شفافية، التي من شأنها أن تدفع اقتصاد البيانات الأوروبي، وهو ما يعكس افتراض الباحث أن السيادة الرقمية لا تتحقق فقط بالتشريعات، وإنّما عبر تطوير البنية التحتية أيضًا، وتكامل الشركاء المحليّين.[17]

رابعًا/ تصورات حول حوكمة الحوسبة السحابية السيادية

 في الواقع، يتجسّد دور السيادة الرقمية في القدرة التشريعية للدولة على السيطرة على بيانات مواطنيها وتدفقها العابر للحدود، بما يضمن الاستفادة الاقتصادية وحماية الخصوصية. فسيادة البيانات هو حق الدولة في تطبيق قوانينها حصريًّا للبيانات المولدة ضمن حدودها، وهو ما دفع بعض المراقبين لوصف البيانات بالنفط الجديد، واعتبارها من أهم الأصول التي يرتكز عليها الاقتصاد في المستقبل المنظور؛ إذ يكمن التحدي الرئيسي في معالجة البيانات؛ كونها قد تكون مولدة في نطاق جغرافي محدّد، ولكن بسبب قلّة الموارد تتدفق البيانات بشكل عابر للحدود إلى شركات تكنولوجيا أجنبية.[18]

 وبناء على ذلك، يمكن القول إن هناك تضارب سيادات فيما يتصل بحيازة البيانات، ويدعم افتراض الباحث المذكور سلفًا المفاوضات المستمرة فيما يخصّ تطبيق “تيك توك” بين الولايات المتحدة والصين؛ إذ ترى الولايات المتحدة في تطبيق “تيك توك” تهديدًا لأمنها القومي؛ باعتباره تطبيقًا صينيَّ المنشأ يمكن أن يجمع بيانات المستخدمين في أمريكا، ويعتمد على خوارزميات ذكاء اصطناعي متطورة يمكنها تشكيل الرأي العام. وهنا، يأتي التضارب بين قانون أمريكي يسعى لحماية البيانات الوطنية وقانون صيني يُلزم الشركات بالتعاون الاستخباري،[19] وبناءً على ذلك يُستنتج أن السيطرة على تدفق البيانات في قمة الأهمية ومن أولويات الحوكمة الرقمية؛ لأن البيانات قوة سياسية واقتصادية ومسألة أمن قومي، وعندما تكون مملوكة ومدارة من دول أجنبية فإن هذا يشكل تهديدًا للسيادة الرقمية.

وعلى جانب آخر، يركز القانون الأوروبي على الامتثال الصارم لقوانينه، مثل GDPR حماية البيانات وقانون الخدمات الرقمية (DSA)، ويتناول حق الخصوصية والشفافية، وفرض القوة التنظيمية على شركات التكنولوجيا العالمية؛ لضمان احترام القوانين المحلية.[20] وفي إطار السيادة الرقمية في أوروبا، أطلق “تيك توك” مبادرة Project Clover التي تهدف إلى توطين البيانات في مراكز بيانات في أيرلندا والنرويج، وتخزين بيانات المستخدمين افتراضيًّا للامتثال للقانون التشريعي الصادر من الاتحاد الأوروبي.[21]

وعلى جانب ذات صلة بالجهود الأوروبية المذكورة، تسعى أوروبا أيضًا إلى تحرير تدفق البيانات الصناعي، بما يسمّى البيانات المفتوحة، من خلال قانون Data Act لتعزيز الابتكار والتنافسية، وهذا التحرير يجب أن يتوازن مع استمرارية تحقيق السيادة.[22]

خامسًا/ استشراف الذكاء الاصطناعي كأداة سيادية جديدة

 ارتفع الذكاء الاصطناعي، مؤخرًا، إلى قمة الأجندات التقنية والاستراتيجية للدول، حيث يُنظر إليه كأداة حيوية لتحقيق السيادة الرقمية، وتحديد معادلة النفوذ المستقبلي بين الدول. وقد أصبح تطوير وتطبيق الذكاء الاصطناعي – بشكلٍ أخلاقي وقانوني – مطلبًا محوريًّا للحفاظ على ثقة المواطنين، وضمان احترام حقوق الإنسان.

 وفي هذا الإطار، تبنّى الاتحاد الأوروبي قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act) كأول إطار تنظيمي شامل في العالم يفرض حوكمة صارمة على جميع الشركات المطوّرة والمستخدِمة لهذه التقنية داخل أوروبا وخارجها، ويُصنّف أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى أربعة مستويات من المخاطر؛ بهدف تنظيمها، والحد من آثارها السلبية على المجتمع والاقتصاد؛ [23]كالتالي:

  • الخطر غير المسموح به: ويشمل التلاعب بالخوارزميات والخداع الاجتماعي (مثل التصنيف الاجتماعي أو المراقبة العاطفية في بيئة العمل)، والتعرف على المشاعر، والاستغلال غير المبرَّر لنقاط ضعف الأفراد. وتُحظر هذه التطبيقات لأنها تهدّدالحقوق الأساسية، والكرامة الإنسانية.
  • الخطر العالي:ويتضمن التطبيقات في القطاعات الحيوية مثل النقل، والرعاية الصحية، والمنظومات القضائية، والعمليات الجراحية. وتتطلّب هذه الأنظمة تحكمًا بشريًّا مباشرًا، وإدارة مخاطر دقيقة، وشفافية في التشغيل واتخاذ القرار؛ نظرًا لتأثيرها المباشر على حياة الأفراد.
  • الخطر المحدود: ويشمل التقنيات التي تتطلب الإفصاح الواضح عند استخدامها في الحياة اليومية مثل روبوتات المحادثة، مع فرض متطلبات للشفافية، وصلاحية الاعتراض.
  • الخطر الضئيل أو الأدنى: ويضم التطبيقات البسيطة مثل الذكاء الاصطناعي في الألعاب الإلكترونية أو التوصيات الموسيقية، وتخضع فقط لمتطلبات الشفافية العامة.

ويستهدف القانون أيضًا النماذج اللغوية الكبيرة (Large Language Models)، مطالبًا بتطبيق معايير الثقة، والامتثال في عمليات توليد المحتوى بما يتسق مع المصلحة العامة وحماية حقوق الإنسان.[24] وبهذا، يُرسّخ الاتحاد الأوروبي سيادته الرقمية من خلال وضع أطر تنظيمية واضحة لمخاطر الذكاء الاصطناعي، وتعزيز الثقة المجتمعية، ودعم الابتكار المسؤول ضمن منظومة تحترم القيم الإنسانية والتنظيمية الحديثة.[25]

 ويمكن القول إن المرونة السيبرانية للبنية التحتية الحيوية مثل قطاعات (الطاقة، والاتصالات، والصحة) هي خط الدفاع الأول ضدّ تهديدات الدولة، وتتطلب استراتيجية أمنية واضحة، ولاسيّما أن الهجمات السيبرانية الآن أصبحت بمثابة الأعمال العدائية، وهي كفيلة بأن تشلّ القطاعات الحيوية في الدول، وتوثر على الأمن القومي؛ كما هو في أساليب الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، وما شملته من هجمات سيبرانية شلّت قطاعات النقل والمصارف في إيران. ومن خلال ما سبق، نستنتج أنه لا يمكن تحقيق الأمن السيبراني من دون وجود بنية سحابية آمنة تخضع للرقابة الوطنية؛ أي القدرة على اتخاذ قرارات تكنولوجية من دون إملاءات خارجية.

 ويتطلب مفهوم السيادة الرقمية الانتقال إلى بناء قدرات دفاعية سيبرانية رادعة قادرة على الردع النشِط، وتأمين المصالح الاستراتيجية للدولة في الفضاء السيبراني. وهنا، تبرز الاستراتيجية الجديدة للذكاء الاصطناعي في أوروبا، التي تشير إلى تقليل الاعتماد على كلٍّ من أمريكا والصين فيما يخصّ خدمات الذكاء الاصطناعي، والاعتماد على أدوات محلية الصنع تخصّ استخدام القطاعات الحيوية لنماذج مفتوحة المصدر مثل ميسترال، Mistral وتأمين البيانات والبنية التحتية من أي اختراقات.[26]

 ففي حال الاعتماد على تطبيقات خارجية يسهل على الشركة الحصول على بيانات المستخدمين بشكل غير أخلاقي؛ وبذلك يسهل على الهجمات السيبرانية أن تشلّ أي نظام، لأنها حازت البيانات التي تسهل عليها ذلك.[27] ويحذّر القانون من “التبعات الخارجية لمنظومة الذكاء الاصطناعي” والبنى التحتية وطريقة البرمجة المطلوبة لبناء تطبيقات ذكاء اصطناعي وتدريبها وإدارتها. وبحسب هذا القانون، فإنه يمكن تسليح البنية التحتية من بعض الجهات؛ ما يشكّل خطرًا على سلاسل التوريد والأمن القومي.

 كما يُعدّ نقص الكوادر الخبيرة في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي من أهم التحديات في هذا التحول الرقمي المتسارع، ويتطلب من الدول الأوروبية الاستثمار في التعليم والتدريب لمواكبة التطور وسد الفجوة، لأن الاعتماد على خبرات أجنبية يُضعف القدرة الوطنية على الدفاع الوطني والابتكار المستقل. ويأتي هذا بالتزامن مع صعوبة جذب الخبرات من الخارج؛ وبالتالي يجب وضع خطة لتطوير الكوادر المحلية وتنفيذها في مجالَي الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.[28] وهنا، تكمن ضرورة التكامل بين القدرة الحوسبة والكوادر والحوكمة الصارمة لتحقيق السيادة الرقمية. وهذا التكامل هو الضامن الوحيد لأن تكون أوروبا قوة تقنية عالمية، وتحقق استقلالها التكنولوجي.

الخاتمة

 وخلاصة القول، إن استدامة السحب السيادية وحوكمتها، فيما يتماشى مع تقدّم التقنيات، ليست مجرد رفاهية تكنولوجية، وإنّما هي ضرورة استراتيجية في عصر البيانات والتسارع المتصاعد في التقنيات الناشئة لحماية المصالح الوطنية. ويؤدي تكامل القطاعات الحيوية إلى تطوير البنية التحتية الرقمية والحوكمة الفعالة والسياسات الاستباقية بعيدًا عن التبعات الخارجية، وأي اختراقات محتملة.

ويعتمد أمن مستقبل الدول على السيادة الرقمية المستدامة من خلال الحماية الشاملة، واستثمار الموارد البشرية والاكتفاء بتقيات محلية، والابتكار في حلول تعزز حماية البيانات والبنية التحتية مثل Gaia-X وغيرها. وبذلك، يصبح الاستقلال التكنولوجي، وتدفق بياناتٍ آمن، وبنية تحتية محلية ومتطورة، كلّها عوامل أساسية لاستدامة الاقتصاد الرقمي؛ العالمي والمحلّي.


[1] منصّة بكّة 2025. “ما هي الحوكمة وما هي أهدافها ومعاييرها وكيف يمكن تطبيقها؟” فبراير 21.. https://bakkah.com/ar/knowledge-center/الحوكمة

[2] صلاح، رزان. “ما هي الحوكمة”، موضوع، آخر تحديث 13 مارس 2017، تم الوصول إليه 16 أكتوبر 2025.. https://mawdoo3.com/ما_هي_الحوكمة

[3] Iain McLean and Alistair McMillan, s.v. “governance,” in The Concise Oxford Dictionary of Politics (Oxford University Press, 2009), accessed October 16, 2025, https://www.oxfordreference.com/display/10.1093/acref/9780199207800.001.0001/acref-9780199207800-e-1539?.

[4] Tim Mucci and Cole Stryker, “What is AI governance?,” IBM Think, accessed October 16, 2025, https://www.ibm.com/think/topics/ai-governance.

[5] Sean Fleming, “What is digital sovereignty and how are countries approaching it?,” World Economic Forum, January 10, 2025, accessed October 16, 2025, https://www.weforum.org/stories/2025/01/europe-digital-sovereignty/.

[6] “سيادة،” المعاني: معجم اللغة العربية المعاصرة، تم الوصول إليه 16 أكتوبر 2025، https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/سيادة/.

[7] European Commission, “Data Sovereignty in the Digital Decade – For a stronger digital Europe in the world,” Futurium, October 4, 2022, accessed October 16, 2025, https://futurium.ec.europa.eu/en/digital-compass/events/data-sovereignty-digital-decade-stronger-digital-europe-world.

[8] Zlatko Delev, “Digital Sovereignty: Data Control and Compliance in a Digital World,” GDPR Local, August 6, 2025, accessed October 16, 2025, https://gdprlocal.com/digital-sovereignty/.

[9] McGann, Wendy. 2025. “Sovereign Data Centers: The Next Digital Power Struggle.” The Observer,

[10] Carvalho, Samuel. 2025. “Navigating the New Frontier: Data Sovereignty, AI and the Role of Global Infrastructure.” Data Center Dynamics, September 15. https://www.datacenterdynamics.com/en/opinions/navigating-the-new-frontier-data-sovereignty-ai-and-the-role-of-global-infrastructure/.

[11] Delev, Zlatko. 2025. “Digital Sovereignty: Data Control and Compliance in a Digital World.” GDPRLocal, August 6. https://gdprlocal.com/digital-sovereignty/.

[12] European Commission. 2022. “Digital sovereignty: Commission proposes Chips Act to confront semiconductor shortages and strengthen Europe’s technological leadership.” February 8. https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_22_729.

[13] Meyer, Johann. 2025. “The European Chips Act: It’s Now or Never.” European Files, April 22. https://www.europeanfiles.eu/digital/the-european-chips-act-its-now-or-never.

[14] Mendonça, Sandro, Bruno Damásio, Luciano Charlita de Freitas, Luís Oliveira, Marcin Cichy, and António Nicita. 2022. “The Rise of 5G Technologies and Systems: A Quantitative Analysis of Knowledge Production.” Telecommunications Policy 46 (4): 102327. https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0308596122000301.

[15] Flinders, Mesh, and Ian Smalley. 2025. “What Is Sovereign Cloud?” IBM Think. https://www.ibm.com/think/topics/sovereign-cloud.

[16] Oracle. 2025. “What Is a Sovereign Cloud? Why Is It Important?” Oracle UAE. https://www.oracle.com/ae/cloud/sovereign-cloud/what-is-sovereign-cloud/

[17] Gaia-X Association AISBL. 2025. “About — Gaia-X: A Federated Secure Data Infrastructure.” Accessed October 19. https://gaia-x.eu/about/

[18] European Commission. 2025. “Data Act | Shaping Europe’s Digital Future.” Accessed October 19. https://digital-strategy.ec.europa.eu/en/policies/data-act.

[19] European Parliament, European Parliamentary Research Service (EPRS). “The Data Act and the Future of EU Digital Sovereignty.” Brussels: European Parliament, March 2025. PE 775837. https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/BRIE/2025/775837/EPRS_BRI(2025)775837_EN.pdf

[20] GDPR Info. 2025. “General Data Protection Regulation (GDPR) – Legal Text.” April —. https://gdpr-info.eu/.

[21] Hutchinson, Andrew. 2025. “TikTok Announces New EU Data Center to Separate User Info.” Social Media Today, May 6. https://www.socialmediatoday.com/news/tiktok-announces-new-eu-data-center-project-clover/747326/

[22] European Commission, “Data Act.”

[23] EU Artificial Intelligence Act. 2025. “About the AI Act.” Accessed October 19. https://artificialintelligenceact.eu/about/

[24] European Data Protection Board (EDPB). 2025. “AI Privacy Risks & Mitigations – Large Language Models (LLMs).”April. https://www.edpb.europa.eu/system/files/2025-04/ai-privacy-risks-and-mitigations-in-llms.pdf

[25] European Commission. 2024. “Regulatory Framework on Artificial Intelligence (AI Act).” Accessed October 19, 2025. https://digital-strategy.ec.europa.eu/en/policies/regulatory-framework-ai

[26] Geneva Internet Platform, Digital Watch. 2025. “A New AI Strategy by the EU to Cut Reliance on the US and China.” October 6. https://dig.watch/updates/a-new-ai-strategy-by-the-eu-to-cut-reliance-on-the-us-and-china

[27] European Union Agency for Cybersecurity (ENISA). 2025. “EU Consistently Targeted by Diverse Yet Convergent Threat Groups.” Press Release, October 1. https://www.enisa.europa.eu/news/etl-2025-eu-consistently-targeted-by-diverse-yet-convergent-threat-groups

[28] European Commission. 2025. “EU Commission Unveils €1.3 Billion Investment in Digital Skills, AI and Cybersecurity.” Digital Skills & Jobs Platform, March 28. https://digital-skills-jobs.europa.eu/en/latest/news/eu-commission-unveils-eur-13-billion-investment-digital-skills-ai-and-cybersecurity

المواضيع ذات الصلة