Insight Image

افتقار الشرق الأوسط إلى نظام أمن إقليمي فعال.. هل يمثل منتدى آسيان نموذجًا قابلًا للاستنساخ؟

14 يوليو 2024

افتقار الشرق الأوسط إلى نظام أمن إقليمي فعال.. هل يمثل منتدى آسيان نموذجًا قابلًا للاستنساخ؟

14 يوليو 2024

على الرغم من كل الروابط التاريخية والعرقية وحتى الدينية والروحية التي تربط دول الشرق الأوسط، بالإضافة إلى التحديات المشتركة التي تواجهها، لاتزال المنطقة تفتقر إلى أنظمة أمنية مشتركة فعالة، على غرار ما هو موجود في مناطق أخرى. من بين جميع مناطق العالم، ربما يكون الشرق الأوسط الوحيد الذي لا يوجد فيه نظام إقليمي للحوار والتعاون في القضايا الأمنية[1]. ولا شك في أنه كانت لغياب مثل هذا النظام ولاتزال آثار عميقة في المنطقة؛ إذ من الصعب على دولها استكشاف طرائق فاعلة ومجدية لإدارة علاقاتها التعاونية، والأهم من ذلك، خلافاتها فضلًا عن صراعاتها.

وما يثير التساؤلات هنا هو أن المناطق الأخرى تعاني تقريبًا من مشاكل تاريخية، بما في ذلك الاختلافات الدينية والعرقية والثقافية، وحتى النزاعات الإقليمية الخطيرة؛ لكنها نجحت في تحقيق مستويات عالية من التعاون بفضل وجود أنظمة أمنية فاعلة ساعدتها على تحقيق الاستقرار على مدى عقود وتعزيز التعاون الإقليمي في مختلف المجالات المهمة. ومن بين أهم هذه المناطق، وربما أشهرها جنوب شرق آسيا، وذلك عبر منتدى “آسيان”. فإلى أي مدى يمكن استنساخ تجربة آسيان في منطقة الشرق الأوسط، وما فرص نجاح إنشاء منتدى شبيه؟ 

الأسس النظرية للنظم الإقليمية

الأمن القومي والأمن الإقليمي

يعرّف الأمن القومي بأنه التحرر من التهديدات التي تعرض بقاء الدولة للخطر، ويشمل عناصر مثل السلامة الإقليمية والسيادة والرفاهية المجتمعية؛ بينما يشير نظام الأمن الإقليمي إلى ترتيب تعاوني بين البُلدان داخل منطقة جغرافية محددة لتعزيز أمنها الجماعي واستقرارها[2]. ويمكن أن يشمل ذلك تدابير لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة، مثل التعاون العسكري، والحد من التسلح، وحل النزاعات، وتعزيز حقوق الإنسان والحريات،…إلخ. والهدف من نظام الأمن الإقليمي هو تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة من خلال الجهود التعاونية والتكاملية. ويمكن النظر إلى مصادر التعاون في مجال الأمن الإقليمي بطريقتين: أولًا، نتيجة للرغبة الطبيعية للدول في التعاون بعضها مع بعض، والسعي لتحقيق التكامل الإقليمي، وربما التعبير عن الهوية الإقليمية. ثانيًا، الرغبة في حماية مصادر التنويع الأمني، نتيجة الاعتقاد بأن العمل الجماعي يمكن أن يكون أكثر فاعلية في مواجهة التهديدات وتعزيز الأمن القومي للدول[3]. الأمن القومي يعني في الواقع التحرر من التهديدات التي تعرض بقاء الدولة للخطر، ويشمل عناصر مثل السلامة الإقليمية والسيادة والرفاهية المجتمعية؛ وهذا لا يمكن أن يتحقق بشكله الأفضل دون وجود أمن إقليمي فعال، إذ لا يكفي أن يكون ثمة نظام أمني إقليمي؛ بل يجب أن يقوم هذا النظام على أسس سليمة. وتشمل معايير الأمن الإقليمي الإمكانات العسكرية، وإدارة قطاع الدفاع، والتحالفات السياسية، ودور النخب السياسية. 

المقاربات النظرية للأمن الإقليمي

تقدم المدارس النظرية المختلفة للعلاقات الدولية ووجهات نظر مختلفة بشأن الأمن الإقليمي وتحليل الديناميكيات المعقدة التي تشكل الصراع والتعاون داخل مناطق جغرافية محددة. فالواقعية تنظر إلى الدول بوصفها الجهات الفاعلة الرئيسية في النظام الدولي الفوضوي، مع التركيز على الاعتماد على الذات والمعضلة الأمنية[4]. وبتركيزها على سياسات القوة ومصالح الدولة، تسلط الواقعية الضوء على الدور الذي تلعبه القدرات العسكرية والتحالفات في تشكيل الأمن الإقليمي. ومن ناحية أخرى، تدعم الليبرالية فكرة الأمن الجماعي والدفاع، وتؤكد أهمية الترابط الاقتصادي في تعزيز التعاون وتخفيف الصراعات، وتسلط الضوء على الدور الذي تؤديه مؤسسات مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي في هذا الجانب[5]. وبالمقابل، فإن البنائيةَ تعدُّ الأمنَ بناءً اجتماعيًا، وتلفت الانتباه إلى دور الأفكار والمعايير والهويات في تشكيل ديناميكيات الأمن الإقليمي[6]. وتؤكد كذلك أهمية التفاهمات المشتركة والتفاعلات الاجتماعية في بناء مجتمعات الأمن الإقليمي. وبالرغم من أن هذه النظريات تقدم رؤى قيمة، فإن لها قيودًا كذلك. فبعضها يعطي الأولوية لعوامل معينة على غيرها، كما نلحظ تجاهلًا لمسألة التفاعل المعقد بين متغيرات متعددة أو اهتمامًا أقل بها. بالإضافة إلى ذلك، يصعب التعميم في إطارها، إذ يختلف مدى تطبيق النظريات المختلفة اعتمادًا على السياق الإقليمي المحدد.

وبالنظر إلى الوضع في الشرق الأوسط، فالأمر يتطلب فهمًا دقيقًا للسياق التاريخي والسياسي والثقافي المعقد للمنطقة. ويقدم كل منظور وجهة نظر مختلفة، وقد يكون اعتماد مزيج من الأساليب أكثر فاعلية في شرح التحديات الأمنية متعددة الأوجه في المنطقة. إذ تسلط الواقعية الضوء على صراعات القوة المستمرة بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، فضلًا عن تأثير الجهات الفاعلة الخارجية. ويساعد التركيز على القدرات العسكرية والتحالفات والمصالح الاستراتيجية في تفسير الصراعات المستمرة وسباقات التسلح في المنطقة. أما الليبرالية فتؤكد إمكان التعاون من خلال التكامل الاقتصادي، والاتفاقيات التجارية، وإنشاء المؤسسات الإقليمية. ومع ذلك، فإن تاريخ المنطقة الحافل بعوامل من قبيل (الأنظمة المركزية، والمجتمعات المدنية الضعيفة، والصراعات المستمرة) تشكل تحديًا أو عائقًا أمام تحقيق ما تتحدث عنه الليبرالية. وبينما تسلط البنائية الضوء على أهمية الهويات والأعراف والسرديات المشتركة في تشكيل الأمن الإقليمي، فإننا نلاحظ أن الهويات الدينية والطائفية والمظالم التاريخية والروايات الوطنية المتنافسة في المنطقة تسهم في استمرار الصراعات وإعاقة التعاون.

ولهذا السبب لا بد من مقاربة مشتركة أكثر فاعلية وشمولية، تسلط الضوء على مختلف جوانب المشهد الأمني في المنطقة. فالجمع بين وجهات النظر المختلفة، يساعد في فهم أكثر شمولية للعوامل المترابطة التي تسهم في انعدام الأمن؛ فمن خلال فهم الطبيعة متعددة الأوجه للتحديات الأمنية، يمكن تطوير حلول أكثر فاعلية. فعلى سبيل المثال، قد تتطلب معالجة الأسباب الجذرية للصراع (مثلما أبرزتها الدراسات الأمنية المهمة) مزيجًا من الإصلاحات السياسية والتنمية الاقتصادية ومبادرات المصالحة الاجتماعية.

تطور المؤسسات الأمنية الإقليمية

تطورت المؤسسات الأمنية الإقليمية عبر مراحل عدة؛ وبدايتها كانت بعد الحرب العالمية الثانية التي تميزت بإنشاء منظمات متعددة المهمات، وكيانات اقتصادية، وتحالفات دفاعية. ومن ثم أعقبتها فترة الحرب الباردة التي تميزت بهيمنة التحالفات التي تقودها القوى العظمى، مثل حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو. ولكن نظم الأمن الإقليمية اكتسبت أهمية كبيرة في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، إذ شهدت صعودًا في المؤسسات الإقليمية مع تنامي دور الجهات الإقليمية الفاعلة في الأمن العالمي. وقد أصبحت أحد أهم مظاهر هذه الفترة بديلًا من نُظم الأمن الجماعي أو حتى التكتلات الكبرى عمومًا؛ وذلك انطلاقًا من الاعتقاد بأنه يمكن للبُلدان داخل المنطقة من خلال تجميع الموارد والخبرات، أن تتصدى بشكل أكثر فاعلية للتحديات الأمنية المشتركة، بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية والصراعات الإقليمية أو الأهلية داخل الدول التي تنتمي للإقليم. ومن خلال تشجيع التعاون والحوار بين الدول المتجاورة، يمكن أن تساعد أنظمة الأمن الإقليمية في منع النزاعات وربما حلها في حال اندلاعها، ومن ثم تعزيز الاستقرار والأمن الإقليمي وتحقيق السلام.

كما أن وجود بيئة إقليمية مستقرة وآمنة أمر بالغ الأهمية للنمو الاقتصادي والازدهار. فمن خلال معالجة التحديات الأمنية، يمكن أن تساعد أنظمة الأمن الإقليمية في خلق بيئة مواتية للتجارة والاستثمار والتنمية الاقتصادية. هذا فضلًا عن أن أنظمة الأمن الإقليمية تسهل التعاون في القضايا المهمة غير الأمنية، لاسيما تلك التي تحظى باهتمام عالمي متزايد ولها تداعيات خطيرة مثل حماية البيئة والاستجابة للكوارث…إلخ. وفوق هذا وذاك يمكن لأنظمة الأمن الإقليمية أن تساعد في تعزيز الشعور بالهوية الإقليمية والتضامن، وتعزيز الفهم المشترك للمصالح، بل وحتى القيم؛ ومن ثم فإن النجاح الذي حققته المؤسسات الأمنية الإقليمية والنقاش الدائر حول دورها في الأمن العالمي يُبرز الحاجة إلى فهم دقيق لديناميكيات الأمن الإقليمي، وأهميتها في تحقيق الأمن والاستقرار للدول التي تعيش في نطاق جغرافي واحد.

لماذا تفتقر المنطقة إلى نظام أمني إقليمي؟

بالرغم من استمرار الخلاف بشأنه، فإن مصطلح الشرق الأوسط لم يكتسب الكثير من الرواج إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ استُخدم للإشارة إلى المنطقة الجغرافية الواقعة عند تقاطع أوروبا وآسيا وأفريقيا والبحر الأبيض المتوسط ​​والمحيط الهندي[7]. وأيًّا يكن امتدادها الجغرافي، والذي يخضع لاعتبارات متغيرة بتغير الأحداث وتداعياتها، فلا خلاف على أن محور هذه المنطقة وجوهرها كان ولايزال المشرق العربي. وبعيدًا عن كل التفاصيل المتعلقة بالمصطلح، فإن هذه المنطقة التي تعد مهد الحضارات القديمة و”مركز الكرة الأرضية”، لاتزال متأرجحة على حافة الفوضى على الرغم من الثروات والإمكانات الهائلة التي تمتلكها والأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها؛ إذ تبدو منذ عقود حبيسة دائرة من عدم الاستقرار، الأمر الذي يثير السؤال الدائم: لماذا؟

الإجابة عن هذا السؤال كانت ولاتزال معضلة تؤرق الساسة وصناع القرار كما تؤرق المؤرخين والخبراء؛ ذلك لأنها تتطلب فهمًا معمقًا ليس فقط لديناميكيات الواقع السياسي التي تحكمه منذ قرن من الزمن، ولكن لتاريخها العريق الذي جعل من منها محط الأنظار والأطماع. فخطوط الصدع في المنطقة عميقة، ومتجذرة في نسيج معقد من المظالم التاريخية، والصراعات الحدودية والانقسامات الطائفية، وحتى العرقية (المستحدثة). ولاشك في أن تركة الاستعمار الثقيلة، والحروب بالوكالة أثناء الحرب الباردة، والصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية والخارجية، والنزاعات التي لم تُحَلَّ مثل الصراع العربي – الإسرائيلي، خلفت جروحًا متقيحة تعيق التماسك الإقليمي وتمنع فرص إقامة نظام فاعل، بل وحتى أي هيكل أمني إقليمي[8].

وتُضاف إلى ذلك لعنة الموارد، التي لها وجوه متعددة؛ فهي من ناحية محط أنظار تنافس وصراع أجنبي وسبب في مساعي السيطرة والنفوذ الخارجي، ومن ناحية أخرى، لم توظف من قِبل كل الدول التي تنعم بها كما ينبغي في التنمية التي يمكن أن تعزز من الاستقرار. وعلى الرغم من أن الثروة النفطية الهائلة عززت بعض اقتصادات المنطقة، وهناك دول نجحت في استغلال هذه الموارد لتحقيق مستويات تنمية عالمية ورفاهية اجتماعية، فإنها بقيت سلاحًا ذا حدين؛ فبعض الدول التي تعتمد على استخراج الموارد أهملت لعقود التنويع وتنمية رأس المال البشري، مما خلق تفاوتًا في الدخل ومعدلات فقر عالية وبطالة وأزمات تفاعلت مع عوامل أخرى داخلية وخارجية، وأدت إلى اضطرابات كانت كارثية بالفعل، ليس فقط على الدول التي وقعت فيها، وإنما على المنطقة برمتها.

كما أن الشرق الأوسط كان لفترة طويلة ولايزال ملعبًا للتنافس بين القوى الكبرى، حيث تتدخل الجهات الفاعلة الخارجية في الشؤون الإقليمية لتعزيز مصالحها الخاصة. وقد خلفت الحروب بالوكالة في الحرب الباردة إرثًا من عدم الثقة وعدم الاستقرار، في حين أن التدخلات المعاصرة، التي غالبًا ما يتم تأطيرها في إطار مكافحة الإرهاب أو تعزيز ما يسمى “الديمقراطية”، أسهمت في تفاقم الصراعات القائمة وتقويض القدرات المحلية للعديد من الدول.

فالشرق الأوسط نقطة محورية لمنافسة القوى الكبرى لعقود عديدة، ولاتزال هذه الديناميكية مستمرة حتى اليوم. فالأهمية الاستراتيجية للمنطقة؛ بسبب احتياطاتها الهائلة من النفط والغاز، والموقع الجيوسياسي، والمواقع الثقافية والدينية المهمة، عوامل رئيسية في تدخلات القوى الخارجية. وخلال الحرب الباردة (1947-1991)، كانت المنطقة ساحة معركة رئيسية للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، حيث سعت كلتا القوتين العظميين إلى توسيع نفوذها من خلال دعم القوى المختلفة أو الفصائل المتعارضة داخل الصراعات الإقليمية. أما فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، فقد دعمت الولايات المتحدة ولاتزال إسرائيل بشكل مطلق تقريبًا، بينما دعم الاتحاد السوفيتي العديد من الدول العربية. وفي الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988)، قدمت الولايات المتحدة الدعم للعراق، في حين دعم الاتحاد السوفيتي ودول أخرى إيران في نقاط مختلفة[9].

وقد تركت هذه الحروب بالوكالة ندوبًا عميقة، بما في ذلك الدمار واسع النطاق، والخسائر في الأرواح. كما أدت الصراعات إلى تفاقم الانقسامات الداخلية، والتي كان بعضها على أسس طائفية أو عرقية؛ ما أدى إلى استمرار عدم الاستقرار.

أما التدخلات المعاصرة، فقد بررت الولايات المتحدة وحلفاؤها مرارًا وتكرارًا تدخلاتهم العسكرية في الشرق الأوسط، ولاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر، بوصفها ضرورية لمكافحة الإرهاب[10]. وقد غزت الولايات المتحدة في أعقاب تلك الأحداث أفغانستان بهدف إلى تفكيك تنظيم القاعدة وإزاحة حركة طالبان من السلطة؛ ولكن النتيجة كانت دمارًا، بل وفشلًا ذريعًا، إذ عادت طالبان إلى السلطة في أغسطس 2021، بعد عشرين عامًا من الحرب لإخراجها منها.

كما قامت الولايات المتحدة بغزو العراق عام 2003 بذرائع زائفة وأكاذيب[11] وكانت النتيجة بتداعيها على الأمن الإقليمي أكثر بكثير من تداعيات غزو أفغانستان؛ إذ أحدثت خللًا غير مسبوق في ميزان القوى استغلته دول إقليمية وخارجية لمد النفوذ، بل سعت نحو الهيمنة، على حساب استقرار دول وشعوب أخرى.

وما كادت المنطقة تتجه نحو التعافي من تداعيات ذلك الغزو مع انسحاب الولايات المتحدة من العراق، حتى اندلع ما سُمي “الربيع العربي” أواخر2011، وكانت النتائج أيضًا ولعوامل كثيرة ومتشابكة كارثية بكل معنى الكلمة، ودخلت المنطقة في حالة غير مسبوقة بالفعل من عدم الاستقرار.

والخلاصة أنه بدلًا من تحقيق الاستقرار في المنطقة، أدت التدخلات الخارجية على مدار عقود من الزمن إلى تفاقم الصراعات القائمة، بل إلى خلق صراعات جديدة. فالحروب بالوكالة أثناء الحرب الباردة والتدخلات المعاصرة تركت تأثيرًا عميقًا ومعقدًا، وبالطبع سلبيًا في معظم الأحيان، إن لم يكن كلها؛ ما أدى إلى تفاقم الصراعات وتقويض الاستقرار، بل حتى التنمية في العديد من دول الشرق الأوسط. فالجهات الفاعلة الخارجية، التي تحركها بالطبع مصالحها دائمًا ما تعطي الأولوية لأهدافها الخاصة على حساب استقرار شعوب المنطقة ورفاهيتها.

وأيًّا يكن الأمر، فإن أحد أهم أسباب التأثير السلبي للتدخلات الخارجية هو غياب هياكل أمنية إقليمية يمكنها أن تتعامل مع التحديات التي تواجها دول المنطقة؛ ما فتح الباب على مصراعيه للتدخل؛ بل ربما تكون منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة التي لم تبقَ قوى خارجية حتى من تلك التي لا تقع ضمن تصنيفات الدول العظمى أو الكبرى إلا وتدخلت في شؤونها بصورة أو بأخرى؛ مما فاقم من حدة تأثير الملفات الرئيسية التي تسببت في حالة عدم الاستقرار. 

هل يمكن استنساخ منتدى آسيان في الشرق الأوسط؟

يعد المنتدى الإقليمي لرابطة أمم جنوب شرق آسيا ASEAN Regional Forum (ARF)، الذي تأسس في عام 1994، بمنزلة نموذج للحوار الأمني ​​الإقليمي في جنوب شرق آسيا[12]. فهو يجمع 27 دولة عضوًا، بما في ذلك دول جنوب شرق آسيا العَشر، والجهات الفاعلة الخارجية مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، لمناقشة المخاوف الأمنية. ويهدف المنتدى إلى تعزيز التعاون في مجالات عدة، تشمل السياسة والثقافة والاقتصاد؛ وتعزيز التعاون في المجال الأمني وفي القضايا التي تحمل اهتمامًا أمنيًا مشتركًا بين الدول الأعضاء[13].

وقد لعب المنتدى دورًا مهمًا في الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين. ومن أبرز إنجازاته على صعيد الأمن بناء الثقة؛ إذ يعقد المنتدى ورش عمل وندوات منتظمة لتعزيز الشفافية وبناء الثقة بين الدول الأعضاء. وتتناول هذه المبادرات قضايا مثل الأمن البحري، والإغاثة في حالات الكوارث، ومنع الانتشار النووي. كما يسهل تبادل المعلومات وأفضل الممارسات بشأن القضايا الأمنية، مما يساعد على بناء التفاهم المتبادل وتقليل مخاطر الصراع. ويعمل المنتدى بجد على منع الصراعات من خلال الحوار والدبلوماسية؛ إذ أنشأ آليات لمعالجة مصادر التوتر المحتملة قبل أن تتصاعد إلى صراعات، فضلًا عن الجهود تطوير أنظمة إنذار مبكر لاكتشاف التهديدات الأمنية الناشئة والاستجابة لها على الفور[14].

كما يقوم المنتدى بدور حيوي في قضايا الإغاثة في حالات الكوارث والمساعدات الإنسانية؛ إذ يعزز التنسيق بين الدول الأعضاء للإغاثة في حالات الكوارث والمساعدة الإنسانية. ويشمل ذلك التدريبات المشتركة وإنشاء شبكات للاستجابة السريعة. هذا فضلًا عن تعاون الدول الأعضاء لتحسين قدراتها في الاستجابة للكوارث، وتعزيز القدرة الإقليمية على مواجهة الكوارث الطبيعية والكوارث التي من صنع الإنسان.

وفي مجال مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود الوطنية، أسهم المنتدى في تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء، بما في ذلك وضع الأطر القانونية وتبادل المعلومات الاستخبارية لمعالجة هذه القضايا بشكل فاعل.

ويولي المنتدى اهتمامًا أيضًا بالأمن البحري وحرية الملاحة، وهو أمر بالغ الأهمية للاستقرار الإقليمي، خصوصًا أن المنطقة يمر عبر ممراتها نحو 60%[15]، حيث تقوم الدول الأعضاء بدوريات وتمارين بحرية مشتركة لتعزيز الأمن في المياه الإقليمية وحماية الممرات البحرية الحيوية. وفوق كل هذا يعمل المنتدى مع شركاء خارجيين مثل الولايات المتحدة والصين واليابان والاتحاد الأوروبي، من بين آخرين، لمعالجة التحديات الأمنية الإقليمية بشكل تعاوني؛ وتنظم تدريبات عسكرية متعددة الأطراف وبرامج تدريبية لتعزيز قابلية التشغيل البيني والتعاون بين الدول الأعضاء وشركائها.

وفيما يتعلق بأطر العمل والتطوير المؤسسي تم بذل الجهود لتعزيز القدرة المؤسسية للمنتدى الإقليمي للآسيان، بما في ذلك تطوير مقاربة أكثر تنظيمًا ورسمية لأنشطته. كما يعمل المنتدى على مبدأ الإجماع، ودائمًا ما يتم بذل كل الجهود من أجل تحقيق ذلك؛ مما يضمن أن يكون لجميع الدول الأعضاء صوت في عمليات صنع القرار، وهذا كله بالطبع يعزز الشعور بالاطمئنان والالتزام بالأمن الإقليمي.

إمكان تطبيق الأنموذج في الشرق الأوسط

يُعدُّ نجاح المنتدى الإقليمي في تعزيز الحوار والتعاون بشأن قضايا مثل الأمن البحري، والإرهاب، والإغاثة من الكوارث، ونجاحه في منع نشوب أي صراعات أو حروب أو نزعات على مستوى كبير وخطير بين الدول الأعضاء، سببًا في دفع بعض المحللين إلى التساؤل عما إذا كان من الممكن تكرار منصة مماثلة في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي ابتُليت لفترة طويلة بالصراع وعدم الاستقرار.

وينطلق هذا التصور من مقارنة عناصر التشابه بين المنطقتين؛ ففيما يتعلق بطبيعة دول المنطقتين مثلًا، تضم رابطة دول جنوب شرق آسيا دولًا ذات أنظمة سياسية مختلفة ومستويات مختلفة من التنمية الاقتصادية. بالمقابل يشمل الشرق الأوسط أنظمة مختلفة، ويتسم بملامح اقتصادية متنوعة، فثمة، على سبيل المثال، دول غنية بينما توجد دول فقيرة. ومن الممكن أن يؤدي المنتدى الإقليمي إلى سد هذه الخلافات من خلال تنمية المصالح المشتركة وتعزيزها.

كما أن رابطة (آسيان) تعمل على تعزيز التعاون الإقليمي من خلال مؤتمرات القمة المنتظمة والاجتماعات الوزارية والأمانة العامة التي تتولى تنسيق الأنشطة؛ بينما يمكن لدول الشرق الأوسط أن تستفيد بالمثل من الحوار المنظم والمشاريع التعاونية لمعالجة التحديات المشتركة مثل ندرة المياه، والطاقة المتجددة، والتنويع الاقتصادي.

أما فيما يتعلق بمسألة الأهمية الاستراتيجية، فموقع آسيان بين الاقتصادات العالمية الكبرى (الصين والهند واليابان) يعزز أهميتها الجيوسياسية، بينما يمكن للأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط نظرًا لموارده من الطاقة، وموقعه بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وأهميته الثقافية والدينية، الاستفادة منها لإنشاء كتلة إقليمية قوية.

وهناك حجج مقنعة بالفعل لإنشاء منتدى شبيه في الشرق الأوسط. فعلى غرار جنوب شرق آسيا، يعد الشرق الأوسط منطقة تتنافس فيها قوى كبرى متعددة على النفوذ. فالمنتدى الذي يعزز التواصل المفتوح بين الدول الإقليمية والجهات الفاعلة الخارجية يمكن أن يساعد في إدارة هذه المنافسات ومنعها من التصاعد إلى صراع شامل. فضلًا عن ذلك فإن نموذج منتدى آسيان الإقليمي يعطي الأولوية لبناء الإجماع والحوار غير القائم على التواصل المباشر وليس عبر الإعلام، وهو ما قد يكون أكثر فاعلية في معالجة التحديات الأمنية العديدة التي تواجهها المنطقة.

التحديات مقابل الفرص

مع كل ما سبق، فإن تكرار منتدى آسيان الإقليمي في الشرق الأوسط يواجه تحديات مهمة وعقبات عدة. فالشرق الأوسط أكثر انقسامًا بكثير من جنوب شرق آسيا، حيث توجد منافسات عميقة الجذور وتاريخ من الصراعات العنيفة. والتوصل إلى توافق في الآراء حتى بشأن القضايا الأساسية قد يشكل تحديًا كبيرًا. بالإضافة إلى ذلك، قد يتردد بعض اللاعبين الإقليميين الرئيسيين في المشاركة في منتدى يهيمن عليه منافسوهم.

وقد نجحت رابطة دول جنوب شرق آسيا في التغلب على الخلافات السياسية من خلال مبدأ عدم التدخل واتخاذ القرار بالإجماع، بالرغم من أنها تجنبت التكامل السياسي العميق؛ بينما يواجه قضايا الشرق الأوسط انقسامات سياسية أعمق، بسبب تعقيدات قضاياه وفي مقدمتها الصراع العربي-الإسرائيلي، والخلافات وحتى النفور السياسي بين العديد من الدول. فبناء الثقة ووضع أجندة مشتركة سوف يتطلب جهدًا دبلوماسيًا كبيرًا وربما وساطة خارجية مخلصة، وهذا أمر غير متوفر الآن.

كما يوجد جانب مقارنة مهم في هذا السياق؛ فما يعزز من فاعلية منتدى آسيان أيضًا أنه يضم دول رابطة آسيان العشر التي حققت مستويات تعاون وتكامل اقتصادي كبير؛ إذ يبقى أكثر من 50% من معدل التجارة المصدَّرة بين دول آسيان في الإقليم ذاته؛ وذلك دليل على التبادل التجاري الناجح بين الدول الأعضاء وعلى التخصص الصناعي والإنتاجي لحاجة الإقليم، مقابل 16% في حالة دول الشرق الأوسط، وهو ما يشير بوضوح إلى أهمية تعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري في تحقيق الاستقرار والأمن الإقليمي[16]. إضافة إلى التنويع في مصادر الدخل لدول شرق آسيا من أعضاء المنتدى باعتمادهم على مصادر دخل صناعية وزراعية وخدمية ونفطية، بينما مازالت معظم دول الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على دخلها من العائدات النفطية، ومازالت في خضم محاولات لتنويع مصادر الدخل والابتعاد عن الاعتماد على النفط بوصفه مصدرَ دخلٍ أساسيًا. هذا التنويع يسهل التنسيق بين الدول الرابطة نظرًا لتعدد الخيارات ووجود مسارات للتخصص الزراعي أو الصناعي الذي يدعم الكفاءة الإنتاجية والتجارية؛ بينما يواجه التبادل التجاري بين دول الشرق الأوسط تحديات نظرًا لمحدودية الخيارات في هذا الجانب[17].

تكييف النموذج: البناء على نقاط القوة

على الرغم من التحديات، فإن الفوائد المحتملة لمنتدى أمني في الشرق الأوسط يعتمد على نموذج المنتدى الإقليمي للآسيان لا يمكن تجاهلها. فقد كان المنتدى مثلما سبقت الإشارة إليه فعالًا في تعزيز السلام والاستقرار في جنوب شرق آسيا من خلال الحوار والدبلوماسية الوقائية والتدابير الأمنية التعاونية. ومن خلال تبني استراتيجيات مماثلة، يستطيع الشرق الأوسط معالجة تحدياته الأمنية المعقدة؛ وذلك على النحو الآتي:

أولًا، الحوار متعدد الأطراف وتدابير بناء الثقة أمر بالغ الأهمية. فقد نجحت الاجتماعات والمنتديات السنوية للمنتدى في تسهيل التواصل بين دول جنوب شرق آسيا، وتعزيز الثقة المتبادلة[18]. ومن الممكن أن تعمل الاجتماعات والمنتديات المنتظمة، الشبيهة بالتجمعات السنوية لمنتدى آسيان، على تعزيز التواصل المفتوح بين دول الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يمكن إنشاء منتدى إقليمي سنوي للشرق الأوسط (MERF)، حيث تستطيع الدول الأعضاء مناقشة المخاوف الأمنية بشكل مفتوح. ومن شأن هذه المنصة أن تسمح بتبادل وجهات النظر في المخاوف الأمنية، والحد من سوء الفهم وبناء الثقة المتبادلة.

ثانيًا، تشكل الدبلوماسية الوقائية جانبًا مهمًا أيضًا. فتركيز منتدى آسيان الإقليمي على منع الصراعات من خلال آليات الإنذار المبكر والمشاركة الدبلوماسية يمكن أن ينعكس في الشرق الأوسط[19]. ويمكن في هذا الإطار إنشاء مركز الدبلوماسية الوقائية في الشرق الأوسط لتوفير الإنذار المبكر بالصراعات المحتملة. ويمكن لمثل هذا المركز أن يتوسط في نزاعات أو التوترات بين دول المنطقة، وذلك باستخدام القنوات الدبلوماسية لتهدئة الأوضاع. كما أن إنشاء هيئات إقليمية للوساطة والتحكيم يمكن أن يساعد في إدارة النزاعات وحلها قبل أن تتصاعد إلى صراعات، وهذه المقاربة تشجع ثقافة الحوار والتفاوض بدلًا من المواجهة. 

ثالثًا، بناء القدرات أمر ضروري. فقد عززت برامج التدريب المشتركة التي ينفذها المنتدى الإقليمي لآسيا والمحيط الهادي القدرات الأمنية الإقليمية. ومن الممكن أن تعمل برامج التدريب المشتركة بين دول المنطقة، التي تركز على مجالات مثل مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، ومنع الانتشار النووي، والأمن السيبراني على تعزيز القدرات الإقليمية وتعزيز التعاون. على سبيل المثال، من الممكن أن تعمل المناورات التعاونية بين الجيوش على تحسين قدرتها على الرد على التهديدات الإرهابية. ومن الممكن أن تساعد مبادرات المساعدة الفنية وتبادل المعرفة البُلدان على معالجة التهديدات الأمنية المشتركة بشكل أكثر فاعلية.

رابعًا، الترتيبات الأمنية التعاونية. فقد أدت المناورات العسكرية المشتركة التي أجراها المنتدى الإقليمي لاتحاد آسيا إلى بناء الثقة بين الدول المشاركة. ومن الممكن أن تعمل الترتيبات الأمنية التعاونية، مثل التدريبات العسكرية المشتركة والحوارات الأمنية، على بناء الثقة وتحسين إمكان العمل المتبادل بين القوات الإقليمية. وتعزز هذه الأنشطة التعاون العملي وتظهر الالتزام الجماعي بالاستقرار الإقليمي. وقد تشمل التدريبات أيضًا الاستجابة للكوارث، والأمن البحري، وعمليات مكافحة القرصنة في البحر الأحمر والخليج العربي.

والتعاون الاقتصادي هو ركيزة أخرى للاستقرار، فقد ربط المنتدى الإقليمي لمنطقة آسيا التعاون الاقتصادي بالأمن، ما أدى إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي. ويمكن لبرامج التكامل الاقتصادي والتنمية أن تعالج القضايا الاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي كثيرًا ما تغذي الصراعات. فمثلًا، تعزيز مشاريع التكامل الاقتصادي مثل إحياء طريق الحرير القديم الذي يربط الشرق الأوسط بآسيا. ومن الممكن أن تعمل مشاريع التنمية المشتركة في البنية الأساسية، والطاقة، والتجارة على خلق ترابط اقتصادي، مما يقلل من احتمالات الصراع. على سبيل المثال، يمكن للدول المتنافسة، مثل (المملكة العربية السعودية وإيران) أن تتعاون في شبكات أو خطوط أنابيب الطاقة الإقليمية. ومن خلال ربط الأمن بالتنمية، تستطيع المنطقة أن تعمل على إيجاد نهج أكثر شمولية لتحقيق الاستقرار.

وأخيرًا، فإن إنشاء إطار مؤسسي قوي، بما في ذلك الأمانة الدائمة وآليات المراقبة، من شأنه أن يوفر الدعم اللازم والاستمرارية لهذه المبادرات[20]. ويوجد لدى ARF أمانة دائمة تدعم أنشطته. وإنشاء أمانة دائمة لـMERF لتنسيق الأنشطة ودعم عمليات الحوار ومراقبة تنفيذ التدابير الأمنية أمر ممكن، ويمكن لهذه الأمانة تسهيل الاجتماعات المنتظمة، وإصدار التقارير، وتوفير هيكل الدعم المستمر لمبادرات المنتدى.

خامسًا، معالجة المخاوف الأمنية المحددة. على النقيض من منتدى آسيان الإقليمي، الذي يركز على نطاق واسع من القضايا الأمنية، فإن منتدى الشرق الأوسط يجب أن يكون قادرًا على إعطاء الأولوية للتحديات الأمنية الأكثر إلحاحًا في المنطقة، وأولها حل عادل للقضية الفلسطينية؛ فلا أحد يستطيع أن ينكر أن أهم عوامل عدم الاستقرار في المنطقة هو الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني[21]، وهو الشعب الوحيد في العالم الذي لايزال يرزح تحت نير الاحتلال. وقد اندلعت في سياقه العديد من الحروب والنزاعات المسلحة، آخرها ما يجري الآن في غزة التي تتعرض منذ 7 أكتوبر 2023 لحرب دمار شامل بالفعل، حيث قُتل وأصيب أكثر من 150 ألف شخص، غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال، ودُمِّر أكثر من 75% من المباني، والملايين هجروا بيوتهم، وكثير منهم لا مأوى لهم، فضلًا عن المجاعة والأمراض؛ ما جعل منها بالفعل إحدى أكبر الكوارث الإنسانية التي عرفها العالم في العصر الحديث. كل هذا يحدث ولايزال هناك تجاهُل واضح، ولاسيما من القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة للجذور الحقيقية للصراع، والمتمثلة في الاحتلال والقمع اللذين يتعرض لهما الشعب الفلسطيني على مدار 75 عامًا. وهذه ليست الحرب الأولى ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة، ما لم يكن هناك سعي حقيقي لحل هذه القضية حلًا عادلًا يضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس؛ وما لم يحدث ذلك فستبقى السمة العامة للمنطقة عدم الاستقرار[22].

سادسًا، التركيز على تدابير بناء الثقة. لاتزال مسألة انعدام الثقة أيضًا سمة سائدة في المنطقة. ويمكن الاستفادة من منتدى آسيان الإقليمي في هذا الجانب، إذ يجري التركيز على تدابير بناء الثقة، عبر إجراءات ومبادرات مختلفة بما فيها مثلًا التدريبات العسكرية المشتركة وتدريبات الإغاثة في حالات الكوارث. ويمكن لمثل هذه التدابير، التي تركز على التعاون “غير التهديدي”، أن تعزز الثقة والتواصل بين الجهات الفاعلة الإقليمية؛ ما يمهد الطريق لمزيد من التعاون في المستقبل في مسائل جوهرية، مثل الجانب الأمني​​.

ويظهر الجدول الآتي الفوارق الرئيسية بين المنطقتين، والتي يمكن أن تعطي صورة شاملة عن الفرص والتحديات المتعلقة ببناء نموج أمني إقليمي مستوحى من المنتدى الإقليمي الآسيوي:

الفوارق نموذج الآسيان الشرق الأوسط
الفوارق الاقتصادية تضم رابطة دول جنوب شرق آسيا كلًّا من الدول المتقدمة (سنغافورة) والدول النامية (كمبوديا ولاوس) ولكنها تعمل على تضييق هذه الفجوات من خلال المبادرات الاقتصادية. الفجوة الاقتصادية بين الدول الغنية صارخة، وسيكون من الضروري وضع سياسات تضمن المنافع المتبادلة، مثل الاستثمار في البنية التحتية والتنويع الاقتصادي.
القضايا الأمنية تعالج رابطة أمم جنوب شرق آسيا الأمن الإقليمي من خلال الحوارات وأطر التعاون، ولكنها تتجنب التحالفات العسكرية المباشرة. الصراعات المستمرة والإرهاب وعدم الاستقرار في بعض الدول تشكل عقبات كبيرة. ومن الممكن أن يبدأ منتدى الشرق الأوسط بالتعاون الأمني ​​غير العسكري، مثل تبادل المعلومات الاستخبارية وجهود مكافحة الإرهاب، وبناء الثقة تدريجيًّا من أجل تعاون أعمق.
التوترات التاريخية تم تخفيف العداوات التاريخية (على سبيل المثال، بين فيتنام وكمبوديا) بمرور الوقت من خلال الحوار المستمر والتعاون الاقتصادي. المظالم التاريخية والانقسامات الثقافية/الطائفية أعمق في الشرق الأوسط، وسيكون المنتدى في حاجة إلى إعطاء الأولوية لجهود حل النزاعات والمصالحة، وربما بدعم من الهيئات الدولية.
الفوائد المحتملة
النمو الاقتصادي أدت المبادرات الاقتصادية لرابطة دول جنوب شرق آسيا، مثل منطقة التجارة الحرة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (AFTA)، إلى تعزيز التجارة والاستثمار بين دول المنطقة. من الممكن أن يؤدي إطار مماثل إلى تعزيز التجارة والاستثمار في الشرق الأوسط، والاستفادة من الموقع الاستراتيجي للمنطقة ومواردها الطبيعية لتعزيز التنويع الاقتصادي والنمو.
الاستقرار يسهم المنتدى في الاستقرار الإقليمي من خلال توفير منصة للحوار والتعاون حول القضايا المشتركة. من الممكن أن يساعد منتدى الشرق الأوسط في التوسط في الصراعات وتوفير منصة لمعالجة التحديات المشتركة، والإسهام في الاستقرار على المدى الطويل.
التأثير العالمي الموقف الموحّد لدول المنتدى الأساسية (آسيان) في المحافل العالمية يزيد من تأثيرها في القضايا الدولية إنشاء منتدى شرق أوسطي موحّد من شأنه أن يعزز نفوذ المنطقة في القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية العالمية، وخاصة في مجالات مثل سياسة الطاقة وتغير المناخ.
خطوات للنظر فيها
الجهود الدبلوماسية نجاح المنتدى، ومن ضمنه رابطة دول جنوب شرق آسيا، يرجع جزئيًا إلى مقاربتها الشاملة وجهودها الرامية إلى بناء الإجماع. هناك حاجة إلى جهود دبلوماسية مكثفة لبناء الثقة وحل الصراعات وتعزيز التكامل الإقليمي، ومن الممكن أن يساعد إشراك الوسطاء المحايدين والشركاء الدوليين في تسهيل هذه الجهود.
التكامل الاقتصادي تعمل دول “آسيان” على تعزيز التكامل الاقتصادي من خلال اتفاقيات التجارة والاستثمار وتطوير البنية التحتية. يمكن لمبادرات مثل اتفاقية التجارة الحرة في الشرق الأوسط، ومشاريع البنية التحتية المشتركة، والمناطق الاقتصادية أن تعزز التكامل. وسيكون تشجيع مشاركة القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي أمرًا بالغ الأهمية أيضًا.
التعاون الأمني تركز آسيان وضمن المنتدى الإقليمي أيضًا على التهديدات الأمنية غير التقليدية (مثل القرصنة والإرهاب) من خلال أطر التعاون. إنشاء آليات للتعاون الأمني، مثل الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، وتبادل المعلومات الاستخبارية، والمساعدة الإنسانية، يمكن أن يعالج التهديدات المباشرة ويبني الثقة من أجل تعاون أعمق.
الإطار المؤسسي يتضمن الإطار المؤسسي لآسيان عقد مؤتمرات قمة منتظمة، وأمانة عامة، ولجانًا مختلفة تعالج قضايا محددة. تطوير إطار مؤسسي قوي ذي أهداف واضحة، وآليات لحل النزاعات، وعقد اجتماعات منتظمة رفيعة المستوى أمر ضروري؛ فضمان الشمولية والمشاركة العادلة من جانب الدول الأعضاء كافة من شأنه أن يعزز شرعية المنتدى وفاعليته.

الخلاصة

 بالرغم من أن تكرار المنتدى الإقليمي الآسيوي في الشرق الأوسط يمكن أن يواجه عقبات كبيرة، فإن العوائد المحتملة تستحق الاستكشاف. فالتواصل المفتوح والالتزام بالحل السلمي للصراعات أمران ضروريان لتعزيز الاستقرار على المدى الطويل في المنطقة. ومن خلال الاستفادة من تجربة منتدى آسيان الإقليمي وتكييف نموذجه مع سياق الشرق الأوسط، يصبح بوسع الفواعل واللاعبين الإقليميين والدوليين أن يتخذوا خطوة حاسمة نحو مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا. ويمكن تحقيق ذلك من خلال خطوات، من بينها تحسين الاستقرار السياسي والاقتصادي. ولتعزيز الأمن الإقليمي فعلًا، من المهم معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل القائمة، سياسيًا وأمنيًا وتاريخيًا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية؛ واجتماعيًا الفقر وعدم المساواة، بالإضافة إلى قضايا الفساد وسوء الإدارة، …إلخ. ويمكن القيام بذلك من خلال الجهود المبذولة لتعزيز النمو الاقتصادي والتنمية، وكذلك من خلال الإصلاحات السياسية التي تهدف إلى زيادة الشفافية والمساءلة.

 وبما أن المنطقة تواجه العديد من التحديات الأمنية المشتركة، بما في ذلك انتشار أسلحة الدمار الشامل وتهديدات الأمن السيبراني، فمن المهم لمواجهة هذه التحديات أن تعمل دول المنطقة معًا لتطوير استراتيجيات مشتركة والتعاون في جهود الاستخبارات وإنفاذ القانون وغيرهما.

 والخلاصة أنه لا يمكن تعزيز الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط دون تعزيز الحوار والتعاون بين دول المنطقة. ويمكن القيام بذلك ليس فقط من خلال آليات المنظمات القائمة، وإنما أيضًا استحداث منتدى أمني إقليمي فعّال. فمثل هذا المنتدى مع الآليات الأخرى يمكن أن يوفر منصة للدول للانخراط في الحوار والتصدي للتحديات الأمنية المشتركة من خلال التعاون وليس الصراع.


الهوامش:

[1] Peter Jones, Towards a Regional Security Regime for the Middle East: Issues and Options. Stockholm International Peace Research Institute, October 2011, p. v.

[2] Aleksandra Kusztal, “Theoretical Foundations of Regional Security in International Relations – The Overview.” Journal of Science of The Military Academy of Land Forces, vol. 49, no. 1 (183), 2017, p. 18.

[3] Aleksandra Kusztal, Ibid., p. 17.

[4] Mearsheimer, John J. The Tragedy of Great Power Politics. New York: W.W. Norton & Company, 2014, pp. 31-54; Buzan, Barry, and Ole Wæver. Regions and Powers: The Structure of International Security. Cambridge: Cambridge University Press, 2003.

[5] Daniel Deudney, and G. John Ikenberry, eds. Liberal Order and Its Critics. Princeton, NJ: Princeton University Press, 2018, pp. 15-32; Keohane, Robert O., and Joseph S. Nye. Power and Interdependence. New York: Longman, 2011.

[6] Ted Hopf, Reconstructing the Cold War: The Early Years, 1945-1958. New York: Oxford University Press, 2012, pp. 63-88.

[7] Bettina Koch, and Yannis A. Stivachtis. “Introducing Regional Security in the Middle East.” E-International Relations, May 11, 2019: https://www.e-ir.info/2019/05/11/introducing-regional-security-in-the-middle-east/

[8] Majid Khadduri, “The Problem of Regional Security in the Middle East: An Appraisal.” Middle East Journal, vol. 11, no. 1, Winter 1957, p. 12.

[9] Efraim Karsh, The Iran-Iraq War 1980–1988. Oxford: Osprey Publishing, 2002, pp. 45-47.

[10] Samuel P Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. New York: Simon & Schuster, 1996, pp. 209-218.

[11] The Chilcot Report. The Report of the Iraq Inquiry. London: The Stationery Office, 2016.

[12] ASEAN Regional Forum. “Concept and Principles of Preventive Diplomacy.” Adopted by Ha Noi, Viet Nam on 25 July 2001. https://shorturl.at/zLlHI

[13] ASEAN Regional Forum: https://aseanregionalforum.asean.org/about-arf/

[14] European Union External Action. “ASEAN Regional Forum Statement to promote peace, stability, and prosperity through confidence-building measures and preventing diplomacy.” August 8, 2022.: https://shorturl.at/5p4er

[15] “How Much Trade Transits the South China Sea?” The Center for Strategic and International Studies. https://shorturl.at/YVUMH

[16] Etel Solingen, “The Middle East and East Asia: A tale of two economic trajectories.” Washington Post, December 7, 2021: https://www.washingtonpost.com/news/monkey-cage/wp/2015/08/11/a-tale-of-two-economic-trajectories/.

[17] Etel Solingen, Ibid.

[18] Hof, Frederic C. “The Middle East Regional Security Dialogue: A U.S. Strategic Framework.” Atlantic Council, 2019, pp. 12-15; Chen, Dongxiao. “The ASEAN Regional Forum: A Model for the Middle East?” Contemporary Southeast Asia, vol. 30, no. 2, 2008, pp. 245-268

[19] Acharya, Amitav. “Preventive Diplomacy in Southeast Asia: Lessons from the ASEAN Regional Forum.” International Relations of the Asia-Pacific, vol. 5, no. 3, 2005, pp. 321-342.

[20] Chen, Dongxiao. “The ASEAN Regional Forum: A Model for the Middle East?” Contemporary Southeast Asia 30, no. 2, 2008, 258-262.

[21] عاطف الغمري، نظام إقليمي جديد للشرق الأوسط.. هل هو ممكن الآن؟ صحيفة عُمان، 25 ديسمبر 2018: https://shorturl.at/ADJIL .

[22] Schulze, Kirsten E. The Arab-Israeli Conflict. London: Routledge, 2018, pp. 180-195.

المواضيع ذات الصلة