أثار ظهور “فيروس كورونا الجديد” في الصين نهاية شهر ديسمبر الماضي، وانتشاره المهول داخل الصين وخارجها حالة من الذعر والهلع امتدت إلى العالم كله، وأعادت من جديد النقاشات حول خطر الأوبئة الفيروسية، والتداعيات التي يمكن أن تترتب عليها على صعد مختلفة: الإنسانية والاقتصادية والاستراتيجية والأمنية وحتى الثقافية. كما أعاد إلى الساحة العالمية من جديد الجدل حول مسائل مرتبطة بالفيروسات الوبائية؛ مثل ظاهرة الحروب البيولوجية التي قد تشهد تطورات خطيرة مستقبلا بفضل التطور المذهل في علوم الجينوم، والهندسة الوراثية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المرتبطة بالمجال البيولوجي والصحي.
“فيروس كورونا الجديد”: حلقة في مسلسل الأوبئة الخطرة
شهدت البشرية عبر تاريخها الطويل الكثير من الأوبئة الفتاكة التي قضت على حياة مئات ملايين البشر، ولاسيما في المراحل التاريخية الأولى السابقة على عصر النهضة والتقدم العلمي؛ ومن ذلك: مرض الطاعون الذي ظهر في شكل موجات، وكان أخطرها في القرن الثاني الميلادي، عندما انتشر “طاعون أنطوني” في الإمبراطورية الرومانية، والذي قدر عدد ضحاياه خلال السنوات 165/180 (بعد الميلاد)، بنحو 5 ملايين شخص[1] أيّ ما يعادل ثلث سكان الإمبراطورية آنذاك.
كما انتشر الوباء نفسه مرة أخرى في منتصف القرن الرابع عشر وعرف حينها باسم “الموت الأسود”، وأودى بحياة نحو 200 مليون شخص بحسب بعض التقديرات[2]؛ ومن هذه الأوبئة أيضاً وباء الجدري الذي تسبب في وفاة حوالي 300 – 500 مليون شخص على مرّ التاريخ[3]، ووباء الكوليرا الذي انتشر عدة مرات خلال القرنين التاسع عشر والعشرين مُخلِفاً ملايين القتلى؛ وما زال المرض يقضي على ما يتراوح بين 21 ألف و143 ألف شخص سنوياً وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية[4].
ونذكر كذلك فيروس “الإنفلونزا الإسبانية” الذي انتشر في عامي 1918/1919، وقدرت أعداد ضحاياه بما يتراوح بين 50 – 100 مليون شخص أي حوالي 5% من سكّان العالم، بالإضافة إلى إصابة نصف مليار شخص به[5]، وغير ذلك الكثير من الأوبئة التي أكدت أنها مصدر تهديد أساسي على مر التاريخ لوجود البشر.
وعلى الرغم من التحسن الكبير الذي شهدته البشرية في مجالات الصحة العامة وصناعة الأدوية بعد التطور العلمي الذي شهدته ولاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد استمر خطر الأوبئة قائماً. كما أصبح خطر انتشارها عالمياً أسرع مقارنة مع السابق بفضل تزايد الاتصال والترابط بين البشر وتطور وسائل الاتصال والمواصلات. فخلال العقدين الماضيين ظهرت العديد من الأوبئة الخطيرة، مثل وباء إنفلونزا الطيور الذي ظهر عام 2003 وتسبب في وفاة حوالي 450 شخص[6]، وسبقه فيروس سارس الذي انتشر عامي 2002/2003، وأدى إلى وفاة 800 شخص في الصين والعالم، ووباء إنفلونزا الخنازير “إتش 1 إن 1” (H1N1) الذي اكتشف عام 2009، وأودى بحياة 18 ألف شخص حتى نهاية عام 2010، وفيروس الإيبولا الذي ظهر وانتشر في غرب أفريقيا وأودى بحياة حوالي 6 آلاف شخص عام 2013، وأكثر من 2200 شخص عام 2018، وفيروس كورونا – الذي عرف باسم “متلازمة الشرق الأوسط التنفسية” – والذي انتشر في أكثر من 21 دولة، وتوفي على إثره العشرات وغير ذلك الكثير من الأمثلة[7].
ويشكل “فيروس كورونا الجديد” الذي اجتاح الصين خلال الأسابيع القليلة الماضية، وأودى حتى تاريخ 10 فبراير 2019، بحياة أكثر من ألف شخص وأكثر من 40 ألف إصابة مؤكدة، امتداداَ لهذه السلسة من الأوبئة والفيروسات الخطرة التي تظهر بين الحين والآخر مهددة حياة البشر؛ وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية لم تصنف – حتى الانتهاء من إعداد هذه الدراسة – الفيروس الجديد باعتباره وباءً يهدّد البشرية، وإنما صنفته “حالة طوارئ صحية عامة”، فإن هذا الفيروس الجديد يشكل في تقديرنا تطوراً خطيراً في سلسلة الفيروسات الوبائية بالنظر إلى عدة أمور:
- أولاً: الانتشار السريع لهذا الفيروس الذي تجاوز الصين في بضعة أسابيع ليصل إلى أكثر من 30 دولة أخرى حول العالم، وهو أمر فرضته طبيعة النظام الدولي المُعولم، والتطور المذهل في وسائل الاتصال والمواصلات التي جعلت العالم بالفعل مجرد قرية صغيرة؛
- وثانياً: مكانة الصين المهمة عالمياً كثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر مصدر للسلع والخدمات على الإطلاق، الأمر الذي زاد من مخاطر تداعيات هذا الفيروس على الاقتصاد العالمي برمته؛
- وثالثاً: الجدل الذي رافق انتشار هذا الوباء بشأن تداعياته السياسية والاستراتيجية، وإمكانية استخدام مثل هذه الفيروسات الوبائية كأداة في حروب الجيل القادم، ولاسيما في ظل الثورة التي يشهدها العالم في علوم الجينوم والأمراض الوراثية.
التداعيات الاقتصادية للفيروس:
تنقسم التأثيرات الاقتصادية للأوبئة بشكل عام إلى نوعين:
- الأولى وترتبط بالتأثيرات قصيرة الأجل، حيث يسبب انتشار الوباء ما يشبه الصدمة لاقتصاد الدولة أو الدول التي تصاب به؛
- والثانية مرتبطة بالتأثيرات طويلة الأجل التي يصبح أثرها واضحا إذا استمر تفشي الوباء لفترة طويلة نسبيا من الزمن أو انتشر بشكل متكرر.
فعلى سبيل المثال تسبب انتشار وباء السارس في خسائر كبيرة للاقتصاد الصيني على المدى القصير، نتيجة للانخفاض الذي سببه الوباء في الاستثمار الأجنبي، حيث انخفض معدل النمو شهريا بنسبة 10% في بداية عام 2003 إلى 6.6% في ذروة الأزمة من العام نفسه، ولكن على المدى الطويل تمكنت الصين من تجاوز تأثيرات الفيروس الذي لم يستمر طويلا ولم يوقع خسائر بشرية كبيرة.
أما في ما يتعلق بفيروس كورونا الجديد، فقد ضرب الصين في وقت كان فيه اقتصادها يشهد بالفعل تراجعا إذ سجل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي انخفاضا بواقع 6.1% في عام 2019 مقارنة بـ 6.6% عام 2018. كما تزامن مع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
كما تشير الكثير من التقديرات إلى أن الفيروس سيؤدي إلى مزيد من التراجع في نمو الاقتصاد الصيني، حيث توقع مصرف “سيتي بنك” أن ينخفض معدل النمو في الصين إلى 5.5% خلال عام 2020، وقدر اقتصاديون في الإيكونمست (The Economist) أن معدل النمو قد يصل إلى 5.4%، فيما قدرت “وكالة موديز” أن يصل معدل النمو في الصين إلى 5.6%، وتوقع بنك ANZ ألَّا يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني 5.8%، وتوقع بنك “جولدمان ساكس” أن يتباطأ نمو الصين ليصل إلى 5.5 % في هذه السنة. كما توقع آخرون في “ميزوهو بنك” أن يصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين عام 2020 إلى 5.6%.
رسم توضيحي 1: سناريوهات انخفاض معدل النمو في جمهورية الصين في عام
ويمكن تلخيص الأسباب التي تعزز التوقعات بانخفاض النمو الاقتصادي في الصين نتيجة انتشار فيروس كورونا الجديد إلى العديد من الأمور، مثل: انخفاض عائدات السياحة الداخلية والدولية في الصين مع اتساع نطاق عزلتها عن العالم بسبب الفيروس، وانخفاض الإنتاج الصناعي حيث تعتبر مدينة وُوهان عاصمه ولاية “هوبي” مركز صناعي مهم بالنسبة للصين، إذ تساهم بنسبة 33% من الناتج الصناعي ونحو 90% من عمليات صهر النحاس و65% من عمليات تكرير النفط و60% من عمليات إنتاج الصلب و40% من عمليات إنتاج الفحم في الصين.
كما تعد وُوهان مركز مهم للصناعات التكنولوجية المهمة؛ وعلى عكس النمو الاقتصادي الصيني الذي تراجع في عام 2019، حققت مقاطعة هوبي ارتفاعا في معدل النمو في العام نفسه بلغ نحو 7.8%، وبالتالي فإن فرض العزلة والحجر الصحي على المقاطعة ستكون له تأثيرات سلبية على معدل النمو الاقتصادي الكلي في الصين.
ومن هذه الأسباب أيضاً التوقعات بتباطؤ مبيعات التجزئة والسبب يعود إلى أن شهر يناير وفبراير هي فترة ازدهار مبيعات التجزئة في الصين؛ حيث يتزامن مع مطلع السنة الصينية الجديدة في 25 يناير الفترة التي تشهد فيها مبيعات التجزئة نمو مضطردا، وبعدد سكانها الضخم البالغ 1.3 مليار نسمة، يمثل قطاع التجزئة في الصين عنصرا مهما في العملية الاقتصادية، وتضرره بسبب قيود التنقل والحجر الصحي سيضر بالاقتصاد.
كما أن انتشار الفيروس وتحوله إلى وباء سيؤثر سلباً على حركة الصادرات الصينية ومن ثم حركة التجارة الخارجية للصين، وهو أمر حيوي للاقتصاد الصيني الذي تعتمد قوته الأساسية على حركة التجارة الدولية.
وفضلاً عن هذا هناك التأثيرات المرتبطة بقطاع النقل والمواصلات الذي تعرض إلى شبه حالة شلل في بعض المقاطعات الصينية، ولاسيما مقاطعة هُوبي، وعاصمتها مدينة وُوهان مركز الفيروس، والتي تعتبر ثاني أهم مركز لوجيستي في الصين، وهذا له تداعياته على حركة وسلاسة وسرعة انتقال السلع والخدمات. كما تعتبر مدينة وُوهان مركز تصنيع لشركات السيارات بما في ذلك نيسان وهوندا وجنرال موتورز، وغيرها من مراكز الشركات العالمية كـ IBM وHABC وHoneywell وSiemens وWalmart.
وبالنسبة لمعدلات التضخم أدى انتشار فيروس كورونا الجديد إلى ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلك إلى مستوى عالية حيث هرع المستهلكون لشراء الضروريات الأساسية خلال تفشي الفيروس الذي تسبب في ارتفاع أسعار اللحوم والخضروات والسلع الأساسية الأخرى.
أما بخصوص التأثيرات على معدلات البطالة فمن المتوقع أن تصل البطالة إلى مستوى قياسي في الأشهر المقبلة بسبب توقف العمل في العديد من المقاطعات والمدن بسبب خوف المواطنين من النزول لأماكن العمل، فضلاً عن إغلاق بعض الشركات المحلية والدولية أبوابها لمنع تفشي الفيروس بين موظفيها. فسلسلة محلات ستاربكس على سبيل المثال أغلقت نحو 50% من متاجرها في الصين أي نحو 2000 فرع. كما أُجبرت شركة تسلا (TSLA) على إغلاق مصنعها الجديد في شنغهاي مؤقتًا، وتوقف الإنتاج في مصنع أبل (AAPL) في وُوهان، وأغلقت كبريات الشركات العالمية مصانعها في وُوهان كشركة جنرال موتورز، وهوندا، ونيسان وفورد. ويشار هنا إلى أن معدلات البطالة عادة ما تتراوح بين 4% أو 5%، غير أن انتشار فيروس كورونا الجديد قد يؤدي إلى زيادة معدل البطالة نتيجة للتسريحات المرتقبة في قطاعات السياحة والإنتاج الصناعي والمواصلات وقطاع التجزئة.
ومن بين القطاعات الأكثر تأثراً بسبب انتشار الفيروس نذكر: القطاع السياحي إذ أوقفت العديد من الخطوط الجوية الكبري جميع رحلاتها من وإلى الصين، وفرضت كل دول الجوار حظر على استقبال القادمين من الصين، وقامت كبرى شركات السفر والفنادق وشركات الطيران بإعادة المبالغ المدفوعة خلال معظم شهر فبراير، وتم إلغاء الاحتفالات بالعطلات وأُغلقت المواقع السياحية الرئيسية.
كما تأثر القطاع المالي حيث قامت البنوك الدولية ومديرو الثروات وكبريات المؤسسات المالية العالمية مثل كريدت سويس وHSBC وستاندرد تشارترد وFidelity International وUBS، التي توسعت بشكل استراتيجي في الصين في السنوات الأخيرة، باستدعاء موظفيها وإخلاء مكاتبها في آسيا، فيما قامت المؤسسات الاقتصادية الصينية كالبنك المركزي الصيني بضخ 1.2 تريليون يوان، أي ما يعادل 23 مليار دولار أمريكي، في نظامها المالي في محاولة منها لحماية الاقتصاد من وباء فيروس كرونا. كما شهدت بورصتي شانغهاي وشنتشن اضطرابات ملحوظة إبَّان تصاعد أزمة فيروس كورونا.
التأثيرات على الاقتصاد الدولي:
قد يشكل فيروس كورونا، مع دخول النمو الاقتصادي العالمي بالفعل في مرحلة التباطؤ، ضغطا إضافيا من حيث أنه سيساهم في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وتقدر مراكز الدراسات الاقتصادية أن ينخفض النمو العالمي هذا العام من 2.5% إلى 2.3% بواقع انخفاض يساوي0.2 نقطة مئوية فيما تشير مصادر اقتصادية أخرى إلى انخفاض يتراوح بين 0.1 إلى 0.2 نقطة مئوية.
وبمقارنة الوضع الحالي مع ما شهده عام 2003، فقد قدرت خسائر وباء السارس على الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تراوحت بين 0.08% و0.25%، أي ما يعادل ما بين 30 و100 مليار دولار. وبحسب التوقعات فإن تأثيرات فيروس كورونا الجديد على الاقتصاد الصيني والعالمي سيكون أكبر من تأثير فيروس السارس أخذا في الاعتبار أن حجم الاقتصاد الصيني عام 2003 لم يكن يتجاوز 1.6 تريليون دولار مقارنة بنحو 14.3 تريليون دولار عام 2019 غير أن التأثيرات ستكون متباينة بحسب المناطق، حيث ستكون اقتصادات جنوب شرق آسيا أكثر تأثراً من غيرها، حيث لا تعد الصين شريكًا تجاريًا رئيسيًا لهذه المنطقة فحسب، وإنما مصدرا رئيسيا لإيرادات السياحة فيها.
كما هناك بعض القطاعات التي تضررت بشكل مباشر من انتشار الفيروس على المستوى الدولي، من بينها قطاع السياحة العالمي، إذ يعد المسافرون الصينيون من أكثر المنفقين في السياحة الدولية، بواقع 150 مليون رحلة في الخارج بقيمة 277 مليار دولار في عام 2018. كما يشكل الصينيون حوالي ثلث مبيعات السفر بالتجزئة في جميع أنحاء العالم، ومع انتشار الفيروس والقيود المفروضة على حركتهم يتوقع أن يتأثر قطاع السياحة العالمي بشكل كبير وحركة السياحة الدولية إلى داخل الصين.
كما أثر انتشار فيروس كورونا على القطاع المالي العالمي وأداء أسواق الأسهم العالمية وتسبب في ارتفاع عملات الملاذ الآمن مثل الذهب والفضة، وبعض العملات مثل الفرنك السويسري، والين الياباني اللتين شهدتا ارتفاعات كبيرة مقابل الدولار الأمريكي، والمتوقع كذلك أن يمتد التأثير إلى الأسواق خلال الفترة المقبلة على الرغم من كل الاحتياطيات والتدابير التي تم اتخاذها لاحتواء الفيروس. فقد أدت التطورات السلبية الخاصة بمعدلات نمو الاقتصاد العالمي والخلاف التجاري بين الصين والولايات المتحدة إلى دفع المستثمرين إلى سوق الأصول الآمنة، لكن ظهور فيروس كورونا دفع المستثمرين إلى التخلي عن أسواق الأسهم والسندات والإقبال على الذهب كأحد أهم الملاذات والأصول الآمنة، حيث سجلت صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب أعلى مستوى في 7 أعوام. كما زادت أزمة فيروس كورونا من مستويات الضغط على قطاع النقل البحري في العالم، مع تراجع حركة السفن من وإلى الصين، كونها أكبر دولة مصدرة في العالم وثاني أكبر اقتصاد.
أما تأثير هذه الأزمة الصحية على حركة التجارة الدولية، فسيتوقف على المدى الذي سيصل إليه انتشار الفيروس، فاستمرار الأزمة لبعض الوقت سيترتب عليه عدم تمكن الصين من الوفاء بتعهدها الأخير بزيادة وارداتها من الولايات المتحدة بمقدار 200 مليار دولار على مدار العامين المقبلين. كما سيضر حتماً بالاقتصاد العالمي، حيث تعتبر الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وهو اقتصاد مندمج بنسبة كبيرة في شبكات الإمدادات الدولية، فهي سوق تصدير مهم للمنتجات العالمية، وموقع إنتاج مهم للشركات الصناعية العالمية، ونقطة انطلاق للعديد من سلاسل التوريد العالمية. ويحذر خبراء الاقتصاد من أن التوقف الطويل في عملية الإنتاج يمكن أن يقطع سلاسل الإمداد في الصناعات الكيميائية والسيارات والنسيج والإلكترونيات، حيث لن تتمكن الشركات الدولية من الحصول على الأجزاء التي تحتاجها وستضطر إلى البحث على موردين آخرين أو إيقاف الإنتاج؛ ما معناه أن أي إعاقة اقتصادية للصين سيكون لها تأثير أكبر على بقية العالم.
كما يتوقع الخبراء أن تطال التبعات الدول المنتجة للمواد الأولية التي قد تشعر بضغوط أكبر على صادراتها كون الصين محور السوق العالمية للمواد الأولية وهذا ما يظهر من خلال أسعار النفط التي سرعان ما واجهت ضغوطا فتراجعت بنسبة 20% خلال شهر واحد.
التداعيات الأمنية والاستراتيجية:
هناك العديد من التداعيات الاستراتيجية التي يسببها الانتشار الواسع للأوبئة، سواء على صعيد الأوضاع الأمنية والسياسية الداخلية، أو على مستوى مكانة الدولة وتأثيرها في محيطها الخارجي وعلاقاتها بالدول والقوى الأخرى:
- على المستوى الداخلي: يؤدي انتشار الأوبئة وعجز الحكومات عن التصدي لها وحماية الصحة العامة إلى تآكل شعبية الحكومة وزيادة حالة السخط الشعبي التي قد تنفجر في صورة احتجاجات عنيفة. كما قد يترتب على التأثيرات الاقتصادية للأوبئة وما تسببه من تقويض لعملية التنمية، ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بين السكان، ومن ثم زيادة حالة السخط الشعبي. وقد تتسبب الأوبئة كذلك في خلق حالة من الانقسامات السياسية الداخلية بشأن كيفية التعاطي معها وإدارتها، وهذه الحالة قد تنعكس سلبا على حالة الاستقرار السياسي في الدولة المتفشي فيها الوباء.
وهناك أمثلة حديثة على إمكانية حدوث ذلك، ففي شهر أكتوبر 2019 شهدت بعض المدن في جنوب غرب إيران اضطرابات نجم عنها مظاهرات استمرت عدة أيام إثر إصابة عدد كبير من أهالي قرية جنار محمودي بمرض الإيدز دون اتضاح السبب، ولا نتحدث هنا عن وباء، وإنما عن انتشار محدود لأحد الأمراض دفع الجماهير للاحتجاج، ولكن الموضوعية تقتضي أيضاً الإشارة إلى حقيقة أن انتشار الأوبئة قد يؤدي في المقابل إلى زيادة مشاعر التضامن والوحدة بين السكان والمؤسسات الرسمية لتجاوز محنة الوباء وهذا ما حدث في الصين مؤخراً إذ أظهر سكان مدينة وُوهان الموبوءة بالمرض تضامناً فريداً في مواجهة الفيروس القاتل.
- على المستوى الخارجي: قد تؤدي الأوبئة وخاصة إذا كان انتشارها واسعاً إلى تزايد هشاشة الدولة وضعفها من الداخل، وبالتالي تراجع مكانتها ودورها الإقليمي أو الدولي على الصعيد الخارجي، وموقعها ضمن خريطة موازين القوى الإقليمية والدولية؛ فالطاعون الأنطوني على سبيل المثال الذي ضرب الإمبراطورية الرومانية بين سنتي 165 و190م، تسبب وفقاً لبعض المؤرخين في تدمير الجيش الروماني وإضعاف سطوة الإمبراطورية الرومانية في حينها. كما أدى الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر إلى تعطيل المجتمع الأوروبي بصورة كبيرة، وأحدث تحولا في بعض الأحوال في ميزان القوى الإقليمية في أوروبا في حينها.
وبالنسبة لفيروس كورونا الجديد الذي ضرب الصين وامتد إلى العديد من الدول الأخرى، فإن تأثيراته الجيوسياسية والأمنية على الصين داخليا وخارجيا ما تزال غير واضحة، ولاسيما لأن الوضع لم يصل إلى مرحلة الوباء، وفق تصنيف منظمة الصحة العالمية، ومع ذلك يمكن الإشارة إلى عدد من التأثيرات الأولية التي قد تكون أكثر وضوحاً إذا تفاقم هذا الفيروس وتحول إلى وباء واسع الانتشار:
- أولاً: على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها الصين لمواجهة هذا الفيروس والإمكانيات الكبيرة التي سخرتها للقضاء عليه، فقد أظهر الفيروس الحاجة الماسة إلى زيادة التعاون الدولي في مجال مكافحة الأوبئة، وعدم قدرة أية دولة بمفردها، مهما كانت كبيرة، على التصدي لهذه الأوبئة والقضاء عليها.
- ثانياً: أدى انتشار الفيروس وتزايد الخسائر البشرية الناجمة عنه وحالة الذعر التي سببها بين شعوب العالم إلى تحويل دول كبرى بحجم الصين إلى دول معزولة ومحاصرة دولياً، وهذه العزلة قد تنعكس سلبياً وبصورة كبيرة على مكانة الصين ودورها العالمي إذا استمر انتشار الفيروس لوقت طويل، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن التأثيرات المحتملة لمثل هذه الأوبئة على الدول الصغيرة أو متوسطة الحجم
- ثالثاً: تكتسب الصين مكانتها الدولية من قوة اقتصادها، وبالنظر إلى التأثيرات السلبية الواضحة لفيروس كورونا الجديد على الاقتصاد الصيني ومعدلات النمو والتنمية في الصين، يمكن القول إن استمرار الفيروس لبعض الوقت سيؤثر سلبا على مكانة الصين الدولية، وعلى موازين القوى بينها وبين القوى الدولية الأخرى، ولاسيما الولايات المتحدة التي تخوض معها حرباً تجارية؛ وهذا الأمر قد يقود إلى حدوث تغيرات كبرى في طبيعة النظام الدولي برمته، إذا تعرضت الصين بالفعل للحجر الصحي من قبل العالم، أو إذا انكفأت على شؤونها الداخلية لمعالجة تبعات الفيروس وأضراره وانسحبت مؤقتا من الساحة السياسية العالمية.
- رابعاً: بالرغم من أن التوقعات تشير إلى أن الصين ستنجح في نهاية المطاف في مواجهة هذا الفيروس مثلما حدث مع وباء سارس في السابق، فإن سيناريو استمرار هذا الفيروس وتحوله إلى وباء واسع الانتشار سيكون تأثيره خطيرا على المستوى الأمني والسياسي الداخلي في الصين سواء من ناحية الثقة الشعبية في الحكومة والنظام القائم أو في ما يتعلق بإمكانية انفجار السخط الشعبي في وجه الفشل الحكومي في التصدي للفيروس القاتل، والذي سيكون له تأثيرات كبيرة على استقرار الصين. ويمكن هنا أن نشير إلى الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها هونج كونج مؤخرا، والتي أثرت على الصين وجعلتها موضع انتقادات دولية واسعة، ورغم أن هذه الاحتجاجات هي سياسية بالأساس، فإن فشل الصين في معالجة أزمة كورونا قد يؤدي إلى اتساع نطاق الاحتجاجات الشعبية ما يضع الصين في أزمة كبرى.
- خامساً: ستعزز هذه الأزمة الصحية التي تواجهها الصين من قوة منافستها الأكبر الولايات المتحدة، وستخدم بالأساس مصالح واشنطن، ولاسيما إذا أدت إلى تراجع قوة الاقتصاد الصيني ومكانة بكين، ومن ثم تحويل ميزان القوى بصورة أكبر لمصلحة الولايات المتحدة والغرب.
- سادساً: سيؤثر انتشار الفيروس وعدم القدرة على مواجهة سلبا على خطط الصين في التوسع والتمدد العالمي، بما في ذلك خطة “حزام واحد.. طريق واحد” التي تسعى من خلالها إلى ربط الصين بالعالم، وهذا قد يؤثر على العديد من دول العالم التي كانت تراهن على هذه الخطة الطموحة.
- سابعاً: طرح الجدل الذي رافق انتشار فيروس كورونا الجديد في الصين بشأن سبب انتشاره والتفسيرات التآمرية التي طُرحت في هذا السياق على لسان متابعين وحتى سياسيين، تشكل قضية أخرى مهمة للنقاش تتعلق بخطورة الحروب البيولوجية التي قد تلجأ فيها الدول إلى استخدام الفيروسات الوبائية كأسلحة في مواجهة العدو.
وبصرف النظر عن نظريات المؤامرة التي طرحت في هذا السياق وتحدثت عن أن انتشار الفيروس تم بفعل فاعل بهدف عرقلة النمو الاقتصادي الصيني، على نحو ما أشار إليه على سبيل المثال، السياسي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي الذي زعم أن الفيروس “مؤكد” من قِبل الأمريكيين لاستهداف الصين.
مثل هذه النظريات ليست جديدة، ففي عام 2013 اتهم العقيد في سلاح الجو الصيني داي شو الحكومة الأمريكية، أو تلك التي زعمت أن الفيروس الجديد نشأ في “برنامج للأسلحة البيولوجية السرية” في الصين وتحديدا في معهد وُوهان لعلم الفيروسات، وتسرب منه؛ ومع الاعتراف بعدم قبول مثل هذا التفسير السطحي الذي يروق للبعض لأن جميع دول العالم تدرك حقيقة أن انتشار الوباء قد يمتد إليها إذا خرج عن دائرة السيطرة، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن كثير من دول العالم اليوم لديها برامج، سرية أو علنية، لتطوير أسلحة بيولوجية فتاكة قادرة على تدمير الدول والمجتمعات من الداخل، وبعضها لديه قدرات معرفية وعلمية مهمة يمكنها استخدامها إذا شاءت في تطوير هذه الأسلحة من خلال الهندسة الجينية لبعض الفيروسات وصفاتها الوراثية، وهو أمر خطير ويجب أن يؤخذ في الاعتبار عند المعنيين بمناقشة حروب المستقبل وبدراسة كيفية كسبها أو على الأقل تقليل مخاطرها.
الخاتمة:
أعاد الانتشار السريع لفيروس كورونا الجديد في الصين، والعديد من دول العالم، وتنامي خسائره البشرية التي تجاوزت وباء سارس عام 2002/2003 الحديث مجدداً عن خطورة انتشار الأوبئة على الجنس البشري، ولاسيما في ظل الترابط الكبير بين دول العالم الذي أدى إلى وصولنا إلى مرحلة يمكن وصفها بـ “عولمة الأوبئة”. كما عززت التداعيات الاقتصادية والاستراتيجية التي تسبب، وقد يتسبب فيها، الفيروس الجديد مستقبلا إذا استمر لبعض الوقت، الحاجة إلى تعزيز التعاون الدولي في مجال التصدي لمهددات الصحة العامة ولاسيما الأوبئة، بوصفها أحد أخطر مصادر التهديد التي تواجه الجنس البشري.
[1] Verity Murphy, ‘Past pandemics that ravaged Europe’, BBC News, 7 November 2005. http://news.bbc.co.uk/2/hi/health/4381924.stm
[2] ‘De-coding the Black Death’, BBC News, 3 October 2001. http://news.bbc.co.uk/2/hi/health/1576875.stm
[3] خالد بشير، “فتكت بالملايين وأبادت شعوباً.. أخطر الأوبئة عبر التاريخ”، موقع حفريات، 3 أبريل 2018، على الرابط: https://www.hafryat.com/ar/node/2694
[4] منظمة الصحة العالمية، “الكوليرا”، 17 يناير 2019، على الرابط: https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/cholera
[5] “بعد 100 عام من وباء إنفلونزا 1918.. كيف نتعلم منه اليوم؟”، موقع سي إن إن، 30 يناير 2018، على الرابط: https://arabic.cnn.com/health/2018/01/30/1918-flu-history
[6] “الصين تعلن تفشي فيروس إنفلونزا الطيور”، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 2 فبراير 2020.
[7] “أخطر 5 أوبئة عرفها العالم في العقد الماضي”، موقع سكاي نيوز الإخباري، 28 يناير 2020.