Insight Image

فرص التعايش والتسامح وتحدياتهما في ظل الإعلام الرقمي

05 مايو 2022

فرص التعايش والتسامح وتحدياتهما في ظل الإعلام الرقمي

05 مايو 2022

مقدمة

من المتعارف عليه أن الإعلام الرقمي (وسائل التواصل الاجتماعي، التدوينات، الفن الرقمي، الواقع الافتراضي،… إلخ) هو الإعلام الذي يعتمد التقنيات الرقمية في البث والانتشار [1]. ومن الجدير بالذكر أن الرقمنة أصبحت هي المسيطرة على ساحة الإعلام، حيث تم تحويل العديد من الصحف المحلية والإقليمية والعالمية من صحف ورقية إلى صحف إلكترونية، بالإضافة إلى اعتماد محطات التلفاز والمحطات الإذاعية أكثر من أي وقت مضى على الإعلام الرقمي، وكذلك انتشار مواقع التواصل الاجتماعي على نطاقٍ واسع لم تصل إليه أي وسيلة إعلامية من قبل[2]. وفصلت الكثير من الدراسات خصائص الإعلام الرقمي ومنها التفاعلية interactivity، بمعنى الاتصال التفاعلي مع المتلقي، والنصية الفائقة hypertext، بمعنى إتاحة محتوى متعدد المستويات والمعاني والتفسيرات، وتقارب الوسائط المتعددة convergenc، بمعنى تدعيم الإدراك الانتقائي الذي يمثل الأساس في تحقيق الأثر[3].

ومن جانب آخر فالتعايش والتسامح نموذجان ثقافيان، وهما مبدآن إنسانيان يطمحان إلى توفير سياق إيجابي لتعايش السلمي بين أفراد المجتمع،  وهو فكر يواجه كل ما هو متشدد ومتطرف. فأن تكون متسامحاً هو أن تكون لديك القدرة على التعايش مع كل ما هو مختلف عنك ومع كل من هو مختلف عنك. لذا فهناك ارتباط وطيد بين مفهوم التعايش ومفهوم التسامح[4].  وفي حقيقة الأمر أن سبب ارتباط هذين المفهومين هو أنهما يكملان بعضهما، فأينما وجد التسامح وجد التعايش وأينما وجد التعايش وجد التسامح.

لذا ففي الأوقات التي يسودها الخوف من التطرف والإرهاب تسعى العديد من الدول والمجتمعات لتأمين الأفراد وتحصينهم من هذه الآفة من خلال نشر قيم التعايش والتسامح وثقافتها وتعزيزها بين الأفراد بمختلف جنسياتهم، وأعراقهم، وأديانهم ومعتقداتهم[5]. ودون ثقافتي التعايش والتسامح سيصبح الإنسان منغلقاً تماماً عمن حوله ومنعزلاً ثقافياً وفكرياً، وبالتالي قد يتحول هذا الانغلاق والانعزال إلى تطرف وتشدد بكل سهولة.

وتأتي أهمية التعايش والتسامح في أنهما يمثلان العوامل الرئيسية لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في أي مجتمع. لأن هناك علاقة وطيدة بين التعايش والتسامح كثقافة، والأمن كهدف، وهذه الصلة تأتي لأن الأمن لا يتحقق إلا في ظل الاستقرار، ولأن الاستقرار لا يتحقق إلا بالتعايش والتسامح. ومن أهم مظاهر الاستقرار تقبلاً أفراد المجتمع بعضهم لبعض بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية والاسمية والدينية،… إلخ، فيصبح لدينا مجتمع متعدد ومتسامح ومنفتح و تنخفض فيه معدل الكراهية والتطرف أيضاً.

 ومن هنا تأتي أهمية اللجوء إلى الإعلام الرقمي الذي من الممكن أن يكون الوسيلة الأكثر نجوعاً وتأثيراً لأنه وسيلة نقل حيوية للمعلومات والآراء تتجاوز جميع الحدود الجغرافية ومنصة في غاية الأهمية لتثقيف الأفراد وتشكيل العقل الجمعي الإلكتروني الذي يرتد ليعكس خصائصه على سلوك أفراد المجتمع[6]، ولذا فإنه من أهم وسائل تحقيق التعايش والتسامح في وقتنا الحاضر.

ولكن الإعلام الرقمي سلاح ذو حدين لأنه على الرغم من  إتاحته الفرصة لتعزيز ثقافتي التعايش والتسامح فإنه يستدعي الكثير من التحديات أيضاً التي من الممكن لها أن تعوق عملية تفعيل ثقافتي التسامح والتعايش وترسيخهما.

تستهدف تلك الدراسة تفصيل بعض الفرص وبعض التحديات التي تواجه التعايش والتسامح في ظل الإعلام الرقمي. ومن أجل ذلك تنقسم تلك الدراسة إلى ثلاثة أجزاء؛ في الجزء الأول نسلط الضوء على أهم الفرص التي يوفرها الإعلام الرقمي في التعايش والتسامح. وفي الجزء الثاني نحلل بعض أهم التحديات التي تواجه التعايش والتسامح في ظل الإعلام الرقمي. وفي الجزء الأخير نقدم بعض التوصيات التي من الممكن أن تعاظم من تلك الفرص وتجابه تلك التحديات.

أولاً: بعض الفرص

مما لا شك فيه أن الإعلام الرقمي ومنصاته توفر العديد من الفرص التي من الممكن لها أن تسهم في تعزيز التعايش والتسامح. ومن بين تلك الفرص التي سوف نفصلها في ذلك الجزء من الدراسة: نبذ الطائفية والتعصب القومي والتطرف الديني، وتبادل الثقافات المتنوعة ونشر ثقافة الاختلاف والتنوع، وعرض ثقافات الشعوب الأخرى وخبراتها في التسامح والتعايش.

يعد نبذ الطائفية والتطرف الديني والتعصب القومي وتبادل الثقافات المتنوعة ونشر ثقافة الاختلاف والتنوع من أهم الفرص التي من الممكن أن يوفرها الإعلام الرقمي. وفي هذا الإطار من الممكن أن يكون الإعلام الرقمي ومنصاته حبل وصل يربط بين معتنقي مختلف الديانات والجنسيات والأعراق، ونافذة للحوار السلمي بين مكونات المجتمع الواحد والشعوب بعضها مع بعض. وهذا التواصل البشري بحد ذاته هو شكل من أشكال التعايش والتسامح لأنه يمثل منصة للتواصل بين الناس ووسيلة لتطبيع الطقوس والأعياد والمناسبات والعادات والتقاليد الإثنية والعرقية والدينية.

كما يمكن أن يكون الإعلام الرقمي أيضاً وسيلة يتم من خلالها تفكيك الخطابات المتطرفة والأفكار التي لا تتفق مع قيم التعايش والتسامح، ونشر قيم السلام والوئام. وفي هذا الصدد تمثل دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً يشار إليه بالبنان في العالم، حيث أخذت على عاتقها تعزيز ثقافتي التعايش والتسامح بين أكثر من 200 جنسية تعيش وتحظى بالحياة الكريمة والاحترام على أراضيها. ففي يوليو 2015 أصدر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، مَرْسُوماً بقانون رقم 2 لعام 2015 بشأن مكافحة التمييز والكراهية[7]. كما تم إنشاء “المعهد الدولي للتعايش” و”مركز هداية”، و”مركز صواب” لنبذ الطائفية والتعصب القومي والديني[8]. وكل تلك المؤسسات تستخدم الإعلام الرقمي كوسيلة رئيسية لتحقيق أهدافها وفي القلب منها استدامة قيم التسامح والتعايش واحترام الآخر، ونشر قيم السلام[9].

ويمثل عرض ثقافات الشعوب الأخرى وخبراتها في التسامح والتعايش واحداً من أهم الفرص التي من الممكن أن يوفرها الإعلام الرقمي أيضاً. وخير مثال على ذلك ما فعلته دولة الإمارات العربية المتحدة خلال أسبوع التسامح في إكسبو 2020، الذي أقيم  في دبي  بين عامي 2021 و2022  والذي عرض من خلاله تجارب بعض الدول وخبراتها في التسامح والتعايش.

وأقيم هذا  الأسبوع  في الفترة ما بين 14 إلى 20 نوفمبر 2021 بالتعاون مع وزارة التسامح والتعايش في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ وبُث في هذا الأسبوع محادثات ومحاورات عن كيفية تعزيز التعايش في المساحات الاجتماعية، والبيئات المادية، وأساليب سرد القصص، بهدف إثراء التعدد الثقافي وتعزيز التعايش السلمي. كما عمدت فعاليات هذا الأسبوع إلى التحدث مع مكونات المجتمع كله، رجالاً ونساء، وإيجاد فرص لأصحاب الهمم والمجتمعات المهمّشة.

وقال الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح والتعايش الإماراتي، المفوَّض العام لإكسبو 2020 دبي في إحدى  فعاليته: “إن فهم مختلف الحضارات والثقافات واحترامها أساسي لبناء مجتمع سلمي ومزدهر. عبر استضافة أسبوع التسامح والتعايش، وهو جزء من المهرجان الوطني للتسامح والتعايش في دولة الإمارات”[10].

وفي هذا الأسبوع، استضاف جناح إيطاليا قمة الأديان، التي تناقش فيها قادة دينيون من المعتقدات جميعها ومن أنحاء العالم لوضع أسس التغلب على التعصّب والحد من تأثيرات التطرف. كما تم تنظيم  منتدى التسامح والتعايش للأعمال بالاشتراك مع إستونيا الذي ركز على التنوع والتعايش في مكان العمل، وكيف يمكن للشمول الرقمي إزالة العوائق ومساعدة الأعمال على تحقيق نمو مستدام. واختتم هذا الأسبوع بفاعلية “الانفتاح والطريق إلى الازدهار”، وهي جزء من سلسلة “حوار الثقافات” التي كانت برعاية برنامج الإنسان وكوكب الأرض في إكسبو 2020 دبي[11].

ثانياً بعض التحديات

ومن المعلوم أن الإعلام الرقمي في عالمنا المعاصر هو “سلاح ذو حدين، فمن جانب أصبح أداة لتنظيم العلاقات الاجتماعية وإدامتها وتغييرها ومظهراً من مظاهر السلوك وأنماطه فضلاً عن تحوله في بعض الأحيان إلى أداة للهيمنة في مجال الثقافة التي تنتج من هذه التكنولوجيا كونها ثقافة شاملة ومختصرة وسطحية، كما أن هذه الأداة تعوّد الأفراد على أنماط محددة للتفكير والسلوك المهيمن. وبالتالي توفر أدوات قوية للرقابة الاجتماعية، ومع ذلك فهي تخضع لطبيعة استخدام الفرد لهذه التقنية وكيفية توظيف المعلومات بما يتناسب وطبيعة احتياجاته”[12].

ومن الممكن أن يستخدم الإعلام الرقمي من قِبل محاربي قيم التعايش والتسامح من جماعات متطرفة لبث الكراهية والعنف من خلال الخطابات التأجيجية التي تثير القلاقل بين مختلف الأديان والجنسيات والأعراق [13]. لذا سنفصل في هذا الجزء من الدراسة أهم تلك التحديات وهي: التطرف الفكري، وإثارة النزاعات الطائفية والعرقية.

مما لاشك فيه أن الإعلام الرقمي قد أسهم بدرجة كبيرة في عولمة التطرف وأن تصاعد أنشطة الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية في الفترة الأخيرة كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإعلام الرقمي. فالجماعات المتطرفة نجحت في استغلال هذا الإعلام بفعالية في عمليات التجنيد والدعاية  لأيديولوجياتها  والتنسيق فيما بينها  مما كان مصدراً مهماً يتغذى عليه الاحتقان الطائفي والمذهبي[14]. لقد لجأت التيارات الفكرية التي ترفض قبول الآخر إلى الإعلام الرقمي (يوتيوب، فيسبوك، تويتر،… إلخ) لأنه وسيلة سريعة لإيصال رسائلها وكسب متعاطفين وأتباع جدد خصوصاً من الشباب ونشر ثقافة رفض الآخر وعدم القبول به أو التعايش معه[15].

أحد التحديات التي تواجه التعايش والتسامح في الإعلام الرقمي هي التيارات الفكرية التي تستغل هذه المنصات لإثارة النزاعات الطائفية والعرقية. فيتم استغلال منصات الإعلام الرقمي مثل منصات التواصل الاجتماعي من قِبل أفراد يسعون إلى تفكيك أي مجتمع مترابط ما يشكل تحدياً كبير اًعلى نشر ثقافتي التعايش والتسامح وتفعيلهما في المجتمعات، والسبب هو أن ما يتم نقله من قِبل هذه الجماعات عبر الإعلام الرقمي متاح للجميع، للواعي وغير الواعي، وللمثقف وغير المثقف، وللمُحصّن فكرياً وغير المُحصّن فكرياً. إن الفرد غير الواعي يتم اختراق اعتقاداته بسرعة كبيرة والتأثير فيه بسهولة باستخدام وسائل الإعلام الرقمي.

ولا شك في أن انفتاح العالم كله على بعضه رقمياً من ناحية، وظهور ما يسمى حروب الجيلين الرابع والخامس من ناحية أخرى، فاقما التحديات التي تقف عقبة أمام تشكل رأس المال الاجتماعي أو متانته (مستوى الثقة والانتماء بين أبنـاء المجتمـع وقـدرتهم عـلى العمل جنباً إلى جنب لتحقيق أهداف مشتركة).  ولقد أثر ذلك بلا شك بالتبعية في مفهوم الأمن القومي للدول. فالعلاقات الاجتماعية الافتراضية جعلت الفضاء العام لبعض الدول مستباحاً يثار فيه النزاعات الطائفية والعرقية، لدرجة كان من الصعب معها الحفاظ على متانة رأس المال الاجتماعي في لحظات كثيرة لتلك الدول[16].

خاتمة

وفي نهاية هذه الدراسة يمكن لنا أن نختتمها بالتوصيات التالية من أجل تعظيم فرص التعايش والتسامح في ظل الإعلام الرقمي ومجابهة التحديات التي يمثلها هذا الإعلام لقيم التعايش والتسامح:

  1. تدريب الصحفيين والإعلاميين والناشطين في الإعلام الرقمي وتأهيلهم على استخدام تقنيات الإعلام ودعمهم بورش ودورات لتأهيلهم وتمكينهم من التعامل مع الإعلام الجديد.
  2. نشر ثقافتي التعايش والتسامح في منصات الإعلام الرقمي من قِبل المؤسسات الدينية والتربوية والتعليمية من خلال دعم الثقافة وعمل مبادرات وفعاليات تدعمها.
  3. تعميق الجوانب الإيجابية التي ظهرت بالدراسات حول الموضوع والتي تحث على الجانب الإنساني وثقافة الحوار والتعايش والتسامح.
  4. الدعوة باستمرار إلى الحفاظ على وحدة المجتمعات وتماسكها والحفاظ على الهوية الوطنية في ظل تحديات الإعلام الرقمي.
  5. تثقيف مستخدمي منصات الإعلام الرقمي وتوعيتهم على أهمية مجابهة تحديات التعايش والتسامح وكيفية تعزيز ثقافة التعايش السلمي وتقبل الآخر.
  6. غرس ثقافة تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية من خلال وسائل الإعلام والجهات ذات العلاقة.
  7. نبذ المحاصصة الطائفية والعرقية والتخلص منها تدريجياً.
  8. تقوية نشاط الإعلام الوطني الرقمي ودوره عبر المنصات الرقمية.
  9. تثقيف أفراد المجتمع على أهمية تقصي المعلومات من المصادر الرسمية لتجنب التضليل الإعلامي والأخبار المفبركة.
  المراجع

[1]. دكتور ولاء محمد علي حسين الربيعي، الإعلام الرقمي وانعكاساته في تنمية المجتمع،

https://portal.arid.my/Publications/bc18a727-5447-499f-93b2-cb1063b48f48.pdf

[2]. جامعة العلوم التطبيقية، عمّان، الأردن، الإعلام الرقمي (الإلكتروني)،

https://www.asu.edu.jo/ar/Literature/Digital-Media/Pages/Overview.aspx

[3]. دكتور ولاء محمد علي حسين الربيعي، مصدر سابق.

[4] . سلطان حميد الشامسي، “التعايش والتسامح.. جذور متشابكة”، الخليج، 16 مايو 2017.

[5] . المصدر السابق نفسه

[6] . دكتور ولاء محمد علي حسين الربيعي، مصدر سابق.

[7] . تعزيز قيم التعايش والتسامح، البوابة الرسمية لجكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، 22 مارس 2021،

https://bit.ly/3jWN1hQ

[8] . المصدر السابق نفسه.

[9] . مبادرات التسامح، البوابة الرسمية لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، 28 مارس 2022،

https://u.ae/ar-ae/about-the-uae/culture/tolerance/tolerance-initiatives

[10] . لتعزيز التعايش السلمي.. انطلاق أسبوع التسامح في إكسبو 2020 دبي، العين الإخبارية، 2021/11/13،

https://al-ain.com/article/tolerance-coexistence-expo-2020-dubai

[11] . المصدر السابق نفسه.

[12] . دكتور ولاء محمد علي حسين الربيعي، مصدر سابق.

[13] . خولة مرتضوي، “نشر ثقافة التعايش والتسامح الديني في منابر الإعلام الجديد” الوطن، 25 سبتمبر 2021،

[14] . أشرف العيسوي، التطرف وصراع الهوية الدينية في عصر العولمة في منطقة الشرق الأوسط، تريندز للبحوث والاستشارات، 8 مارس 2020، https://bit.ly/37DXtbP

[15] . المصدر السابق نفسه.

[16] . وائل صالح، رأس المال الاجتماعي كالحدود الجغرافية للدولة، العين الإخبارية، 2020/11/12،

https://al-ain.com/article/social-capital-geographical-boundaries-state

المواضيع ذات الصلة