1- مقدمة:
شهد الاقتصاد العالمي العديد من الأزمات المتلاحقة التي أثرت على الأداء الاقتصادي العالمي، وخاصة في الفترة الأخيرة ؛ وكانت ذروتها في أثناء جائحة كوفيد-19عام 2020، ثم نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية عام 2022، وما ترتب عليها من موجة تضخم حول العالم، وخاصة السلع الغذائية والمنتجات المرتبطة بالطاقة.
وفي ضوء هذه التطورات ارتفع حجم التمويل المطلوب للوصول إلى أهداف التنمية المستدامة 2030 في الدول النامية إلى 4 تريليونات دولار، وهو ما ألقى بظلاله على القدرة التمويلية لهذه الدول. وتعدّ اقتصادات دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء ضمن اقتصادات الدول النامية التي لجأت إلى الاستدانة لمحاولة التغلب على أزماتها والوصول إلى الأهداف الإنمائية المنشودة. وفي ضوء ذلك، يحاول البحث الإجابة عن الأسئلة البحثية الآتية: كيف تطورت المديونية لدول إفريقيا جنوب الصحراء؟ وما تأثير هذه المديونية على النمو الاقتصادي في المنطقة؟ وكيف استطاع الاقتصاد الصيني أن يمتلك معظم المديونية في دول المنطقة؟ وما السبيل لخروج دول المنطقة من أزمة المديونية؟
ولتحقيق هدف الدراسة، والإجابة عن الأسئلة البحثية المطروحة، فقد وُزّعت الدراسة إلى 6 موضوعات بخلاف هذه المقدمة. يتناول الموضوع الأول نظرة حول المديونية العالمية في ظل التغيرات الحالية، ويتطرق الموضوع الثاني إلى واقع المديونية الإفريقية في سياق أزمة الديون العالمية الراهنة. أما الموضوع الثالث فيتناول أهم مسببات تفاقم أزمة الديون الخارجية الإفريقية. بينما يستعرض الموضوع الرابع الصعود الصيني وهيمنته على الديون في المنطقة، ثم طرحت الدراسة بعض التأملات في حالة مديونيتَي زامبيا وغانا. واختتم البحث بأهم السياسات والرؤى المطروحة للخروج العادل والآمن من أزمة ديون إفريقيا جنوب الصحراء.
2- المديونية العالمية في ظل التغيرات الاقتصادية المتلاحقة:
تلجأ حكومات دول العالم المختلفة إلى الاقتراض بهدف تمويل الإنفاق وحماية شعوبها والاستثمار فيها، بالإضافة إلى تحقيق الأهداف التنموية التي تسعى إليها في المستقبل. ومع ذلك أصبح الدين عبئًا ثقيلًا على كاهل الحكومات؛ نظرًا إلى كثافة حجمه وفوائده وأقساطه، ما يدفع الحكومات مرة أخرى للاقتراض.
وبالنظر إلى الدين العام العالمي، نجد أنه تضاعف أكثر من خمسة أضعاف خلال الفترة (2002- 2022)، وهو ما يتجاوز بوضوح الناتج المحلي الإجمالي العالمي، الذي تضاعف ثلاث مرات خلال الفترة نفسها، كما يتضح من خلال الشكلين (1) و (2). ففي عام 2022، وصل الدين العام العالمي – الذي يشمل الدين العام الداخلي والخارجي للحكومات – إلى مستوى قياسي بلغ 92 تريليون دولار أمريكي، مقارنة بنحو 17 تريليون دولار عام 2002. أما بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الجارية)، فقد بلغ نحو100.6 تريليون دولار عام 2022، مقارنة بنحو 34.9 تريليون دولار عام 2002. ويعود السبب الأساسي لبلوغ الدين العام مستويات غير مسبوقة إلى عاملين أساسيين هما[1]:
شكل (1) الدين العام العالمي خلال الفترة (2002- 2022)
source: UNCTAD, 2023, A World of Debt, Available at: https://unctad.org/publication/world-of-debt
– ارتفاع المتطلبات التمويلية لمختلف الدول لدرء تأثير الأزمات العالمية المتتالية على التنمية الاقتصادية؛ وخاصة جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية الأوكرانية التي تبعها ارتفاع معدلات التضخم وتكلفة الغذاء وأسعار الطاقة، إضافة إلى متطلبات التغير المناخي الذي أصبح تحديًا لا يمكن تجاهله.
– البنية المالية الدولية غير المتكافئة التي تحد من قدرة الدول النامية على الوصول إلى التمويل الذي أصبح غير كافٍ ومكلفًا في الوقت نفسه.
شكل (2) الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال الفترة (2002- 2022) (تريليون دولار)
source: World Development Indicators.
وعلى الرغم من الارتفاع غير المسبوق في الدين العام العالمي، فإن هناك اختلافات كبيرة في توزيع حجم هذا الدين بين دول العالم المختلفة؛ إذ نجد أن نصيب الدول النامية من الدين العام العالمي نحو 30%، وأسعار الفائدة التي تدفعها هذه الدول أعلى بكثير مقارنة بالدول المتقدمة. فعلى سبيل المثال، تقترض الدول الإفريقية في المتوسط معدلات فائدة أعلى بأربع مرات من نظيراتها في الولايات المتحدة، بل وأعلى بثماني مرات من نظيراتها في ألمانيا؛ لذا فإن ارتفاع تكاليف الاقتراض يجعل من الصعب على الدول النامية تمويل الاستثمارات، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى إضعاف القدرة على تحمّل الديون والتقدم نحو التنمية المستدامة.
ونظرًا إلى أن دول القارة الإفريقية بشكل عام -ودول إفريقيا جنوب الصحراء بشكل خاص – عانت التبعية لعقود طويلة، لذا فإن الاستقلال ومحاولات تحقيق معدلات نمو مرتفعة دفعها إلى الاقتراض الخارجي. ليس هذا فحسب، بل أصبحت هذه الدول تدور في فلك هذه الديون التي أثقلت كاهلها، ما جعلها غير قادرة على سداد تكلفة هذه الديون، وهو ما ترتب عليه الاقتراض مرة أخرى، وهكذا. لذا يهدف الجزء التالي من البحث إلى تسليط الضوء على مديونية دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتحليل الأبعاد المختلفة لهذه المديونية وتأثيرها على الوضع الاقتصادي في هذه الدول.
3- واقع المديونية الإفريقية في سياق أزمة الديون العالمية الراهنة:
تعدّ أزمة الديون إحدى أهم المشكلات الاقتصادية التي تواجه دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، إذ تؤثر بشكل كبير في الأداء الاقتصادي لدول المنطقة وتستنزف مواردها المالية؛ لذا فإن من الأهمية بمكان استعراض الوضع الراهن للديون الحكومية في المنطقة، ثم التطرق إلى معرفة أوجه إنفاق الديون التي استدانتها دول المنطقة، ومن ثمّ الاستدلال على أثر الديون في التنمية الاقتصادية من خلال الاستعانة ببعض المؤشرات التي تبيّن مدى التحسن الاقتصادي من عدمه.
3-1 الوضع الراهن للديون الحكومية في ظل تباطؤ معدل النمو في إفريقيا جنوب الصحراء:
انعكست الأزمات العالمية المتتالية على الوضع الاقتصادي في إفريقيا جنوب الصحراء. فقد أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على ارتفاع معدلات التضخم في المنطقة، ومن ثم معدلات الفائدة كمحاولة لكبح جماح التضخم. ويُشير رفع أسعار الفائدة إلى تباطؤ الطلب الدولي، وارتفاع هوامش الربح، والضغوط المستمرة على أسعار الصرف. لذا، فمن المتوقع أن ينخفض معدل النمو في عام 2023 في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء للعام الثاني على التوالي ليبلغ نحو 3.3%، مقارنة بنحو 4% في العام السابق له، وهو ما يوضحه شكل (3).
شكل (3) معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2011- 2024)
Source: IMF, 2023, Regional Economic Outlook: Sub- Saharan Africa.
وعلى الرغم من أنه من المتوقع أن يرتفع معدل النمو في إفريقيا جنوب الصحراء ليصل إلى 4% في عام 2024، فإن هناك العديد من التحديات تواجهها المنطقة؛ فإلى جانب عدم الاستقرار السياسي داخل المنطقة، هناك مجموعة من التحديات الأخرى التي تلوح في الأفق، نذكر منها:
– لا يزال معدلات التضخم مرتفعًا ومكونًا من رقمين في نحو 14دولة في المنطقة، كما أنه أعلى من معدلات التضخم المستهدفة.
– الضغوط التي تواجها المنطقة على أسعار صرف عملاتها.
– ارتفاع معدلات الاقتراض ومحاولة العديد من الدول في المنطقة تجديد الديون، هذا بالإضافة إلى أن نصف الدول المنخفضة الدخل في المنطقة معرّضة لمخاطر عالية أو تعاني ضائقة الديون.
شكل (4): الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2011- 2024)
Source: IMF, 2023, Regional Economic Outlook: Sub- Saharan Africa.
وبالتطرق إلى الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، فإننا نجد أنه بلغ نحو 57.1% عام 2022، مقارنة بنحو 37.7% متوسط الفترة (2011- 2019)، أي ما يقرب من الضعف خلال عقد واحد فقط. أما بالنسبة إلى الدين الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي فقد بلغ نحو 23.6% عام 2022، مقارنة بنحو 16.5% متوسط الفترة (2011-2019). كما أنه من المتوقع أن يرتفع في عام 2023 ليبلغ نحو 25.2%.
شكل (5) الدين الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة (2011- 2024)
Source: IMF, 2023, Regional Economic Outlook: Sub- Saharan Africa.
ولقد ارتفعت تكلفة سداد الدين في المنطقة، إذ تضاعفت في عام 2022، مقارنة بعام 2010 نسبةُ مدفوعات الفائدة إلى الإيرادات في المنطقة -وهو أحد المؤشرات التي تُستخدم لتقييم القدرة على خدمة الديون والتنبؤ بمخاطر الأزمة المالية-، كما أنها بلغت نحو أربعة أضعاف النسبة في الاقتصادات المتقدمة. وتجدر الإشارة إلى أن معظم دول المنطقة موطن لمبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين (DSSI). هذا بالإضافة إلى أن المنطقة تضمّ 8 من أصل 9 دول قُيّمت على أنها تعاني بالفعل ضائقة الديون بموجب تحليل القدرة على تحمل الديون (DSA) الذي أجراه صندوق النقد الدولي مؤخرًا[2].
شكل (6) نسبة مدفوعات الفائدة إلى الإيرادات في إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2005- 2022)
Source: Comelli, Fabio, and others, September 2023, How to Avoid a Debt Crisis in Sub-Saharan Africa, Available at: https://www.imf.org/en/News/Articles/2023/09/26/cf-how-to-avoid-a-debt-crisis-in-sub-saharan- africa#:~:text=The%20average%20debt%20ratio%20in,has%20also%20become%20much%20costlier
3-2 تبايُن الديون الحكومية بين دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء:
وبرغم انتشار عبء الديون في المنطقة، تجدر الإشارة إلى أن دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء تعاني اختلافات صارخة في تراكم الديون الحكومية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بين دول المنطقة، فعلى سبيل المثال تأتي كابو فيردي أعلى الدول في المنطقة من حيث الدين الحكومي، التي نجد أنها تخطت حاجز 100% لتبلغ نحو 127.3% عام 2022، تليها زامبيا بنسبة 98.5%، ثم زيمبابوي بنسبة 98.4%.
شكل (7) أعلى خمس دول في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء في الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022
Source: IMF, 2023, Regional Economic Outlook: Sub- Saharan Africa.
وعلى الجانب الأخر نجد أن الكونغو الديمقراطية أقل الدول في المنطقة من حيث الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ نحو 14.5%، تليها بوتسوانا بنسبة 18%، ثم الكاميرون بنسبة 27.9%.
شكل (8) أقل خمس دول في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء في الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022
Source: IMF, 2023, Regional Economic Outlook: Sub- Saharan Africa.
ويتضح مما سبق الاختلاف بين دول المنطقة في مستويات الديون كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يترتب عليه اختلاف الدول في القدرة على الالتزام بسداد هذه الديون. هذا بالإضافة إلى أنه كلما ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي وتخطت النسبة الآمنة المقدرة من قبل صندوق النقد الدولي بنحو (60%)، زادت احتمالية عدم قدرة الدولة على السداد.
3-3 أوجه إنفاق القروض التي استدانتها دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء:
نظرًا إلى ما أوضحناه سابقًا من ارتفاع نسبة الدين العام في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، فإنه من الأهمية بمكان التوقف على أوجه إنفاق هذه القروض في المنطقة. وتتمثل أهم أوجه الإنفاق في المنطقة في الآتي: تمويل العجز في ميزانيات الدول (وهو غرض مشترك في دول المنطقة)، ولأغراض إدارة السياسة النقدية، أو للحصول على العملات الأجنبية لدعم ميزان المدفوعات، أو لبناء احتياطيات من العملات الأجنبية، أو لإعادة تمويل القروض[3].
وللتعرف على مدى كفاءة الإنفاق الحكومي كأحد الدلائل التي يمكن الاستعانة بها للحكم على ما إذا كان الإنفاق الحكومي يجري بكفاءة أو لا، يتم الاستعانة بمؤشر سيادة القانون الذي يوضح مدى ثقة المواطنين في القواعد والقوانين بالدولة والتزامهم بها.
وتجدر الإشارة إلى أن قيمة مؤشر سيادة القانون تتراوح بين (-2.5) وتعني أداء ضعيف للحوكمة، و(2.5) وتعني أداء قوي للحوكمة. وقد أوضحت النتائج في (شكل (9)) أن نحو 85% من دول إفريقيا جنوب الصحراء تُعاني أداءً ضعيفًا في مؤشر سيادة القانون، وهو ما قد يُشير إلى أن الإنفاق في معظم دول المنطقة غير كفء.
شكل (9) مؤشر سيادة القانون في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء عام 2022 (نقطة)
Source: The Worldwide Governance Indicators database, Available at: https://www.govindicators.org/
3-4 هل حققت الديون في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الهدف المرجو منها؟
بعد تضاعُف مستويات الديون ووصول معظم دول إفريقيا جنوب الصحراء إلى ضائقة الديون، يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، وهو هل حققت الديون الهدف المرجو منها، أي هل حققت الديون التنمية التي من أجلها تمت الاستدانة؟ للإجابة على هذا السؤال، يمكن الاستعانة ببعض المؤشرات التي تبين مدى تحقيق المنطقة للتنمية المنشودة على النحو الآتي:
· بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 1.62 ألف دولار عام 2022، مقارنة بنحو 1.61 ألف دولار عام 2012، و1.30 ألف دولار عام 2002، أي بمعدل نمو 0.5% فقط على امتداد العقد الأخير.
شكل (10) نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الثابتة) في إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2002- 2022) (ألف دولار)
Source: World Development Indicators.
· على الرغم من انخفاض نسبة الفقراء إلى إجمالي السكان في المنطقة عبر الزمن، فإن هذا الانخفاض يتسم بالبطء. فعلى سبيل المثال، تنخفض نسبة الفقر في المنطقة من 35.3% أثناء جائحة كوفيد-19 عام 2020 إلى 34% في عام 2023، ثم تستمر في الانخفاض لتصل إلى 32.7% في عام 2025، وهو ما لا يتناسب مع معدلات الاستدانة المرتفعة[4].
شكل (11) نسبة الفقراء في إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2002- 2023)*
Source: World Development Indicators.
· ولا يختلف الوضع بالنسبة إلى مؤشر التنمية البشرية، فأيضًا هناك تحسن طفيف خلال العقدين الأخيرين. ففي عام 2021 بلغت قيمة المؤشر للمنطقة نحو 0.55 نقطة، مقارنة بنحو 0.43 نقطة عام 2000.
شكل (12) تطور قيمة مؤشِر التنمية البشرية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2000- 2021)
Source: UNDP Database.
مما سبق يمكن استنتاج أن التحسن في المؤشرات الخاصة بأداء التنمية في دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء يمثل تحسنًا طفيفًا لا يتساوى مع مقدار القروض التي استدانتها دول المنطقة. أو بعبارة أخرى فإن التكلفة المترتبة على هذه القروض أكبر من العائد الناتج منها. لذا ينبغي في هذا الشأن البحث عن أسباب تفاقم الدين الخارجي، وخاصة أن الدين الخارجي هو المكوّن الأكبر للدين العام في معظم دول المنطقة.
4-تفاقم أزمة الديون الخارجية الإفريقية بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية:
تُمثّل الديون الخارجية نحو 39.1% من الدين الحكومي في دول إفريقيا جنوب الصحراء. وتختلف دول المنطقة فيما بينها في حجم الدين الخارجي. لذا يستعرض الجزء الحالي الوضع الراهن للمديونية الخارجية في إفريقيا جنوب الصحراء؛ ويبدأ الجزء الأول بالتعرف إلى وضع المديونية الخارجية لدول المنطقة، ثم البحث في أسباب ارتفاع هذه المديونية، وأخيرًا يجري التطرق إلى أهم الجهات المقرضة لدول المنطقة.
4- 1 المديونية الخارجية في إفريقيا جنوب الصحراء:
تأتي كل من كابو فيردي، وموزمبيق، وساوتومي وبرينسيبي في مقدمة الدول التي ترتفع بها نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسب 106.9%، و71%، و59.2% على التوالي. في المقابل بلغت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي في كل من بوتسوانا، ونيجيريا، وغينيا الاستوائية نحو 9.3%، و9.4%، و10% على التوالي وذلك عام 2022.
شكل (13) الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي في دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء عام 2022 (%)
Source: IMF, 2023, Regional Economic Outlook: Sub- Saharan Africa.
وكنتيجة لتضخم حجم الديون الخارجية بالمنطقة، فمن الأهمية بمكان التطرق إلى التحليل الذي يقوم به صندوق النقد الدولي للتعرف على مدى استدامة القدرة على تحمل الدين في ظل عبء الدين المتوقع للدولة، ومدى تعرضه لمخاطر الصدمات الاقتصادية والمتعلقة بالسياسات. وفي هذا الإطار صنّف الصندوق قدرة الدول على تحمل الدين إلى ثلاث فئات: قوية ومتوسطة وضعيفة[5].
ويتضح أن معظم دول المنطقة تعاني مخاطر متوسطة ومرتفعة، لكن هناك عددًا من دول المنطقة وقع في ضائقة الديون، كما تُشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى توقع تزايد عدد الدول المعرّضة لمخاطر ضائقة الديون. لذا فمن الأهمية بمكان التعرف على مسببات تفاقم الديون الخارجية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما سيتناوله الجزء الآتي:
4- 2 أسباب تفاقم مشكلة الديون الخارجية في إفريقيا جنوب الصحراء:
لعل بداية تفاقم مشكلة الديون الخارجية ترجع تاريخيًّا إلى حصول العديد من دول المنطقة على استقلالها ومحاولة بناء اقتصاداتها مرة أخرى بعد فترة من الاحتلال والتبعية المباشرة. وفي الوقت نفسه تعاني هذه الدول انخفاضًا في معدلات الادخار، لذا فقد لجأت إلى الاستدانة من العديد من المؤسسات الدولية، والتوسع في الإنفاق العام، لكن الإيرادات العامة لم ترتفع بالقدر الكافي لتغطية الإنفاق العام، إضافة إلى حدوث العديد من الانتكاسات في أسعار المواد الأولية، ما أدى إلى تراجعها بشكل كبير، وهو ما يترتب عليه لجوء الدول مرة أخرى إلى الاستدانة. ويمكن القول إن هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى تفاقم الديون في المنطقة، يمكن تصنيفها إلى أسباب داخلية، وأسباب خارجية[6].
أولًا-الأسباب الداخلية:
– عجز الموازنات المالية لدول المنطقة، إذ تُقدر نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو (-4.4%) عام 2022، مقارنة بنحو (-5%) عام 2021. ومن الملاحظ أن الأزمات الاقتصادية سواء الداخلية أو الخارجية تؤدي دورًا مهمًا في هذا الشأن، فخلال الفترة (2011- 2019) سجل عجز الموازنة العامة لدول المنطقة نحو (-3.3%)، لكن جائحة كوفيد- 19 أدت إلى رفع هذا العجز بمقدار الضعف تقريبًا ليصل إلى (-6.5%) عام 2020[7].
– عدم القدرة على سداد الديون القائمة، وهو إحدى نتائج العجز في الموازنات العامة لهذه الدول، ما يترتب عليه طلب مزيد من القروض لسداد الديون السابقة.
– ضعف دور المؤسسات في المنطقة، ما يقوض قدرتها على إدارة الدين بشكل فعال. أضف إلى ذلك أن معظم دول المنطقة تعاني حالات فساد مالي وإداري. ففي بعض الأحيان يجري الاتفاق على قروض للشركات مضمونة من قبل الحكومات وهو ما يؤثر سلبًا في القدرة على تحمل الديون.
ثانيًا-الأسباب الخارجية:
– تراجع أسعار المواد الأولية (مثل النفط والغاز والمواد الخام الأخرى)، إذ شهدت المنطقة العديد من الفترات التي تذبذبت فيها أسعار المواد الأولية. ويرجع ذلك بالأساس إلى اعتماد الدول على تصدير المواد الخام بصورة أولية، ما يؤثر في عدم الاستفادة من القيمة المضافة التي تترتب على عملية تصنيع هذه المواد، وبالتالي انخفاض الإيرادات المحصلة من عمليات التصدير.
– تفاقُم عجز ميزان المدفوعات الذي يرجع بالأخص إلى العديد من الأسباب مع تفوق الواردات على الصادرات واستمرار العجز في الميزان التجاري لفترة زمنية طويلة. فعلى سبيل المثال بلغ عجز الحساب الجاري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي نحو (-1.9%) عام 2022، مقارنة بنحو (-1%) عام 2021.[8]
– الأزمات المتتالية -التي سبقت الإشارة إليها- وخاصة الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى تراجع الإيرادات العامة للموازنات مع تضخم قيمة النفقات العامة، بالإضافة إلى رفع أسعار الفائدة بشكل واضح في محاولة لكبح جماح التضخم، الأمر الذي يؤثر في ارتفاع تكاليف خدمة الديون، وقد يعوق قدرة دول المنطقة على سداد ديونها الخارجية.
4- 3 الجهات المقرضة لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء:
تأتي معظم الديون الخارجية لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء من القروض التجارية ومؤسسات دولية (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، إذ تمثّل معًا ما يقرب من 75% من إجمالي الديون الخارجية للمنطقة عام 2021[9].
أما عن أهم الدائنين من الدول للمنطقة، فتأتي الصين في المقدمة، تليها الولايات المتحدة الأمريكية، ثم فرنسا. وتجدر الإشارة إلى أن الصين أصبحت مصدرًا رئيسيًّا لتمويل الحكومات الإفريقية منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقد ارتفعت القروض الصينية – الموجهة في الغالب إلى تمويل مشروعات تتعلق بالبنية التحتية. ونتيجة لذلك، ارتفعت حصة الصين من إجمالي الدين العام الخارجي لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من أقل من 2% قبل عام 2005 إلى نحو 17.6% في عام 2021. وهو ما أسهم في توفير مصدر جديد لتمويل البنية التحتية، وأصبحت الصين الآن أكبر مقرض رسمي ثنائي لدول المنطقة[10].
ومع ذلك، فإن حصة الصين في إجمالي الدين الخارجي لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لا تزال صغيرة نسبيًّا، إذ تبلغ نحو 17.6% فقط (الشكل 14). وتتركز قروض الصين في المنطقة بشكل كبير في خمس دول، هي: أنجولا، وكينيا، وزامبيا، والكاميرون، ونيجيريا، بنسبة 55% من الديون الثنائية الرسمية المستحقة للصين. وتجدر الإشارة إلى أن الديون المستحقة للصين لم تكن المسهم الرئيسي في ارتفاع الدين الخارجي في المنطقة في السنوات الخمس عشرة الماضية، فنحو نصف الدين الخارجي في المنطقة اقتراض تجاري محلي بأسعار فائدة أعلى وأجل استحقاق أقصر[11].
شكل (14): توزيع الدين الخارجي لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء وفقًا للجهة الدائنة عام 2021
Source: calculation of the researcher depending on: IMF, October 2023, Regional Economic Outlook: Sub-Saharan Africa Analytical Note, At a Crossroads: Sub-Saharan Africa’s Economic Relations with China.
ونظرًا إلى الدور المهم الذي تلعبه الصين كمقرض لدول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، سيتركز الجزء الآتي على الصعود الصيني في إقراض دول المنطقة.
5-الصعود الصيني وهيمنته على الديون في إفريقيا جنوب الصحراء
استطاعت الصين تحقيق معجزة في النمو الاقتصادي، ما جعل من الصين القوة الاقتصادية العالمية الثانية خلال العقود الثلاثة الماضية، وهو ما انعكس على حجم التبادل التجاري الدولي، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للصين، وجعل الصين ضمن كبار ممولي رأس المال، سواء للاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الاقتصادات النامية التي قد يتسم الاستثمار فيها بالمخاطرة مثل دول إفريقيا جنوب الصحراء. ويسعى هذا الجزء إلى توضيح استراتيجية الصين المتبعة في الإقراض لدول المنطقة والتي تختلف عن الدول الأخرى المقرضة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، ثم يجري التطرق لتحليل تطور القروض الصينية في المنطقة بمزيد من التفصيل.
5- 1 استراتيجية الصين في الإقراض واختلافها عن المقرضين التقليديين:
تولي الصين أهمية كبرى لإفريقيا، وتعتمد العلاقة بينهما على النفع المتبادل بين الطرفين. فبالنظر إلى العلاقات الاقتصادية بين الصين وإفريقيا، نجد أن البداية الحقيقية لهذه العلاقات جاءت في غضون الحرب الباردة، وذلك نظرًا إلى ما رأته الصين في إفريقيا من مصدر للموارد الطبيعية والخام وهو ما يضمن للصين تحقيق معدلات نمو مرتفعة والحفاظ عليها، وفي الوقت ذاته تستفيد القارة الإفريقية من الصين من ناحية الاستثمارات والتجارة والقروض والمساعدات، وخاصة أن الصين تتبع نهجًا مختلفًا مع إفريقيا مقارنة بالنهج الذي تسلكه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وهو عدم التدخل السياسي والأيديولوجي في القارة، وعدم ربط المساعدات والقروض بشروط غير مقبولة محليًّا. ونظرًا إلى أن الدول الغربية تضع شروطًا واضحة عند تقديم قروض إلى منطقة إفريقيا جنوب الصحراء أو الاستثمار فيها، وهو التدخل السياسي والأيديولوجي في اقتصادات هذه الدول، ما جعل دول المنطقة تفضل القروض والاستثمارات الصينية عن غيرها من الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.[12]
وعمومًا، فقد اتخذت الصين العديد من الخطوات لتوثيق علاقاتها الاقتصادية مع إفريقيا، نذكر منها: إنشاء صندوق التنمية الصيني الإفريقي عام 2007، وهو بمثابة صندوق صيني خاص يموله بنك التنمية الصيني. والجدير بالذكر أن الصندوق سيعمل خلال المرحلة المقبلة على توسيع الاستثمارات في إفريقيا وسيساعد في ربط مبادرة الحزام والطريق بالتنمية في إفريقيا على نحو أقوى[13].
5- 2 تطور القروض الصينية في إفريقيا جنوب الصحراء:
بلغ إجمالي القروض الصينية التراكمية إلى منطقة إفريقيا جنوب الصحراء نحو 156 مليار دولار خلال الفترة (2000- 2022). وبالنظر إلى تطور تدفق هذه القروض إلى المنطقة، نجد بصفة عامة أن الاتجاه العام لهذه القروض في تزايد خلال الفترة (2000- 2016)، إذ بلغ أقصاه في عام 2016 لتبلغ نحو 26.7 مليار دولار في ذلك العام، مقارنة بنحو 112.3 مليون دولار عام 2000. في المقابل، نجد أنه بعد عام 2016 وحتى عام 2022، أخذ الاتجاه العام لهذه القروض في الانخفاض لتصل إلى 994.5 مليون دولار عام 2022، وهو ما يوضحه الشكل الآتي:
شكل (15): تطور تدفق القروض الصينية إلى منطقة إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2000- 2022) (مليار دولار)
Source: Global Development Policy Center, Chinese Loans to Africa Database, Available at: https://www.bu.edu/gdp/chinese-loans-to-africa-database/
أما فيما يتعلق بتوزيع القروض الصينية وفقًا للقطاعات، فنجد أن نحو 37.4% من هذه القروض في قطاع الطاقة، يليه قطاع النقل بنسبة 30.3%، ثم قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بنسبة 8.6%، وذلك حتى عام 2022.
شكل (16) التوزيع النسبي للقروض الصينية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء وفقًا للقطاع حتى عام 2022 (%)
Source: Global Development Policy Center, Chinese Loans to Africa Database, Available at: https://www.bu.edu/gdp/chinese-loans-to-africa-database/
هذا وتُصنّف أنجولا بأنها أكثر دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء حصولًا على قروض صينية، فقد بلغت قيمة هذه القروض 45 مليار دولار، تليها إثيوبيا بفارق كبير عن أنجولا يقدر بنحو 30.8 مليار دولار، ثم كينيا بقيمة 9.7 مليار دولار.
شكل (17) أكبر 20 دولة في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء حاصلة على قروض من الصين بالمليار دولار خلال الفترة (2000- 2022)
Source: Researcher calculations depending on: Global Development Policy Center, Chinese Loans to Africa Database, Available at: https://www.bu.edu/gdp/chinese-loans-to-africa-database/
أما ما يتعلق بالجهات الصينية التي تقدم قروض لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء، فتأتي مؤسسات تمويل التنمية في المقدمة بقيمة قروض تبلغ نحو 124.1 مليار دولار، تليها البنوك التجارية الصينية بقيمة 12.2 مليار دولار، ثم المقاولون الصينيون بقيمة قروض بلغت نحو 10 مليار دولار، وذلك حتى عام 2022.
جدول (1) القروض الصينية إلى منطقة إفريقيا جنوب الصحراء وفقًا للجهة المقرضة خلال الفترة (2000- 2022)
الجهة |
عدد القروض |
قيمة القروض (مليار دولار) |
مؤسسات تمويل التنمية |
771 |
124.1 |
البنوك التجارية |
74 |
12.2 |
المقاولون |
79 |
10 |
مؤسسات صينية أخرى |
5 |
6 |
مؤسسات حكومية صينية أخرى |
209 |
3.6 |
Source: Global Development Policy Center, Chinese Loans to Africa Database, Available at: https://www.bu.edu/gdp/chinese-loans-to-africa-database/
6-تأملات في حالة مديونية زامبيا وغانا:
استعرض الجزء السابق من البحث وضع مديونية إفريقيا جنوب الصحراء، والتطرق إلى أهم دائن للمنطقة وهو الصين. وفي هذا الجزء، يُسلّط الضوء بمزيد من التفصيل على حالة مديونية دولتين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وهما زامبيا، وغانا، حيث تواجه هاتان الدولتان أزمة مديونية مرتفعة، كما أنهما طلبتا من الدول الدائنة إعادة هيكلة ديونهما.
1-6 أزمة المديونية في زامبيا:
بلغ إجمالي الدين العام في زامبيا نحو 23.2 مليار دولار عام 2022، مقارنة بنحو 1.5 مليار دولار عام 2012، أي أنه تضاعف بأكثر من 15 ضعفًا خلال العقد الأخير. وقد شهد عام 2020 ارتفاع كبير في حجم الديون، حيث نما الدين العام بنسبة 65.3% عن عام 2019. كما بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي أقصاها في عام 2020 ليبلغ نحو 140.2%، وهو ما أدى إلى تخلف زامبيا عن سداد ديونها في ذلك العام. وفي العامين التاليين له، انخفض الدين الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ليبلغ نحو 110.8% و98.5% في عامي 2021 و2022 على التوالي.
شكل (18): الدين العام في زامبيا ونسبته من الناتج المحلي الإجمالي بالمليار دولار خلال الفترة (2012- 2022) (%)
Source: Statista Database, Available at: https://www.statista.com/statistics/532531/national-debt-of-zambia/#:~:text=In%202022%2C%20the%20national%20debt,the%20observed%20period%20in%202022.
وتُشير تطورات الدين الخارجي في زامبيا إلى ارتفاع رصيد الدين الخارجي للحكومة المركزية (بخلاف الديون المضمونة) في نهاية ديسمبر 2022 بنسبة 7.04% ليصل إلى 13.96 مليار دولار أمريكي، مقارنة بنحو 13.04 مليار دولار أمريكي في عام 2021، وتُعزى هذه الزيادة إلى استمرار صرف الأموال على قروض المشروعات القائمة من المؤسسات المتعددة الأطراف والدائنين الثنائيين لتمويل المشروعات الجارية ذات الأولوية وتقلص التزامات الديون الجديدة. وبالنظر إلى الجهات المقرِضة لزامبيا، تأتي الصين في مقدمة هذه الجهات (بنك الصين للاستيراد والتصدير، وبنك التنمية الصيني، وكاتيك الصينية) بقيمة بلغت 3.4 مليار دولار، يليها سندات اليورو بقيمة 3 مليارات دولار، ثم البنك الدولي بقيمة مليارَي دولار.
شكل (19): رصيد الدين الخارجي لزامبيا وفقًا للجهات المانحة عام 2022 (مليون دولار)
Source: Ministry of Finance and National Planning, March2023, Zambia.
ونظرًا إلى أن الصين تعد أحد أكبر الدائنين لزامبيا، فمن الأهمية بمكان استعراض تطور تدفقات القروض الصينية إلى زامبيا، وهو كما يوضحه الشكل الآتي.
شكل (20): تطور تدفق القروض الصينية إلى زامبيا خلال الفترة (2000- 2022) (مليون دولار)
Source: Global Development Policy Center, Chinese Loans to Africa Database, Available at: https://www.bu.edu/gdp/chinese-loans-to-africa-database/
وقد بلغ تدفق القروض الصينية أقصاه في عام 2017، ليبلغ نحو مليارَي دولار، ثم استمر في الانخفاض خلال الأعوام التالية لدرجة توقف الاقتراض في عامي 2021 و2022.
– زامبيا وإعادة هيكلة الديون
كنتيجة لتخلف زامبيا عن سداد ديونها ومطالبتها الدول الدائنة بإعادة هيكلة الديون، وافقت الدول الدائنة في يونيو 2023 على إعادة هيكلة جزء من ديون زامبيا، وذلك في إطار قمة الميثاق التمويلي العالمي المنعقد في باريس، حيث وافقت الدول الدائنة على إعادة هيكلة نحو 6.3 مليارات دولار من هذه الديون.[14]
وبناءً عليه سيتم الحصول على قروض جديدة من دول مثل فرنسا، والمملكة المتحدة، وجنوب إفريقيا، والهند وكذلك الصين، التي تُعدّ أكبر دائن لزامبيا بقيمة تبلغ نحو 4.1 مليار دولار من الإجمالي. كما وافق المقرضون بقيادة الصين على إعادة ترتيب المدفوعات وتمديد آجال استحقاق 6.3 مليار دولار من القروض، ما يمهد الطريق لزامبيا لاستئناف التمويل من صندوق النقد الدولي. حيث يُتوقع أن تحصل على 188 مليون دولار من صندوق النقد الدولي، وهو جزء من حزمة 1.3 مليار دولار تمت الموافقة عليها في أغسطس 2022. ويقوم برنامج صندوق النقد الدولي بإرساء إعادة هيكلة الديون تحت رعاية الإطار المشترك لمجموعة العشرين. وفي هذا الشأن، اقتصرت الحكومة خلال عام 2022 على الاقتراض بشروط ميسرة من مصادر خارجية.
وقد توصلت زامبيا في أكتوبر 2023 إلى اتفاق من حيث المبدأ بشأن شروط إعادة هيكلة السندات الأجنبية المستحقة في الأعوام 2022 و2024 و2027. وبموجب شروط الاتفاق، يتنازل حاملو السندات بشكل دائم عن نحو 700 مليون دولار من الديون، ويقدمون تدفقات نقدية بنحو2.5 مليار دولار خلال فترة برنامج صندوق النقد الدولي[15].
ويتبادر إلى الذهن سؤال مهم، وهو ما سبب وقوع زامبيا في براثن الإفلاس؟ ببساطة يرجع ذلك إلى الإفراط في الاستدانة، وعدم توظيف القروض في مشروعات إنتاجية سريعة العائد، وهو ما دفع الحكومة الزامبية إلى تبنّي قانون جديد لإدارة الديون، توضع من خلاله قيود صارمة على الاقتراض، ويحسّن من مستويات الشفافية والنزاهة والإفصاح، وفي الوقت ذاته يحد من مستويات الفساد وتجنب حدوث أزمات مماثلة في المستقبل.
2-6 أزمة المديونية في غانا:
انخفض إجمالي الدين العام في غانا لتُسجل نحو 52.3 مليار دولار عام 2022، مقارنة بنحو 58.6 مليار دولار في العام السابق له، كما انخفضت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 ليُسجل نحو 70.7%، مقارنة بنحو 76.6% في العام السابق له. وعلى الرغم من هذا الانخفاض، فإنه عند النظر إلى قيمة الدين العام بالسيدي غاني (عملة غانا)، نجد أنه ارتفع بنسبة 23.7% ويرجع هذا الارتفاع في قيمة الدين إلى الانخفاض في قيمة العملة المحلية بنسبة 30% مقابل الدولار نتيجة لعوامل خارجية.
شكل (21): الدين العام ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي في غانا بالمليار دولار خلال الفترة (2018- 2022) (%)
Source: The Annual Public Debt Report, March 2023, Ministry of Finance, Ghana.
ويرجع استمرار الارتفاع في قيمة الدين العام بالسيدي غاني إلى العجز في الموازنة العامة. فقبل جائحة كوفيد-19 بثلاثة أعوام – الفترة (2017- 2019) – كانت الموازنة العامة تحقق فائضًا، ولكن بدءَا من عام 2020 انخفضت الإيرادات وارتفعت النفقات، وبلغ العجز الأولي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي نحو 5.2% في نهاية عام 2020. لكن الجهود الحكومية المبذولة عملت على خفض هذا العجز ليصل إلى 1.9% في نهاية عام 2021 ثم إلى 0.8% في نهاية عام 2022.
وعلى صعيد الدين الخارجي لغانا، فقد أثر انخفاض قيمة العملة المحلية لغانا على رفع دينها الخارجي من 28.3 مليار دولار عام 2021 إلى 29 مليار دولار عام 2022، كما ارتفعت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي فيها لتصل إلى 39.1% عام 2022، مقارنة بنحو 37% عام 2021.
شكل (22): الدين الخارجي ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي في غانا بالمليار دولار خلال الفترة (2018- 2022) (%)
Source: The Annual Public Debt Report, March 2023, Ministry of Finance, Ghana.
أما فيما يتعلق بأهم الجهات المقرضة لغانا، فيأتي الدائنون التجاريون في مقدمة الجهات التي تقرض غانا بقيمة بلغت نحو 17.5مليار دولار، يليه سندات اليورو بقيمة 13.1 مليار دولار، ثم مؤسسات متعددة الأطراف بقيمة 8 مليارات دولار وذلك حتى عام 2022.
شكل (23): رصيد الدين الخارجي لغانا وفقًا للجهات المانحة عام 2022 (مليار دولار)
Source: The Annual Public Debt Report, March 2023, Ministry of Finance, Ghana.
وكنتيجة لما تعانيه غانا من مديونية مرتفعة، فقد لجاءت في يناير 2023 إلى إعادة هيكلة ديونها الخارجية مع الدائنين الرسميين والدائنين من القطاع الخاص وذلك بموجب الإطار المشترك لمجموعة العشرين. كما أعلن صندوق النقد الدولي في مايو 2023 الموافقة على برنامج مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار لغانا، مع صرف أولي يبلغ نحو 600 مليون دولار، وذلك بهدف دعم الإصلاحات الاقتصادية وإعادة استقرار الاقتصاد الكلي والقدرة على تحمل الديون. كما تعهد البنك الدولي بصرف 1.6 مليار دولار لغانا[16].
وبالنظر إلى كل من تجربتَي زامبيا وغانا، نجد أن المشكلة الرئيسية تكمن في الجهات التي تستدين منها الدولتان، إذ إن النسبة الأكبر من الديون تكون لمصلحة ديون تجارية وسندات مقومة باليورو. وبالطبع فإن الاعتماد على التمويل من خلال هاتين الأداتين مكلف للغاية. كما أن معظم القروض التي يجري الحصول عليها تتركز في مشروعات بنية تحتية عوائدها تأتي بعد أجل طويل، ما يتسبب في تعميق مشكلة الديون، وعدم القدرة على السداد في الأجل القصير. ولا يعني ذلك أن تتركز القروض كافة في مشروعات قصيرة الأجل، ولكن تنويع المشروعات بين قصيرة وطويلة الأجل يفيد في القدرة على السداد في الأجل القصير، إضافة إلى الشروط والإجراءات القاسية للمؤسسات الدولية -وبالأخص صندوق النقد الدولي- لقبول عملية إعادة هيكلة الديون وذلك من أجل ترتيب الأوضاع المالية للدولتين.
إضافة إلى عدم التعامل بمصداقية من المقرضين، ففي الوقت الذي انخفضت فيه عملة غانا بنحو 60% عام 2022، أعلن الرئيس الغاني أنه لن يكون هناك خسائر لحاملي الديون الخارجية، ولكن بعد ذلك بفترة قليلة أُعلن تخفيض قيمة السندات الأجنبية[17].
7- هل من مخرج كفؤ وعادل لأزمة ديون إفريقيا جنوب الصحراء؟
وفقًا للتحليل السابق، اتضح أن الأزمات العالمية المتتالية أثرت سلبًا على مديونية دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، هذا إلى جانب سياسات إدارة الدين التي تتبعها هذه الدول، وهي تتسم بعدم دراسة النتائج المترتبة على هذه القروض. وفي هذا الإطار قدم صندوق النقد الدولي خمسة إجراءات سياسية يمكن لحكومات دول إفريقيا جنوب الصحراء تبنّيها لتجنب أزمة الديون والحفاظ على استدامة المالية العامة، مع تحقيق الأهداف الإنمائية للمنطقة. وفيما يأتي أهم هذه السياسات[18]:
1. إعادة النظر في السياسة المالية التي تتبعها دول جنوب الصحراء الإفريقية، فبدلًا من التركيز على العجز المالي القصير الأجل، ينبغي اتباع استراتيجية متوسطة الأجل يتم فيها تحديد أهداف واضحة للديون مع تحديد الخيارات بين القدرة على تحمل الديون والأهداف الإنمائية.
2. خفض العجز المالي في المنطقة بمقدار 2% إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى الرغم من إمكانية العديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء تحقيق التحسن التدريجي في الرصيد الأولي للموازنة، فإن دول المنطقة تختلف عن بعضها بعضًا. لذا فإن الدول التي تتمتع بقدر معقول من الحيز المالي يمكنها ضبط أوضاعها المالية بطريقة جيدة وذلك من أجل ضمان الاستدامة المالية. أما في حالة الدول التي لا تستطيع ضبط أوضاعها المالية، فيمكنها إعادة تشكيل الديون أو إعادة هيكلتها.
3. تعبئة المزيد من الإيرادات المحلية، فبدلًا من محاولة تقليص الإنفاق العام لخفض العجز المالي، فإنه يمكن إلغاء بعض الإعفاءات الضريبية أو رقمنة أنظمة التسجيل والدفع، حيث إن تعبئة الإيرادات المحلية أقل ضررًا على النمو في الدول التي لديها مستويات ضرائب منخفضة، في حين أن تكاليف خفض النفقات تكون مرتفعة بشكل كبير نظرًا إلى احتياجات التنمية الضخمة في إفريقيا. وقد تبنت بالفعل بعض دول المنطقة منهج الاعتماد على الإيرادات والسياسات الضريبية مثل غامبيا ورواندا والسنغال وأوغندا.
4. تعزيز مؤسسات الموازنة لتحسين تنفيذ الخطط المالية، مع الأخذ في الحسبان احتمالية حدوث مخاطر مالية غير متوقعة. لذا ينبغي الاعتماد على إطار مالي متوسط الأجل، ووضع الأدوات اللازمة لتقييم مخاطر المالية العامة وإدارتها بشكل أفضل، وتعزيز الضوابط على الإنفاق الحكومي.
5. الإشراك المجتمعي وتوعية الأفراد بإصلاحات السياسة المالية والمنافع والعواقب والتكاليف التي ستترتب على عدم تبني هذه السياسات، إضافة إلى اتخاذ الحكومات بعض التدابير التعويضية في أثناء تبنيها إصلاحات السياسة المالية، وحتى يقتنع الأفراد بهذه الإصلاحات ينبغي أن تجري بطريقة تتسم بالكفاءة والعدالة والشفافية.
وختامًا، يُمكن القول إنه من قلب المحن تأتي المنح، فعلى الرغم من وقوع بعض دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء في ضائقة الديون أو أنها تعاني مخاطر من متوسطة إلى مرتفعة لسداد الديون، فإنه يمكن استغلال هذه الضائقة لمصلحة دول المنطقة، وذلك من خلال الاعتماد على التمويل المبتكر لتمويل المشروعات التنموية بدلًا من الاقتراض الخارجي. وتتميز أساليب التمويل المبتكر بكفاءة استخدام الموارد المالية، وسرعة الحصول على التمويل خاصة في حالات الأزمات. ومن ضمن آليات التمويل المبتكر الآتي:
– آلية مبادلة الديون: يُقترح مبادلة جزء من الديون المستحقة باستثمارات، ولاسيما الاستثمار في مشروعات تعمل على التخفيف والتكيف مع التغيرات المناخية، ودعم قدرة الدول على الصمود في مواجهة هذه التغيرات.
– إصدار السندات الخضراء: التي تستهدف المستثمرين الذين يرغبون في الاستثمار في مجالات التنمية أو البيئة، ومن ثمّ فإنهم يقبلون انخفاض معدلات العائد على استثماراتهم، وذلك في العديد من المجالات مثل الطاقة المتجددة، والزراعة الذكية.
كما ينبغي استغلال التغيرات المناخية وإعلان تجميع استثمارات تمويلية ضخمة من جانب الدول الصناعية الكبرى السبع، وكذلك الاتحاد الروسي والصين للحد من الآثار السلبية الناجمة عن التغيرات المناخية والاستثمار في الطاقة النظيفة بالاقتصادات الصاعدة، لتكون هذه الاستثمارات مدخلًا مهمًّا إلى تنمية دول المنطقة.
وأخيرًا، وفي ظل حالة عدم اليقين التي أصبحت مسيطرة على الوضع العالمي، فإن أي قروض تستدينها دول المنطقة ينبغي أن تكون قروضًا طويلة الأجل بفائدة ميسرة، والاستفادة من الخبرات السابقة لدول المنطقة في عدم الاعتماد على الديون التجارية لتجنب أزمات ديون أخرى في المستقبل.
[1] UNCTAD, 2023, A World of Debt, Available at: https://unctad.org/publication/world-of-debt*
[2] World Bank Blogs, March 2023, Slowing debt accumulation, growing risks: Unveiling the complexities of Sub-Saharan Africa’s debt burdens, Available at: https://blogs.worldbank.org/opendata/slowing-debt-accumulation-growing-risks-unveiling-complexities-sub-saharan-africas-debt
[3] تقرّ بعض الدول الإفريقية قوانين تحدد سبل إنفاق الدين الخارجي. فعلى سبيل المثال، في سيراليون، تنص المادة الثانية من قانون إدارة الدين العام على أنه “يجوز للحكومة أن تقترض للأغراض الآتية: تمويل العجز في ميزانية الحكومة؛ الاحتفاظ برصيد دائن في حساب الخزانة العامة؛ تقديم القروض أو الاعتمادات الحكومية للمجالس المحلية والمؤسسات العامة؛ الوفاء بالالتزامات بموجب الضمانات الحكومية المعلقة؛ إعادة تمويل الديون المستحقة أو سداد القرض قبل تاريخ سداده؛ إزالة الآثار الناجمة عن كارثة طبيعية أو بيئية أو أي حالة طوارئ وطنية أخرى؛ تجديد الاحتياطيات الدولية؛ تلبية طلبات بنك سيراليون لإصدار الأوراق المالية الحكومية لغرض دعم أهداف السياسة النقدية. ولمزيد من التفاصيل حول أهم أوجه الإنفاق الخاصة بالقروض في دول إفريقيا جنوب الصحراء، راجع:
–Soko, Bopelokgale, June 2022, Debt Management and Governance in Africa, African Debt Series Vol. 1. Available at: https://library.fes.de/pdf-files/bueros/fes-ua/19364.pdf
[4] World Bank, 2023, Africa’s pulse.
[5] IMF, 2023, Debt Dilemmas in Sub-Saharan Africa: Some Principles and Trade-Offs in Debt Restructuring.
[6] Greene, J. (1989). The external debt problem of sub-Saharan Africa. Staff Papers, 36(4), 836-874. Available at: https://www.elibrary.imf.org/display/book/9781557750419/ch03.xml?tabs=fulltext
– عبد السلام، جيهان، أكتوبر 2022، الديون الخارجية وتأثيرها على النمو الاقتصادي في إفريقيا جنوب الصحراء: دراسة قياسية منذ عام 2006، مجلة كلية السياسة والاقتصاد، العدد السادس عشر، كلية الدراسات الإفريقية العليا، جامعة القاهرة، مصر.
[7] IMF, 2023, Regional Economic Outlook: Sub- Saharan Africa, Light on the Horizon?
[8] Ibid.
[9] calculation of the researcher depending on: IMF, October 2023, Regional Economic Outlook: Sub-Saharan Africa Analytical Note, At a Crossroads: Sub-Saharan Africa’s Economic Relations with China.
[10] Ibid.
[11] Ibid.
[12] Kepe, M., Cohen, R. S., Vest, N., Klein, K., Rhoades, A. L., Schuh, E., … & Treyger, E. (2023). Great-Power Competition and Conflict in Africa. Available at: https://www.rand.org/pubs/research_reports/RRA969-2.html
[13] ARABIC.NEWS.CN, 2022, Available at: https://arabic.news.cn/20221220/416de8e75cd04a1685d3dac97889f71a/c.html
[15] بوابة الأهرام، 26 أكتوبر 2023، زامبيا تتوصل إلى اتفاق من حيث المبدأ لإعادة هيكلة السندات الأجنبية، متاح على الموقع الإلكتروني الآتي: https://gate.ahram.org.eg/News/4599082.aspx
[16] العربية، مايو 2023، “صندوق النقد” يوافق على قرض بثلاثة مليارات دولار لـ “غانا”، متاح على الموقع الإلكتروني: https://n9.cl/dkuvj
[17] بلومبرج الشرق، 2022، بعد تفاقم الديون.. غانا تطالب حاملي السندات بتقبل الخسائر، متاح على الموقع الإلكتروني التالي: https://n9.cl/qgsh5
[18] Comelli, Fabio, and others, September 2023, How to Avoid a Debt Crisis in Sub-Saharan Africa, Available at: https://www.imf.org/en/News/Articles/2023/09/26/cf-how-to-avoid-a-debt-crisis-in-sub-saharan-africa#:~:text=The%20average%20debt%20ratio%20in,has%20also%20become%20much%20costlier