تركز المقاربة التقليدية السائدة لدراسة مفهوم المحددات الجيو-اقتصادية والمعاهدات الإقليمية والاقتصادية والاستراتيجية على تقييم التحولات الاقتصادية والسياسية، وفهم صفاتها باعتبارها سمات ملازمة للمنافسة العالمية والإقليمية. ويمكن فهم هذه القضية على نحو أفضل باعتبارها إدارة دولية للأصول المالية والموارد في مناطق تريد المشاركة في سوق عالمية متزايدة التوسع.
ونظراً للأحداث التي شهدها العام الحالي 2020 قد خالفت التوقعات بشكل كبير، وبخاصة في ما يتعلق بالدور الذي تلعبه الولايات المتحدة والصين في إدارة أزمة “كوفيد-19″، وتزايد توسع هوة انعدام الثقة بينها، فإن هذا الوضع قد يدل على تحول مهم وربما غير مسبوق في مفهوم توازنات القوة السياسية الدولية، الأمر يفرض دراسة المتغيرات في التحالفات الدولية التي أفرزتها هذه الفترة.
وبينما تسعى دول النصف الغربي من المعمورة إلى إعادة ترتيب أوراقها بناءً على زخم الفترات الانتخابية المقررة لبلدانها وتوجهاتها الأيديولوجية، فإن دول النصف الشرقي تُظهر – على نحو متزايد – مؤشرات على التنسيق المتزايد فيما بينها. وتعتبر الصين وروسيا من دول النصف الشرقي المتوافرة فيها شروط كامنة لتحقيق التكامل بالنظر لأوجه التشابه الاقتصادي، والجغرافي، والثقافي، والأيديولوجي، والعرقي، والسياسي.
وستحاول هذه الورقة توضيح الجوانب الأبرز والمجالات الاستراتيجية لمستقبل تهيمن عليه المصالح الاقتصادية الصينية – الروسية، وكيف يمكن لهاتين الدولتين لعب دور مهم في المستقبل الجيو-اقتصادي والسياسي للعالم، حيث يمكن لحضارات بأكملها أن تحقق مكاسب على حساب دول النصف الغربي المتخم بالتناقضات (Dibb 2019).
مقدمة للشراكة الاقتصادية الصينية – الروسية
تتسم الجوانب الأبرز في التحالف الاقتصادي الصيني/الروسي باستنادها إلى جوانب مادية ملموسة؛ فمساحة الصين وروسيا (6.26 مليون كلم مربع) تتجاوز مساحة الولايات المتحدة وأوروبا بنحو 20 مليون كلم مربع. ويتجاوز تعداد سكانهما الذي يفوق 1,537 مليون نسمة بمرتين تعداد سكان أوروبا البالغ 741 مليون نسمة، وبخمس مرات تعداد سكان الولايات المتحدة البالغ 328 مليون نسمة.
كما تشترك روسيا والصين بحدود يبلغ طولها 4,300 كلم، وهذا يعني وجود اعتماد متبادل تاريخي وجغرافي، وهناك مزايا استراتيجية لعلاقة تجارية قوية التأثير مع وجود طلب كثيف على المواد الأولية ومشروعات البنية التحتية الضخمة التوّاقة لربط أوروبا بآسيا.
وفي المقابل يبدو حجم الاقتصاد الروسي البالغ 1.7 تريليون دولار شاحباً مقارنة بحجم الاقتصاد الأوربي (18.2 تريليون دولار)، أو الاقتصاد الصيني (13.6 تريليون دولار) أو الأمريكي (20.5 تريليون دولار). وتوحي هذه المقارنة بأن الشراكة الصينية/الروسية المحتملة ستنطوي مستقبلا على مبالغ أكبر من هذه الأرقام.
ويمكن تفسير بوادر هذه الشراكة المحتملة الصينية/الروسية من خلال التحولات الجيوسياسية التي تؤثر على العلاقات بين الشرق والغرب، منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، وما يُلاحظ من صعود مستمر للصين والمبادرات الروسية المتناسقة للمشاركة في الشؤون السياسية العالمية، وتطورات أعادت صياغة المفهوم العالمي للقوة الاقتصادية والسياسية في جميع أنحاء العالم.
كما يتميز التحول في الطيف السياسي العابر للقارات باستخدام قدرات المزيج الثقافي والسياسي الروسي كجسر اقتصادي وأمني يربط بين النصف الشرقي والنصف الأوروبي الغربي (Wallin, 2017). فقد استطاعت روسيا تعزيز تدخلاتها العسكرية، واستخدمت أيضاً مشروعات التعاون الاقتصادي مع أوروبا والصين اعتمادًا على موارد الطاقة الروسية (Korolev, 2018).
وتوضح هذه الخلفية لماذا كانت شركة غازبروم الروسية متعددة الجنسيات والمملوكة جزئياً للدولة راغبة في تعزيز روابطها التجارية مع الصين وألمانيا من خلال مشروعات ضخمة لتمديد أنابيب نقل الغاز والنفط إلى أوروبا؛ وفضلا عن هذا، قد أصبح البحث الثنائي الأطراف عن أسواق الطاقة، بقيادة روسيا، حجر الزاوية في دبلوماسية الطاقة الروسية مع النصف الغربي من الأرض.
أخيراً، فإن هذه الشراكة المتكاملة بين الصين وروسيا تتضمن سوق الطاقة كحجر أساس لا يمكن الاستغناء عنه لتطوير الروابط الاقتصادية الصينية-الروسية، وليس هذا فحسب، بل تهدف أيضاً إلى ضمان ترسيخ الاستقلالية لمساحات شاسعة كركيزة طبيعية لاستقرار السوق، وضمان الأمن والنمو الاقتصادي في النصف الشرقي من الكرة الأرضية.
أفق قصير الأمد للعلاقات الاقتصادية الروسية-الصينية
إلى جانب المنافسة، فإن الروابط الاقتصادية الصينية/ الروسية وآفاقها، تعتمد على تطوير مجالات متعددة للتعاون سياسياً واقتصادياً. وبالفعل، في حين يتميز الاقتصاد الصيني بسوق متنامي للطبقة الوسطى بنحو 400 مليون نسمة، وبأكبر سلسلة إمداد في العالم، فإن الاقتصاد الروسي يتسم باعتماده على الموارد الروسية ويتجه نحو تطوير التكنولوجيا.
والملاحظ أن الاختلافات الاقتصادية بين الدولتين ضيقت مجالات التعاون بينهما إلى حدود عام 1996 تاريخ توقيع الصين، وكازخستان، وروسيا، وطاجكستان اتفاقية تعاون باسم منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، والتي قرر الرئيس الصيني شي جين-بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إثرها لاحقا إنهاء سنين من النزاعات الحدودية بموجب معاهدة لترسيم الحدود بينهما، حيث أنهت معاهدة ترسيم الحدود بين البلدين التي أُبرمت عام 2008، بعد مفاوضات طويلة بين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ووزير الخارجية الصيني السابق يانغ جيتشي – هذه النزاعات الحدودية، وهيأت الأرضية لاتفاقيات لاحقة ومشروعات مشتركة.
وقد حقق هذا التعاون للبلدين مكاسب استراتيجية في مجالات عدة، لاسيما في مجالي البنية التحتية والاقتصاد الرقمي، وخاصة بعد تنفيذ الأنشطة المتزايدة للصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، الذي يمتلك رأسمال احتياطي بقيمة 10 مليارات دولار، واستطاع أن يجتذب أكثر من 40 مليار دولار، وأصبح عام 2011 محركًا رئيسيًا لتعزيز العلاقات التعاونية المباشرة وبناء الشراكة الاستثمارية والاقتصادية الصينية-الروسية خلال السنوات العشر الماضية. كما أصبح يضطلع بدور مهم ضمن جهود روسيا لبناء علاقات اقتصادية قوية مع منطقة الشرق الأوسط وآسيا،
وقد عمل الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، في هذا الإطار، أيضًا على تطوير شراكات اقتصادية مدروسة مع المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والصين، وقطر، والكويت، والبحرين، وكوريا الجنوبية، واليابان، وفيتنام؛ في مقابل محدودية هذه الجهود في الغرب وانحصارها في إيطاليا وفرنسا.
ولكي نفهم مستوى التنسيق للصندوق الروسي في الشرق، من الجدير ملاحظة التجاوب السريع والحازم من جانب روسيا في العمل مع أحد حلفائها، بالتحديد اليابان، لاعتماد نظام روسي- ياباني لتشخيص الإصابات بوباء “كوفيد-19” ووضعه قيد الخدمة بسرعة (وهو نظام يعتمد على التخطيط الكهربائي للعضلات EMG).
وقد تم خلال هذا العام (2020) استخدام هذا النظام الطبي في المستشفيات، والمختبرات، والمشروعات الصناعية الروسية للحصول على نتائج الاختبار خلال 30 دقيقة وتشخيص حالات العدوى بوباء كورونا، في حين تمظهر الإنجاز الرئيسي والأول للصندوق الروسي مع الصين في وضع شروط لتطوير البنية التحتية الاستراتيجية بين الدولتين.
وبدأت الشراكة بين البلدين في هذا المجال بمشروع بناء أول جسر بينهما بطول 500 كلم، ليحل محل الطرق الصينية/ الروسية القديمة، وهذا الجسر (طريق سريع) يربط بين بالجوفيشينسك في روسيا ومدينة هيهي في الصين، ومن المقرر أن يتم تدشين المشروع في منتصف 2021، وقد أعلن إطلاقه كيريل ديمترييف المدير التنفيذي الأول للصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة.
كما تمت، في وقت لاحق في عام 2018، إضافة برامج استثمارات في البنية التحتية بقيمة 100 مليار دولار للمحفظة الاستثمارية للمشروع، بهدف جذب الشركات الصينية والمستثمرين إلى روسيا للدخول في شراكة مع القطاعين العام والخاص، وهذه الشراكة تضمن العوائد على الأموال التي قدمتها الحكومة الروسية من خلال الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة.
الميزان التجاري بين الصين وروسيا: 2006-2020
الأزرق: الصادرات الأسود: الواردات الرمادي: الميزان التجاري
المصدر: خدمة الجمارك الفيدرالية الروسية؛ UN Comtrade; Trade Map
وتعتبر الشراكة الصينية/الروسية في مجال البنية التحتية نتيجة لتطور حجم الاستثمارات الاستراتيجية المباشرة التي تشكل 40% من إجمالي حجم الاستثمارات المقدمة من قبل الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، والتي يتم تخصيصها لمشروعات البنية التحتية الضخمة، وغالبًا تكون مرتبطة بمبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث يتم دمج الشراكات الأساسية بين القطاعين العام والخاص في الدولتين.
وفضلا عن هذا، يحظى نظام الشراكة باهتمام رئيسي البلدين اللذين قاما بتنسيق المزيد من الخطوات في عملية صناعة القرار بين عامي 2017 و2019 في لقاءات ضمن منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي في بكين، وهذه اللقاءات رفعت مستوى التعاون والتنسيق بين الدولتين، ووصلت بحجم التجارة المتبادلة بين الدولتين إلى 110 مليارات دولار عام 2019.
المؤشرات التكنولوجية للصين وروسيا
الدولة | مؤشر التنافسية العالمية 2019 | مؤشر التنمية التقنية (2017) | مؤشر تطوير الحكومة الإلكترونية 2018 | مؤشر البنية التحتية للاتصالات 2018 | مؤشر أداء الإمدادات اللوجستية
| مؤشر سهولة القيام بأعمال (المرتبة) 2020 | مؤشر توافر الإنترنت للسكان (المرتبة) 2019 |
روسـيا | 43 | 45 | 32 | 0.6219 | 75 | 28 | 19 |
الصين | 28 | 80 | 65 | 0.4735 | 26 | 31 | 42 |
المصدر: (Revinova & Lazanyuk, 2020) |
في حقل الاقتصاد الرقمي، يواصل صندوق التمويل الروسي للقطاعين العام والخاص العمل على مسار تطوير “طريق الحرير الرقمي” (Revinova & Lazanyuk, 2020)، وهو مبادرة بين حكومتين لتفويض تحالف صيني/ روسي للإشراف على جهود التنمية الصينية في مجالات: الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الكم، والتجارة الإلكترونية، والتكنولوجيا المالية (fintech).
ويفسر لنا هذا سبب استثمار هذا الصندوق عام 2018 في مشروع مشترك (مجموعة علي بابا) لكي يتم تشغيله في روسيا بنسبة 52%. وقد تم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن هذا المشروع المشترك في 9 أكتوبر 2019، بإعلان الصندوق، ومجموعة علي بابا، وشركة MegaFon، ومجموعة Mail.ru الروسية إطلاق المشروع المشترك الصيني/الروسي الرائد والعابر للدول، للعمل بصورة مشروعة داخل الدولتين، وتوزيع الحقوق الاقتصادية والتصويتية للبلدين بناء على مصالح مالكي الأسهم، بعد جولات عديدة من المفاوضات.
المشروعات الروسية-الصينية المشتركة في قطاع التكنولوجيا
عند الإغلاق | 194 مليون دولار من الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة لشراء العقود الآجلة | |||
الحقوق الاقتصادية | حقوق التصويت | الحقوق الاقتصادية | حقوق التصويت | |
مجموعة علي بابا | 55,7% | 49,9% | 47,8% | 47,6% |
MegaFon | 24,3% | 30,2% | 24,3% | 26,4% |
Mail.ru Group | 15,0% | 18,7% | 15,0% | 16,3% |
RDIF | 5,0% | 1,2% | 12,9% | 9,6% |
الإجمالي | 100,0% | 100,0% | 100,0% | 100,0% |
المصدر: الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة، مؤتمر صحفي بتاريخ 9 أكتوبر 2019
إن أحد الأهداف الأساسية لهذا التحالف هو توفير آلية مشتركة لتوحيد التعرفة الجمركية ومرور البضائع، وتوفير سلسلة إمداد ومنظومات الشحن، وتعزيز النفوذ المهيمن سلفاً للشركات الصينية العملاقة مثل: هواوي، ولينوفو، وZTI، وXiaomi، والشركات التي يُطلق عليها اسم BAT: الأحرف الأولى من (Baidu, Alibaba, Tencent)، وذلك بهدف إيصال التجارة الثنائية إلى مستوى 200 مليار دولار بحلول عام 2025.
وتهدف روسيا إلى توسيع قطاع تكنولوجيا الإنترنت والاتصالات الذي يتضمن مزيجاً من الشركات الخاصة والمملوكة جزئياً للدولة، مثل شركات: Yandex, Sverbank ؛Gazprom avtomatizatsiya؛ Rostec؛ Rostelecom؛ NCC؛ Rosatom؛ Kaspersky، إضافة إلى شركات أخرى.
وبناء على هذه القاعدة، فإن “طريق الحرير الرقمي الصيني-الروسي” يهدف إلى تحسين التطور الرقمي الروسي مع دعم جهود التحولات الرقمية في البلاد التي تقاس بناء على عدد مستخدمي الهواتف المتحركة، وامتلاك عامة الناس لوصلات إنترنت تعمل بالألياف البصرية (Alexeeva & Lasserre, 2018).
إن الشراكة الاقتصادية المتنامية بين روسيا والصين نابعة من واقع عملي مرتبط بقيادتهما الطبيعية وسيادتهما على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد تم تعزيز هذه الشراكة من خلال تأسيس منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في سنغافورة عام 1993. والتفاؤل الذي تبنيه هذه الدول على مستقبل النصف الشرقي من الكرة الأرضية يعتمد على الدور الاقتصادي الذي يلعبه منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ APEC))، الذي تستحوذ دوله على أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويعيش على أراضيها 2.9 مليار نسمة، وتسجل معدل نمو اقتصادي يصل تقريباً إلى ضعف معدل نمو بقية دول العالم، حيث يبلغ متوسط النمو السنوي لدول هذا المنتدى 5-6%.
الآفاق المستقبلية
إن التقارب المتزايد بين الصين وروسيا يمثّل مؤشراً استراتيجياً واضحاً على كبح جماح الهيمنة الجيوسياسية التي كان يتمتع بها النصف الغربي من الكرة الأرضية، وبالتحديد هيمنة الولايات المتحدة (تقرير الكونغرس الأمريكي 2019). لقد بدأ تطور العلاقات بين هاتين الدولتين مع انتعاش تمثيلهما الدبلوماسي بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين عام 1991. وهناك مؤلفون مثل جوزيف ناي (Joseph Nye) أوضحوا كيف أن “انهيار الاتحاد السوفييتي” كان يعني ضمنياً “أن التحالف الأمريكي-الصيني القائم في الواقع قد انتهى وبدأ التقارب الصيني- الروسي.
وقد بدأ هذا التقارب منذ عام 1992 بإعلان الدولتان أنهما تسعيان إلى بناء “شراكة بنّاءة”؛ وفي عام 1996، توجهتا نحو بناء “شراكة استراتيجية”؛ وفي عام 2001، وقّعتا معاهدة “الصداقة والتعاون”. (J. Nye, 2015) وهذا التطور السريع يرتكز على مجموعة من المتغيرات الجيو-اقتصادية والسياسية، التي تشكّل الآفاق المستقبلية للمصالح الاقتصادية والسياسية بين تلك الدولتين، عبر دمج الجذور التجارية، والثقافية، والسياسية، والحضارية التي تستطيع تحديد شكل القوة العالمية المستقبلية بثقة.
ممر بحر الشمال والدخول إلى تجارة القطب الشمالي
إن المساحات الشاسعة للصين وروسيا تمنح سمات ومزايا بحكم الأمر الواقع لقدراتهما الديموغرافية والتنموية، إلى جانب مواردهما الطبيعية المشتركة والوفيرة؛ فروسيا تقع في أقصى شمال الكرة الأرضية، على خط العرض 60 شمالاً، وتغطي مساحتها امتدادات واسعة لخطوط الطول ومناطق توقيت عديدة تشمل توقيتات أوروبا والشرق الأوسط والصين. وهذا الموقع الجغرافي يضمن لروسيا الهيمنة على ممرات الملاحة في القطب الشمالي، ويضمن دخولاً صينياً-روسياً مشتركاً إلى منطقة القطب الشمالي، مع بعض كبريات الشركات الملاحية والصناعات التحويلية الأكثر نفوذاً في بكين.
ولهذا السبب، ومنذ بداية عهد إدارة بوتين عام 2005، قدمت البنوك الصينية قروضاً ودفعات مسبقة إلى شركات الطاقة الروسية، وهذا أتاح للصين أن تفرض احتكاراً على خط أنابيب الطاقة الروسي التابع لشركتي روسنفت وترانسنفت في عام 2009. وأنقذت الصين، في وقت لاحق من عام 2013، شركة روسنفت من الانهيار مرة ثانية، مقابل الحصول على 2.64 مليار برميل من النفط على مدى 25 سنة القادمة.
ممرا بحر الشمال وقناة السويس
المصدر: الإيكونوميست (The Economist)
أخيراً، وفي عام 2016، قدمت الشركات الصينية تمويلاً خارجياً إلى شركة يامال (Yamal) وهي شركة روسية-أمريكية تخضع للمقاطعة والحظر، من خلال صندوق تمويل طريق الحرير. وقد أطلقت شركة يامال للغاز الطبيعي المسال (Yamal LNG) عام 2014 واحداً من مشروعات الغاز الطبيعي الأكثر تعقيداً، بهدف تحقيق مكاسب كبيرة من مصادر الغاز على اليابسة في شبه جزيرة يامال الروسية، بالتعاون مع شركات: نوفاتك (Novatek)؛ CNPC (شركة البترول الوطنية الصينية)؛ وصندوق تمويل طريق الحرير.
وتقع شبه جزيرة يامال فوق الدائرة القطبية الشمالية، وهي منطقة نائية وتبقى متجمدة طوال سبعة إلى تسعة أشهر في السنة، وتصل درجة الحرارة فيها إلى 50- درجة مئوية؛ وهذا يتطلب حتما الشحن البحري عبر المنطقة بواسطة ناقلة كاسرة للجليد لنقل الغاز الطبيعي المسال، بحيث يتم تدشين خط الملاحة عبر بحر الشمال تحت دائرة القطب الشمالي، ويضمن نقل الغاز إلى الصين في رحلة تستغرق 15 يوماً؛ وهذا الممر يُعتبر بديلاً للمرور عبر قناة السويس الذي يستغرق 30 يوماً لوصول السفن إلى الصين مروراً عبر مضيق بيرنغ.
عدم التماثل الجيوستراتيجي والمصالح المتبادلة المستجدة
إن الشراكة الاستراتيجية، والتعاون الرقمي، والحدود المشتركة، والبنية التحتية الداخلية، والمشروعات المالية المشتركة، ومشروعات ممر بحر الشمال، والتآزر المتزايد بين الدولتين؛ جميعها عوامل تخدم التنسيق والتواصل المستمرين بين النظامين الحاكمين في البلدين، وتعزز الروابط الأيديولوجية والسياسية التي تجمع بينهما. وبالفعل، فإن بناء تحالف اقتصادي وحيد يوضح بسرعة حالة الأسواق غير المتماثلة، والقدرات الصناعية للدولتين، وسط ضغوط متزايدة بصورة دائمة من جانب الغرب (Kaczmarski, 2016).
معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في روسيا من 2009 إلى 2021
(بالمقارنة مع السنة السابقة)
المصدر: قاعدة بيانات آفاق الاقتصاد العالمي، إبريل 2020
يوضح هذا الرسم البياني كيف تبنّت روسيا – خلال العقدين الماضيين – استراتيجية للبقاء بعد نهاية الحرب الباردة، حيث وجّهت اقتصادها ليتآزر مع الشرق. وأصبحت، في الوقت نفسه، هذه الاستراتيجية، وسيلة سياسية رادعة للعلاقات العسكرية والتجارية الصينية مع العالم. وخلال الفترة الزمنية ذاتها جاءت العقوبات الدولية بعد الاستفتاء المثير للجدل في ما يخص شبه جزيرة القرم عام 2014، وما أعقبه من ضم شبه جزيرة القرم ومدينة سيباستوبول باعتبارهما المقاطعتين الفيدراليتين 84 و85 من روسيا. وقد أشعلت هذه القضية توتراً دراماتيكياً بين روسيا والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أدى إلى انكماش سريع في الاقتصاد الروسي، حيث هبط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنهاية 2015 إلى مستوى 1.96- في المائة (حسب تقرير صندوق النقد الدولي IMF, World Economic Outlook Report, 2019).
وبالفعل أدت عملية ضم شبه جزيرة القرم إلى تسريع التدخل الفعال من جانب الولايات المتحدة وأوروبا، بقيادة ألمانيا، لفرض تطبيق عقوبات اقتصادية قاسية على الاقتصاد الروسي الذي كان متعثراً أصلاً، حيث مُنعت الشركات والتعاملات التجارية والاستثمارات الأمريكية من دخول شبه جزيرة القرم المحتلة. كما فُرضت عقوبات على المشروعات والتطورات المتعلقة بالتجارة في المياه الروسية العميقة، ومنطقة القطب الشمالي، أو عقوبات على مشروعات النفط الصخري (تقرير الكونغرس Congress Service, 2020).
معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين من 2011 إلى 2019
مع تنبؤات للنمو حتى 2021
قاعدة بيانات آفاق الاقتصاد العالمي/صندوق النقد الدولي، إبريل 2019
إن هذه الأرقام تختلف بشكل واضح عن المعدلات التي حققتها الصين قبل أزمة وباء “كوفيد-19″، حيث كان متوسط النمو أعلى من 7%، وهذا التراجع أثر بشكل كبير على سلاسل الإمدادات العالمية التي كانت تُصدّر من الصين. وتغلبت، علاوة على هذا، الصين على تحدي جائحة “كوفيد-19” من خلال تطبيق إجراءات سريعة للسيطرة على التأثير الاجتماعي، وهذا يختلف كلياً عن تأثير الجائحة في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة (تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي، 2020). إن هذا التنسيق المؤسساتي في الصين ينسجم هيكلياً مع النظام السياسي الروسي الذي سمح للرئيس بوتين في يوليو 2020 أن يمدد فترة رئاسته حتى عام 2036.
لقد وافق الحزب الشيوعي الصيني والحكومة الروسية على التنسيق المتبادل والجهود المشتركة التي يمكن أن تعمّق وتعزز التعاون الاقتصادي والسياسي في السنوات القادمة. وهذا التوجه أصبح ساري المفعول، بينما يتم تحليل الاضطرابات الاجتماعية التي حدثت مؤخراً في الغرب، مع إعادة ترتيب الدبلوماسية الغربية في مواجهة الأوضاع بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ وفي هذه الفترة تكرّس الولايات المتحدة جهودها للتغلب على جائحة كورونا، وفي الوقت نفسه تسعى جاهدة لكي تعالج الاضطرابات الاجتماعية التي تزايدت على أراضيها.
هذه المتغيرات يمكن أن تعيد تشكيل التحالفات الاقتصادية والسياسية التاريخية، ويمكن أن تعزّز المقاربة الفكرية لمنظومات الحكم والإدارات المحلية والإقليمية. إن الوتيرة التي تسير بها الأحداث الاقتصادية بين الصين وروسيا، يمكن أن تعرقل عمل اللاعبين الذين لا يألفون القواعد التي كانت سائدة في القرن الماضي. ولهذا السبب، فإن التحالف الوثيق بين الصين وروسيا يمكن أن يُنتج ترتيبات أعمق للدبلوماسية في المنطقة الأوراسية لتصل إلى مستويات غير مسبوقة من الضخامة والأهمية.
المراجع
Alexeeva, O., & Lasserre, F. (2018, September 1). The Evolution of Sino-Russian Relations as Seen from Moscow: The Limits of Strategic Rapprochement. Olga Alexeeva and Frédéric Lasserre.
Congress Service, R. (2020). U.S. Sanctions on Russia: An Overview. Congress of the United States of America, Washinton.
Dibb, P. (2019, November). How the geopolitical partnership between China and Russia threatens the West. Australian Strategic Policy Institute(Special Report).
IMF, I. M. (2019). World Economic Outlook Report.
IMF, I. M. (2020). World Economic Outlook Report.
Kaczmarski, M. (2016, March). The asymmetric partnership? Russia’s turn to China. Marcin Kaczmarski, 53(3).
Korolev, A. (2018). Beyond the Nominal and the Ad Hoc: The Substance and Drivers of China-Russia Military Cooperation. Insight Turkey, 20(1).
Nye, J. S. (2015). A New Sino-Russian Alliance?A New Sino-Russian Alliance? Project Syndicate. Retrieved from https://www.project-syndicate.org/commentary/russia-china-alliance-by-joseph-s–nye-2015-01
RDIF, R. D. (2018). Investing in the Future. Annual Review.
Revinova, S., & Lazanyuk, I. (2020). Digital Silk Road as an Integration Project: Opportunities for Russia. 2nd International Scientific and Practical Conference “Modern Management Trends and the Digital Economy: from Regional Development to Global Economic Growth” (MTDE 2020).
USA Congress, U. C. (2019). Hearing On An Emerging China-Russia Axis? Implications For The United States In An Era Of Strategic Competition. Washington.
Wallin, M. (2017, November). U.S. Foreign Policy Toward Russia. An overview of Strategy and Considerations. American Security Project.