لا شك أن وقع تفشي وباء “كوفيد-19” كان أشد في الولايات المتحدة منه في الصين، وإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا مجتمعةً إذا ما نظرنا إلى الإحصائيات التي تشير في أمريكا وحدها إلى أكثر من 1.23 مليون حالة مؤكدة[1] تعافى منها 164 ألف حالة فيما فارق الحياة 72 ألف شخص جراء هذا الفيروس الخبيث.
وعلى الرغم من الاستعداد الاستباقي الذي يمكن استقراؤه من خلال التقرير الذي أُعدَّ في عهد إدارة أوباما عام 2016، والذي تضمن تفاصيل نهج استجابة الولايات المتحدة في مواجهة تفشي فيروس إيبولا، إضافة إلى العمليات الافتراضية لمحاكاة إجراءات الطوارئ الحكومية لمكافحة أي وباء، فقد كشف تفشي وباء إيبولا آنذاك قصوراً واضحاً في التنسيق بين السلطة الفيديرالية المركزية، وسلطات الولايات، فضلاً عن غياب الرؤية الاستراتيجية في التعامل مع مثل هذه التهديدات.
وأخذاً بعين الاعتبار تجربة الولايات المتحدة في التعامل مع تجربة وباء إيبولا وعجزها عن اتخاذ إجراءات استباقية لمواجهة تفشي هذا الوباء رغم دقة تقرير الاستجابة الذي أنجز عام 2016، ستسعى هذه الورقة إلى استقراء تعامل إدارة ترامب مع جائحة “كوفيد-19” في ظل تجارب البلاد السابقة.
وبطبيعة الحال، لا يمكن وصف الولايات المتحدة الأمريكية بأنها لا عهدَ لها بتهديد الأوبئة العالمية أو أنها لا تُبدي اهتماماً بالخطر على صحة مواطنيها وسلامة اقتصادها، غير أن إخفاقها في التحرك في الوقت المناسب منذ المراحل الأولى لانتشار فيروس “كوفيد-19” قد يكون له تداعيات كبيرة في فترة ما بعد الوباء تطال عدداً غير مسبوق من الصناعات المختلفة، بالإضافة إلى التهديد الذي يشكله ذلك بالنسبة لجهود منظمة الصحة العالمية[2].
الملاحظ أن استجابة واشنطن للأزمة الحالية اتخذت أشكال وصيغ متضاربة، فعلى سبيل المثال في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس ترمب دعمه للاحتجاجات اليمينية على القيود المفروضة بسبب فيروس “كوفيد-19”[3] أصدر البيت الأبيض مباشرة بعد ذلك الإرشادات الفيدرالية[4] التي تُملي على حكام الولايات كيف ومتى يعيدون فتح ولاياتهم الأمر الذي يبرز بجلاء حالة عدم التنسيق الضروري على أعلى المستويات والكفيلة بدعم جهود الولايات المتحدة في مواجهة تفشي هذا الوباء ما انعكس بدوره على الاستجابات المتباينة لإدارة أزمة هذا الوباء والتي تفاوتت من ولاية إلى أخرى.
وثمة اتفاق على مستوى المجتمع الدولي كله تقريباً على أن الأزمة الحالية “كوفيد-19” ليست نهاية المطاف، ، وأنه من المرجح أن يكون لها ما بعدها، وأن يشهد العالم ظهور المزيد من الأوبئة حيوانية[5] المصدر، وربما تفشي أمراض معدية أخرى، ما يجعل أمر تقييم السيناريوهات المستقبلية وطرق الاستجابة المحتملة لها، أمراً مُلحاً.
الوضع الراهن الملتبس
تم الإعلان عن اعتماد تطبيق مجموعة من الإجراءات الاحترازية في 42 ولاية بما فيها واشنطن العاصمة[6] شملت فرض تدابير موحدة على الشركات، وفرض التباعد الاجتماعي، وإغلاق المدارس، وحظر التجول، وإرسال رسائل تنبيه للمواطنين تحثهم على الالتزام بالحجر المنزلي في إطار إجراءات غير مسبوقة شملت 95% من سكان الولايات المتحدة، اعتمد تطبيقها حكام الولايات بمحض اختيارهم أو بالتعاون أحياناً مع الولايات المجاورة.
ويشار إلى أن تطبيق هذه الإجراءات اتسم بسرعته في المناطق التي عرفت ظهور حالات إصابة مؤكدة أكثر، بخلاف مناطق ولايات الغرب الأوسط والجنوب حيث كان حالات الإصابة المؤكدة بهذا الوباء نادرة، لم يكن تنفيذ هذه الإجراءات بالسرعة نفسها، وما تزال هناك حالات رفض من حيث اعتماد تطبيق إجراء الحجر المنزلي لدرجة أن بعض المقاطعات والمدن أخذت تتصرف باستقلالية في ما يتعلق بهذه الإجراءات وتحديداً في ولايات أركنساس، وأيوا، ونبراسكا، وداكوتا الشمالية، وداكوتا الجنوبية.
شكل 1: عدد حالات الإصابة بوباء “كوفيد-19” في الولايات المتحدة اعتباراً من 27 أبريل 2020[7]
ينبع رفض هذه الولايات المحافظة الالتزام بتطبيق الإجراءات التي تم اعتمادها في بقية الولايات الأخرى من مزيج من المشاعر العامة التي تفضِّل اتباع تعليمات الحكومات المحلية لا المركزية، وخشية تدهور الحريات المدنية، إلى جانب الخوف من التداعيات التي قد تحدثها مثل هذه الإجراءات على اقتصاداتها؛ وهذا الخوف لا يخلو تماماً من أساس أو مبرر، على الرغم من خطورته في ظل استمرار انتشار حالات الإصابة بوباء “كوفيد-19” في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
أدت هذه الطرق المتباينة لمكافحة “كوفيد-19” إلى تصاعد مشاعر عدم الرضا بين الولايات المتجاورة، والتي كان أبرز مظاهرها رسالة أحد أعضاء الكونغرس الممثلين لولاية تينيسي إلى حاكم ولاية أركنساس[8] يناشده فيها باتخاذ إجراءات أكثر فعالية للحد من انتشار الوباء؛ الواقعة التي على إثرها حاول الرئيس ترمب إرضاء كلا الطرفين، قائلاً إن إدارته اتخذت الإجراءات الاحترازات الضرورية[9]، وأنها ملتزمة بنصائح العلماء وخبراء الصحة، في حين أنها تمارس الضغط أيضاً نيابةً عن المحتجين الذين يريدون الإسراع بإنهاء إجراءات الحجر الصحي وإعادة فتح الاقتصاد.
شكل 2: توزيع حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19 في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية اعتباراً من 27 أبريل 2020[10]
وعلى الرغم من وجود بعض الجوانب الإيجابية في إدارة أزمة تفشي وباء “كوفيد-19” في الولايات المتحدة، تعكس المعطيات التي تقدم ذكرها صورة عن الوضع الراهن الملتبس فيها، والذي سبق التنبؤ به عام 2016 بعد إخفاق البلاد في اتخاذ إجراءات استباقية لمكافحة وباء إيبولا. كما أن هذا الوضع الذي تفتقر فيه البلاد إلى خطة عمل وطنية واضحة ألقى بالمسؤولية على حكام الولايات الذين أصبح لزماً عليهم اتخاذ القرارات الصحيحة التي يجب اتّباعها[11] في إشارة واضحة إلى حالة عدم التنسيق الوطني اللازمة لمكافحة هذا الوباء ومنع تفاقم تفشيه.
وبالنظر إلى ما قام به حكام الولايات وعُمد المدن والقادة المحليين من حيث اعتماد العمل بإجراءات الإغلاق، والحجر الصحي، فإنهم أيضاً هم المخولون باتخاذ قرار وقف العمل بهذه الإجراءات حالما تسمح بذلك البيانات الخاصة بحالة تفشي الفيروس وانتقاله، وهذا يتعارض مع ما زعم به الرئيس ترمب بأنه الوحيد الذي يمتلك السلطة الدستورية لإجبار الولايات على إعادة الفتح[12] الأمر الذي فنَّده علماء الدستور منذ حينه.
لقد سلّطت الاستجابة الأمريكية لوباء “كوفيد-19” على مستوى الولايات الضوء على السلطة الهائلة التي تمتلكها حكومات الولايات، خصوصاً عندما تكون الحكومة الفيدرالية عاجزة عن تقديم صورة واضحة ومسار محدد للمضي إلى الأمام، ولقد انطبق هذا على أزمة “كوفيد-19” الراهنة على وجه الخصوص، حيث إن استجابة “حكومة الرئيس ترمب بأكملها” قد تركت الكثير من مكونات الحكومة على الهامش تنتظر الأوامر.
كما يظهر إخفاق الحكومة الأمريكية إلى حد كبير في مكافحة أزمة تفشي “كوفيد-19” في تجاهلها للعديد من الوكالات التي كانت جاهزة للعمل وبقيت تنتظر التوجيهات لتنفِّذ الإجراءات؛ فعلى سبيل المثال، بقيت سفن المستشفيات في الميناء، وكانت مستشفيات قدامى المحاربين تنتظر الأوامر، ولم يُستجَب لطلبات المساعدة التي تقدم بها عدد من الوكالات الحكومية في جميع الولايات الخمسين التي بقيت على الهامش في اللحظات الأولى الحاسمة للأزمة.
ما زال العديد من الأمريكيين يتجاهلون أوامر الحجر المنزلي حتى في المناطق الأقل محافظةً[13]، ولم يلتزم بالتباعد الاجتماعي عملياً سوى 35% فقط في المتوسط. وسواء أكان هذا التجاهل نابعاً من عدم تقدير للعلم الذي بُنيت عليه الأوامر أم الضرورة أم العمل حسب الطلب أم الضغوط النفسية الناتجة عن العزلة التي ليس لها نهاية واضحة[14]؛ من الصعب جداً، حتى على الحكومات المحلية فرض إجراءات الحجر المنزلي التي لا غنًى عنها، من أجل خفض معدلات انتشار “كوفيد-19” إلى المستوى المطلوب لتخفيف الإجراءات.
وعلى الرغم من أن الحجر المنزلي يهدف أساساً إلى إبقاء معدلات الإصابة منخفضة بما يكفي لتمكين المستشفيات من علاج المرضى بفعالية[15]، فإنه ليس حلاً يقضي على المرض كلياً. كما أن مناعة المجتمع لن توفر الوقاية من فيروس “كوفيد-19” إذا بلغ عدد المصابين حداً عالياً، حيث أكد العلماء أن الفيروس يتحوَّر بانتظام لدرجة تصبح معها مناعة المجتمع غير فعالة.
شكل 3: قدرة الرعاية الصحية الأمريكية وتوقعاتها اعتباراً من 27 أبريل 2020[16]
لقد استمرت النماذج الوبائية في مجملها تشير إلى اتجاه سمّاه توماس بويو “المطرقة والرقص”[17]، حيث تقع زيادات مفاجئة حتمية في عدد الوفيات تتسبب بدورها في ارتفاعات وانخفاضات حادة في النمذجة، ومن المرجح أن تصبح هذه الزيادات المفاجئة أمراً شائعاً عند بدء الولايات المتحدة إعادة فتح اقتصادها تدريجياً، مع انخفاض عدد الوفيات وتزايد الفترات الفاصلة بين عمليات الإغلاق القسري شيئاً فشيئاً بمرور الوقت. وحتى إرشادات دونالد ترمب الداعية إلى “فتح أمريكا مرة أخرى” توصي باستمرار التباعد الاجتماعي على مستويات مختلفة على مدى فترات طويلة من الوقت[18]، حتى بعد بدء إجراءات إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي.
إن هذا التنبؤ باحتمالات استمرار الإصابة بفيروس “كوفيد-19” واستمراره في المستقبل المنظور هو الذي يجعل من الواضح للغاية أن النهج الأمريكي غير المتماسك الذي انتهجته واشنطن في مكافحة الوباء لا بد أن يصل إلى نهاية فورية وسريعة، وإلا سيكون هناك مخاطرة بتأجيل العودة إلى الحياة الطبيعية إلى أجل غير مسمى.
السياق التاريخي
في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة، اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية الموجة الثانية من تفشي الإنفلونزا عام 1918، المعروفة باسم “الإنفلونزا الإسبانية”[19]، فتسببت في وفاة أكثر من 675 ألف شخص . وقد توفي نحو 200 ألف شخص في أكتوبر 1918 وحده نتيجة للمرض، ما جعله الشهر الأكثر فتكاً في التاريخ الأمريكي، وسط وباء عالمي أودى بحياة 20-50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم في غضون عامين عقب واحدة من أكثر الحروب دمويةً في العالم.
في ظل عدم وجود لقاح أو حتى معرفة السبب الحقيقي لتفشي المرض، كان على العُمد ومسؤولي الصحة في المدن في جميع أنحاء الولايات المتحدة أن ينفذوا استجابة على مستوى البلاد، غير أن انتشار الإنفلونزا الإسبانية السريع في خريف عام 1918 كان نسبياً ناتجاً عن عدم رغبة مسؤولي الصحة العامة في فرض إجراءات الحجر الصحي في زمن الحرب. فعلى سبيل المثال، يفيد تحليل أُجري عام 2007 بأنه لو كانت سان فرانسيسكو أعدَّت وسائل الوقاية من الإنفلونزا خلال ربيع عام 1919 لكان من الممكن خفض الوفيات بنسبة 90%.
وقبل سنوات قليلة تفشى فيروس إيبولا في غرب أفريقيا عام 2014 وهدد العالم بأسره؛ وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي حققتها البعثة الأمريكية في غرب أفريقيا، وصل فيروس إيبولا مدينتيْ دالاس ونيويورك، إذ أن عدم وجود هيكل حكومي فيدرالي فعال للسيطرة على الحوادث قد أسهم في وقوع أخطاء في استخدام معدّات الوقاية الشخصية، وتطهير النفايات الخطرة ونقلها والتخلص منها، وتوفير الخدمات الاجتماعية للذين وُضعوا تحت الحجر الصحي، وعمليات الرصد ما بعد الحدث، وقيود السفر المفروضة على العاملين في المجال الصحي المحتمل تعرضهم للفيروس. كما تم توزيع إدارة أزمة وباء إيبولا، وفي المراحل المبكرة لتفشي الوباء، على العديد من المكاتب من دون وجود أي هيئة مركزية واضحة لتنسيق الاستجابات للوباء[20].
ويقول تقرير “الأخلاقيات وإيبولا”[21] الصادر عن اللجنة الرئاسية الأمريكية لدراسة قضايا الأخلاقيات البيولوجية عام 2015، “رداً على وصول فيروس إيبولا الشواطئ الأمريكية (…) فإن بعض الاستجابات في الولايات المتحدة الأمريكية تستحق التدقيق والتمحيص من حيث علاقتها بهذا الوباء الحالي واستعداداً لطوارئ الصحة العامة في المستقبل. وتشمل الأمثلة على هذه الاستجابات: الدعوة إلى حظر السفر، وفرض الحجر الصحي على العاملين في مجال الرعاية الصحية، ووصم مواطني غرب أفريقيا (أو أي شخص يُعتقَد أن له علاقة بإيبولا) والتمييز ضدهم”.
كان أحد أهم المتطلبات الأساسية ضمن الاستجابة العامة في ذلك الوقت هو تتبُّع الفيروس في أماكن وجوده والوجهة التي يتجه إليها. كما كان تحديد المؤشرات الرئيسية التي من شأنها كشف مسار المرض في الوقت المناسب يمثل أولوية لدى صناع القرار في البيت الأبيض. وكانت تحديات دمج البيانات والفوارق الزمنية في تدفق البيانات تعني أن المؤشرات الوبائية غالباً ما تعطي مؤشراً تالياً للحدث وليس مؤشراً استباقياً يحدد أين يجب توجيه الاستجابة الطبية بفعالية.
لقد كشف وباء إيبولا عن قصور حقيقي في استعداد العالم وقدرته على الاستجابة للأمراض المعدية، فعندما تحركت الولايات المتحدة في غرب أفريقيا، حتى قبل أن يصل الفيروس الشواطئ الأمريكية، كان هذا القصور واضحاً في كل وكالة حكومية أمريكية معنية بالصحة والأمن.
وعلى الرغم من أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية كانت أكثر تمرُّساً في الاستجابة للكوارث العسكرية والطبيعية، فإن تحديات الصحة العامة التي شكلها وباء إيبولا كانت مختلفة تماماً، ففي حين تعتبر الاستجابة لوباء إيبولا نجاحاً، فإن مجرد الحفاظ على مستوى أنشطة الاستجابة الحالية كقدرة دائمة قد ثبت أنه غير كاف لمكافحة “كوفيد-19”. كما تؤكد قابلية الجوائح والأوبئة والتفشي الفيروسي للتكاثر بين السكان أهمية الاستعداد، ولذلك يجب أن تكون إدارة الأزمات تمريناً دائماً في تقييم العواقب وإدارتها بدلاً من أن تكون حدثاً منقطعاً يحدث مرة واحدة.
عمليات المحاكاة والاستعدادات
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية إجراء محاكاة استجابة لتفشي أي وباء، بمعدل مرتين على الأقل منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وإن كان التركيز فيها قد انصب على خطر انتشار فيروسي على الأراضي الأمريكية نتيجة لهجوم بيولوجي يشنه إرهابيون. وقد شكلت، في هذا السياق، عملية “الشتاء المظلم” الاسم الرمزي لمحاكاة هجوم بيولوجي إرهابي كبير[22]، أُجري في يونيو 2001 تجربة محاكاة مصمّمة لتنفيذ نسخة وهمية من هجوم سري ينشر فيروس الجدري في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد كان الهدف الأساسي من تمرين المحاكاة معالجة القصور في الاستجابة للطوارئ الوطنية أمام أي هجوم بيولوجي إرهابي على سكان الولايات المتحدة الأمريكية. وقد مثّل المشاركون في التمرين أدوار أعضاء مجلس الأمن الوطني وهم يستجيبون لأزمة الجدري، وزّوِّدوا بمعلومات عن الأحداث من خلال جلسات إحاطة، ومذكرات، وملخصات صحفية، ومقاطع فيديوهات إخبارية.
أثبتت إحدى النتائج الرئيسية لتمرين المحاكاة أن الهياكل التنظيمية للحكومة الأمريكية في ذلك الوقت لم تكن مناسبة لإدارة أي أزمة محتملة ترتبط بحدوث تفشي فيروسي[23]. كما أكدت دراسة لتقييم التمرين “وجود خطوط صدع رئيسية بين مختلف المستويات الحكومية (الفيدرالية، والولائية، والمحلية)، وبين الحكومة والقطاع الخاص، وبين مختلف المؤسسات والوكالات، وداخل القطاعين العام والخاص”.
هذه التناقضات يمكن أن تؤدي إلى إضعاف الإلمام الشامل بحالة الأزمة وتقويض القدرة على الحد من الخسائر البشرية والمعاناة والأضرار الاقتصادية. كما خلُص تمرين المحاكاة كذلك إلى أن قطاع الرعاية الصحية الأمريكي ونُظم الصحة العامة على مستوى الولايات والصناعات الدوائية جميعها ليس لديها قدرة على سد وتلبية الاحتياجات الإضافية المفاجئة.
كما توقّع سيناريو المحاكاة حدوث توتر شديد في العلاقة مع وسائل الإعلام، وتخبط في إدارة المعلومات الشاملة بشكل يزيد من عرقلة الاستجابة الفعالة لأي أزمة. وعلى الرغم من ذلك، لم يجرِ شيء يُذكر للتخفيف من حالات الفشل المحتملة في إدارة الأزمات التي حددتها عملية “الشتاء المظلم”.
وأُجري تمرين جديد عام 2019 باسم عملية “العدوى القرمزية” لمحاكاة تفشي وباء شبيه بالإنفلونزا. وتمت فيه سلسلة من التدريبات في مجال الصحة العامة بهدف تحديد نمط الاستعدادات والقدرات لدى مجموعة من الوكالات الحكومية على الاستجابة لخطر كهذا. وقد أجرى شركاء الوكالات الفيدراليون خلال التمرين جلسة لوضع خطة العمل في حالات الأزمات بهدف نمذجة قرارات القيادة وتحديد متطلبات المعلومات الضرورية والعناصر الحاسمة الأخرى المطلوبة لتحقيق استجابة مناسبة من الحكومة بأكملها.
وقد لوحظ، ضمن الخلاصات الرئيسية للتمرين، أن سلسلة الإمدادات الطبية العالمية الخاصة بالتدابير المضادة والقدرة الإنتاجية لم تستطع الاستجابة للطلب القادم من الدول المنكوبة خلال حدوث أي وباء إنفلونزا عالمي. كما أظهر التمرين أن عددا كبيرا من الولايات داخل الولايات المتحدة سيواجه تحديات متعددة عندما تطلب موارد من الحكومة الفيدرالية، وذلك لعدم وجود آلية موحدة وشاملة وجيدة التنفيذ لطلب الموارد. إضافة إلى ذلك، حُدِّد سوء التواصل المحتمل باعتباره أحد القضايا الرئيسية، حيث يوجد احتمال ألّا تصل المعلومات عن تطبيق إجراءات تخفيف ندرة الموارد على نحو واضح لجميع الولايات.
وعلى الرغم من أن التمرين كشف عن قوة متأصلة في بنية الجهود التعاونية بين الوكالات الفيدرالية والوكالات على مستوى الولايات، لم يحدث سوى القليل من التقدُّم المتوقع مقارنة بالتمرين السابق الذي أجري في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي حين وفر التمرين فرصة لكل مستويات المنظمات الحكومية وغير الحكومية للتدريب على كيفية تنفيذ إجراءات الاستجابة في حال تفشي الإنفلونزا، فإن عجز السلطة التنفيذية والسلطات القانونية عن تزويد الهيئات المختلفة بالآليات المناسبة لاحتواء الأزمة ترك العديد من الأسئلة دون إجابة.
السيناريوهات المستقبلية وخريطة طريق إدارة الأزمات
ستؤدي ديناميات العولمة والنمو السكاني إلى المزيد من الأوبئة وحالات تفشي الفيروسات التي ينبغي اعتبارها من بين أكبر مهددات الأمن الوطني في جميع أنحاء العالم. وفي ظل انتشار الاحتجاجات المناهضة لعمليات الإغلاق في جميع أنحاء الولايات المتحدة[24]، والتي أيّد الرئيس ترامب وشجّع كثيراً منها، فإن استجابة البلاد لانتشار فيروس “كوفيد-19” في جميع الولايات الخمسين تعطي صورة مشوَّشة حتى الآن. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في هذه الورقة، فمن دون خطة وطنية شاملة وواضحة، من المرجح أن تصبح قيادات حكومات الولايات المحلية عنصراً دائماً في التخطيط الأمريكي للطوارئ والاستجابات للوقاية من الأوبئة في المستقبل.
مع ذلك، فقد أظهرت الأشهر القليلة الماضية أنه بدون إيكال توفير التمويل اللازم والمسؤولية السياساتية لمنظمات حكومية محددة، وفي ظل غياب خطة حكومية فيدرالية موحدة يمكن أن تنفذها الولايات على كافة الأصعدة، وعدم توفير آليات فحص على نطاق واسع يمكن للمواطنين الوصول إليها بأنفسهم في أقرب وقت ممكن، لن تستطيع حكومات الولايات المحلية القيام بأكثر من احتواء انتشار المرض. إن تداعيات التنافر في قنوات الاتصال على أرض الواقع تظهر في الاحتجاجات المناهضة للإغلاق، والتي قد تفاقم الخطر على حياة مئات الألوف من مواطني الولايات المتحدة الأمريكية والمقيمين بها.
ترى هذه الورقة أن الاستجابات الأمريكية المستقبلية تتطلب إجراءات منسقة تنسيقاً أفضل ومدروسة على نحو جيد، غير أن كلاً من الاستجابة المنسقة والإجراءات الوقائية سيكون من الصعب تنفيذها نظراً إلى عدم كفاية التنسيق بين المستجيبين من القطاعات العسكرية والإنسانية والصحية. وفي هذا الصدد، لا بد من توفير التمرين والتدريب وضباط الاتصال وتقديم شرح تفصيلي للموظفين وتبادل المعلومات على مستوى الإدارة العليا، كما أظهرت عملية “الشتاء المظلم” وعملية “العدوى القرمزية” ذلك. ولا بد من وجود توجيه مركزي قوي من أجل صياغة استجابة فورية لتمرينات الطوارئ الاستباقية والوقائية لمواجهة الأوبئة المستقبلية، نظراً إلى احتمال تكرارها في المستقبل.
ونظراً إلى أن الاستجابة المثلى تتطلب تعاوناً عالمياً فعالاً، فستستفيد الولايات المتحدة الأمريكية من الإلمام الأعمق بالاستجابة الدولية للأزمات وجهود إدارة الأوبئة. وفي ضوء التجارب العالمية المعاصرة مع حالات التفشي الفيروسي، تم تدشين “برنامج الأمن الصحي العالمي”[25] في عام 2014 بهدف خلق عالم أكثر أماناً وأمناً من المهددات الصحية العالمية وفقاً لمبدأ المسؤولية المشتركة. ويتمثل أحد الأهداف الرئيسية لبرنامج الأمن الصحي العالمي في تعزيز قدرات الدول على كبح الأمراض المعدية وتفشي الفيروسات، وعلى كشفها والاستجابة لها.
وبفضل هذا البرنامج، توفرت معلومات في أزمة “كوفيد-19” الحالية أكثر مما كان متوفراً في أي حالة تفشي فيروسي في السابق في ما يتعلق بأيّ الدول أفضل استعداداً وإلى أين يجب أن يوجه المجتمع الدولي المساعدة. ومن شأن هذه المعرفة أن تعزز قدرة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على الإحاطة بالحالة الوبائية، واستجابات الحكومات على المستوى الوطني في جميع أنحاء العالم. وهذا يعني أن الوكالات الصحية وغير الصحية تحتاج إلى نهج مشترك لرصد التهديدات الوبائية المستجدة.
عند وضع جهود التعافي والوقاية المحتملة، يجب على الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي الإقرار بالفجوات الكبيرة التي كشف عنها وباء إيبولا في ما يتعلق بالاستعداد والقدرة على الاستجابة للأمراض المعدية. فعندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعبئة بعد فشل منظمة الصحة العالمية في احتواء وباء إيبولا عام 2015، كانت أوجه القصور التي ظهرت في كل وكالة رئيسية معنية بالصحة والأمن في الحكومة الأمريكية تشير إلى أهمية الاستجابة السريعة في الوقت المناسب على المستويين الفيدرالي والمحلي (مستوى الولايات) في المراحل المبكرة من تفشي المرض.
إن مجرد الحفاظ على المستوى الحالي للقدرة على الاستجابة باعتباره قدرة دائمة سيكون غير كاف على الأرجح. فهناك حاجة ملحة لابتكار نهج جديد، من أجل مصلحة المواطنين الأمريكيين والمجتمع الدولي الذي يتطلع إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على التوجيه والقيادة.
المراجع:
[1]United States Covid-19 Cases.” Worldometer, www.
2] Shear, Michael D. “Trump Attacks W.H.O. Over Criticisms of U.S. Approach to Coronavirus.” The New York Times, 8 Apr. 2020, www.nytimes.com/2020/04/07/us/politics/coronavirus-trump-who.html.
[3] Official Twitter Account of the President of the United States of America, 8 Apr. 2020, https://twitter.com/realDonaldTrump/status/1251169217531056130
[4] Press Release. The White House, The United States Government, www.whitehouse.gov/openingamerica/.
[5] Monaco, Lisa, and Vin Gupta. “The Next Pandemic Will Be Arriving Shortly.” Foreign Policy, 28 Sept. 2018, www.foreignpolicy.com/2018/09/28/the-next-pandemic-will-be-arriving-shortly-global-health-infectious-avian-flu-ebola-zoonotic-diseases-trump/.
[6] Mervosh, Sarah, et al. “See Which States and Cities Have Told Residents to Stay at Home.” The New York Times, 24 Mar. 2020, www.nytimes.com/interactive/2020/us/coronavirus-stay-at-home-order.html.
[7] Jin, Beatrice. “How Many Coronavirus Cases Have Been Found in Each U.S. State.” POLITICO, 16 Mar. 2020, www.politico.com/interactives/2020/coronavirus-testing-by-state-chart-of-new-cases/.
[8] Klar, Rebecca. “Memphis Congressman Asks Tennessee, Neighboring States to Issue Shelter-in-Place Orders.” TheHill, 31 Mar. 2020, www.thehill.com/homenews/house/490405-memphis-congressman-asks-tennessee-neighboring-states-to-issue-shelter-in.
[9] Kumar, Anita. “Trump Works to Rewrite Narrative on Coronavirus Response.” POLITICO, 24 Mar. 2020, www.politico.com/news/2020/03/24/trump-coronavirus-campaign-reelection-145007.
[10] “Coronavirus in the U.S.: Latest Map and Case Count.” The New York Times, The New York Times, 3 Mar. 2020, www.nytimes.com/interactive/2020/us/coronavirus-us-cases.html
[11] Philip Rucker, Josh Dawsey. “As Testing Outcry Mounts, Trump Cedes to States in Announcing Guidelines for Slow Reopening.” The Washington Post, WP Company, 16 Apr. 2020, www.washingtonpost.com/politics/as-testing-outcry-mounts-trump-cedes-to-states-in-announcing-guidelines-for-slow-reopening/2020/04/16/202ec300-7ffa-11ea-8013-1b6da0e4a2b7_story.html.
[12] Baker, Peter, and Maggie Haberman. “Trump Leaps to Call Shots on Reopening Nation, Setting Up Standoff With Governors.” The New York Times, 14 Apr. 2020, www.nytimes.com/2020/04/13/us/politics/trump-coronavirus-governors.html.
[13] “University of Maryland COVID-19 Impact Analysis Platform.” University of Maryland COVID-19 Impact Analysis Platform, www.data.covid.umd.edu/.
[14] “Mental Health and Coping During COVID-19.” Centers for Disease Control and Prevention, Centers for Disease Control and Prevention, 16 Apr. 2020, www.cdc.gov/coronavirus/2019-ncov/daily-life-coping/managing-stress-anxiety.html.
[15] Specktor, Brandon. “Coronavirus: What Is ‘Flattening the Curve,’ and Will It Work?” LiveScience, Purch, 16 Mar. 2020, www.livescience.com/coronavirus-flatten-the-curve.html.
[16] “COVID-19 Projections.” Institute for Health Metrics and Evaluation, www.covid19.healthdata.org/united-states-of-america.
[17] Pueyo, Tomas. “Coronavirus: The Hammer and the Dance.” Medium, Medium, 3 May 2020, medium.com/@tomaspueyo/coronavirus-the-hammer-and-the-dance-be9337092b56.
[18] Press Release. The White House, The United States Government, www.whitehouse.gov/openingamerica/.
[19] Roos, Dave. “How U.S. Cities Tried to Halt the Spread of the 1918 Spanish Flu.” History.com, A&E Television Networks, 11 Mar. 2020, www.history.com/news/spanish-flu-pandemic-response-cities.
[20] Kirchhoff, Christopher M. “NSC Lessons Learned: Study on Ebola.” Memorandum for Ambassador Susan E. Rice, 11 July 2016, www.int.nyt.com/data/documenthelper/6823-national-security-counci-ebola/05bd797500ea55be0724/optimized/full.pdf#page=1.
[21] Presidential Commission for the Study of Bioethical Issues, “Ethics and Ebola – Public health planning response,” Feb. 2015, https://bioethicsarchive.georgetown.edu/pcsbi/sites/default/files/Ethics-and-Ebola_PCSBI_508.pdf.
[22] “Dark Winter Exercise.” Johns Hopkins Center for Health Security, Center for Biosecurity, 13 Dec. 2019, www.centerforhealthsecurity.org/our-work/events-archive/2001_dark-winter/about.html.
[23] “Dark Winter Exercise.” Johns Hopkins Center for Health Security, Center for Biosecurity, 13 Dec. 2019, www.centerforhealthsecurity.org/our-work/events-archive/2001_dark-winter/about.html.
[24] Waldmeir, Patti, and David Crow. “US Anti-Lockdown Protests: ‘If You Are Paranoid about Getting Sick, Just Don’t Go out’” Financial Times, 22 Apr. 2020, www.ft.com/content/15ca3a5f-bc5c-44a3-99a8-c446f6f6881c.
[25] “Global Health Security Agenda.” Global Health Security Agenda, 19 Aug. 2019, www.ghsagenda.org/home/about-the-ghsa/.