تشكل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض نقطة تحوّل في المشهد الجيوسياسي والجيواقتصادي العالمي؛ الأمر الذي يحمل تداعيات عميقة على العلاقات الدولية، ومن أهمها العلاقات بين أوروبا والصين. فخلال ولايته الأولى، أدّت سياسات ترامب إلى تصعيد التوترات بين الولايات المتحدة والصين؛ ما أعاد تشكيل تدفقات التجارة والاستثمار العالمية، كما فرض ضغوطًا مكثفة على صانعي القرار الأوروبيين لدعم الاستراتيجية الأمريكية تجاه بكين.
ومع ولاية ترامب الثانية، تواجه أوروبا تحدّيًا أكبر في تحقيق التوازن بين استقلالها الاستراتيجي وعلاقاتها الاقتصادية مع الصين، شريكها التجاري الثاني عالميًّا، وبين تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة. وبالنسبة لأوروبا، يمكن أن تكون التداعيات كبيرة، بدءًا من تراجع الصادرات إلى السوق الأمريكية، وارتفاع الواردات الصينية، وصولًا إلى حالة من الضبابية الاقتصادية المتزايدة. وفي هذا السياق، تبرز أسئلة مهمة: كيف ستؤثر سياسات ترامب على مستقبل العلاقات الأوروبية-الصينية؟ وهل يدفع التصعيد الأمريكي أوروبا إلى التقارب مع بكين؟ وإلى أي مدى يمكن لأوروبا تحقيق استقلال استراتيجي في ظل الضغوط الأمريكية المتزايدة؟ وما السيناريوهات المحتملة لمسار العلاقات الثلاثية بين واشنطن وبروكسل وبكين؟
وتهدف هذه الورقة إلى تحليل المتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية التي تحكُم العلاقات الأوروبية-الصينية في ظل رئاسة ترامب الثانية، واستكشاف السيناريوهات المستقبلية لهذا التقارب، مع الأخذ بعين الاعتبار التحديات التي تواجهه، من الضغوط الأمريكية إلى الاختلافات الأيديولوجية والاستراتيجية بين الطرفين.
أولًا، خلفية وسياق
يصادف هذا العام الذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية بين الصين والاتحاد الأوروبي، وهي علاقة شهدت تطورًا ملحوظًا بفضل الجهود المشتركة التي أسهمت في توسيع مجالات التعاون وتعزيز الفهم المتبادل. وبرغم التحديات التي واجهتها هذه العلاقة، إلا أنها استمرت في مسار التعاون السلمي القائم على المصالح المشتركة. فقد أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وكان للاتحاد الأوروبي دور غير مباشر في دعم هذه المَسيرة عبر التبادل التكنولوجي وحتى الخبرات، وفتح الأسواق. وفي المقابل، استفاد الاتحاد الأوروبي من السوق الصينية الضخمة؛ ما عزز التبادل التجاري والاستثماري بين الطرفين، وأدى إلى تكامل اقتصادي جعل العلاقة بينهما عنصرًا أساسيًّا في الاقتصاد العالمي.
ويستند هذا التعاون إلى ثلاث ركائز رئيسية: أولًا، التوافق السياسي القائم على عدم وجود صراعات جيوسياسية مباشرة بين الطرفين؛ ثانيًا، التعاون الاقتصادي القائم على المنفعة المتبادلة، والذي يُعدّ المحرك الأساسي لاستدامة العلاقة؛ وثالثًا، نهج “الاتفاق على الاختلاف” الذي سمح للطرفين بالتعامل مع تبايناتهما الأيديولوجية دون أن يؤثر ذلك على شراكتهما.[1]
وبرغم هذه الأسس القوية، فإن العلاقات الصينية-الأوروبية تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة نتيجة التحولات في ميزان القوى العالمي وتغير النظام الدولي. فقد أدت سياسات الاحتواء الأحادية التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه الصين، إلى جانب الحرب في أوكرانيا، إلى دفع الاتحاد الأوروبي نحو تبنّي رؤية أكثر جيوسياسية، انعكست في سياسات “إزالة المخاطر”[2] وتقليل الاعتماد على الصين؛ ما أدى إلى تسييس العلاقات الاقتصادية، وخلق حالة من عدم اليقين لدى الأوساط التجارية.
إلا أن التطورات الأخيرة قد تفتح نافذة جديدة للتقارب الصيني-الأوروبي. فمع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتصاعد نهجه الهجومي تجاه الصين والاتحاد الأوروبي، على حدّ سواء، قد تجد بروكسل وبكين نفسيهما أمام تحديات مشتركة تستدعي إعادة النظر في خياراتهما الاستراتيجية. فترامب، الذي يرى في الصين خصمًا استراتيجيًّا وفي الاتحاد الأوروبي منافسًا اقتصاديًّا، قد يعيد فرض تعريفات جمركية وعقوبات اقتصادية صارمة على الجانبين؛ ما قد يدفع أوروبا إلى إعادة تقييم مدى التزامها بالسياسات الأمريكية.
وفي ظل هذا الوضع، قد تصبح الصين شريكًا أكثر جاذبية للاتحاد الأوروبي، خصوصًا إذا استمر الضغط الأمريكي في تقويض المصالح الاقتصادية الأوروبية. وبينما تسعى أوروبا لتحقيق “الاستقلال الاستراتيجي”، فإن التنسيق مع الصين قد يوفر لها هامشًا أوسع من المناورة، ولاسيّما في ظل الحاجة إلى أسواق بديلة واستثمارات جديدة لتعويض أي خسائر ناجمة عن تصعيد محتمل مع واشنطن.
ثانيًا، دوافع التقارب الصيني-الأوروبي
ثمّة عوامل استراتيجية واقتصادية تدفع باتجاه التقارب الصيني-الأوروبي، حيث تسعى الصين لتعزيز حضورها في الأسواق الأوروبية عبر مبادرة الحزام والطريق، بينما تبحث أوروبا عن توازن في علاقاتها الدولية وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وسط تحديات تجارية وتقنية وأمنية متزايدة تُعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي. وفيما يلي أهم الدوافع التي يمكن ان تدفع كلا الجانبين للتقارب بشكل كبير:
- السياسات الحمائية
تمثل السياسة الحمائية، التي ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مصدر قلق كبير لكل من أوروبا والصين، حيث تسبّب، في فترته الأولى، في تصعيد التوترات التجارية، وهناك قلق فعلي من أن تُفرض مجدّدًا تحديات على الاقتصاد العالمي. فقد أعلن ترامب عزمه فرض تعريفات جمركية جديدة على السلع القادمة من الاتحاد الأوروبي، مبرّرًا ذلك بما وصفه بالممارسات التجارية “غير العادلة” للاتحاد تجاه الولايات المتحدة. وبالرغم من عدم تحديده تفاصيل هذه التعريفات أو السلع التي ستتأثر بها، إلا أنه أكد نيّته فرض رسوم “كبيرة”. كما هدّد باتخاذ إجراءات مماثلة إذا لم يشترِ الاتحاد الأوروبي المزيد من النفط والغاز الأمريكيَّين. ويُذكر أن ترامب خلال ولايته الأولى فرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على المنتجات الأوروبية[3] و10% على الألمنيوم من الاتحاد الأوروبي؛ ما أدى إلى حرب تجارية مضادة قام فيها الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم على سلع أمريكية مثل الدراجات النارية والجينز، بقيمة 6 مليارات دولار.[4]
وفرض ترامب رسومًا جمركية بنسبة 10% على السلع القادمة من الصين.[5] واتخذت بكين إجراءات انتقامية شملت فرض رسوم جمركية على سلع أمريكية رئيسية؛ مثل 15% على الفحم والغاز الطبيعي المسال، و10% على النفط الخام والمعدات الزراعية والسيارات الكبيرة. كما فرضت قيودًا على تصدير المعادن النادرة المستخدمة في الصناعات التكنولوجية والعسكرية، وفتحت تحقيقات لمكافحة الاحتكار ضد شركات أمريكية مثل جوجل، وأدرجت بعض الشركات الأمريكية في “قائمة الكيانات غير الموثوقة بها”.[6] وتخشى الصين من التأثيرات السلبية على اقتصادها نتيجة تراجع الصادرات إلى الولايات المتحدة، وتأثير القيود المتبادلة على سلاسل التوريد التكنولوجية. كما يقلقها تصاعد التوتر السياسي والدبلوماسي، خصوصًا مع استمرار ترامب في تصعيد التعريفات الجمركية وتهديده دولًا أخرى بإجراءات مماثلة. علاوة على ذلك، فإن تعطل آلية تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية يقلّل من فرصها في الحصول على أحكام لصالحها ضد الولايات المتحدة.
- التوترات عبر الأطلسي
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا توترًا خلال إدارة ترامب الأولى، ولاسيّما في قضايا حلف الناتو، والاتفاق النووي الإيراني، وبالطبع الرسوم الجمركية، كما ذُكر سابقًا. ومن المتوقع أن تتصاعد هذه التوترات في ولايته الثانية، خصوصًا فيما يتعلق بالتهديدات الأمنية، حيث يسعى ترامب إلى استغلال تداعيات الحرب في أوكرانيا للضغط على الدول الأوروبية من أجل زيادة إنفاقها الدفاعي، متجاوزًا حتى المطالب التي طرحها خلال فترته الأولى. وهذا يشكل تحدّيًا جوهريًّا للعلاقات عبر الأطلسي، ولاسيّما في أحد أهم مرتكزاتها؛ وهو الأمن المشترك.
إلى جانب ذلك، فإن تكرار تصريحات ترامب حول “استغلال” أوروبا للولايات المتحدة في حلف الناتو والسياسات الدفاعية زاد من المخاوف الأوروبية بشأن التزام واشنطن بالأمن الأوروبي.
وأثار خطاب نائب الرئيس الأمريكي، جاي دي فانس، في مؤتمر ميونيخ للأمن يوم 14 فبراير 2025، جدلًا واسعًا، حيث بدا أنه يمثل تحوّلًا جذريًّا في العلاقات عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا. فبدلًا من التركيز على القضايا التي كانت أوروبا تتوقع طرحها، مثل الإنفاق الدفاعي الأوروبي ومستقبل الصراع في أوكرانيا، ركّز فانس على انتقاد سياسات الاتحاد الأوروبي الداخلية، مشيرًا إلى أن التهديد الأكبر لأوروبا ليس روسيا أو الصين، بل التهديدات الداخلية.[7]
ولم يكن خطاب فانس حدثًا منعزلًا، بل جاء ضمن سلسلة من التغييرات في السياسة الأمريكية تجاه أوروبا. وكان وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيجسيت، قد أشار في وقت سابق إلى أن أوروبا لم يعُد بإمكانها الاعتماد على الحماية الأمريكية، مؤكدًا أن واشنطن لن تتحمل بعد الآن العبء المالي لضمان أمن القارة الأوروبية.[8]
وفي الوقت نفسه، أجرى الرئيس ترامب محادثات مباشرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث بدا وكأنه يمنح موسكو كل مطالبها فيما يتعلق بأوكرانيا، بما في ذلك ضمان عدم انضمامها إلى الناتو، وعدم نشر قوات أمريكية هناك.[9]
وهذا التحوّل يُضعف موقف أوروبا، ويتركها في موقف صعب، حيث أصبحت بحاجة إلى التعامل مع روسيا دون الدعم الأمريكي القوي. وأصبح واضحًا أن إدارة ترامب تتبنّى نهجًا يبدو وكأنه “إمبرياليًّا” في التعامل مع الحلفاء الأوروبيين، حيث تتوقع منهم تحمّل المزيد من التكاليف دون منحهم نفوذًا سياسيًّا متكافئًا.
وفي ظل هذه الضغوط، قد تجد بعض الدول الأوروبية نفسها مضطرة لإعادة تقييم علاقاتها مع الصين، التي تقدم نفسها كبديل اقتصادي وسياسي قوي يمكنه دعم الاستقرار الأوروبي بعيدًا عن الضغوط الأمريكية.[10] كما أن العلاقات الاقتصادية المتنامية بين أوروبا والصين، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والتجارة والاستثمارات في البنية التحتية، قد تعزز هذا التقارب. وقد يؤدي ذلك إلى توسيع التعاون الأوروبي-الصيني في قضايا؛ مثل التجارة الحرة، وتطوير شبكات الطاقة المتجدّدة، والتكنولوجيا المتقدمة، وهو ما قد يُعيد تشكيل موازين القوى الدولية، ويمنح أوروبا هامشًا أكبر من الاستقلالية عن السياسات الأمريكية.
- التحولات في النظام العالمي
في ظل إدارة دونالد ترامب الثانية، يواجه النظام العالمي احتمالات تغيرات جذرية قد تؤدي إلى تعزيز التقارب الصيني-الأوروبي. بناءً على توجهات ترامب السابقة وسجلّه في السياسة الخارجية، وتصريحاته وسياسته منذ توليه فترته الثانية حتى اليوم، فإن واشنطن تحت قيادة ترامب تتجه مجدّدًا نحو النهج الأحادي، الذي يتّسم بتقويض المنظمات الدولية، وتفضيل الاتفاقيات الثنائية على المتعددة الأطراف، وفرض سياسات حمائية مشددة. وقد يؤدي هذا التوجه إلى تجدّد الخلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا، خصوصًا في القضايا التجارية والأمنية؛ ما يدفع الدول الأوروبية إلى البحث عن شركاءَ استراتيجيين بدلاء؛ للحفاظ على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية.
وفي حال أعاد ترامب فرض تعريفات جمركية على المنتجات الأوروبية، كما أكد فعلًا،[11] أو هدّد بسحب القوات الأمريكية من أوروبا وتقليص التزامات واشنطن تجاه حلف الناتو، كما أشار المسؤولون الأمريكيون مرات عدة فقد تجِد الدول الأوروبية نفسها مضطرة إلى تعزيز تعاونها مع الصين، سواء في مجالات الاستثمار، أو التكنولوجيا، أو الأمن غير التقليدي.
وفي المقابل، تسعى الصين إلى بناء نظام دولي متعدّد الأقطاب، يعزّز من دورها كلاعب رئيسي في السياسة والاقتصاد العالميين، وهو توجّه يتقاطع مع تطلعات بعض الدول الأوروبية التي تسعى لتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة. وفي حال واصل ترامب سياساته القومية والشعبوية، فقد تتجه أوروبا أكثر نحو الصين كوسيلة للحفاظ على توازن علاقاتها الدولية، وضمان استقرارها الاقتصادي.[12]
ومن المتوقع أن تحاول بكين تقديم نفسها كشريك موثوق به لأوروبا في مواجهة التقلّبات التي قد تطرأ على العلاقة عبر الأطلسي. ويمكن أن تزداد فرص التعاون في مجالات مثل التكنولوجيا الخضراء، والتجارة الحرة، والذكاء الاصطناعي، خصوصًا إذا استمرت واشنطن في فرض قيود على التعامل مع الشركات الصينية؛ ما قد يدفع الأوروبيين للبحث عن بدائل تعزّز استقلالهم التكنولوجي.
- التقارب في ملفات المناخ والطاقة
كان قرار ترامب عام 2017 بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ نقطة تحوّل مهمّة في العلاقات الدولية فيما يخصّ قضايا البيئة والاستدامة. وبينما أعاد الرئيس جو بايدن الولايات المتحدة إلى الاتفاقية في 2021، فإن انسحاب ترامب مرة ثانية في 20 يناير 2025 قد يُعيد الولايات المتحدة إلى حالة العزلة في الملف المناخي؛ ما يثير قلقًا عالميًّا حول التزام واشنطن بمواجهة التغير المناخي.[13]
وبينما يعتزم ترامب مجدَّدًا تقليص التمويل الأمريكي للبرامج البيئية الدولية، أو تخفيف القيود على الصناعات الملوثة، فمن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى توسيع الفجوة بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وأوروبا من جهة أخرى. وهذا الانسحاب قد يعزز من التقارب بين بكين وبروكسل في قيادة الجهود الدولية لمكافحة التغير المناخي، خصوصًا مع تزايد اعتماد أوروبا على الشراكات مع الصين في مجالات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الخضراء.
وفي ظل تراجع الدور الأمريكي المتوقع في قضايا المناخ، من المرجح أن تواصل الصين وأوروبا قيادة الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي. فكلا الطرفين يعتبر الاستدامة البيئية أولوية استراتيجية، حيث تسعى الصين لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، بينما يعمل الاتحاد الأوروبي على تحقيق الهدف ذاته بحلول عام 2050 عبر مبادرات مثل “الصفقة الخضراء الأوروبية”.[14]
فالتوافق في الرؤى بين الجانبين بشأن أهمية الاستثمار في الطاقة النظيفة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، يوفران أرضية خصبة لتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا البيئية؛ مثل تخزين الطاقة، والهيدروجين الأخضر، والابتكار في تقنيات تقليل الانبعاثات.
وفي ظل مساعي إدارة ترامب لدعم صناعة الوقود الأحفوري (الفحم، والنفط، والغاز)، فمن المتوقع أن تعزز الصين وأوروبا شراكتهما في قطاع الطاقة المتجدّدة كوسيلة لمقاومة السياسات الأمريكية، التي قد تتجاهل الأبعاد البيئية.
إضافةً إلى ذلك، فإن ارتفاع أسعار الطاقة التقليدية، نتيجة أي أزمات جيوسياسية مستقبلية، قد يدفع أوروبا إلى توسيع التعاون مع الصين لتعزيز أمنها الطاقي؛ ما سيجعل بكين شريكًا أساسيًّا في مشاريع تحوّل الطاقة الأوروبي.
والتعاون الصيني-الأوروبي في قطاع الطاقة النظيفة لا يقتصر فقط على تبادل التكنولوجيا، بل يمتدّ إلى التجارة والاستثمار. فمن المحتمل أن تشهد الأسواق الأوروبية زيادة في الاستثمارات الصينية في مشروعات الطاقة الخضراء، كما قد تستفيد الشركات الأوروبية من القدرات التصنيعية الصينية لإنتاج تقنيات منخفضة الكلفة تدعم التحول الأخضر في أوروبا.
وعلى سبيل المثال، في السنوات الأخيرة، بدأت الصين في تصدير بطاريات الليثيوم المتطورة إلى أوروبا، كما أن الشركات الصينية استثمرت في إنشاء مصانع لتصنيع السيارات الكهربائية داخل أوروبا؛ لتلبية الطلب المتزايد على النقل المستدام.[15] ومع استمرار التركيز الأوروبي على التخلّص من السيارات العاملة بالوقود الأحفوري بحلول عام 2035،[16] من المتوقع أن يزداد الاعتماد الأوروبي على الصين في هذا القطاع.
ثالثًا، معوقات التقارب الصيني-الأوروبي
بالرغم من الفرص العديدة للتعاون، فإن التقارب الصيني-الأوروبي يواجه مجموعة من التحديات المعقدة التي تعكس التباينات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية بين الطرفين. فبالرغم من المصالح المشتركة في مجالات مثل التجارة والاستثمار والتكنولوجيا، فإن الخلافات حول قضايا عدة، من بينها حقوق الإنسان، والممارسات التجارية غير العادلة، والمنافسة الجيوسياسية، والعلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة – كلها تشكل عوائق رئيسية أمام تعزيز العلاقات الثنائية. كما أن القضايا المرتبطة بأمن سلاسل التوريد، والاعتماد المتبادل في القطاعات الحيوية، والتوترات في منطقة المحيطين الهندي والهادي تضيف مزيدًا من التعقيد إلى هذه العلاقة؛ ما يجعل مسار التعاون محفوفًا بالتحديات. وفيما يلي أبرز المعوقات والتحديات أمام تعزيز التقارب بشكل كبير:
- الخلافات حول معايير الاقتصاد والشؤون الاجتماعية
تشكّل معايير الاقتصاد والشؤون الاجتماعية إحدى أهم نقاط التوتر بين الصين والاتحاد الأوروبي، حيث يعتمد الاتحاد الأوروبي على نموذج اقتصاد السوق المفتوح، الذي يقوم على مبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة وحماية حقوق الإنسان والبيئة. وتُعتبر هذه المعايير حجر الزاوية في السياسات الأوروبية، إذ تُسهم في خلق إطار تنظيمي دقيق يهدف إلى ضمان استقرار العلاقات التجارية والاستثمارية على المدى الطويل في سوق مفتوح. وفي المقابل، يتبنّى النموذج الصيني نهجًا يعتمد على تدخّل الدولة لتحقيق نمو اقتصادي سريع، وهو ما يؤدي إلى تباين في تطبيق معايير الحوكمة والشفافية في الممارسات الاقتصادية والاجتماعية. [17] ويتجلى هذا التباين في جوانب عدة، منها اختلاف السياسات المتعلقة بحماية الملكية الفكرية ونقل التكنولوجيا. ففي حين يُولي الاتحاد الأوروبي أهمية بالغة لتطبيق معايير صارمة تضمن حماية حقوق المخترعين والشركات، فقد تتبنّى الصين سياسات أكثر مرونة تركّز على تسريع النمو الاقتصادي؛ حتى إن كان ذلك على حساب بعض تلك المعايير. كما ينعكس الاختلاف في السياسات الاجتماعية؛ حيث يشدّد الاتحاد الأوروبي على حقوق العمال والحماية البيئية كجزء لا يتجزأ من معايير الإنتاج والتجارة، في حين تعتبر الصين التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي أولى أولوياتها؛ ما يؤدي إلى تناقضات في السياسات الاقتصادية المتّبعة من قِبل الطرفين.[18]
ويُضاف إلى ذلك الاختلافات في تطبيق القوانين والأنظمة، حيث فرض الاتحاد الأوروبي، في السنوات الأخيرة، قيودًا على بعض المنتجات الصينية؛ استنادًا إلى مخاوف تتعلق بانتهاكات “حقوق الإنسان”، مثل تلك المتعلقة بعمالة الأويغور في إقليم شينجيانغ. وتَعتبر الصين هذه الإجراءات تدخلًا في شؤونها الداخلية؛ ما يُضاعف من التوترات بين الطرفين، ويُصعّب تحقيق توافق في المعايير الاقتصادية والاجتماعية.[19] وفي ظل إدارة ترامب الجديدة، تتعاظم هذه الخلافات، حيث تُستخدم هذه الفوارق كأداة للدفاع عن السياسات التجارية الأمريكية؛ ما يزيد من صعوبة التوصل إلى أرضية تفاوضية مشتركة بين الاتحاد الأوروبي وبكين.
- ضغوط العلاقة الأمريكية–الأطلسية
تلعب السياسات الخارجية الأمريكية دورًا محوريًّا في تشكيل مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه الصين، خصوصًا في ظل إدارة ترامب الجديدة. وتعتمد الإدارة الأمريكية على استخدام أدوات السياسة التجارية، مثل فرض التعريفات الجمركية كأسلوب للتفاوض، وهو ما تجسّده التجارب السابقة خلال فترة رئاسته الأولى. فقد فرض ترامب تعريفات جمركية على واردات الصلب والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي؛ ما أدى إلى ردود فعل تجارية متبادلة أثّرت على ميزان التجارة، وأحدثت حالة من عدم اليقين في العلاقات الدولية.
وتتجلى ضغوط العلاقة الأمريكية-الأطلسية في أوجه عدة؛ فمن جهة، يواجه الاتحاد الأوروبي مطالبات متزايدة بالتقارب مع السياسات الأمريكية في مجال التجارة والاقتصاد، فقد هدّد ترامب بفرض تعريفات على سلع أوروبية متنوعة، وذلك بهدف الضغط على شركائه للتنازل عن بعض مطالبهم في إطار المفاوضات التجارية؛ ما يضع الاتحاد الأوروبي أمام خيار تعديل موقفه بما يتماشى مع مصالح الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل الضغط على قضايا، مثل واردات الغاز الطبيعي المسال والسيارات.[20]
ومن جهة أخرى، يمتدّ تأثير السياسات الأمريكية إلى المجال التقني والأمني، إذ شجعت إدارة ترامب الأمريكية حلفاءها على فرض قيود على استخدام بعض التقنيات والمعدات الصينية، ولاسيّما في مجال شبكات الجيل الخامس. وتُعدّ هذه الإجراءات جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى الحد من نفوذ الصين في الأسواق العالمية؛ ما يؤثر، بدوره، على مواقف الدول الأوروبية التي تتباين في استجابتها لهذه السياسات؛ إذ تتبنّى بعض الدول نهجًا أكثر استقلالية، بينما تتجه دول أخرى إلى تقارب مواقفها مع السياسات الأمريكية.[21] وتشكّل الانقسامات الداخلية في الاتحاد الأوروبي حيال هذه الضغوط تحدّيًا آخر، إذ يؤدي الاختلاف في المواقف الوطنية إلى صعوبة تقديم ردٍّ موحّد على السياسات الأمريكية. فبينما تؤيّد دول مثل ألمانيا وفرنسا مقاربة أكثر استقلالية تتطلع إلى الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الصين، تتبنّى دول شرق أوروبا مواقف تتماشى بشكل أكبر مع السياسات الأمريكية؛ ما يزيد من التعقيد في صياغة موقف مشترك.[22] وهذا التباين الداخلي يُضاعف من الضغوط على الاتحاد الأوروبي في مواجهة السياسات الخارجية الأمريكية المتغيرة.
- تباين المصالح الجيوسياسية
يمثّل تباين المصالح الجيوسياسية بين الصين والاتحاد الأوروبي بُعدًا مهمًّا يُضيف إلى تعقيد العلاقات بين الطرفين. وبالرغم من أن الصين لا تُصنَّف عادةً كخصم استراتيجي مباشر للاتحاد الأوروبي، إلا أن هناك قلقًا متزايدًا من النفوذ الصيني في مناطق تُعتبر ذات أهمية استراتيجية، مثل أفريقيا وآسيا الوسطى ومنطقة البلقان. وتُسهم مبادرة “الحزام والطريق”، التي أطلقتها الصين عام 2013، في تعزيز نفوذها الإقليمي والعالمي، إذ تستهدف هذه المبادرة الاستثمار في البنى التحتية وتوسيع الشبكات الاقتصادية؛ ما قد يؤدي إلى زيادة التبَعية الاقتصادية لبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خصوصًا تلك الموجودة في أوروبا الشرقية. [23]
وتتنوع المواقف الأوروبية أيضًا حيال هذا التوسع، إذ يرى بعض المسؤولين ضرورة تشديد الرقابة على الاستثمارات الصينية داخل حدود الاتحاد الأوروبي حفاظًا على سيادته الاقتصادية، بينما يرى آخرون أن التعاون مع الصين في مجالات معيّنة قد يُسهم في تحقيق نمو اقتصادي مشترك. وقد أدى توقيع بعض الدول، مثل صربيا ودول البلقان الأخرى، اتفاقيات استثمارية كبيرة مع بكين، إلى إثارة مخاوف حول احتمال تحوّل هذه الاستثمارات إلى أدوات لتعزيز النفوذ الصيني في المنطقة.[24]
وفي ظل إدارة ترامب الجديدة، يُحتمل أن يُضفي الضغط الأمريكي بُعدًا إضافيًّا على أوروبا لمراقبة الاستثمارات الصينية عن كثب، إذ قد تسعى واشنطن إلى فرض قيود إضافية على الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحيوية داخل الاتحاد الأوروبي. وهذا السياق يزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية مع الاعتبارات الأمنية والاستراتيجية؛ ما يضع الاتحاد الأوروبي أمام تحديات في تحقيق موقف موحّد يتوازن بين مصالحه الاقتصادية ومصالحه الأمنية.[25]
- التحديات التجارية
تُعدّ التحديات التجارية من أبرز العقبات التي تواجه تقارب العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، إذ تُظهر السنوات الأخيرة تصاعدًا في النزاعات التجارية والإجراءات الحمائية من كلا الطرفين. فقد اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوات لفرض تعريفات جمركية على واردات بعض السلع الصينية، مثل السيارات الكهربائية، حيث بلغت بعض النسب 45%، متذرّعًا بسياسات الدعم الحكومي، التي توفرها الصين لصناعاتها الوطنية.[26] وفي المقابل، ردّت الصين بإجراءات مماثلة على منتجات أوروبية، مثل المشروبات الروحية؛ ما أدى إلى تصاعد النزاع التجاري بين الطرفين.
وتسهم السياسات التجارية الأمريكية في تعزيز هذه التحديات، إذ تحاول إدارة ترامب التأثير على سياسات التجارة الأوروبية من خلال الضغط لتقليل الاعتماد على المنتجات الصينية وتعزيز صادراتها من الولايات المتحدة. وتشير تقارير إلى أن مثل هذه السياسات قد تؤدي إلى زيادة عدم اليقين في العلاقات التجارية، ورفع تكاليف الإنتاج على الشركات الأوروبية العاملة ضمن سلاسل القيمة العالمية. كما يُواجه المستثمرون والشركات تحديات تتعلق بتقلّبات السياسات التجارية المتبادلة؛ ما يؤثر على التخطيط الاستراتيجي والتنافسية الدولية للقطاع الصناعي الأوروبي.
وتَظهر تحديات إضافية في قطاع التكنولوجيا، حيث أدت المخاوف المتعلقة بالأمن السيبراني، والتبَعية التكنولوجية، إلى فرض بعض الدول الأوروبية قيودًا على استخدام التقنيات والمعدات الصينية في البنى التحتية الحيوية؛ ما يُضيف بُعدًا آخر إلى النزاعات التجارية. وتتزامن هذه الإجراءات مع سياسات أمريكية تهدف إلى الحدّ من استخدام بعض التقنيات الصينية؛ ما يزيد من تعقيد المشهد التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي. وهذا الواقع التجاري المتذبذب يُثير تساؤلات حول استدامة الشراكة الاقتصادية بين الطرفين؛ في ظل البيئة التجارية المتغيرة، والضغوط الخارجية المتزايدة.
رابعًا، السيناريوهات المستقبلية
تتراوح السيناريوهات المحتمَلة بين الصين والاتحاد الأوروبي بين تقارب اقتصادي محدود، وتوازن استراتيجي، وصولًا إلى شراكة أعمق، أو توترات متزايدة بفعل الضغوط الأمريكية. وفيما يلي عرضٌ لهذه السيناريوهات:
- السيناريو الأول: الاتفاق الشامل (صفقة ترامب-أوروبا)[27]
في هذا السيناريو، وبعد سلسلة من التوترات الأولية بين إدارة ترامب والاتحاد الأوروبي، يتم التوصل إلى اتفاق اقتصادي شامل يُعيد تشكيل العلاقات التجارية بين الطرفين. ويقوم هذا الاتفاق على تراجع الولايات المتحدة عن بعض سياساتها الحمائية، مثل رفع التعريفات الجمركية على الواردات الأوروبية، مقابل التزام أوروبي بشراء المزيد من المنتجات الأمريكية، خصوصًا في قطاعات الطاقة والزراعة والصناعات الدفاعية. وتسعى إدارة ترامب، من خلال هذا الاتفاق، إلى تحقيق مكاسب اقتصادية مباشرة، في حين ترى أوروبا فيه وسيلة لتجنّب حرب تجارية شاملة، مع الاحتفاظ ببعض الاستقلالية في علاقاتها التجارية مع الصين.
وبالنسبة للعلاقات الصينية-الأوروبية، فإن هذا السيناريو يحدّ من التقارب الاقتصادي بين الطرفين، إذ قد تضطر بعض الدول الأوروبية إلى تقليل تعاملها التجاري مع الصين كجزء من شروط الصفقة مع واشنطن. ومع ذلك، فمن غير المتوقع أن يؤثر هذا الاتفاق على التعاون في قضايا المناخ والطاقة المتجدّدة، حيث تظل أوروبا ملتزمة بأجندتها البيئية، وتحتاج إلى الشراكة الصينية في مجالات التكنولوجيا البيئية، والطاقة الخضراء. إلا أن بعض المشاريع الكبرى، مثل الاستثمارات الصينية في البنية التحتية الأوروبية، قد تتباطأ بسبب الضغوط الأمريكية.
وبالرغم من إمكانية نجاح هذا السيناريو، إلا أنه يواجه عقبات، أبرزها احتمال رفض أوروبا الإملاءات الأمريكية، خصوصًا إذا تضمّنت قيودًا صارمة على علاقاتها بالصين. كما أن ترامب قد لا يكون مستعدًّا لتقديم تنازلات كافية؛ ما قد يجعل الاتفاق غير جذّاب للدول الأوروبية، وبالتالي قد ينهار قبل أن يتحقق.
- السيناريو الثاني: التقارب الاقتصادي المحدود
في هذا السيناريو، تستمر أوروبا والصين في بناء علاقات اقتصادية قوية نسبيًّا، ولكن دون الوصول إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الكاملة. ويحدُث ذلك نتيجة ضغوط أمريكية جزئية لمنع التقارب الأوروبي-الصيني، أو بسبب استمرار التوترات بين الطرفين في بعض المجالات التكنولوجية والاستثمارية.
وتبقى الصين شريكًا تجاريًّا رئيسيًّا لأوروبا، لكن الدول الأوروبية قد تتجنّب التوسع في التعاون مع بكين في بعض القطاعات الحساسة، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والاتصالات؛ خشية ردود الفعل الأمريكية. ومع ذلك، يستمر التعاون بين الصين وأوروبا في الطاقة المتجدّدة والتكنولوجيا البيئية؛ نظرًا للحاجة الأوروبية إلى الابتكار الصيني في هذه المجالات، خصوصًا في تطوير البطاريات الكهربائية، والهيدروجين الأخضر، وتقنيات تخزين الطاقة.
وأحد العوامل الرئيسية التي تدعم هذا السيناريو هو سعي أوروبا للحفاظ على علاقات متوازنة مع كلٍّ من الولايات المتحدة والصين، حيث تسعى للاستفادة من السوقَين دون الدخول في مواجهة مباشرة مع أي منهما. ومن ناحية أخرى، فإن الصين، برغم رغبتها في تعميق العلاقات مع أوروبا، قد تفضّل نهجًا أكثر حذرًا لتجنب التصعيد مع واشنطن، التي قد تزيد من العقوبات الاقتصادية إذا شعرت أن الصين توسّع نفوذها في أوروبا بشكل مفرط.
وبرغم الفرص التي يوفرها هذا السيناريو، إلا أنه يواجه تحديات، أبرزها احتمال قيام إدارة ترامب بفرض مزيد من القيود على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع الصين، وهو ما قد يعقّد مسار العلاقات الاقتصادية بين الطرفين.
- السيناريو الثالث: التوازن الاستراتيجي بين بكين وواشنطن
في هذا السيناريو، تعتمد أوروبا نهجًا متوازنًا بين الصين والولايات المتحدة، وتسعى إلى عدم الانحياز لأي طرف بشكل كامل. ويعكس هذا النهج رغبة أوروبية متزايدة في تعزيز الاستقلال الاستراتيجي، حيث تتجنّب أوروبا الصِّدام مع واشنطن، لكنها في الوقت نفسه لا تقبَل إملاءات ترامب بالكامل؛ ما يسمح لها بالاحتفاظ بعلاقاتها الاقتصادية مع الصين مع الحد من اعتمادها المفرط عليها.
ويستمر التعاون الأوروبي-الصيني في الطاقة المتجدّدة والتكنولوجيا البيئية، ولكن مع وجود ضوابط أوروبية صارمة على الاستثمارات الصينية، خصوصًا في القطاعات الحساسة، مثل البنية التحتية الاستراتيجية، والاتصالات، والذكاء الاصطناعي. وفي المقابل، تحافظ أوروبا على علاقاتها مع الولايات المتحدة، لكنها تتجنّب الوقوع في فخّ التبَعية الاقتصادية والسياسية لواشنطن، عبر البحث عن شراكات أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية لتعزيز التنوع في تحالفاتها.
وهذا السيناريو يوفر لأوروبا فرصة للاستفادة من أكبر اقتصادَين في العالم دون أن تكون مضطرة للاختيار بينهما، لكنه ليس خاليًا من المخاطر. فقد تحاول واشنطن الضغط على أوروبا لاتخاذ موقف أكثر وضوحًا ضد الصين، سواء من خلال العقوبات الاقتصادية أو القيود التكنولوجية؛ ما قد يجعل هذا التوازن صعبًا. ومن جهة أخرى، قد تحاول الصين تعزيز وجودها في أوروبا بشكل يتجاوز التعاون الاقتصادي التقليدي؛ ما قد يثير مخاوف بعض الحكومات الأوروبية، ويدفعها إلى تقليص الانفتاح على بكين.
- السيناريو الرابع: العاصفة الكاملة (حرب تجارية مفتوحة بين واشنطن وأوروبا (
في هذا السيناريو، تتبنّى إدارة ترامب نهجًا أكثر عدوانية تجاه أوروبا، عبر فرض تعريفات جمركية شاملة على المنتجات الأوروبية؛ ما يؤدي إلى حرب تجارية مفتوحة بين الطرفين. وهذه الحرب قد تشمل قيودًا على الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة، وعقوبات على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع الصين، وضغطًا أمريكيًّا لإجبار أوروبا على فكّ ارتباطها الاقتصادي ببكين.
ونتيجة لذلك، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى البحث عن بدائل تجارية واستثمارية؛ ما يجعل الصين أحد الشركاء الأكثر جاذبية. وفي هذه الحالة، قد تتحول بكين من مجرد شريك اقتصادي إلى حليف استراتيجي رئيسي لأوروبا، خصوصًا في القطاعات التي تتعرّض للقيود الأمريكية، مثل أشباه الموصلات والطاقات المتجدّدة، والتكنولوجيا الخضراء.
وعلى الجانب الآخر، قد تقوم أوروبا بالرد على التصعيد الأمريكي؛ عبر تعزيز التعاون مع الصين في مشاريع البنية التحتية للطاقة، والبحث عن آليات جديدة لتقليل الاعتماد على الدولار في المعاملات التجارية الثنائية؛ ما قد يؤدي إلى تحولات جذرية في المشهد الاقتصادي العالمي.
وبرغم أن هذا السيناريو يفتح المجال أمام تعزيز العلاقات الصينية-الأوروبية بشكل غير مسبوق، إلا أنه غير مرجح؛ ذلك أنه يحمل أيضًا مخاطر كبرى، أبرزها تفكّك التحالف عبر الأطلسي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، وربما تأثر الأسواق المالية الأوروبية والأمريكية سلبًا نتيجة الحرب التجارية.
خاتمة
في ظل تصاعد التوترات العالمية، وعدم اليقين بشأن سياسات الولايات المتحدة، خلال إدارة ترامب الثانية، يظل التقارب الصيني-الأوروبي رهينًا بمزيج من المصالح المشتركة والتحديات المعقدة. وبالرغم من وجود فرص لتعزيز التعاون، خصوصًا في مجالات مثل التجارة، والتغير المناخي، فإن العوائق الهيكلية، والتباينات الاستراتيجية، والخلافات حول قضايا الدولية، تجعل من تحقيق تقارب استراتيجي شامل أمرًا صعبًا.
ومع ذلك، فإن أوروبا ستظل في موقع التوازن، متأرجحة بين الحاجة إلى حماية مصالحها الاقتصادية والأمنية مع الولايات المتحدة، والسعي لتعزيز شراكاتها مع الصين في القضايا التي تخدم أجندتها طويلة الأمد. وفي مثل هذه البيئة الجيوسياسية المتغيرة، ستعتمد آفاق التقارب الصيني-الأوروبي على قدرة الطرفين على تجاوز الخلافات وتطوير آليات تعاونٍ أكثر استدامة، بعيدًا عن الاضطرابات التي تفرضها التقلبات السياسية الأمريكية.
[1] EU-China Relations factsheet, EEAS, December 17, 2023: https://www.eeas.europa.eu/eeas/eu-china-relations-factsheet_en
[2] Carl Bildt, The Risks of “De-Risking”, Project Syndicate, June 20, 2023: https://tinyurl.com/yc74uczt
[3] ترامب يؤكد أنه سيفرض رسومًا جمركية بقيمة 25% على السلع الأوروبية، وبروكسل تهدّد بالرد، فرانس24، 27 فبراير 2025: https://tinyurl.com/yc4y3d5z
[4] Seb Starcevic and Giselle Ruhiyyih Ewing, Trump vows to launch trade war on EU, Politico, February 1, 2025: https://www.politico.eu/article/donald-trump-trade-war-eu-tariffs-mexico-canada/
[5] مستهدفًا الصين.. ترامب يفرض رسومًا جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب والألومنيوم، سي إن إن عربية، 11 فبراير 2025: https://arabic.cnn.com/world/article/2025/02/11/trump-imposes-25-tariffs-on-steel-and-aluminum
[6] Peter Hoskins, China’s tit-for-tat tariffs on US take effect, BBC, February 10, 2025: https://www.bbc.com/news/articles/cvg8zg7ll09o
[7] Zheng Weibin, JD Vance’s Munich speech: A shift in Europe-US relations? ThinkChina, February 20, 2025: https://www.thinkchina.sg/politics/jd-vances-munich-speech-shift-europe-us-relations
[8] وكالة أنباء الإمارات – وام، الولايات المتحدة تؤكد معارضتها أي خطة لضم أوكرانيا للناتو، 13 فبراير 2025:
[9] Kaitlan Collins and Kevin Liptak, After Putin call, Trump says negotiations to end Ukraine war will start ‘immediately’, CNN, February 12, 2025: https://edition.cnn.com/2025/02/12/politics/putin-trump-phone-call/index.html
[10] How Will Trump 2.0 Reshape European-Chinese Economic Relations? KIEL, 30 Jan 2025: https://tinyurl.com/muh2hkv9
[11] ترامب: سنفرض رسومًا جمركية على أوروبا. الجزيرة، 1 فبراير 2025: https://tinyurl.com/cme6cpj7
[12] رسوم ترامب الجمركية تهدد منطقة اليورو بالانهيار، الشرق الأوسط، 16 فبراير 2025: https://tinyurl.com/3dy2wbzx
[13] ترامب ينسحب “مجددًا” من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، مونت كارلو الدولية، يناير 21، 2025: https://tinyurl.com/3xv223cf
[14] EU-CHINA COOPERATION ON GREEN RECOVERY AND GREEN STIMULUS An Overview Of Green Recovery Measures In The EU & Their Implications For EU-China Relations OCTOBER 19, 2020:
[15] Fortune Business Insight, February 10, 2025: https://tinyurl.com/4cf3jmm4
[16] الاتحاد الأوروبي يوقف مبيعات سيارات الوقود الأحفوري الجديدة بداية من 2035، العربية، 28 مارس 2023: https://tinyurl.com/y49w4y2d
[17] Dahl, Jordyn, and Camille Gijs. “Eu Risks Fragile Unity by Whacking China to Woo Trump.” POLITICO, February 4, 2025. https://www.politico.eu/article/eu-fragile-unity-woo-china-trade-us-donald-trump-tariffs/
[18] Klemensits, Péter. Working Paper: EU-China Economic Relations and Trade Disputes. https://china-cee.eu/wp-content/uploads/2025/02/Working_paper-202507-Klemensits-Péter.pdf
[19] Ibid.
[20] Starcevic, Seb, and Giselle Ruhiyyih Ewing. “Trump Vows to Launch Trade War on Eu.” POLITICO, February 1, 2025. https://www.politico.eu/article/donald-trump-trade-war-eu-tariffs-mexico-canada/
[21] Iqbal, Nomia, João da Silva, and Michael Race. “Donald Trump Threatens ‘out of Line’ EU with Tariffs.” BBC News, February 3, 2025. https://www.bbc.com/news/articles/cn4zgx808g7o
[22] Dahl, Jordyn, and Camille Gijs. “Eu Risks Fragile Unity by Whacking China to Woo Trump.” POLITICO, February 4, 2025. https://www.politico.eu/article/eu-fragile-unity-woo-china-trade-us-donald-trump-tariffs/
[23] Klemensits, Péter. Working Paper: EU-China Economic Relations and Trade Disputes. https://china-cee.eu/wp-content/uploads/2025/02/Working_paper-202507-Klemensits-Péter.pdf
[24] Ibid.
[25] Malmström , Cecilia. Europe is laying low but must prepare for conflict with trump, February 3, 2025. https://www.piie.com/blogs/realtime-economics/2025/europe-laying-low-must-prepare-conflict-trump
[26] الاتحاد الأوروبي يفرض رسومًا جمركية تصل إلى 45% على السيارات الكهربائية الصينية، الشرق (بلومبيرغ)، 4 أكتوبر 2024: https://tinyurl.com/sy2tdp4a
[27] Noah Barkin and Agatha Kratz, Trump and the Europe-US-China Triangle, Rhodium Group, January 16, 2025:
https://rhg.com/research/trump-and-the-europe-us-china-triangle/