Insight Image

من خطاب “السلطة” إلى خطاب “المعنى” الإسلاموية ودراساتها في مفترق التحوّلات

19 نوفمبر 2025

من خطاب “السلطة” إلى خطاب “المعنى” الإسلاموية ودراساتها في مفترق التحوّلات

19 نوفمبر 2025

من خطاب “السلطة” إلى خطاب “المعنى” الإسلاموية ودراساتها في مفترق التحوّلات

تعيش دراسات الإسلام السياسي اليوم مرحلةً انتقالية دقيقة، ومنعطفًا معرفيًّا حاسمًا في مسار إنتاجها البحثي، ولاسيّما في الغرب؛ إذ شهدت هذه المرحلة صدور عددٍ من المؤلفات التي تُشكّل في مجموعها لوحةً تفسيرية متكاملة، تُتيح فهمًا أعمق لكيفية مقاربة الدراسات الغربية لواقع الظاهرة الإسلاموية بوصفها مشروعًا أيديولوجيًّا مركبًا ومتعدّد الأبعاد.

تُظهر العيّنة العشوائية المختارة من الدراسات والكتب الصادرة باللغة الإنجليزية، أنّ هذه الأبحاث، في مجملها، تميل إلى الاعتقاد بأنّ الحركات الإسلاموية قد تخلّت تدريجيًّا عن شعارات “التمكين السياسي” لصالح مشروعٍ بديل يتمحور حول “الهيمنة الرمزية والمعرفية”. فقد باتت تسعى إلى ممارسة التأثير من داخل منظومة المعنى لا من خارجها، عبر الحفاظ على موقعها كمرجعية فكرية ورمزية بديلة، بدلًا من السعي المباشر إلى السلطة، ولاسيّما في المجتمعات الغربية، أو في البيئات التي لا تُدرجها القوانين ضمن التنظيمات الإرهابية. وفي هذا السياق، تعمل الإسلاموية على إعادة تشكيل السرديات المناوئة لها من خلال توظيف مختلف الوسائل المتاحة، المشروعة وغير المشروعة، وعلى رأسها التضليل الإعلامي، وصناعة الخطابات الموجَّهة التي تُعيد تأطير صورتها العامة وتخدم مشروعها في بناء سلطةٍ رمزيةٍ موازيةٍ للسلطة السياسية.

تشمل العيّنة العشوائية هذه الإصدارات المنشورة في الفترة ما بين أواخر عام 2024 وعام 2025:

  • Political Islam at the Crossroads: Resilience and Adaptation in the Contemporary Middle East (Ayfer Erdogan Şafak & Shaimaa Magued, 2024).[1]
  • “They Are All the Same”: Securitising the Muslim Brotherhood in Saudi Arabia and Egypt (Javier Bordon Osorio, 2025).[2]
  • Brothers Behind Bars: A History of the Muslim Brotherhood from the Palestine War to Egypt’s Prisons (Mathias Ghyoot, 2025).[3]
  • Brotherhood of Shadows (Maze EN Baha, 2025).[4]
  • Muslim Brotherhood in America (Jason R. Morris, 2025).[5]
  • Handbook of Political Islam in Europe (Thomas Jäger & Ralph Thiele, 2024).[6]
  • Institutions of Political Islam in Bangladesh: Histories, Agendas, and Strategies (Shafi Md. Mostofa, 2025).[7]

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل كيف ترى هذه المؤلفات واقع الإسلاموية؟ وكيف تستشرف مستقبلها؟ معتمدةً المنهج التحليلي المقارن للمفاهيم المركزية التي استخدمتها هذه الكتب لفهم الظاهرة الإسلاموية، مثل: التكيُّف، والأمننة، والسجن، والاختراق، والتهديد.

الإسلاموية بين التكيُّف والبقاء

يُعَدُّ كتاب Political Islam at the Crossroads: Resilience and Adaptation in the Contemporary Middle East، الذي حرّرته الباحثتان آيفر أردوغان شافاك وشيماء مَجِيد (Bloomsbury, 2024)، من الإسهامات المقارنة الحديثة التي تحاول تفسير أسباب بقاء الحركات الإسلاموية بعد مرحلة الانحسار السياسي التي أعقبت موجة “الربيع العربي“. ويركّز الكتاب على سؤالين رئيسيين:

  1. كيف تأقلمت الحركات الإسلاموية مع سياقات لفظ المجتمعات لها، وأمننه وجودها من الدول التي صنفتها إرهابية والدول الأخرى التي اتخذت ضدها إجراءات رقابية؟
  2. ما حدود مرونة الحركات الإسلاموية في مواجهة مثل هذا السياق؟

منهج الكتاب يجمع بين المقارنة السياسية والتحليل السوسيولوجي، من خلال دراسات حالة تشمل الإخوان المسلمين في مصر، والنهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، وحزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا.

يرى الكاتبان أن الإسلاميين لم يندثروا، بل أعادوا ترتيب خطابهم وأدواتهم بما يسمح لهم بالبقاء في الفضاء السياسي والاجتماعي. فالمرونة التنظيمية والتكيُّف مع الواقع تمكّنان الإسلاميين من “تطبيع” وجودهم في المشهد العام، ولو كان الثمن هو التخلي عن جزء من طموحاتهم الأصلية.

غير أنّ القراءة النقدية لهذا العمل تكشف عن محدودية مقاربته التوصيفية؛ إذ يركّز على مظاهر التكيّف أكثر من تفسير منطقها الداخلي. كما يبقى الكتاب أسيرًا للمفاهيم التقليدية المتداولة في دراسة الإسلامويين، سواء عبر تصويرهم كـ”مُضْطَهَدِين”، أو كممثلين “حقيقيين” للمسلمين، من دون أن يتوغّل في البنية المعرفية العميقة التي تفسّر فشل الإسلام السياسي في مستوياته المختلفة، من حيث الأبعاد والمدى، وحدود نجاعة محاولات التكيُّف الإخواني مع الواقع الجديد. كما يعجز عن تقديم تقييمٍ موضوعيٍّ قابلٍ للقياس والمعيارية لمدى نجاح تلك المحاولات أو إخفاقها، مكتفيًا في الغالب بتحليلاتٍ انطباعيةٍ متسرّعة لا ترتقي إلى مستوى التفكيك النقدي المنهجي.

الأمننة وإعادة إنتاج النظام الإقليمي

يقدّم الباحث الإسباني خافيير بوردون أوسوريو في دراسته المنشورة مايو 2025، بعنوان “They Are All the Same”: Securitising the Muslim Brotherhood in Saudi Arabia and Egypt، مقاربة تجمع بين نظرية الأمننة والنظرية الاجتماعية لبورديو، وتحاول تفسير كيف تمّ تحويل “الإخوان المسلمين” إلى رمز تهديدي مركزي في بناء النظام الإقليمي لما بعد 2011.

ينطلق أوسوريو من فرضية أن “النظام” في الشرق الأوسط لا يُفهم من خلال توازن القوى فقط، بل من خلال إنتاج المعنى الأمني المشترك بين الفاعلين الإقليميين. ويحلّل الكيفية التي تمت بها “أمننة” جماعة الإخوان في كُلٍّ من السعودية ومصر؛ أي إدراجها ضمن خطاب الخطر الداخلي والخارجي الذي يوحّد السلطة والمجتمع ويُعيد ترتيب الحقول السياسية والدينية.

يُظهر الباحث أن الأمننة ليست مجرد تقنية لضبط المجال، بل عملية لإعادة تشكيل الفضاء الاجتماعي ذاته. فباعتبار الإخوان تهديدًا مشتركًا، يتمّ إنتاج “المعقول الجمعي” الذي يربط بين الدولة والمجتمع حول سردية موحّدة للأمن والاستقرار. هذه المقاربة التي تمزج بين التحليل الأمني والتحليل المكاني (Spatial Theory) تمثل إضافة للدارسات حول الإسلاموية ، لأنها تكشف كيف يُعاد بناء “نظام المعنى ” عبر الخطاب لا عبر القوة وحدها.

وتكشف هذه الدراسة أن الإسلاموية -حتى حين تُصنَّف كتهديد- فإنها تشارك في إنتاج المعنى الذي يبرّر الأمننة ذاته؛ إذ إن خطاب الدولة الذي يركز علي خطورة الإخوان، وخطاب الجماعة الذي يستثمر في المظلومية، يعملان معًا داخل النظام نفسه: الأول لإضفاء شرعية على تعامل الحكومات مع الجماعة، والثاني لتغذية سردية “المقاومة الرمزية”. وهكذا تتحول “الأمننة” إلى علاقة تفاعلية[8]، لا إقصائية؛ إنها آلية لإعادة إنتاج الحقل السياسي الرمزي بين الطرفين، وهو ما يؤكد أن الإسلاموية لم تخرج بَعْد من نظام المعنى، بل مازالت جزءًا من بنية إنتاج المعنى.

إن إسهام أوسوريو يتجاوز التحليل السياسي إلى تفكيك العلاقة بين الأمن والمعرفة[9]، ليُبيّن أن “الخطر الإسلاموي” هو أيضًا مُنْتَج معرفي يخدم إعادة توزيع السلطة الرمزية[10] في المنطقة.

غير أن هذه الدراسة -على الرغم من أصالتها في مناطق متعددة- يمكن انتقادا بأنها وقعت في غير موضع في فخّ التعاطف غير العقلاني مع جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص. وفي المقابل شيطنت التعامل السعودي والمصري المشروع مع الجماعة بعد تجربة ما يُسمّى بـ“الربيع العربي”. كما يُؤخذ على الكتاب تجاهله تحليل خطاب المظلومية[11] الذي تُتقنه الجماعة، وتستخدمه أداةً لإعادة إنتاج شرعيتها الرمزية، فضلًا عن عدم تفكيكه للأسباب الحقيقية التي دفعت الحكومات العربية إلى إعادة صياغة تعاملها مع الجماعة، بعدما تبيّن خطرها على الدولة الوطنية والمجتمع، لا على “الأنظمة”، كما تدّعي كثير من الدراسات الغربية المتعاطفة معها.

السجن كمختبر لإعادة بناء الأيديولوجيا

يقدّم كتاب Brothers Behind Bars: A History of the Muslim Brotherhood from the Palestine War to Egypt’s Prisons (Mathias Ghyoot, Oxford University Press, 2025)  تاريخ حركة الإخوان من وراء القضبان، مستندًا إلى أكثر من ثلاثمائة مذكّرة كُتبت في السجن بأقلام سجناء وسجينات من جماعة الإخوان بين عامي 1948 و1975.

يروي الكاتب قصة الإسلاموية في مصر من منظور السجن، كاشفًا أنه لم يكن مجرد مكان للعقاب، بل بيئة لإعادة إنتاج الأيديولوجيا والتنظيم. ويبيّن كيف أن تجربة السجن -منذ ما يسمى اعتقالات 1948، مرورًا بسنوات عبد الناصر والسادات- هي التي شكلت مختبرًا أيديولوجيًّا لصياغة مفهوم “الطليعة المؤمنة”، و”المجتمع الإسلامي البديل”.

وبحسب المؤلف، فقد أدّى احتكاك الإخوان بتيارات أخرى داخل السجون كالشيوعيين، والناصريين إلى تحولات فكرية داخل الجماعة ربطت بين مفهومي “المظلومية” و”الفرقة الناجية” كمثال حي على كيف تتحول المظلومية إلى رأسمال رمزي تنتجه الجماعة وتستثمره. فـدور “الضحية” ليس مجرد موقع، بل بنية للتعبئة وللتجييش والتماسك التنظيمي. وفي هذا السياق لقد أنتجت تجربة السجن خطابًا مزدوجًا: داخليًا يربط هوية الجماعة بالمعاناة، وخارجيًا يُسَوِّق المظلومية بوصفها شهادة على أنك على الصواب المطلق. ويظهر الكتاب كيف تعيد جماعة الاخوان تأطير الفشل السياسي كقَدَرٍ ديني ومجالٍ للتمكين المعنوي.

الإسلاموية بين التوثيق الاستخباري والمقاربة التحذيرية

Brotherhood of Shadows (Maze EN Baha, 2025) وMuslim Brotherhood in America (Jason R. Morris, 2025)

يعبّر هذان العملان عمّا يمكن تسميته بـ«المدرسة التحذيرية» في تناول الإسلاموية؛ إذ يقدمان جماعة الإخوان المسلمين، ليس فقط كظاهرة اجتماعية أو فكرية معقّدة، بل كـ”تنظيم سرّي عابر للقارات، يسعى لاختراق الأنظمة الديمقراطية”، وهذه حقيقة أغفلتها الكتب السابقة الي حد كبير.

في كتابه Brotherhood of Shadows، يقدّم Maze EN Baha سردًا مكثّفًا ومشحونًا بالمعطيات الاستخبارية حول شبكات النفوذ المالي والدعوي والسياسي، التي يرى أنها تمثّل “البنية الخفية” للجماعة، ويصفها بأنها «مافيا روحية أو دينية» تتقن إعادة التكيُّف الثقافي والسياسي عبر التمويل الخيري والتعليم والإعلام، مستهدفة المجتمعات الغربية بأدوات غير عنيفة، ولكنها “منهجية وناجعة”.

أمّا كتاب Jason R. Morris Muslim Brotherhood in America فيوسّع دائرة التحليل إلى السياق الأمريكي، رابطًا بين الفكر الإخواني والمصادر الأصلية للفقه الجهادي. ويؤكد أن الجماعة في أمريكا تتبنّى استراتيجية مزدوجة: “الأسلمة من الداخل” عبر المجتمع المدني، و”إعاقة الأمن القومي” عبر الضغط السياسي والإعلامي.

وهكذا يقدم هذان العملان مادة توثيقية مهمّة تكشف كيف أصبحت الإسلاموية موضوعًا لإنتاج الخوف نفسه. فالمعنى الأمني -في نظر البعض- يُنْتَج من داخل الظاهرة، وأيضا من خلال إعادة تمثيلها، أو تمثيلها بالشكل الصحيح في الخطاب العام كتهديد.

وهذه المزاوجة بين المعلومة الاستخباراتية والرمز السياسي تُظهر أن الإسلاموية تحوّلت إلى “علامة أمنية” تُسْتَثْمَر سياسيًّا في الداخل الغربي، كما تُسْتَثْمَر الإسلاموية نفسها في خطاب المظلومية.

الإسلاموية الأوروبية بين الاختراق الناعم والهندسة الرمزية

Handbook of Political Islam in Europe (Thomas Jäger & Ralph Thiele, Springer, 2024)

يرصد هذا العمل حضور الإسلاموية في الفضاء الأوروبي، جامعًا بين التحليل الأمني والسياسي والسوسيولوجي، عبر فصول متعدّدة، كتبها خبراء من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا والسويد وإيطاليا.

يركّز الكتاب على ظاهرتين مركزيتين:

  1. الاختراق الناعم [12](Soft Penetration)، أي قدرة الحركات الإسلاموية على الاختراق التدريجي داخل البنى المؤسسية للديمقراطيات الغربية، من خلال العمل المدني والخيري والثقافي.
  2. الهندسة الأيديولوجية [13](Ideological Engineering)، أي إعادة تشكيل الوعي الديني والاجتماعي لدى الأجيال المسلمة الجديدة في أوروبا؛ لتوليد هوية هجينة “إسلاموية أوروبية”، تُعيد صياغة العلاقة بين الدين والمواطنة.

الكتاب لا يتبنّى مقاربةً تحذيريةً مؤسسةً على التحليل والرصد، فهو لا يرى في الإسلاموية خطرًا أمنيًّا فحسب، بل نظامًا متكاملًا لتصميم وهندسة المعاني والرموز داخل الفضاء الليبرالي الأوروبي. وقد تمكّنت الجماعات الإسلاموية من ممارسة “السلطة الرمزية”، التي وصفها “بيير بورديو” بأنها سلطة تشكيل إدراك الآخر لذاته.

إنّ ما يميّز هذا العمل هو وعيه بأن الإسلاموية في أوروبا تعمل داخل النظام، مستخدمةً قيم الديمقراطية والتعددية كآلية اختراقٍ ناعمٍ لإعادة هندسة الرموز الدينية والسياسية في القارة.

الإسلاموية البنغالية: نموذج التكيُّف ما بعد الكولونيالي

Institutions of Political Islam in Bangladesh: Histories, Agendas, and Strategies (Shafi Md. Mostofa, Routledge, 2025)

ينقل هذا الكتاب مركز التحليل من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا، حيث يقدّم الكاتب دراسة شاملة عن مؤسسات الإسلام السياسي في بنغلاديش، مثل الجماعة الإسلامية، وجماعة المجاهدين البنغالية، وحزب التحرير، وجماعة التبليغ، وأنصار الإسلام.

يُبرز المؤلف أن هذه الجماعات تتشارك الهدف المتمثّل في “أسلمة الدولة”، لكنها تختلف في وسائلها واستراتيجياتها بين العمل الدعوي والاجتماعي وبين العنف المسلح. ويمزج الكتاب بين التحليل التاريخي لما بعد الاستعمار ونظرية الأمننة، ليُظهر كيف تتشابك الإسلاموية البنغالية مع البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد منذ انفصالها عن باكستان عام 1971.

يمثّل هذا العمل إسهامًا يتجاوز التوصيف إلى تحليل تفاعل الإسلاموية مع الدولة القومية في سياقٍ ما بعد كولونيالي. فالمؤلف يرى أن الحركات الإسلاموية البنغالية -رغم تبنّيها خطابات شمولية- تمارس أدوارًا اجتماعية ضرورية في فضاء تسيطر عليه الهشاشة الاقتصادية، ما يجعلها فاعلًا مزدوجًا: مقاومًا للنظام، وفاعلًا ضمنه في الوقت نفسه.

يربط الكاتب بين هذه الجماعات وبين الجماعات العابرة للحدود، مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، مبينًا أن الإسلاموية البنغالية تمثل نوعًا من الهجنة الأيديولوجية بين السلفية السياسية والإخوانية الدعوية. ويُظهر كيف تمكّنت هذه الحركات من توظيف “المظلومية الاستعمارية” لتبرير مشروعية خطابها المعارض، بل لتجذير سرديتها داخل الوعي الجمعي البنغالي.

هكذا تصبح بنغلاديش مختبرًا لفهم كيف يتخذ المشروع الإسلاموي أشكالًا متعددة لتحقيق أهدافه، ما بين دعوية، وخيرية، وجهادية، وتعليمية، لكنها تتقاطع جميعًا في إعادة إنتاج المجال الرمزي في معادة الدولة الحديثة.

الخاتمة

القراءة المقارنة لهذه الأعمال -التي قد تمثل عينة معبرة وممثلة للمشهد الأكاديمي الغربي العامل على مجال الإسلاموية- كشف عن ملاحظة مركزية وجوهرية:

  • الكتب تُجمع، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، على أنّ الإسلاموية قد فقدت وظيفتها السياسية التقليدية التي ارتبطت بمطلب السلطة والحكم، لكنها -في المقابل- باتت تركّز على أداء وظيفةٍ رمزيةٍ ومعرفيةٍ متزايدة. لم يَعُدْ السؤال الرئيسي هو: هل يستطيع الإسلامويون أن يحكموا؟ بل أصبح: كيف يحتفظون بدورهم في تفسير الإسلام وتمثيله في الفضاء العام، والتعبئة باسم الدين؟
  • إنّ هذا التحوّل -من السياسي إلى المعرفي- لا يُعبّر فقط عن تراجع جماعات الإسلاموية على المستوى السياسي وتركيزها على الجانب المعرفي، بل يعكس أيضًا حتمية نقلةٍ إبستمولوجيةٍ مرافقةٍ في دراسات الإسلام السياسي، تستوجب إعادة بناء الإطار النظري الذي يُدْرَس من خلاله هذا الحقل.
  • إنّ خلاصة هذه التحولات تؤكد أنّ الإسلاموية لم تَعُدْ قضية الدولة والحكم (فلقد خسروا المعركة)، بل قضية المعرفة. ولم تَعُدْ خطرًا على الأمن المادي فحسب، بل على الأمن المعرفي والرمزي الذي يحدّد من يملك سلطة الكلام باسم الإسلام، ومن يمتلك أدوات تمثيله.

ومن هنا تنطلق الحاجة إلى تفكير نقدي جديد يعيد بناء أدوات البحث في الإسلام السياسي، متحرّرًا من المقاربات السائدة حتى الآن، ومتجهًا نحو مقاربة معرفية مركّبة، تُعيد إلى الدراسات الأكاديمية عمقها التحليلي ودقّتها المنهجية، وتفتح أفقًا لفهم الإسلاموية، بوصفها أحد مختبرات إنتاج المعنى في عالمٍ يتغيّر بسرعة.

خلاصة الأمر أن الإسلاموية اليوم غَدَتْ قضية معرفة أكثر منها قضية سلطة؛ إذ لم تَعُدْ تمثل تهديدًا للأمن المادي للدول، بقدر ما تُشكّل خطرًا على الأمن المعرفي والرمزي ورأس المال المجتمعي[14]، من خلال سعيها إلى احتكار سلطة التأويل والتمثيل الديني. ويستدعي هذا الواقع تبنّي تفكيرٍ نقديٍّ جديدٍ متحرّرٍ من المقاربات التقليدية التي اختزلت الظاهرة في بُعْدَيْها: السياسي أو الأمني، وأن يتجه هذا التفكير نحو بناء إطارٍ معرفيٍّ مركّب يعيد إلى دراسات الإسلام السياسي عمقها التحليلي ودقّتها المنهجية، ويفتح في الوقت ذاته أفقًا لفهم الإسلاموية بوصفها أحد مختبرات إنتاج المعنى في عالمٍ يشهد تحوّلاتٍ متسارعة في بنية الخطاب والسلطة والمعرفة.

ومن هنا، تتأكد أهمية المجابهة المعرفية للأفكار المتطرفة بوصفها عملًا طويل الأمد ومستدامًا، يتطلّب بناء منظوماتٍ فكريةٍ ومؤسسيةٍ قادرة على حماية المجال المعرفي من التلاعب الأيديولوجي، وترسيخ ثقافةٍ نقديةٍ عقلانيةٍ تُحَصِّن الوعي الجمعي وتُعيد الاعتبار للعقل العلمي في فهم الدين والمجتمع.


[1] Ayfer Erdogan Şafak & Shaimaa, Magued Political Islam at the Crossroads: Resilience and Adaptation in the Contemporary Middle East, I.B. Tauris, 2024.

[2] Javier Bordon Osorio, “They Are All the Same”: Securitising the Muslim Brotherhood in Saudi Arabia and Egypt, In: The International Spectator: Italian Journal of International Affairs. 22 p. 2025.

[3] Mathias Ghyoot, Brothers Behind Bars: A History of the Muslim Brotherhood from the Palestine War to Egypt’s Prisons, Oxford University Press, 2025.

[4] Maze EN Baha, Brotherhood of Shadows, independently published, 2025.

[5] Jason R. Morris, Muslim Brotherhood in America, Hutson Street Press, 2025.

[6] Thomas Jäger & Ralph Thiele Handbook of Political Islam in Europe, Springer,2024.

[7] Shafi Md. Mostofa, Institutions of Political Islam in Bangladesh: Histories, Agendas, and Strategies, Routledge India, 2025.

[8] جدلٌ دائري بين خطاب الدولة وخطاب الجماعة ينتج ويعيد إنتاج “منطق الخطر”.

[9] قدرة الدولة والمجتمع على صون معايير إنتاج وتداول المعرفة الدينية/المدنية ومنع احتكار التمثيل.

[10] القابلية الاجتماعية للاعتراف بخطاب فاعلٍ ما، بوصفه “المعيار” الذي يُعرّف الإسلام/ الهوية.

[11] المظلومية المُستثمَرة: تحويل أذًى مُتَخَيَّل إلى رأسمال تعبوي رمزي.

[12] توغل تدريجي قانوني-مؤسسي عبر التعليم، والجمعيات، والإعلام، والتمويل الخيري.

[13] عمليات مقصودة لإعادة تشكيل المعاني الدينية والقيم المدنية لدى جماعات الهدف.

[14] “من المتعارف عليه أن “رأس المال الاجتماعي” هو مستوى الثقة والانتماء بين أبنـاء المجتمـع وقـدرتهم عـلى العمل جنبًا إلى جنب لتحقيق أهداف مشتركة، وأنه يختلف من مجتمع إلى آخر، وبالطبع يتغير مع الزمن، حيث يمكن لمجتمعٍ ما أن ينجح في اكتساب رأس مال اجتماعي بعد فترات من انعدامه أو ضعفه، كما يمكن أن يفقد مجتمعٌ رأسماله الاجتماعي، أو تتدهور قدرته على الحفاظ عليه. ولا شك في وجود ارتباط قوي ووثيق بين رأس المال الاجتماعي والأمن القومي، حيث إن غنى رأس المال الاجتماعي، وانتشار التواصل الاجتماعي، وسيادة الثقة والانتماء بين أفراد المجتمع وتخطيها للجماعات المكونة للمجتمع، كل ذلك يُسهم إسهامًا محددًا وجوهريًّا في خلق -أو تقوية- تماسك الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية. وكل ذلك من المكونات الرئيسية للأمن القومي، بعد التخلي عن مفهومه الضيق الذي كان يتمحور حول الجانب العسكري.

وائل صالح، رأس المال الاجتماعي كالحدود الجغرافية للدولة، العين الإخبارية، 2-11-2020 https://al-ain.com/article/social-capital-geographical-boundaries-state

المواضيع ذات الصلة