ما زالت ألمانيا تعيش حالة من الصدمة بعد الهجوم المروع الذي استهدف سوق عيد الميلاد في مدينة ماغديبورغ مساء الجمعة، 20 ديسمبر 2024. اقتحم رجل بسيارته حشدًا من المتسوقين، مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص، بينهم طفل، وإصابة أكثر من 60 آخرين بجروح تتفاوت بين الخطيرة والمتوسطة[1]. وقد أثار هذا الهجوم صدمة كبيرة في ألمانيا والعالم، حيث يُعد من أكثر الحوادث المأساوية التي تستهدف الأماكن العامة خلال موسم الأعياد، وهو وقت يُفترض أن يحمل معاني الفرح والابتهاج والتآخي. وقد جاءت ردود الفعل المحلية قوية ومؤثرة، حيث أعادت الحادثة فتح النقاش حول قضايا الأمن الداخلي وفعالية التدابير الوقائية. على الصعيد الدولي، أبدت العديد من الدول تضامنها مع ألمانيا في مواجهة هذا المصاب الأليم. ومن المتوقع أن تترك هذه الحادثة تداعيات عميقة على المستويات السياسية والاجتماعية والدولية.
أولًا- ردود الفعل الداخلية
ترك الهجوم المأساوي ألمانيا في حالة من الحزن والتأمل. مقتل عدد من الأشخاص، بما في ذلك طفل صغير بأسلوب بشع، وإصابة أكثر من 60 شخصًا، أحدثت صدمة عميقة بين كل مكونات الشعب بما في ذلك المسلمون. وفرت الوقفات الاحتجاجية والفعاليات التذكارية، مثل الصلاة التي أقيمت في كاتدرائية ماغديبورغ، مساحات للحزن الجماعي والتضامن. وقد أوقفت إدارة المدينة الفعاليات الثقافية حدادًا على الضحايا، وهو ما أبرز الشعور المشترك بالفقدان والحزن في المجتمع.
ردود الفعل السياسية على الهجوم جاءت سريعة ومؤثرة أيضًا. فقد أعرب المستشار أولاف شولتز عن حزنه وتضامنه، وقام بزيارة لماغديبورغ لدعم أسر الضحايا ومناقشة الخطوات اللازمة لمعالجة مثل هذه المآسي. كما أدانت وزيرة الداخلية نانسي فيزر الهجوم ووصفته بأنه جريمة صادمة، وتعهدت بدعم فدرالي لتحقيق شامل. وأعرب قادة محليون، بمن فيهم رئيس وزراء ساكسونيا أنهالت راينر هازيلوف وزعيم الحزب الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، عن تعازيهم، مؤكدين على أهمية الوحدة.
وفيما يتعلق باستجابة أجهزة إنفاذ القانون والأمن فقد كانت سريعة وحازمة، وركزت على طبيعة المشتبه به كـ “ذئب منفرد”، مع التحقيق في إمكانية وجود شبكات دعم. كما زادت السلطات من وجود الشرطة في التجمعات العامة، بما في ذلك أسواق عيد الميلاد الأخرى، لطمأنة الجمهور وردع أي حوادث مماثلة. ودعا بعض القادة السياسيين إلى مراجعة البروتوكولات الأمنية في الأحداث الكبرى، مشددين على الحاجة إلى اتخاذ تدابير استباقية لمنع مثل هذه الحوادث.
وقد أعاد الهجوم النقاشات المجتمعية حول الاندماج وتحديات التطرف داخل المجتمعات المهاجرة، خصوصًا أن المشتبه به كان مواطنًا سعوديًّا يقيم في ألمانيا منذ عام 2006. وأدانت منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك الجماعات المهاجرة والإسلامية، الهجوم وشاركت في الوقفات الاحتجاجية للتأكيد على انسجامها مع القيم المجتمعية الرافضة للعنف. وفي الوقت ذاتِه، أعربت بعض المجتمعات المهاجرة عن قلقها من احتمالية التعرض للوصم وردود الفعل المعادية للإسلام، داعية إلى خطاب عام متوازن لتجنب اللوم العام.
وعكست وسائل الإعلام والخطاب العام الأثر العاطفي والمجتمعي للمأساة. حيث قدمت وسائل الإعلام تغطية واسعة، متوازنة بين تقديم المعلومات والدعوة لتجنب الإثارة. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر سيل من الدعم للضحايا، ولكن صاحبته أيضًا نقاشات مستقطبة، حيث استغل البعض الحادثة لتعزيز روايات معادية للمهاجرين.
وسط هذه التحديات، دعا العديد من القادة السياسيين والاجتماعيين إلى الوحدة. حيث أكد المستشار شولتز ومسؤولون آخرون على أهمية التكاتف ضد الخوف والانقسام، مؤكدين التزام ألمانيا بالسلام والتسامح.
ثانيًا- ردود الفعل الخارجية
أثار الهجوم أيضًا موجة من الإدانة والتضامن الخارجي داخل أوروبا وخارجها. فقد أعربت فرنسا عن صدمتها العميقة على لسان الرئيس إيمانويل ماكرون الذي أكد تضامن فرنسا الكامل مع الشعب الألماني ومع أسر الضحايا. ومن جانبه، أعرب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عن دعمه للحكومة الألمانية وأدان بشدة هذا العمل البشع، مشددًا على أهمية الوحدة الأوروبية لمواجهة هذه التحديات. كما أصدرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بيانًا رسميًّا أكدت فيه ضرورة معاقبة المسؤولين عن هذا الهجوم.
على الصعيد الدولي، أدانت الأمم المتحدة الهجوم، ووصفت الأمين العام أنطونيو غوتيريش الحادث بأنه “مأساة مروعة” وأعرب عن تعازيه لأسر الضحايا وللحكومة الألمانية. أما الولايات المتحدة فقد عبّرت عن صدمتها وحزنها، وأكدت استعدادها لدعم ألمانيا في أي تحقيقات تتعلق بالحادثة.
كما أصدرت العديد من الدول العربية والإسلامية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، بيانات إدانة قوية للهجوم. وقد أكدت السعودية التي يحمل الجاني جنسيتها تضامنها مع الشعب الألماني ورفضها القاطع لأي أعمال عنف تستهدف المدنيين؛ بينما أعربت دولة الإمارات عن تعازيها العميقة للحكومة الألمانية وأسر الضحايا، مجددة التزامها بمكافحة الإرهاب وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي.
ثالثًا- قراءة في شخصية منفذ الهجوم
يشير تحليل شخصية منفذ هجوم ماغديبورغ وفقًا لتقارير ولما كتبت عنه وسائل الإعلام إلى تركيبة معقدة وغير مألوفة للمهاجمين في الجرائم المشابهة. فهو طبيب سعودي يبلغ من العمر 50 عامًا ويقيم في ألمانيا منذ عام 2006. كما أنه يصف نفسه بـ”مسلم سابق”، مما يعكس تحولًا فكريًّا جذريًّا نحو انتقاد الإسلام. وإضافة إلى ذلك، يظهر من خلال أنشطته على وسائل التواصل الاجتماعي أنه كان ناشطًا معاديًا للإسلام ومتعاطفًا مع حزب “البديل من أجل ألمانيا”، وهو حزب يميني شعبوي معروف بخطابه المناهض للمهاجرين.[2]
ويبدو أن دوافع المنفذ جمعت بين المواقف المعادية للإسلام والمهاجرين، والتعاطف مع اليمين الشعبوي الذي ينتقد سياسات التسامح الألمانية تجاه المسلمين. دعمه لحزب “البديل” وتصريحاته بشأن “التسامح المفرط” مع الإسلاميين الأوروبيين تشير إلى أن الهجوم كان جزءًا من محاولة “لإرسال رسالة سياسية” تعبر عن رفضه لسياسات الدولة الألمانية في قضايا الهجرة والتعددية الثقافية.
كما يكشف نشاطه الرقمي عن نمط متكرر من انتقاد الإسلام والمهاجرين، كما دعم علنًا قضايا مثل حقوق النساء السعوديات الهاربات من بلدانهن. كما نشر أو أعاد نشر محتوى يعبر عن مواقف معادية للإسلام، مما يُظهر تبنيه أيديولوجية قائمة على الكراهية. الموقع الإلكتروني الذي أطلقه المهاجم يعكس أيضًا رغبته في التأثير على النقاش العام حول سياسات اللجوء والهجرة.
وأثارت خلفية المشتبه به استغراب الخبراء الأمنيين، فهذا المزيج من الخصائص – مسلم سعودي سابق، يعيش في ألمانيا الشرقية، ويؤيد حزبًا يمينيًّا شعبويًّا – هو أمر غير مألوف في حالات العنف الجماعي، وذلك ما يشير إلى دوافع معقدة قد تشمل تجربة شخصية أو تحولًا أيديولوجيًّا قاسيًّا.
رابعًا- التداعيات الداخلية والخارجية
تتجاوز حادثة الدهس آثارها الإنسانية لتُحدث تداعيات داخلية وخارجية شملت أبعادًا سياسية واجتماعية ودولية. داخليًّا، أدت إلى تصاعد الاستقطاب السياسي وتعزيز صعود اليمين المتطرف، وذلك ما زاد الضغط على الحكومة الألمانية. أما خارجيًّا، فقد أظهرت تعقيد العلاقات الدولية وسلطت الضوء على استغلال تيارات اليمين المتطرف للأزمات لتعزيز أجنداتها السياسية المناهضة للهجرة. وفيما يلي أبرز التداعيات:
1. على المستوى الداخلي
تصاعد الاستقطاب السياسي في ألمانيا
حادثة الدهس في ماغديبورغ فتحت النقاش السياسي مجددًا حول الهجرة وسياسات الإدماج في ألمانيا، وهو ما سيؤدي إلى تصاعد الاستقطاب السياسي لا سيما مع قرب الانتخابات التي ستجري فبراير المقبل. الأحزاب التقليدية، مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، تواجه ضغوطًا من اليمين واليسار على حد سواء لتبرير سياساتها المتعلقة بقبول اللاجئين. في المقابل، يستغل حزب “البديل من أجل ألمانيا (AfD)” الحادثة لتأكيد مواقفه المناهضة للهجرة، مدعيًا أن سياسات الحكومة تعرض الأمن الوطني للخطر. هذا الاستقطاب لم يقتصر فقط على المشهد السياسي، بل امتد إلى المجتمع الألماني، حيث تعمق الانقسام بين مؤيدي المهاجرين والمعارضين لهم. وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تضخيم الجدل، حيث انتشرت إشاعات وربطت الحادثة بشكل سريع بالإرهاب الإسلامي قبل الكشف عن هوية الفاعل ودوافعه.
تعزيز صعود اليمين المتطرف
حادثة الدهس في ماغديبورغ تعزز صعود حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، الذي استفاد من استغلال المخاوف الأمنية لتعزيز شعبيته. هذا الحزب، المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة والمناهضة للهجرة، وجد في الحادثة فرصة لتأكيد دعاياته حول “فشل” الحكومة في حماية المواطنين. وتظهر دعوات جناح الشباب للحزب لحضور الوقفة الاحتجاجية عند موقع الحادثة استراتيجيتهم في توظيف الحوادث المأساوية لتحفيز مشاعر الخوف والغضب لدى الناس. وإضافة إلى ذلك، فإن رموز اليمين المتطرف مثل “مطرقة ثور”، التي شوهدت بين المشاركين، تسلط الضوء على محاولة الحزب استخدام الرموز الثقافية المرتبطة بالهوية الألمانية لتعزيز الانقسام المجتمعي. هذه الرموز، بالرغم من أنها تبدو ثقافية، تحمل دلالات سياسية تهدف إلى إثارة المشاعر القومية وتشويه صورة التعددية الثقافية.
ومع اقتراب الانتخابات الوطنية في فبراير، من المتوقع أن يحقق حزب البديل مكاسب انتخابية كبيرة، خصوصًا في شرق ألمانيا، حيث يتمتع الحزب بشعبية واسعة.
ضغط إضافي على الحكومة الألمانية
الحادثة وضعت الحكومة الألمانية تحت ضغط سياسي وشعبي كبير، حيث تواجه انتقادات لعدم قدرتها على منع وقوع مثل هذه الحوادث في أماكن عامة مهمة مثل أسواق عيد الميلاد. الحكومة بقيادة المستشار أولاف شولتز تجد نفسها في موقف دفاعي، حيث يتعين عليها تقديم حلول ملموسة لمعالجة المخاوف الأمنية المتزايدة دون التضحية بقيم حقوق الإنسان.
ولم تقتصر الانتقادات على المعارضة، بل جاءت أيضًا من داخل صفوف الأحزاب الحاكمة، وهو ما يعكس تزايد الانقسامات داخل التحالف الحكومي نفسه الذي انهار فعليًّا قبل وقوع هذه الحادثة. وستؤثر هذه الانقسامات على قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات فعالة تتعلق بالأمن والهجرة.
من ناحية أخرى، مطالبة الناس باتخاذ إجراءات أكثر حزمًا بشأن الهجرة تزيد من تعقيد الوضع، خصوصًا أن أي قرارات مفرطة قد تُفهم على أنها رضوخ لليمين المتطرف. هذه المعضلة تضع الحكومة في اختبار صعب بين تلبية توقعات الناس والمحافظة على التزاماتها الأخلاقية والسياسية تجاه حقوق المهاجرين.
تحديات الديمقراطية الألمانية
الحادثة أيضًا تمثل تحديًا كبيرًا للقيم التي تحكم ألمانيا، حيث يستغل اليمين المتطرف الحادثة لنشر خطاب الكراهية وتعزيز مشاعر الخوف تجاه المهاجرين. وهذا النوع من الاستغلال يهدد بتآكل الثقة في القيم الديمقراطية، حيث يشعر المواطنون أن النقاش العام أصبح مسيطرًا عليه من قبل تيارات متطرفة تستغل الأزمات لتحقيق مكاسب سياسية.
ولا شك أن تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية يؤدي إلى زيادة التوترات داخل المجتمع الألماني، وهو ما يهدد السلام الاجتماعي ويضعف التماسك الوطني. كما أن هذه التوترات قد تشجع على مزيد من العنف السياسي، سواء من قبل جماعات اليمين المتطرف أو من قبل الجماعات المعارضة له.
على المدى الطويل، قد يؤدي صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” إلى تغيير ديناميكية السياسة الألمانية، حيث تصبح القضايا الأمنية والهجرة محورًا للنقاش السياسي على حساب القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
2. على المستوى الخارجي
تعقيد العلاقات الدولية وتوظيف حادثة ماغديبورغ
لحادثة الدهس أيضًا تداعيات دولية معقدة ولا سميا على المستوى الأوروبي. فقد سارعت تيارات اليمين المتطرف إلى استغلال الحادثة لتعزيز خطابها المناهض للهجرة. شخصيات بارزة مثل خيرت فيلدرز في هولندا، مارين لوبان في فرنسا، ونايجل فاراج في بريطانيا، وصفوا الحادثة بأنها نتيجة مباشرة لسياسات الحدود المفتوحة، مطالبين بتشديد الرقابة على الهجرة[3].
هذه الحادثة قد تدفع دول الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وإيطاليا، إلى مراجعة سياساتها بشأن اللجوء والهجرة، في ظل ضغوط متزايدة من الشعبويين الذين يعتبرون الهجرة تهديدًا للهوية والأمن الأوروبي.
على الصعيد العالمي، كانت الحادثة موضوعًا لجدل أثاره الملياردير التكنولوجي إيلون ماسك، الذي وصف المستشار الألماني أولاف شولتز بأنه “أحمق غير كفء” وطالب باستقالته[4]. تصريحات ماسك، التي دعمت خطاب اليمين المتطرف، تُبرز كيف يمكن لشخصيات خارج النطاق السياسي التقليدي التأثير في النقاش العام، وهو ما يعزز الخطاب الشعبوي.
في المجمل، تُظهر الحادثة قدرة تيارات اليمين المتطرف على توظيف الأزمات لتعزيز رواياتها السياسية، مستهدفةً تعزيز النفوذ واستقطاب جمهور يشعر بقلق متزايد تجاه الأمن والهوية. هذا التوظيف السياسي للحادثة يعقّد جهود القوى المعتدلة في التعامل مع قضايا الهجرة والتعددية الثقافية، بينما يضع ألمانيا أمام تحديات لتعزيز صورتها كدولة داعمة للتنوع والتعايش السلمي.
[1] Vigils held as Germany mourns five killed in market attack, ATE News, December 21, 2024:
https://www.rte.ie/news/europe/2024/1221/1487669-germany-christmas-market-vigils/
[2] منفذ هجوم ماغديبورغ.. ناقد للإسلام ومتعاطف مع حزب “البديل”!، دويتشه فليه، 21 ديسمبر 2024:
[3] Giselle Ruhiyyih Ewing, Europe’s far right seizes on Magdeburg attack to hammer migration, Islam, Politico, December 21, 2024: https://www.politico.eu/article/magdeburg-christmas-market-attack-europe-far-right-elon-musk/
[4] Kamuran Samar, Elon Musk sparks controversy in Germany over AfD endorsement, Euro News, December 21, 2024:
https://www.euronews.com/2024/12/21/elon-musk-sparks-controversy-in-germany-over-afd-endorsement