Insight Image

هل ستتحول أفغانستان في ظل سيطرة طالبان إلى قاعدة للإرهاب مرة أخرى؟

26 أغسطس 2021

هل ستتحول أفغانستان في ظل سيطرة طالبان إلى قاعدة للإرهاب مرة أخرى؟

26 أغسطس 2021

لقد خلقت سيطرة حركة طالبان على أفغانستان بشكل خاطف وسريع صدمة على المستوى العالمي، لاسيما وأن السرعة التي انهار بها الجيش الأفغاني وكذلك الحكومة الأفغانية خالفت كل التقديرات والتوقعات التي روجت لها الولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك أعادت طالبان عقارب الساعة عشرين عاماً إلى الوراء، حيث عادت لتسيطر مجدداً على أفغانستان قبيل أيام من حلول ذكرى مرور عشرين عاماً على أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

ويطرح هذا التحول الدراماتيكي جملة من القضايا والتساؤلات حول تفسير ما حدث، وبخاصة فيما يتعلق بالانهيار السريع والمدوي للجيش الأفغاني، حيث تبخر في غضون عشرة أيام، والانسحاب الفوضوي والمتخبط من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، والذي اقترن بحالة كارثية من سوء التقديرات وخطأ الحسابات، وانعكاسات ذلك على المكانة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى. كما يطرح تساؤلات عديدة حول أيديولوجية حركة طالبان وتوجهاتها في ممارسة السلطة والحكم من جديد، وإلى أي مدى ستختلف عن تجربة الحركة في الحكم بين عامي 1996 و2001، فضلاً عن محددات وحسابات مواقف وسياسات الدول المجاورة لأفغانستان تجاه هذه المستجدات، والخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الغربية الكبرى للتعامل مع أفغانستان في مرحلة ما بعد الانسحاب.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن هناك قضية مهمة باتت تحظى باهتمام كبير على المستويين السياسي والأكاديمي؛ وهي علاقة طالبان – القائمة والمحتملة – بالتنظيمات الإرهابية، وبخاصة تنظيم القاعدة؛ فهل ستفي طالبان بما التزمت به في الاتفاق الذي وقعته مع الولايات المتحدة الأمريكية في فبراير 2020 بشأن عدم السماح لتنظيم القاعدة أو غيره من التنظيمات الإرهابية بالتواجد داخل أفغانستان واستهداف دول أخرى انطلاقاً من أراضيها، أو ستتجه إلى جعل أفغانستان ملاذاً آمناً لبعض التنظيمات الإرهابية من جديد؟ وما هي أهم العوامل والمحددات التي ستؤثر على توجهات طالبان بهذا الخصوص؟ وما هي السيناريوهات المستقبلية المحتملة لعلاقة طالبان بالتنظيمات والجماعات الإرهابية، وبخاصة تنظيم القاعدة؟

تحاول هذه الورقة الإجابة عن التساؤلات السابقة في ضوء ثلاث ملاحظات عامة يتعين أخذها في الاعتبار كإطار عام لمناقشة الموضوع.

أولاها، أن التطورات الحادة والمتسارعة في أفغانستان جعلت الواقع أكثر تعقيداً، لاسيما وأن الأحداث لاتزال تتفاعل على الأرض، وهو ما يستوجب التدقيق في المعلومات، والتعامل بحذر مع التحليلات المتسرعة التي تفتقر إلى الموضوعية، حيث تقوم على تعميمات مبالغ فيها، ونظرة حدية للأمور.

وثانيتها، أن أفغانستان تمثل حالة نموذجية للدولة الفاشلة أو المتصدعة. ومن المعروف أن هذه النوعية من الدول تمثل بيئات ملائمة لظهور التنظيمات الإرهابية وتمددها. ولاشك في أن أحد أهم العوامل التي مكنت طالبان من العودة مجدداً للسيطرة على أفغانستان هو الفشل في تحقيق درجة مقبولة من التنمية وإعادة بناء الدولة الأفغانية على أسس جديدة بعد إطاحة حكم طالبان في عام 2001. وبغض النظر عن طبيعة السلطة الحاكمة في أية دولة فاشلة أو متصدعة، فإن مجرد استمرار حالة فشل الدولة يغذي قوى التطرف والإرهاب.

وثالثتها، أن كثيراً من دول العالم بدأت تتقبل حقيقة سيطرة طالبان على أفغانستان، سواء بشكل صريح أو ضمني، إلا أنها أكدت بوضوح أنها ستحكم على الحركة من خلال الأفعال وليس الأقوال. وسوف تشكل هذه المواقف على الأرجح محدداً مهماً لسلوك طالبان. فهل ستسعى للتكيف مع حقائق العصر والحصول على اعتراف دولي أو ستكرر تجربتها السابقة، وتحكم على نفسها بالعزلة، بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات؟

وسوف تعرض الورقة لخريطة التنظيمات الإرهابية في أفغانستان في الوقت الراهن، ثم تناقش أهم العوامل والمحددات المؤثرة في توجهات طالبان تجاه الإرهاب والتنظيمات الإرهابية. وعلى ضوء ذلك تطرح بعض السيناريوهات المستقبلية بهذا الخصوص.

 

أولاً: خريطة التنظيمات الجهادية الإرهابية في أفغانستان

هناك من يرى أن طريقة انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، والتي أعادت إلى الأذهان انسحابها من فيتنام عام 1975، وعودة حركة طالبان إلى الحكم من جديد بعد عشرين عاماً على إطاحتها، سوف يعطيان دفعة معنوية للتنظيمات الجهادية الإرهابية. فالحركة صمدت في وجه قوة عظمى وأجبرتها على الانسحاب بطريقة متخبطة أقرب ما تكون إلى الهزيمة[1]. لكن هذا التقييم لا يعني بالضرورة حدوث طفرة كبيرة في العمليات الإرهابية أو تكرار ما حدث في أفغانستان في دول أخرى، أخذاً في الاعتبار أن الإرهاب لم يتوقف منذ أن أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية حملتها بشأن الحرب على الإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وحالياً هناك تنظيمات إرهابية تسيطر بشكل أو بآخر على مناطق داخل دول، ولو بشكل متقطع في بعض الحالات، كما هو الحال بالنسبة لجماعة بوكو حرام في نيجيريا، وحركة شباب المجاهدين في الصومال، وتمدد داعش والتنظيمات الموالية له في بعض الدول الأفريقية والآسيوية.

وبصفة عامة، تتمثل أهم التنظيمات الإرهابية في أفغانستان في الوقت الراهن، والتي يتعين على طالبان التعامل معها، سواء بمواجهتها وتحجيمها أو التنسيق معها وتوظيفها – حسب النهج الذي ستسلكه الحركة – فيما يلي[2]:

  • تنظيم القاعدة

 من المعروف أن طالبان احتضنت التنظيم خلال فترة حكمها لأفغانستان بين عامي 1996 و2001، ووفرت له ملاذاً آمناً، وهو ما ساعده على التحضير والتخطيط لتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وتطرح علاقة طالبان القائمة أو المحتملة مع تنظيم القاعدة الكثير من الهواجس لدى عديد من الدول. وبصفة عامة، يتمتع تنظيم القاعدة بوجود محدود داخل أفغانستان في الوقت الراهن، حيث تشير بعض المصادر إلى تمركز حوالي 500 من مقاتليه في ولاية كونار المعروفة بتضاريسها الوعرة في شرق أفغانستان. كما يُلاحظ تراجع التهديد الذي يمثله تنظيم القاعدة انطلاقاً من أفغانستان، وذلك بسبب الضربات الأمنية الموجعة التي تلقاها التنظيم بما في ذلك مقتل زعيمه أسامة بين لا دن ونجله حمزة الذي كان سيخلفه في قيادة التنظيم. كما أن هناك الكثير من الغموض بشأن أيمن الظواهري، حيث إن هناك من يرجح فرضية وفاته. كما تحول التنظيم خلال العقدين الماضيين إلى شبكة جهادية إرهابية، حيث بات له فروعه المنتشرة في عدة دول. ومع ذلك فإن النشاط الإرهابي للتنظيم تراجع بشكل واضح، مقارنة بنشاط تنظيم “داعش” والتنظيمات الموالية له.

  • تنظيم داعش-ولاية خراسان

تنظيم “ولاية خراسان” هو فرع تنظيم “داعش” في أفغانستان. وقد تم الإعلان عن تأسيسه في عام 2015. ويضم إلى جانب عناصر أخرى مجموعات كانت قد انفصلت عن حركة طالبان. وهو يتنشر بالأساس في بعض ولايات شرق أفغانستان المعروفة بطابعها المحافظ. وقد تصاعد نشاط تنظيم ولاية خراسان، شأنه شأن فروع “داعش” في مناطق أخرى، في أعقاب الهزيمة العسكرية التي لحقت بالتنظيم الأم في كل من العراق وسوريا عامي 2017 و2018، حيث انخرط التنظيم في تنفيذ العديد من الهجمات الإرهابية التي استهدفت جنوداً أمريكيين، وقوات من الشرطة الأفغانية والجيش الأفغاني، فضلاً عن أهداف مدنية وعسكرية أخرى. كما بدا التنظيم منافساً لحركة طالبان على الساحة الأفغانية، وكثيراً ما حدثت مواجهات مسلحة بينهما أدت إلى وقوع قتلى من الجانبين. وعلى الرغم من أن تنظيم ولاية خراسان الذي تصنفه الولايات المتحدة الأمريكية كمنظمة إرهابية تلقى العديد من الضربات الأمنية، سواء من قبل القوات الأمريكية أو الجيش الأفغاني، فإنه لايزال له حضوره على الساحة الأفغانية، وهو ما يثير التساؤل حول مستقبل علاقته بحركة طالبان، وقد أصبحت الآن في سدة السلطة والحكم[3].

  • شبكة حقاني

تُعد شبكة حقاني فرعاً من حركة طالبان. وهي تتمتع بقدرات قتالية عالية، ودرجة من الاستقلالية مقارنة بالفروع الأخرى لطالبان. وعُين زعيم الشبكة سراج الدين حقاني نائباً لزعيم طالبان الملا هبة الله أخوند زاده في عام 2015. ومن المعروف أن شبكة حقاني ارتكبت العديد من الهجمات الدموية في أفغانستان، ولذلك صنفتها الولايات المتحدة الأمريكية كمنظمة إرهابية منذ عام 2012. كما تخضع لعقوبات من جانب الأمم المتحدة. وتشير مصادر عديدة إلى أن الشبكة معروفة بعلاقاتها القديمة مع تنظيم القاعدة، وهو أمر يثير الكثير من الهواجس بشأن مستقبل علاقة طالبان بالقاعدة[4].

وبالإضافة إلى التنظيمات السالفة الذكر، فإن العلاقة القائمة والمحتملة بين طالبان أفغانستان وطالبان باكستان بزعامة نور والي محسود تطرح الكثير من التساؤلات من منظور المستقبل. ومن المعروف أن الأخيرة تم الإعلان عن تأسيسها في عام 2007. ومنذ ذلك الحين نفذت العديد من الهجمات الإرهابية داخل باكستان. كما تلقت الكثير من الضربات الأمنية من قبل الجيش وقوات الأمن الباكستانية. ومن ناحية أخرى، كثيراً ما اتُّهِمت باكستان بدعم ومساندة طالبان – أفغانستان، هو أمر دأبت الحكومة الباكستانية على نفيه. ومع سيطرة طالبان على أفغانستان، قامت طالبان باكستان بتهنئتها على هذا الانتصار، وجددت الولاء لزعيمها الملا هبة الله أخوند زاده. وفي هذا الإطار، فإنه من المتوقع أن يكون لعلاقة باكستان بحكومة طالبان تأثيرها على علاقة الأخيرة بطالبان – باكستان[5].

 

ثانياً: المحددات الحاكمة لموقف طالبان من التنظيمات الإرهابية

إن الموقف المحتمل لحركة طالبان – وهي في السلطة – من التنظيمات الإرهابية تحكمه اعتبارات عديدة يؤطرها عاملان جوهريان؛ يتمثل الأول في مدى استيعاب طالبان دروس الماضي، حيث إن دعم الإرهاب في السابق كلفها ثمناً باهظاً، حيث أطيح بحكمها في عام 2001. ويتجلى الثاني في قدرة الحركة على قراءة الواقع وتحدياته بشكل صحيح؛ فهي قد انتقلت من المعارضة والتمرد إلى موقع السلطة والحكم. فهل ستتصرف كسلطة مسؤولة تسعى من أجل إعادة بناء الدولة الأفغانية، والحصول على الاعتراف الدولي أو ستسلك نهج تفضيل التعامل مع التنظيمات الإرهابية المسلحة وليس الدول والحكومات، وهو أمر ستكون له تداعيات سلبية كبيرة عليها؟

وفي ضوء ما سبق، تتمثل أهم العوامل والمحددات المؤثرة في موقف طالبان من التنظيمات الإرهابية فيما يلي:

  • أولويات حركة طالبان في ظل سيطرتها مجدداً على أفغانستان

تتمثل الأولوية القصوى لطالبان في الوقت الراهن في تثبت وجودها كسلطة حاكمة في أفغانستان. ويرتبط ذلك بعوامل عديدة منها طبيعة القوى المعارضة لحكم طالبان، ومدى استعدادها للانخراط في حرب ضدها، وطبيعة نظام الحكم الذي ستتبناه الحركة، وهل يقوم على الاحتواء وإشراك قوى وجماعات أخرى أو سيرتكز على الانفراد بالسلطة وإقصاء الآخرين. وفي هذا السياق، تختلف أولويات طالبان عن أولويات تنظيم القاعدة على الرغم من وجود بعض القواسم العقيدية والأيديولوجية بينهما؛ فالأولى تركز على ممارسة السلطة والحكم داخل أفغانستان وفق رؤيتها للشريعة الإسلامية، بينما يُعد تنظيم القاعدة منظمة جهادية عابرة لحدود الدول، حيث لا يعترف بمبدأ الحدود الوطنية. كما أن للتنظيم فروعه المنتشرة في عديد من الدول[6]. ومن هنا، فإن طالبان أمام لحظة اختيار فارقة، فإما أن تتحلى بقدر من الواقعية، بحيث تركز على تحقيق أولوياتها في تعزيز سلطتها، واحتواء خصومها أو تحجيمهم، وإما أن تتجه إلى احتضان تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات الإرهابية مجدداً، وهذا سوف يكلفها الكثير.

  • التوجهات الجديدة لحركة طالبان.. حدود الاستمرارية والتغيير

في أعقاب سيطرتها على أفغانستان بدأت طالبان في طرح رؤى وتوجهات مختلفة إلى حد ما عن التوجهات والرؤى التي طبقتها أثناء حكمها لأفغانستان بين عامي 1996 و2001؛ ففي أول مؤتمر صحفي عقده الناطق باسم طالبان ذبيح الله مجاهد في 17 أغسطس 2021 أشار إلى عدة أمور، منها: أن طالبان لن تقوم بتصفية حسابات مع أي أطراف في أفغانستان، وأن أراضي أفغانستان لن تُستخدم من أجل إلحاق الضرر بالآخرين. كما أشار إلى صدور قرار بعفو عام يشمل الجميع بما في ذلك المواطنون الذين عارضوا طالبان، والجنود الذين انخرطوا في الحرب ضدها، وكذلك الذين تعاونوا مع الحكومة الأمريكية، مثل المترجمين وغيرهم. كما أكد على أن السفارات والبعثات الدبلوماسية مؤمَّنة، وطمأن ممثلي البعثات الدبلوماسية بأنهم لن يتعرضوا لأذى. وبخصوص وضع المرأة أشار إلى أن حقوق المرأة ستكون محفوظة وفق الشريعة الإسلامية، وأنه سيكون هناك حضور نشط للمرأة الأفغانية في عديد من المجالات. كما أكد على أن الحكومة الجديدة ستعمل على خدمة مصالح الناس، ولن تسمح لأي جهة بإثارة النعرات الإثنية. وبالإضافة إلى ذلك، ناشد المجتمع الدولي بتقديم المساعدة لأفغانستان من خلال الاستثمار ات وتقديم المساعدات المادية، وذلك حتى تتمكن البلاد من الحصول على دخل إضافي لإنهاء تجارة وزراعة المخدرات[7].

وعلى الرغم من نغمة الاعتدال والتصالح التي تغلف الخطاب الجديد لحركة طالبان، فإن الفيصل في الحكم على مدى التغيير في فكر الحركة وتوجهاتها سوف يكون للأفعال وليس الأقوال. وعموماً فإن طالبان بحاجة إلى طمأنة الشعب الأفغاني، حيث إنها تمتلك أيديولوجية ومقاتلين، لكنها لا تمتلك خبرات وكوادر مؤهلة لإدارة شؤون الدولة ومرافقها، ومن هنا كانت دعوتها للموظفين باستئناف أعمالهم في أجهزة الدولة ومؤسساتها. كما أنها بحاجة إلى طمأنة الخارج حتى تحظى بالاعتراف الدولي من ناحية، وتتجنب تبعات وجود قوى إقليمية ودولية معادية لها من ناحية أخرى.

  • الترتيبات السياسية والمؤسسية للمرحلة الجديدة

إن الترتيبات السياسية والمؤسسية التي ستأخذ بها حركة طالبان تمثل مؤشراً مهماً على موقفها المحتمل من التنظيمات الإرهابية. وثمة ثلاث مسائل كبرى يتعين على طالبان التعامل معها بهذا الخصوص. أولاها، طبيعة نظام الحكم وشكل الحكومة. وقد دعا مجلس الأمن الدولي في بيانه الختامي الذي أصدره عقب جلسة عقدها يوم 16 أغسطس 2021 لمناقشة الأوضاع في أفغانستان، دعا الأطراف الأفغانية إلى تشكيل حكومة جديدة عبر المفاوضات تتسم بالوحدة والشمول وتضم النساء. وثانيتها، طبيعة قطاع الأمن أو المؤسسات الأمنية في ظل الوضع الجديد؛ فهذه المؤسسات هي المسؤولة عن حفظ الأمن والنظام في البلاد. ويمثل هذا الأمر أولوية بالنسبة لعامة الناس. ونظراً لانهيار الجيش الأفغاني والأجهزة الأمنية على نحو ما هو معروف، فقد أصبح يتعين على طالبان سد هذه الفجوة. وثالثتها، تبني سياسات تضمن وقف حالة التدهور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وتوفير حد أدنى من مقومات الحياة للسكان. وتحتاج أفغانستان إلى دعم دولي بهذا الخصوص بما في ذلك استمرا ر جهود وأنشطة الإغاثة الإنسانية. ولاشك في أن شروع طالبان في التعامل بجدية مع هذه التحديات الثلاثة سيرسل رسائل إيجابية بشأن حدوث تغيير في فكر طالبان وتوجهاتها، والانفتاح على العالم، وعدم تكرار تجربة توفير ملاذ آمن لتنظيمات إرهابية، مثل تنظيم القاعدة أو غيره.

  • المواقف الإقليمية والدولية من سيطرة طالبان على أفغانستان

لقد قبلت دول عديدة، وبخاصة في دائرة الجوار الإقليمي لأفغانستان، بشكل صريح أو ضمني حقيقة سيطرة طالبان على البلاد. ويمثل هذا مكسباً سياسياً للحركة، لاسيما وأن دولاً عديدة مهمة ومؤثرة، مثل روسيا والصين وتركيا وإيران وباكستان، لم تخفِ استعدادها للتعامل طالبان وهي في السلطة. كما صرح وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن “طالبان ربحت الحرب في أفغانستان. إذن، علينا أن نتحدث إليهم”. وكل الدول المعنية بالشأن الأفغاني، وبخاصة تلك المجاورة لأفغانستان، حريصة على وجود حالة من الاستقرار السياسي والأمني في هذا البلد الذي مزقته الحروب والصراعات، وألا يتحول مجدداً إلى مصدر لدعم وتشجيع التنظيمات المتشددة في بعض هذه الدول، ناهيك عن تحجيم ظاهرة تهريب المخدرات، وبخاصة الأفيون، من أفغانستان إلى الدول المعنية. وفي جميع الأحوال، فإن دولاً عديدة في حالة ترقب لأفعال طالبان، وعلى ضوء ذلك سوف تحدد موقفها بشأن الاعتراف بالحركة من عدمه[8]. ويمكن في هذا المقام توظيف مسألة الاعتراف لفرض نوع من الضغوط على الحركة، بحيث تتبنى المزيد من السياسات المعتدلة. وتمثل المواقف الإقليمية والدولية من حركة طالبان محدداً مهماً لسلوكها؛ فإذا توجهت نحو رعاية تنظيم القاعدة أو غيره من جديد فسوف تضع نفسها في صدام مع أطراف إقليمية ودولية عديدة.

 

ثالثاً: سيناريوهات مستقبل علاقة طالبان بالتنظيمات الإرهابية

في ضوء التركيبة العرقية والطائفية المعقدة للمجتمع الأفغاني، حيث يضم طوائف وأعراقاً عديدة من أبرزها البشتون (نحو 42% من إجمالي عدد السكان)، والطاجيك (نحو 27%) والهزارة (نحو 9%)، فإن التحولات الحادة والمتسارعة لمرحلة ما بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات لمستقبل علاقة طالبان بالتنظيمات الإرهابية.

السيناريو الأول: اندلاع مرحلة جديدة من الحرب الأهلية بين طالبان التي باتت القوة المسيطرة في أفغانستان والقوى المعارضة لها. وبحكم انهيار الجيش وقوات الأمن الأفغانية، والسيطرة السريعة لطالبان على البلاد بدون مقاومة، لا يبدو أن هناك قوى معارضة للحركة قادرة على أن تخوض حرباً واسعة ضدها في الوقت الراهن. وتشير تقارير عديدة إلى وجود حركة مقاومة لطالبان بدأت تتبلور في وادي بانشير الشمالي، وهو المنطقة الوحيدة التي لم تسيطر عليها طالبان بعد. وتتمحور هذه المقاومة المحتملة حول شخصيتين هما أحمد مسعود نجل أحمد شاه مسعود الذي عُرف بدوره في مقاومة السوفييت خلال ثمانينيات القرن الماضي. وقد طالب أحمد مسعود الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد حركة المقاومة بالأسلحة والذخائر. أما الشخص الثاني فهو أمر الله صالح نائب الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني، حيث ترك صالح العاصمة واتجه إلى وادي بانشير، وأعلن تحديه لطالبان من هناك، وعلى أثر ذلك قامت قوات من طالبان بمحاصرة وادي بانشير، حسب بعض التقارير[9].

ومهما يكن من أمر، فإنه من غير المتوقع حدوث مقاومة كبيرة لطالبان في الوقت الراهن، لاسيما وأن الحركة باتت أقوى من أي وقت مضى، وبخاصة في ظل ما سيطرت عليه من أسلحة ومعدات أمريكية كانت في حوزة الجيش الأفغاني، كما أن أحمد مسعود أبدى استعداده للتفاوض مع طالبان من أجل تشكيل حكومة شاملة وتجنيب البلاد المزيد من الحروب. ولكن الوضع قد يتغير في المستقبل، وبخاصة إذا ما اتجهت الأوضاع نحو مزيد من التردي في البلاد، وحصلت حركة المقاومة على دعم عسكري من قوى خارجية[10]، وإذا انزلقت البلاد إلى حرب أهلية فسوف يخلق ذلك مزيداً من الفوضى، وهو ما يمثل بيئة مواتية لتمدد التنظيمات الإرهابية في أفغانستان، حتى وإن رغبت طالبان في تقييد بعض هذه التنظيمات.

السيناريو الثاني: تصعيد هجمات تنظيم “داعش-ولاية خراسان” ضد حركة طالبان. فالتنظيم يناصب طالبان العداء، ويعتبرها حركة مارقة لتفاوضها مع الأمريكيين وتساهلها في تطبيق الشريعة حسب تصوره. وهناك تاريخ من المواجهات بين الطرفين على الساحة الأفغانية. وإذا كانت تنظيمات جهادية عديدة قد احتفت بما حققته طالبان معتبرة إياه انتصاراً للمسلمين، وتعزيزاً لمعتقداتها واستراتيجياتها، فإن تنظيم “داعش” انتقد الحركة، واعتبرها عميلة للولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك فمن المتصور أن تستمر عمليات التنظيم ضد طالبان، وبخاصة إذا ما انزلقت البلاد إلى حرب أهلية[11].

السيناريو الثالث: تبني طالبان لتوجهات وسياسات مغايرة لتوجهاتها وسياستها خلال الفترة الأولى التي حكمت خلالها باكستان (1996 – 2001)، وذلك على صعيد الممارسة العملية وليس الخطاب السياسي والإعلامي فقط. ويتضمن ذلك قبولها بتقاسم السلطة مع قوى وتكوينات عرقية وسياسية أخرى داخل المجتمع الأفغاني، والمبادرة بشأن تحقيق مصالحة وطنية تضع نهاية للحروب والصراعات في أفغانستان، والعمل من أجل توفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، وبخاصة حقوق المرأة والأقليات، وقطع أي علاقات تربطها بتنظيمات إرهابية وبخاصة تنظيم القاعدة، ومحاربة هذه التنظيمات، وتتعاون مع المجتمع الدولي من أجل محاصرة زراعة الأفيون في أفغانستان.

 

خاتمة

إن مستقبل الأوضاع في أفغانستان مفتوح على كل الاحتمالات، وبخاصة في ظل تداعي مقومات الدولة من ناحية، وخبرة الفشل والتعثر في تأسيس نظام حكم فعال في البلاد من ناحية ثانية، والإرث الثقيل للحرب الأهلية الممتدة من ناحية ثالثة. ونظراً لأن طالبان هي القوة المسيطرة على الأرض في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي، فإن سلوكها يمثل العنصر الأهم في رسم ملامح هذا المستقبل، وبخاصة فيما يتعلق بعلاقة الحركة بالتنظيمات الإرهابية.

ومن المرجح أنه إذا ما فشلت طالبان في أن تسلك نهج الاعتدال والحوار والمصالحة وفق مقتضيات السيناريو الثالث السالف الذكر، فإن البلاد ستنزلق إلى مرحلة جديدة من الحرب الأهلية بكل ما يترتب عليها من فوضى، وتداعيات كارثية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية أصلاً. وفي هذه الحالة سوف تكون طالبان هدفاً لتنظيم “داعش-ولاية خرسان”، ولقوى معارضة أخرى تناصبها العداء. ونتيجة لكل ذلك وغيره ستتجذر حالة الفشل والتصدع التي تعانيها الدولة الأفغانية؛ ما يجعلها ساحة لأمراء الحروب، وملاذاً للتنظيمات الإرهابية، سواء المؤيدة لطالبان مثل القاعدة أو المعارضة لها مثل داعش.

فهل ستثبت طالبان أنها استوعبت دروس الماضي، وقادرة على قراءة متطلبات العصر وتحدياته بقدر من الواقعية والعقلانية؟ هذا هو التحدي الحقيقي!

 

المصادر

[1].قسم المتابعة الإعلامية، أفغانستان: هل عودة طالبان تنعش الحركات الجهادية في الشرق الأوسط؟ BBC News، 18/8/2021؛ فرانك غاردنز، “أفغانستان: هل تصبح ملاذاً للإرهاب بعد سيطرة طالبان على السلطة؟ BBC News، 18/8/2021.

لمزيد من التفاصيل، انظر: Taliban victory: A Likely Boost for Islamist Extremists in the Middle East, DW, 18/8/2021.

[2]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

كميل منصور، “طالبان الجديدة أمام امتحان منع الإرهابيين من استخدام أفغانستان منطلقاً لهجماتهم،” جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 19/8/2021.

Danial Byman, “Will Afghanistan Become a Terrorist Safe Haven Again? Foreign Affairs, August 18, 2021. https://www.foreignaffairs.com/articles/afghanistan/2021-08-18/afghanistan-become-terrorist-safe-haven-again-taliban

[3]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، “دوافع متعددة: لماذا كثفت الولايات المتحدة ضرباتها ضد ولاية خراسان”؟ التقديرات، 8/9/2017؛ جمال إسماعيل، ” أفغانستان: 18 قتيلاً في مواجهات بين طالبان وداعش،” جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 18/4/2019، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، “تنافس مستمر: لماذا جدد داعش هجماته ضد القاعدة وطالبان”؟ التقديرات، 15/1/2020.

[4]. لمزيد من التفاصيل، انظر: من هي شبكة «حقاني» أكثر الفصائل المتشددة إثارة للرعب في أفغانستان؟ جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 21/8/2021.

Jamie Dettmer, “Hardline Haqqani Network Put in Charge of Kabul Security,” VOA, 19/8/2021. https://www.voanews.com/south-central-asia/hardline-haqqani-network-put-charge-kabul-security

[5]. لمزيد من التفاصيل، انظر: كميل منصور، مرجع سبق ذكره.

[6]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

Fawaz A. Gerges , “Terror and the Taliban,” Project Syndicate, August 17, 2021.

https://www.project-syndicate.org/commentary/will-the-taliban-give-al-qaeda-sanctuary-in-afghanistan-by-fawaz-a-gerges-2021-08

[7]. لمزيد من التفاصيل، انظر: 5 رسائل في أول مؤتمر صحفي لحركة طالبان، جريدة البيان الإماراتية، 17/8/2021.

[8] . لمزيد من التفاصيل، انظر: الجوار الأفغاني.. 3 قوى إقليمية تترقب بحذر الحاكم الجديد، الحرة، 17/8/2021.

Colm Quinn, “Afghanistan’s Neighbors Prepare for Taliban Rule,” Foreign Policy, 18/8/2021. https://foreignpolicy.com/2021/08/18/afghanistan-taliban-russia-iran-china/; Shelly Kittleson, “Why Iran Will Welcome the Taliban Takeover in Afghanistan,” Foreign Policy, 18/8/2021. https://foreignpolicy.com/2021/08/18/why-iran-will-welcome-the-taliban-takeover-in-afghanistan/

[9] . لمزيد من التفاصيل، انظر: هل المقاومة المحتملة لطالبان من وادي بانشير بقيادة أحمد مسعود تعتبر ذات جدوى؟ France 24، 20/8/2021؛ وأحمد مسعود يسير على خطى والده أحمد شاه مسعود في مقاومة طالبان، BBC News، 20/8/2021؛ وأمر الله صالح: نائب الرئيس الذي يقود “المقاومة” ضد طالبان، BBC News، 18/8/2021؛ و”طالبان” تحاصر وادي بانشير وتخسر منطقة في ولاية بغلان، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 21/8/2021.

[10] . لمزيد من التفاصيل، انظر: كمال عالم، ” أحمد مسعود: لديّ الاستعداد للعفو من أجل السلام في أفغانستان،” جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 22/8/2021.

Robbie Gramer, “An Anti-Taliban Front Is Already Forming. Can It Last?” Foreign Policy, 20/8/2021. https://foreignpolicy.com/2021/08/20/anti-taliban-front-northern-alliance/

[11] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

Joe Sommerlad, “What Is the Relationship between the Taliban and Isis?” Independent, 20/8/2021. https://www.independent.co.uk/asia/south-asia/taliban-isis-relationship-afghanistan-terrorism-b1903416.html

 

المواضيع ذات الصلة