شهد النفوذ السياسي الإيراني خلال العقود الأخيرة توسعاً مستمراً تمثل في ممارسات دبلوماسية عكست الطبيعة الأيديولوجية للنظام الحاكم وأهدافه. وأسهمت هذه الممارسات في إعادة رسم ملامح السياسة الدولية في منطقة الشرق الأوسط، وحددت شكل علاقات إيران مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وشكل تحالفاتها مع أمريكا اللاتينية؛ ففي الوقت الذي تزايد فيه اهتمام الغرب بمناطق نفوذ طهران في الشرق الأوسط، قوبل ذلك بذكاء دبلوماسي إيراني ركز العمل على مناطق استراتيجية في أمريكا اللاتينية. إذ واصلت إيران خلال العقدين الماضيين، تعزيز علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع دول مختارة بعناية في أمريكا اللاتينية، وقامت بتطوير روابط تجارية واستثمارات معها، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في تغذية مناخ عدم الاستقرار السياسي في تلك المنطقة من العالم.
مراحل بناء العلاقات بين إيران ودول أمريكا اللاتينية
مرت العلاقات السياسية والاقتصادية بين إيران ودول أمريكا اللاتينية بمرحلتين تاريخيتين، ارتبطت أولاهما بتأسيس النظام الإيراني عقب قيام الثورة الإسلامية عام 1979، فيما ارتبطت ثانيتهما بوصول أحزاب أقصى اليسار في كل من كوبا وفنزويلا إلى الحكم وما ترتب على ذلك من نشوء حالة من عدم الاستقرار في هذه المنطقة منذ عام 2000، ويمكن رصد طبيعة هذه العلاقات خلال هاتين المرحلتين على النحو التالي:
المرحلة الأولى:
أسهمت السياسات الثورية التي تبنّتها إيران عقب قيام الثورة الإسلامية في إعادة تشكيل علاقاتها مع الدول الغربية ودول منطقة الشرق الأوسط، كما حددت طبيعة علاقاتها مع الدول المستقبِلة لشتات الإيرانيين الذين دفعتهم الثورة تدريجياً، إلى الانتقال للعيش في بلدان أخرى، مثل: الأرجنتين، وإرساء علاقات سياسية واجتماعية، أو الانخراط في الحياة الاقتصادية لدول أخرى، مثل: كولومبيا، وخاصة في بعض مدنها مثل بوغوتا، وبارانكيا، وسانتا مارتا، وميديلين.
المرحلة الثانية:
استفادت إيران خلال هذه المرحلة في علاقاتها الاقتصادية مع أمريكا اللاتينية، من النفوذ الإقليمي لنظام حكم هوغو شافيز الذي أصبح رئيساً لفنزويلا عام 1999، والذي سرّع وتيرة انحدارها بسياسات فاشلة شملت تمويل تحالفات مع أنظمة راديكالية مثل إيران. وبحلول عام 2005 وتولي محمود أحمدي نجاد منصب الرئاسة في طهران، شارك النظامان الفنزويلي والإيراني في ممارسات دبلوماسية متنامية تجاه بوليفيا، والإكوادور، والأرجنتين، ونيكاراغوا، وكوبا، هدفت إلى توسيع روابط ثيوقراطية بدول وكيلة في المنطقة وإعادة تشكيل النفوذ الاقتصادي والسياسي الإيراني فيها.
وفي تأكيد على اهتمام إيران بأمريكا اللاتينية في هذه المرحلة، سافر أحمدي نجاد إلى دول القارة بين عامي 2005 و2013 مرة واحدة على الأقل كل سنة[1]. ولوحظ في الفترة نفسها، ارتفاع عدد المشروعات الإيرانية في الأرجنتين، والبرازيل، وكوبا، والمكسيك، وفنزويلا. كما تم إرساء علاقات دبلوماسية مع النظام الإيراني، وفُتحت سفارات لإيران في كلٍّ من بوليفيا، وتشيلي، وكولومبيا، ونيكاراغوا، والأوروغواي[2].
وعرفت الدبلوماسية الإيرانية كذلك دينامية مهمة مع تسيير رحلات جوية أسبوعية بين فنزويلا وإيران عام 2007 من خلال شراكة بين الخطوط الجوية الإيرانية وشركة الطيران Conviasa الفنزويلية[3]. كما أعلن الرئيسين شافيز ونجاد، في العام ذاته، تأسيس صندوق مشترك بقيمة ملياري دولار لتمويل الاستثمارات في البلدين[4]. بالإضافة إلى ذلك، أُعلن عام 2009 عن تأسيس بنك التنمية الإيراني-الفنزويلي بقيمة 200 مليون دولار[5].
الطوفان اليساري: أنظمة من أقصى اليسار استفادت من طفرة السلع في أمريكا اللاتينية بعد عام 2000
خلال الفترة التي امتدت من نهاية تسعينيات القرن الماضي حتى عام 2015 التي عُرفت باسم “الطوفان اليساري (الزهري)” في أمريكا اللاتينية، تزامن الوجود الإيراني في المنطقة مع تطورات جيوسياسية أفرزت وصول قيادات من أقصى اليسار إلى الحكم، التي ازدهرت بفضل طفرة السلع في العقد الأول من الألفية الثالثة. لكن بحلول منتصف عام 2010، عندما بدأت أسعار النفط الخام بالهبوط، فقدت تلك الأنظمة التأييد الشعبي. كما أدت وفاة شافيز، عام 2013، إلى تفاقم الكارثة الاقتصادية في فنزويلا، وشهدت دول أخرى مثل الأرجنتين والبرازيل والإكوادور أزمات اقتصادية وسياسية، وحوكم بعض الرؤساء السابقين فيها بتهم فساد.
وبرغم أن العلاقات بين طهران وكاراكاس كانت في ذروتها في عهد شافيز وخاتمي، فإنها عرفت دفعة جديدة بوصول محمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة عام 2005 حيث أطلق البلدان مشروعات عديدة خلال الزيارات الكثيرة المتبادلة، ووقعا على أكثر من 270 اتفاقية لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية بينهما. ونتيجة لذلك ارتفعت قيمة الصادرات الإيرانية إلى أمريكا اللاتينية من نحو 18 مليون دولار في عام 1997، إلى 112.3 مليون دولار عام 2006. وقد ظلت هذه الأرقام في ارتفاع متواصل حتى بلغت عام 2016 نحو 189 مليون دولار بحسب تقديرات تقارير البنك الدولي. ولم تعلن “حلول التجارة العالمية المتكاملة” التابعة للبنك الدولي إجمالي حجم الصادرات الإيرانية إلى أمريكا اللاتينية عام 2017 مكتفية بإعلان بعض منها، لكن مكتب إدارة الجمارك الإيرانية أعلن عن القيمة المقدرة للتجارة بين الجانبين حيث اقتربت من نحو 70 مليون دولار، كما يتضح من الأشكال التالية:
ويوضح الجدول التالي صادرات إيران إلى دول أمريكا اللاتينية عامي 2016 و2017 بحسب القطاع، حيث حاز قطاع الكيماويات الحصة الأكبر من هذه الصادرات إذ بلغ 58.8% و47% عامي 2016 و2017 على التوالي، تلاه قطاع المعادن بنسبة 31.3% و20.7%، ثم قطاع المنسوجات والألبسة بنسبة 2.7% و13.2%، والخضروات بنسبة 3.3% و8.9%.
صادرات المنتجات الإيرانية إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي المصدر: “حلول التجارة العالمية المتكاملة”، البنك الدولي | ||
الحصة حسب كل قطاع | ||
فئات المنتجات | 2016 | 2017 |
جميع المنتجات | 100 | 100 |
الكيماويات | 56.8 | 47.0 |
المعادن | 31.3 | 20.7 |
المنسوجات والألبسة | 2.7 | 13.2 |
الخضروات | 3.3 | 8.9 |
الحجارة والزجاج | 2.4 | 3.9 |
مختلف أنواع الوقود | 0.5 | 3.3 |
البلاستيك والمطاط | 0.5 | 1.9 |
الآلات والإلكترونيات | 0.1 | 0.3 |
الجلود والجلود المدبوغة | 2.2 | 0.3 |
منوعات | 0.0 | 0.2 |
النقل | 0.1 | 0.1 |
الخشب | 0.1 | 0.1 |
الحيوانات | 0.0 | 0.0 |
منتجات غذائية | 0.1 | 0.0 |
مواد معدنية | 0.0 | 0.0 |
وقد عرفت التجارة بين الجانبين تحسناً كبيراً خلال عامي 2018 و2019. وأشارت التقديرات إلى أن حجم الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى أمريكا اللاتينية بلغت 500 مليون دولار عام 2018، بينما بلغت قيمة الواردات الإيرانية 511 مليون دولار. وخلال هذه الفترة كانت البرازيل الشريك التجاري الأكبر لإيران في أمريكا اللاتينية، تلتها المكسيك، ثم كولومبيا، ثم تشيلي وفنزويلا.
علاوة على ذلك، كشفت البيانات الواردة في التقرير الذي نشره مكتب إدارة الجمارك في إيران عن عام 2019، تسجيل نمو مهم في تجارة المنتجات غير النفطية التي تجاوزت قيمتها 800 مليون دولار للسنة المالية 2018-2019[6]. وشملت الصادرات الإيرانية، خلال هذه الفترة – وفقاً للتقرير نفسه – منتجات الحديد والفولاذ الصافية وشبه منتهية التصنيع، والآلات، وبلاط الأرضيات، والمنسوجات، والفستق، والزجاج المصقول، والعنب المجفف. كما تضمن التقرير ذاته تفاصيل مرتبطة بإعادة ترتيب أكبر الشركاء التجاريين لإيران في أمريكا اللاتينية، حيث ظلت البرازيل تتصدر قائمة المصدرين لإيران، تليها الأرجنتين في المرتبة الثانية.
في المقابل، وكما يوضح الشكل التالي، بلغت الواردات الإيرانية من أمريكا اللاتينية نحو 1660 مليون دولار عام 2016، وأكثر من 1000 مليون دولار عام 2017 حسب سجلات البنك الدولي. وتكشف هذه الأرقام أن هناك عجزاً تجارياً كبيراً للنظام الإيراني في تجارته مع أمريكا اللاتينية.
محور التجارة والاستثمار والتمويل
يسلط الجزء التالي من الورقة على علاقة إيران مع بعض دول أمريكا اللاتينية وطبيعة هذه العلاقات وتطورها وذلك على النحو التالي:
فنزويلا: توظيف استثمارات غير مستدامة كمناورة سياسية
ظلت فنزويلا إلى حد كبير تمثل المركز الرئيسي للأنشطة السياسية الإيرانية في المنطقة وذلك حتى عام 2017 حين تراجع بشكل كبير حجم التجارة الإيرانية مع هذا البلد في مقابل تصاعد شركاء اقتصاديين جدد لإيران ذوي أهمية استراتيجية في المنطقة. فبحسب بيانات البنك الدولي لعام 2017، بلغ حجم الصادرات الإيرانية إلى فنزويلا 363 مليون دولار. علاوة على ذلك، أدى تدهور الاقتصاد الفنزويلي بسرعة كبيرة إلى تراجع العديد من المبادرات التجارية الخاصة القديمة منها والجديدة بين البلدين. وفي إطار العلاقات التجارية غير النفطية القائمة بين البلدين، تتركز التجارة الإيرانية في ثلاثة قطاعات اقتصادية في فنزويلا، هي: تجارة التجزئة، والنقل الجوي، والإعلام.
وتمثلت أحدث الاستثمارات التجارية للقطاع العام الإيراني في قطاع التجزئة الفنزويلي، في افتتاح عيسى رضائي الذي كان يُعرّف في محطات التلفزيون الفنزويلية بأنه نائب وزير التجارة الإيراني، سوبر ماركت يحمل العلامة التجارية Megasis، إذ تم افتتاح المقر الأول في كاراكاس في 20 يوليو 2020، متضمناً نحو 2500 منتج إيراني للعرض في السوق الفنزويلية. وتمتلك Megasis نحو 700 سوبر ماركت في إيران، وتخطط للتوسع في منطقة أمريكا اللاتينية، عارضة منتجات تجارية مرتبطة بشركة (Etka) الإيرانية التي تُعتبر صندوق تأمين لقدماء المحاربين الإيرانيين[7]،[8]، ويرأسها عيسى رضائي أيضاً، المدرج اسمه على القائمة السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية لأنه تابع لوزارة الدفاع الإيرانية والقوات المسلحة والإمدادات اللوجستية، حسب تقارير وزارة الخزانة الأمريكية[9].
وحاولت الدولتان باستمرار الحفاظ على علاقات شراكات عديدة في قطاع شركات الطيران، غير أن تلك الشراكات اختفت مع مرور الوقت. وبحلول عام 2019، أعادت إيران وفنزويلا تفعيل اتفاقيات موقعة في قطاع النقل الجوي سمحت لشركة الطيران الإيرانية “ماهان إير” استئناف رحلات مباشرة إلى فنزويلا. وبرغم أن هذه الشركة مدرجة على القائمة السوداء في الولايات المتحدة، وممنوعة من السفر إلى فرنسا وألمانيا أيضاً، فقد أكّد رضا جعفر زاده، الناطق الرسمي باسم مؤسسة الطيران المدني الإيرانية، تفعيل هذه الاتفاقيات في إبريل 2019.
وبحسب بعض المعلومات، نقلت شركة “ماهان إير” مواد كيماوية محفزة إلى مصفاة تكرير البترول الفنزويلية أمواي (Amuay)، تعود ملكيتها إلى مجمع باراغونا لتكرير البترول؛ الأمر الذي يشير إلى أن هناك مجموعة اتفاقيات تقوم بموجبها إيران بتقديم الدعم الاستراتيجي إلى فنزويلا. وقد تأكدت هذه المعلومات في تقارير منشورة، تحدثت عن رحلات جوية تغادر مطار الخميني الدولي في إيران وتهبط في مطار بيدرا جوزيفا كاميجو الدولي في فنزويلا[10].
بالإضافة إلى ذلك، بذل البلدان جهوداً مشتركة في قطاع الإعلام لتطوير تكتلات إعلامية نافذة في أمريكا اللاتينية، وانعكست هذه الجهود في تطوير شراكة في أسماء إعلامية تجارية أطلقت في عهد شافيز، مثل قناتي Telesur and Hispan التلفزيونيتين اللتين تبثان من طهران وكاراكاس منذ عام 2009. وتعتبر قناة Hispan في الأصل مشروعاً إيرانياً أُسس خلال ما يُسمى الحركة الخضراء التي رافقت الانتخابات الإيرانية عام 2009. وقد صيغ هذا المشروع بالتعاون مع النظام الفنزويلي، ما جعل القناة تمثل الاستراتيجية الإعلامية الأكثر تأثيراً لدى الحكومة الإيرانية حيث دمجت بين الراديكالية الإسلامية والأيديولوجيا الماركسية في أمريكا اللاتينية وفي أوساط الأوروبيين من أصول إسبانية[11].
وبرغم أن النظام الفنزويلي يمنع الوصول إلى معلومات حول الشركات المشاركة في هذا المشروع الإعلامي، فإنه أصبح معروفاً أن جزءاً من المشروع كان بمبادرة من محمود علي زاده – الوسيط الإيراني العامل في إسبانيا – وقد أطلق المشروع قانونياً من مدريد تحت ثلاثة مسميات تجارية بما فيها الإنتاج التلفزيوني السمعي البصري الإسباني، والإنتاج التلفزيوني الصحفي السمعي البصري، و”جلوبال ميديا 360″[12]. كما أن هناك تكهنات بأن زعيم حزب بوديموس الإسباني، بابلو مانويل إغليسياس، قد تلقى مبالغ قدرت بـ 9.3 مليون دولار من النظامين الإيراني والفنزويلي[13].
بوجه عام، يمكن القول إن التحالف الاستراتيجي الذي تم تشكيله بواسطة نظام مادورو في فنزويلا، وإيران، وكوبا، يمثل المحور الوحيد الأكثر تأثيراً في مجال النفوذ السياسي في أمريكا اللاتينية ضد الولايات المتحدة. وبرغم أن التدفقات المالية لهذه الاقتصادات لا تمثّل تحالفاً مناسباً في التجارة والصناعة، فإنه غالباً ما يتم استبعاد جزء كبير من أي اتفاق بينهم من الآليات المعتادة للسيطرة على الاقتصاد العالمي، وهذا يعني تحولاً عن العلاقة الأصلية العابرة للقارات التي تربط بين البلدين، وزيادة خطر الأعمال الخفية التي يمكن أن تهدد أمن أمريكا اللاتينية.
البرازيل.. الرئيس لولا دا سيلفا وبداية الشراكة التجارية
تُعتبر البرازيل، إلى الآن، الشريك التجاري الأكثر أهمية لإيران في أمريكا الجنوبية، ولكن العلاقات التجارية بين البلدين فعلياً تسير لصالح الاقتصاد البرازيلي. وتعود أصول العلاقات بينهما إلى قمة مجموعة الـ 15 في كاراكاس عام 2004 حيث التقى الرئيسان دا سيلفا ونجاد لتوقيع مذكرة تفاهم لتعزيز العلاقات التجارية بين البلدين[14].
وبصورة مشابهة، وافقت شركة الطاقة البرازيلية العملاقة “بتروبراس” على تطوير علاقة شراكة مع شركة النفط الإيرانية الوطنية للتنقيب عن النفط في منطقة توسان جنوب إيران. وفي عام 2019، أشارت قاعدة البيانات التجارية التابعة للأمم المتحدة إلى أن حجم صادرات البرازيل إلى إيران بلغ نحو 2.2 مليار دولار في حين قدر حجم الواردات بنحو 116 مليون دولار. ومع أن كفة الميزان التجاري ترجح لصالح البرازيل، فإن الاستثمارات الإيرانية ازدادت بسرعة عام 2019.
وقد أثار الحصار الأمريكي المفروض على إيران الاهتمام بقطاع الطاقة في البرازيل الذي يرتبط بعلاقات مع النظام الحاكم، ما أجبر الرئيس جايير بولسونارو، على أن يأذن لشركة “بتروبراس” بالتوقف عن بيع الوقود للسفن الإيرانية التي تقطعت بها السبل على الساحل البرازيلي في عام 2019[15]. وعلى سبيل المثال، نفد الوقود خلال هذه الفترة، من سفينتين إيرانيتين قادمتين إلى البرازيل، وكانتا تحملان سماد اليوريا، وكان يُتوقع أن تعودا إلى إيران بحمولة من الذرة[16]. وعلاوة على هذا، حدّ قرار الرئيس البرازيلي القاضي بتلبية مطالب الولايات المتحدة في المنطقة، فعلياً من قدرة إيران على تحسين استثماراتها في البرازيل كشريك استراتيجي.
كما قيدت هذه الظروف بعض الجهود الإيرانية لزيادة النفوذ في قطاع الطاقة البرازيلي، عبر التفاوض بشأن المصالح التجارية في مصافي “بريميوم 1″ و”بريميوم 2” في ولايتي مارانهاو وسيارا شمال شرق البرازيل لما يقرب من ثلاث سنوات، من خلال الشركة الوطنية الإيرانية لتكرير وتوزيع النفط[17].
وقد شجعت هذه القيود إيران على الاتجاه لاستكشاف قطاعات أخرى مختلفة، حيث وسعت علاقاتها المصرفية مع البرازيل، وأجرت مناقشات عالية المستوى بقيادة علي أشرف أفخمي، رئيس مجلس إدارة بنك الصناعة والمناجم (BIM)، بهدف إبرام صفقات وساطة مع البنوك البرازيلية[18].
لقد أدى صعود بولسانارو إلى سدة السلطة إلى تعديل المخطط الأصلي الذي وضعته إيران خلال حكم الرئيس لولا دا سيلفا، والرئيسة ديلما روسيف (2011-2016)؛ فقد كانت القرارات الصارمة التي اتخذها بولسانارو لتجميد السفن الإيرانية التي تحتاج إلى الوقود قبالة الساحل البرازيلي، بمنزلة قيد مؤقت للقدرات الإيرانية يمنعها من تعزيز علاقاتها مع الدولة الأكثر تأثيراً ونفوذاً في المنطقة في المجالات الاقتصادية والسياسية. ولكن هذا التوجه لا يمكن أن يستمر إلا إذا تمت إعادة انتخاب الإدارة الحالية في الانتخابات العامة في البرازيل المقررة عام 2022.
المكسيك، الأرجنتين، تشيلي، الأوروغواي: لمحة مختصرة
بحلول عام 2017، كانت المكسيك لا تزال الشريك التجاري الأهم لإيران في أمريكا اللاتينية، وقد سجلت الواردات المكسيكية من إيران نحو 89.4 مليون دولار في ذلك العام. وقد تم تعزيز العلاقات التجارية والدبلوماسية بين البلدين مع وصول الرئيس المكسيكي الحالي أندريه مانويل لوبيز أوبرادور، الذي عبر علانيةً عن رغبته في استئناف العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع النظام الإيراني، بعد وصول السفير الإيراني محمد تقي حسيني إلى المكسيك عام 2019[19].
وبرغم أن المكسيك لا تزال مستورداً مهماً للبضائع الإيرانية في منطقة أمريكا اللاتينية، فإن البيانات المنشورة على قاعدة البيانات التجارية للأمم المتحدة توضح أن هذا المسار يواجه تقلبات. وبصورة عامة، فإن واردات المكسيك من إيران أكبر بكثير من صادراتها إليها. ويوضح الشكل أعلاه وجود عجز حاد في الميزان التجاري بين البلدين لصالح إيران. ويعود هذا العجز إلى أسباب عدة، أهمها، افتقار الدولتين إلى القدرة على تجاوز علاقاتهما التجارية التقليدية وتعزيز الاتفاقيات الاستثمارية، مع الأخذ في الاعتبار أن قطاع السياحة في المكسيك لا يزال واحداً من أهم القطاعات الخدمية في البلاد.
ومع بداية العقد الثاني من الألفية، يمكن تصوير المشروعات الإيرانية في المكسيك بأنها استثمارات صغيرة في قطاعات التجارة، والصناعات التحويلية، والاتصالات، والنقل، في ولايات صغيرة مثل (Tamaulipas, Quintana Roo, Jalisco, Yucatan, Duranto) حيث كان يوجد 23 شركة فقط في الفترة ما بين عامي 2012 و2013[20].
وبوجه عام، لا تزال المكسيك تُعتبر حليفاً استراتيجياً محتملاً للنظام الإسلامي الإيراني. ولقد بذل الرئيس المكسيكي أندريه لوبيز أوبرادور محاولات حثيثة لإقناع الولايات المتحدة بعدم رفع حدة خطابها الموجه لإيران، وكان يقول دائماً إن المكسيك تفضل “السلام” على “الحرب”. ولكن في الواقع، هناك جزء كبير من أمن الاقتصاد المكسيكي يعتمد على قدرة البلاد لإقامة علاقات تجارية مع الولايات المتحدة، وهذا الواقع يُضعف قدرات الرئيس الذي ينتمي إلى أقصى اليسار على الانخراط في خطاب معادٍ للولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بعلاقات إيران مع الأرجنتين، فقد استطاعت طهران إنعاش علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع بوينس آيرس، بعد الهجمات الإرهابية التي نفذها حزب الله في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس في عامي 1992 و1994. وقد وقع الهجوم الأول بعد ثلاثة أعوام من وفاة الخميني، وأدى إلى مقتل 29 شخصاً وجرح 242 مدنياً[21]. وفي عام 1994، كثف حزب الله عملياته في المنطقة، ونفذ هجوماً إرهابياً آخر في 18 يوليو على مبنى الجمعية التعاضدية الأرجنتينية – الإسرائيلية (AMIA). وبعد سنوات، حدث تحوّل في السياسة الخارجية الأرجنتينية بقيادة نيستور كيرشنر، الرئيس السابق للأرجنتين، حيث قام كيرشنر بربط مصالح الأرجنتين مع الأنشطة السياسية الأرجنتينية والإيرانية في المنطقة[22].
في هذه الأيام، لا تزال الأرجنتين ثاني أكبر شريك تجاري لإيران في أمريكا الجنوبية، حيث تشير قاعدة البيانات التجارية التابعة للأمم المتحدة (COMTRADE) إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدولتين وصل عام 2019 إلى نحو 697 مليون دولار، ويوضح الشكل التالي تطور العلاقات التجارية بين البلدين خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2019.
وفي ظل هذه الظروف، فإن الرئيس الأرجنتيني الحالي ألبرتو فرنانديز يمكن أن يحسّن العلاقات مع النظام الإيراني لأسباب اقتصادية وسياسية، خاصة أن سلطته السياسية موروثة من عائلة كيرشنر، التي أقامت تحالفات واسعة مع الرئيسين السابقين لفنزويلا وإيران (هوغو شافيز وأحمدي نجاد). ولعل هذا ما يفسّر لماذا عادت كريستينا فرنانديز دي كيرشنر إلى الحكومة بصفتها نائبة للرئيس ألبرتو فرنانديز منذ عام 2019، ولماذا يواجه الاقتصاد الأرجنتيني مرة ثانية تراجعاً في الأداء.
أخيراً، لا تزال تشيلي والأورغواي شريكتين اقتصاديتين ثانويتين لإيران في المنطقة، إذ لم يزد حجم التبادل التجاري بين إيران وتشيلي عن 17 مليون دولار خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2019، باستثناء عام 2018 الذي شهد ارتفاع هذا الرقم إلى نحو 79 مليون دولار، وذلك حسبما يوضح الشكل التالي.
وتجدر الإشارة إلى علاقات شركة النفط التشيلية (Siteprol International) مع النظام الإيراني، حيث حصلت على 33 في المئة من عقد التنقيب عن النفط في مشروع مهر بلوك البري في إيران في عام 2001[23]. وفي عام 2007، أعلنت شركة النفط الوطنية الإيرانية عن اكتشاف احتياطيات نفطية جديدة، وأنها تعتزم توقيع عقد مع الشركة التشيلية، لكن الأخيرة رفضت في عام 2008، الشروط المذكورة في العقد، معتبرة أنها تعكس سوء فهم للبنود والشروط. وبعد ذلك بنحو عشر سنوات، في عام 2018، وافقت الشركة الإيرانية على تسوية قيمة الدين المطلوبة من تشيلي والتي تُقدر بنحو 28 مليون دولار.
ولا يختلف الحال كثيراً بالنسبة للعلاقات التجارية بين إيران وأوروغواي، حيث تباين حجم التبادل التجاري بين البلدين انخفاضاً وارتفاعاً فبينما بلغ عام 2015 نحو 25.43 مليون دولار فإنه انخفض عام 2016 إلى نحو 4.83 مليون دولار. وفيما ارتفع عام 2017 إلى نحو 28.6 مليون دولار فإنه ما لبث أن انخفض مرة أخرى عام 2018 ليبلغ نحو 11.25 مليون دولار وذلك كما يوضحه الشكل التالي.
وبرغم تضاؤل هذه الأرقام فإنها لا تزال توحي بأن البلدين يشكلان سوقاً استراتيجية متزايدة الأهمية بالنسبة إلى إيران. حيث تتوقان وتكثفان جهودهما لتوسيع قاعدة شركائهما التجاريين الدوليين في ظل الإجراءات الأخيرة التي تبنّتها الولايات المتحدة الأمريكية ضدهما.
نظرة مختصرة للمستقبل
اعتمدت العلاقات التجارية الإيرانية في منطقة أمريكا اللاتينية بوجه عام وإلى حد كبير، على المصالح السياسية الخارجية للنظام الإيراني، وعلى التوجهات الأيديولوجية لأمريكا اللاتينية طوال العقدين الماضيين. ومع أن معظم العلاقات التجارية ظلت على الدوام تعتمد على الدبلوماسية النفطية التي تستخدمها إيران، فإن المواد الخام والمواد الصناعية وجدت طريقها إلى الدول التي لم تلبِ بالضرورة المصالح والاهتمامات الدبلوماسية الإيرانية أيضاً. وفي هذه الحالة، يمكن أن تمثل البرازيل تحولاً محتملاً في وصول الإيرانيين إلى القارة الأمريكية، ولكن الإجراءات التي تبنّاها الرئيس البرازيلي الحالي جايير بولسونارو، يمكن أن تجسّد منهجاً براغماتياً أكثر من كونها تكتيكاً استراتيجياً للمعطيات والوقائع الاقتصادية والسياسية في نصف الكرة الأرضية الغربي من العالم.
في الوقت ذاته، تعزز الدخول المتجدد للنظام الإيراني إلى تلك المنطقة بواسطة قدرة الرئيس السابق أحمدي نجاد على تسريع الجهود الدبلوماسية مع فنزويلا وحلفائها. ويفضل المجتمع المدني في أمريكا اللاتينية الإدارات التي تنتمي إلى أقصى اليسار، وهذه الإدارات قوضت المستقبل الأمني والاقتصادي للنصف الغربي من الكرة الأرضية. وأسهمت هذه الظروف في تحسين المساعي الاستراتيجية والاقتصادية لإيران من خلال شركاء مثل كوبا وفنزويلا والأرجنتين والمكسيك، وهذه الدول لا تزال ضمن نطاق المصالح والنفوذ التي يسعى إليها النظام الإيراني في أمريكا اللاتينية.
المراجع
[1] Lissardy, G. (January 13, 2020). La gran paradoja de las relaciones de Irán con América Latina. BBC News Mundo, Nueva York.
[2] Kozloff, N. (January 2011). Irán descubre América Latina. Proximidad geopolítica. Socio económico.. Le Monde Diplomatique en Espanol.
[3] Warmoth, S. (May 29, 2012). Iran Expanding Footprint In Latin America. Small Wars Journal.
[4] Pearson, N. O. (January 14, 2007). Iran and Venezuela plan anti-US fund. Associated Press. https://usatoday30.usatoday.com/news/world/2007-01-14-iran-venezuela_x.htm
[5] Arjomandy, D. (November 21, 2013). Iranian Membership in the World Trade Organization: An Unclear Future. Iranian Studies, 933-950.
[6] Office, F. T. (May 19, 2019). Iran’s Non-Oil Trade With Latin America Crosses $800m in Fiscal 2018-19.
[7] WSJ. (2020). Iranian Military-Owned Conglomerate Sets Up Shop in Venezuela. https://www.wsj.com/articles/iranian-military-owned-conglomerate-sets-up-shop-in-venezuela 11593972015
[8] Ven State TV, T. -V. (2020). https://www.telesurenglish.net/news/iran-and-venezuela-celebrate-megasis-supermarket-opening-20200801-0010.html
[9] Talley, I. (July 5, 2020). Iranian Military-Owned Conglomerate Sets Up Shop in Venezuela. WSJ, The Wall Street Journal.
[10] Curran, A. (April 25, 2020). Why Is Mahan Air Flying A340s Between Venezuela And Iran? OSINT, Conflicts, News, Geolocation. Simple Flight. Flight Radar.
[11] Castaneda, R. (2019). Iran Grand Strategy of Multihemispheric Interference. From the Middle East to the West. International Research Conference. American University in the Emirates. Springer.
[12] ibid
[13] Coll, M. A. Ruiz. (January 13, 2016). La TV de Pablo Iglesias ha recibido 9.3 millones del Gobierno de Irán desde paraísos fiscales. OK Diario: https://bit.ly/3pfLUva
[14] Aranda, I. R. (March 15, 2018). Iran in Latin America. Pragmatism and Trade beyond the ALBA countries. Proyecto de Investigación Nº 1080024 (ISSN 0716-1840).
[15] Machado, A. (July 2019). Brazil alerted companies about US embargo on Iran: Bolsonaro. REUTERS.
[16] Teixeira, M. (July 2019). Two more Iranian ships may be stranded in Brazil as sanctions bite. REUTERS.
[17] Corporate, F. (February 12, 2016). Iran Mulls Investment in Brazilian Refineries. Financial Tribune.
[18] News, I. B. (September 3, 2017). Brazil’s Ambassador meets with BIM Boss.
[19] EFE. (May 24, 2019). Embajador de Irán confía en crecimiento de relación comercial con México. https://www.efe.com/efe/usa/mexico/embajador-de-iran-confia-en-crecimiento-relacion-comercial-con-mexico/50000100-3983810
[20] Mexico, S. d. (2013). Carpeta del Programa de Trabajo de la Embajada de México en la República Islámica de Irán. Embajada de México en la República Islámica de Irán.
[21] Levitt, M. (March 19, 2013). Hezbollah’s 1992 Attack in Argentina Is a Warning for Modern-Day Europe. The Atlantic: https://www.theatlantic.com/international/archive/2013/03/hezbollahs-1992-attack-in-argentina-is-a-warning-for-modern-day-europe/274160/
[22] Iñaki Sagarzazu, F. M. (2017). Hugo Chavez’s polarizing legacy: chavismo, media, and public opinion in Argentina’s domestic politics. Revista de Ciencia Política.
[23] Johnson, S. (March 2012). Iran’s Influence in the Americas. Center for Strategic and International Studies.