قد يبدو المشهد الميداني (في جانبه العسكري) ضبابياً في أوكرانيا، إلا أن الإيماءات السياسية باتجاه المخارج المحتملة من هذه الازمة قد يُعبر عنها في بعض هوامش الدبلوماسية الاقتصادية؛ فعودة ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا عبر خط الإمداد نورد ستريم1، وكذلك توقيع موسكو وكييف على تفاهم جديد حول تصدير منتجاتهما من الغلال برعاية تركية في أنقرة يوم 22 من يوليو الجاري، تعد مؤشرات إيجابية قد تحفّز جميع الأطراف على العودة لطاولة المفاوضات بجدية أكبر.
خيارات موسكو باتت محدودة مع قرب بلوغها مرحلة الإنهاك العسكري والاستنزاف المعنوي الكلي، مما قد يقود لمستوى من الانكشاف غير مسبوق نتيجة سوء التقدير الاستراتيجي سياسيا وعسكريا، ولذلك لجأت للتلويح بالخيار النووي، وذلك أقصى حدود سياسة “حد الهاوية Brinkmanship Policy” والذي اعتمدته الأقطاب الثلاثة في التزاحم الاستراتيجي منذ عقديين. إلا أن لجوء موسكو لإيران للتعويض عن المسيرات الصينية يمثل نقطة تحول في الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية، خصوصا وأن الأخيرة هي من قرر وقف إمداد الحليف الروسي بالمسيرات منذ ما يقارب ثلاثة أشهر، وذلك ما أكده أكثر من مصدر، أما ثانياً، فإنه لا مبرر لمثل تلك الخطوة الروسية لو لم يقع ما تقدم.
والإشارة هنا لمثل هذا التطور في الموقف الصيني ضروري ضمن قراءة العناصر المتحركة والثابتة في الأزمات الكبرى، فالصين لا تملك توفير غطاء سياسي لا محدود لحليفها الروسي على حساب مصالحها الاستراتيجية مع شركائها الأوروبيين، وبالتأكيد فإن أوروبا قد مارست الكثير من الضغوط لثني بجين عن مواصلة مد موسكو بالمسيرات UAV’s. أما الأمر الآخر، فهو فشل موسكو في تحقيق الحسم العسكري السريع بعد عبور القوات الروسية للحدود الدولية الفاصلة بين الدولتين يوم 24 من فبراير 2022 كما حاولت موسكو إقناع العالم بأنها “عمليات عسكرية محدودة”. وحتى مع الانتفاء النسبي لخطر وضع بعض المؤسسات الصناعية أو المالية الصينية على قائمة العقوبات الأمريكية والأوروبية نتيجة دعمها موسكو، إلا أن تقاطع المصالح يفرض على الجميع (روسيا / أوروبا / الولايات المتحدة) المناورة بحذر في هذا الملف تحديدا. فالصين تعي الصعوبات التي تواجهها الأطراف المتصارعة في تحقيق اختراقات عسكرية كبرى قد تفضي لإقرار أحدهما بالهزيمة سياسيا، والقبول بالجلوس إلى طاولة مباحثات.
وعلى الصعيد الآخر، فإن الولايات المتحدة سترغب في التوظيف الأمثل لهذا الظرف الاستراتيجي الخاص لممارسة أقصى أدوات الاستنزاف للخصم (روسيا)، ذلك أولا. أما ثانيا، فهو يمثل الفرصة الأمثل لتحقيق الاحتواء الاستراتيجي لهذا الخصم النووي، أو خلخلة التكافل الاستراتيجي القائم بين روسيا والصين، وفي كلا الحالتين، فإن واشنطن ستحقق مكسبا استراتيجيا. ويمثل التحول في الموقف الصيني أول المؤشرات الخارجية الكبرى، ورسالة مباشرة بضرورة لجوء موسكو لخيارات سياسية، وكذلك ممارسة دور مسؤول دوليا في الحيلولة دون تعمق التعثر الاقتصادي دوليا أو دخوله مرحلة الكساد، ناهيك عن الإضرار بأمر تعافيها الاقتصادي.
فهل جاءت الخطوات الروسية الأخيرة تعبيراً عن رغبة حقيقية في التحول من الخيار العسكري الى السياسي، وهل يمثل حضور الأمين العام للأمم المتحدة مراسم التوقيع على اتفاقية تصدير الغلال في أنقرة دليلاً على جدية ذلك التوجه لدى موسكو.
ما سوف يستعصي على الجميع هو التوافق على خط وقف إطلاق النار الفاصل بين القوات، حيث ستفضل موسكو أن يتمثل ذلك بنهر دنيبر، مما سوف يفرض عودة شبه جزيرة القرم إلى طاولة مفاوضات دولية، وقد تفرض نموذجا من الحكم الذاتي في الجمهوريات الانفصالية بما يتجاوز أراضيها الحالية إلى نهر دنيبر. أما كييف، فإنها سترفض مثل ذلك بالتأكيد، لما له من تبعات ويضع ما يتجاوز 20% من أراضيها ضمن نطاق التفاوض السياسي لاحقا، ناهيك عن تخليها عن مكامن الطاقة في البحر الأسود، بالإضافة لموانئها الرئيسية.
الولايات المتحدة وأوروبا تدركان أن مكافأة موسكو بمثل ذلك أمر غير مقبول سياسيا، إلا أنها قد تتقبل وتشجع كييف على القبول بنوع من التفاهمات حول القرم، وواشنطن تحديدا ستستمر في دعم أوكرانيا عسكريا تمهيدا لتلك المفاوضات المستقبلية، في حين ستلجأ لتشجيع القنوات الدبلوماسية عبر حلفائها في الناتو، ومن المرجح تعاظم الدور التركي في حال دخول اتفاقية تصدير الغلال الزراعية حيز التنفيذ. أما أكبر المخاطر التي قد يخشاها الرئيس الروسي، فهو تنامي حالة عدم الرضى داخل المؤسسة العسكرية الروسية، فمهما حققت روسيا من مكاسب معنوية مؤقته، إلا أنها تدرك أن الاستمرار في بيع نفطها بالأسعار التي تعرضها الآن، يعد أمراً غير قابل للاستدامة، وقريبا قد يكلفها ذلك ما هو أكبر من الانكشاف العسكري في حال تنامت حالة عدم الرضى اجتماعيا داخل روسيا.