مقدمة:
أسدل العراق الستار يوم 10 أكتوبر 2021 على خامس تجربة انتخابية برلمانية يشهدها منذ الاحتلال الأمريكي له عام 2003، والتي يؤمل أن تشكل منطلقاً جديداً لهذا البلد في ضوء ما سبقها ورافقها من تطورات داخلية مهمة، حيث إنها الانتخابات الأولى التي جاءت بعد الاحتجاجات الشعبية التي شهدها العراق في أكتوبر 2019، وأدت إلى إسقاط حكومة السيد عادل عبد المهدي أواخر عام 2019 ومنح حكومة الكاظمي – رئيس المخابرات آنذاك – الثقة للحفاظ على الأمن لحين إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، كما أنها الأولى التي عقدت وفقاً لقانون انتخابي جديد يعتمد دوائر انتخابية متعددة والتصويت لمرشح واحد، وكان يفترض أن يحد من هيمنة الأحزاب الكبيرة على المشهد السياسي. ورغم أن النتائج جاءت كاشفة عن استمرار حالة الإحباط الشعبي وضعف الإقبال، فإنها انطوت على بعض التغييرات المهمة في الخريطة السياسية التقليدية في العراق التي يتوقع معها أن يتغير المشهد العراقي ويتجه نحو الأفضل ولو نسبياً، سياسياً وأمنياً.
وتسعى هذه الورقة إلى إجراء تقييم لنتائج الانتخابات العراقية الأخيرة، ودلالاتها بالنسبة إلى مستقبل الأوضاع السياسية في العراق، والسيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة. ولكنها ستعرض قبل ذلك لطبيعة الظروف التي جرت في ظلها هذه الانتخابات وأبرز القوى السياسية التي شاركت فيها.
أولاً: الانتخابات العراقية في ظل بيئة داخلية مغايرة
شهدت الساحة العراقية الداخلية عدداً من التطورات السياسية والأمنية والقانونية التي سبقت إجراء الانتخابات أو رافقتها، وكان يؤمل أن يكون لها تأثيرها الإيجابي في هذه الجولة الجديدة من الانتخابات البرلمانية العراقية، وتمثلت أبرز هذه التطورات في الآتي:
1. تنامي الرفض الشعبي للطبقة السياسية القائمة في العراق، الذي تجسد على أوضح ما يكون في الحركة الاحتجاجية الشبابية التي اندلعت في أكتوبر 2019 أو ما بات يعرف باسم “احتجاجات تشرين”، وهي الاحتجاجات التي اتسع نطاقها وغطت مساحات واسعة من البلاد، وبدأت بمطالب خدمية تتعلق بتحسين الخدمات وإنهاء البطالة والفساد اللذين عمّا البلاد، قبل أن ينتهي الحال بالمحتجين إلى رفع سقف مطالبهم لتصل إلى الدعوة لإسقاط النظام السياسي برمته وإسقاط حكومة عبد المهدي التي كانت أولى ضحايا هذه الاحتجاجات، كما تضمنت هذه التظاهرات بعض مظاهر الرفض الشعبي للتدخلات الخارجية ولاسيما الإيرانية والتي عبّرت عن نفسها في قيام المحتجين بإحراق قنصليات إيران في المدن ذات الأغلبية الشيعية، وإحراق مقار الأحزاب المرتبطة بها ومنع كادرها من الوصول إلى تلك المقار[1]. ورغم نجاح هذه الاحتجاجات في إطاحة حكومة عبد المهدي، فقد ظلت القوى المتصدرة للمشهد السياسي دون تغيير وتمكنت في النهاية من احتواء الاحتجاجات الشعبية الواسعة، وهو ما سبب إحباطاً للقوى الساعية للتغيير والمحوسبة على ما عرف بانتفاضة تشرين التي قاطعت هذه الانتخابات.
ومن المظاهر الأخرى لهذا الرفض الشعبي التراجع المستمر في نسب الإقبال على المشاركة في الانتخابات، فنسبة المشاركة بأول انتخابات أجريت في المسار الديمقراطي العراقي عام 2005 بلغت 78% ثم بدأت بالتراجع حتى وصلت إلى نحو 45% حسب النتائج الحكومية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في عام 2018، رغم كل الشبهات حول التزوير والتلاعب في الأرقام[2]، وهو ما يكشف حجم الإحباط الشعبي من المشاركة.
2. قانون الانتخابات الجديد: أقر البرلمان العراقي قانوناً جديداً مُنظماً الانتخابات التشريعية يوم 24 ديسمبر 2019، لكن القانون أبقاه من دون المصادقة عليه من قِبل رئيس الجمهورية لأكثر من 11 شهراً، وذلك لأن مجلس النواب شهد خلافات على ملحق القانون الذي يحدّد الدوائر الانتخابيّة، ورغم ما تضمنه القانون الجديد من جوانب قصور عديدة، فإنه اُعتبر خطوة حملت معها بعض الإيجابيات على صعيد زيادة عدد المقاعد المخصصة للنساء في البرلمان إلى 83 مقعداً على الأقل (وهو ما يمثل نحو 25٪ من إجمالي عدد أعضاء البرلمان)[3]، وكذلك سمح للناخبين باختيار المرشحين الفرديين والاقتراب من الجمهور أكثر.
وخلافاً للأنظمة الانتخابية السابقة التي جرت على ضوئها انتخابات الدورات البرلمانية الأربع السابقة منذ عام 2006 حتى عام 2018، فإن نظام الدوائر المتعددة الجديد الذي تضمنه القانون الجديد، قسم البلاد إلى 83 دائرة انتخابية، توزعت على عدد المحافظات وبحسب نسبها السكانية، وقسمت العاصمة بغداد إلى 17 دائرة بحكم عدد سكانها الأكثر الذي يناهز الثمانية ملايين نسمة[4]. الأمر الذي كان من شأنه أن يُعزز وصول الشخصيات المستقلة إلى البرلمان، وتحجيم سيطرة الكتل الكبيرة على المشهد الانتخابي كما كانت الحال في قانون الانتخابات السابق.
3. جدل المشاركة والمقاطعة: شهدت الساحة العراقية قبل الانتخابات جدلاً كبيراً بشأن مدى جدواها أو حتى إمكانية عقدها مع قيام العديد من القوى السياسية بالانسحاب من هذه الانتخابات وعدم المشاركة، وبدأ ذلك التيار الصدري الذي أعلن زعيمه مقتدى الصدر في 15 يوليو 2021 الانسحاب من العملية السياسية ومقاطعة الانتخابات، قبل أن يعود عن هذا القرار ويقرر المشاركة يوم 27 أغسطس 2021[5]، داعياً إلى مشاركة مليونية في الانتخابات مفسّراً ذلك بتسلمه ورقة إصلاح موقعة من عدد من الزعماء السياسيين. وتلا التيار الصدري قوى أخرى تمسكت بقرار المقاطعة، مثل: الحزب الشيوعي العراقي، و”المنبر العراقي” الذي يتزعمه رئيس الحكومة العراقية الأسبق إياد علاوي، و”جبهة الحوار الوطني”، التي يتزعمها نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق، صالح المطلك، وحزب “التجمع الجمهوري العراقي”، الذي يتزعمه سعد عاصم الجنابي، فضلاً عن قوى وحركات سياسية أخرى انضمت إلى قافلة الانسحابات ولكل منها مبرراتها[6]. كما أعلن النشطاء التشرينيون والقوى المحسوبة عليهم معارضتهم لإجراء هذه الانتخابات في ظل استمرار الواقع السياسي العراقي التي خرجت الاحتجاجات الشعبية للتعبير عن رفضها له.
والمهم في هذا الصدد هو أن غياب “القوى التشرينية”، ويقصد بهم جماعات الحراك الشعبي الذي تفجّر في أكتوبر عام 2019، عن المشاركة في الانتخابات وانقسامهم حول هذه المشاركة كان من بين العوامل المهمة التي حالت دون ظهور قوة التغيير الحقيقية التي كانت مأمولة لوضع نهاية لسيطرة الطبقة السياسية – الطائفية – التقليدية المتهمة[7] بسوء الإدارة والفساد والارتهان للخارج، وهو ما كان سبباً في تراجع التفاؤل بإمكانية حدوث التغيير المنشود.
وبالتزامن مع ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي العام نوعاً من الإحباط الشعبي العام من جدوى المشاركة في هذه الانتخابات، فوفقاً لاستطلاع أجراه “مركز تمكين السلام في العراق” و”معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” عن رؤية المجتمع العراقي لأهمية الانتخابات المقبلة ومدى مصداقيتها، أوضحت عينة تمثيلية من 1068 ناخباً عراقياً مؤهلاً للتصويت من المحافظات العراقية الثماني عشرة أن 43.9% لم يتوقعوا أن تتحلى الانتخابات المقبلة بمصداقية أكبر من سابقتها، كما أظهر الاستبيان أن 32.8% يرون أن مرشحي الأحزاب التقليدية سيفوزون مقابل 13.3% توقعوا أن مرشحي الحراك التشريني سيفوزون، و44.8% ليسوا متأكدين[8].
الشكل) [9])
4. استمرار حالة عدم الاستقرار الأمني رغم تحسنها بشكل عام: شهدت الساحة العراقية منذ تولي حكومة الكاظمي السلطة تحسناً بشكل عام في البيئة الأمنية، لكن حالة عدم الاستقرار الأمني وعدم قدرة الحكومة على ضبط السلام المنفلت وسلاح الميليشيات استمرت. فمنذ اندلاع الاحتجاجات التشرينية في أكتوبر 2019 شهد العراق اغتيال أو محاولة اغتيال لأكثر من 70 ناشطاً، واختطاف عشرات آخرين لفترات قصيرة[10]، منها على سبيل المثال مقتل الناشط المدني، فاهم الطائي في هجوم مسلح في ديسمبر 2019، واغتيال هشام الهاشمي المحلل المتخصص بشؤون الجماعات الجهادية في بغداد في يوليو 2020، واغتيال الوزني أحد أبرز قادة الاحتجاجات في كربلاء في مايو 2021. وكان هذا الملف من أبرز الملفات التي تثير المخاوف بشأن البيئة الانتخابية، حيث برزت تخوفات من استخدام السلاح من طرف بعض الجهات للتأثير في نتائج الانتخابات البرلمانية، إلى جانب المخاوف من عدم القدرة على حماية المقار الانتخابية والناخبين في عموم البلاد. لكن العملية الانتخابية مرت بسلام من دون أي مشكلات أمنية ذات أهمية.
ثانياً: الظروف الخارجية المحيطة بالبيئة الانتخابية:
لعب المتغير الإقليمي والدولي كثيراً دوراً محورياً في الواقعين السياسي والانتخابي في العراق الذي اعتُبر سنواتٍ ساحة للنزاعات على المصالح ولاسيما بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، مع محاولة عزل هذا البلد عن محيطه العربي. لكن هذه الانتخابات الأخيرة تزامنت مع مجموعة من التغييرات الإقليمية والدولية الجديدة التي جاءت متزامنة مع إجراء هذه الانتخابات.
ولعل التطور الأبرز على المستوى الإقليمي هو سعي العراق تحت قيادة الكاظمي إلى محاولة استعادة دوره الإقليمي من خلال استضافته مؤتمراً يضم دول الجوار الإقليمي تحت شعار “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة”، الذي شاركت فيه 9 دولٍ عربية، وأجنبية، ومنظمات عربية ودولية. وتميز هذا المؤتمر بحضور عربي فاعل وغير مسبوق منذ عقود، فقد شاركت فيه مجموعة من الدول العربية وهي: (دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت والسعودية وقطر ومصر والأردن) وجميعها شاركت على مستوى القمة، باستثناء السعودية التي مثلها وزير الخارجية، وهو حضور يحمل رسالة تضامن ودعم عربي قوي للعراق لاستعادة أمنه واستقراره وتأكيد انتمائه العربي[11].
أما على المستوى الدولي، فإن هذه الانتخابات جرت بالتزامن مع جدل متزايد حول احتمالات اكتمال الانسحاب الأمريكي من العراق في القريب العاجل، وهو ما يكسب نتائج هذه الانتخابات أهمية كبيرة؛ لأن استمرار القوى الموالية لإيران في صدارة المشهد السياسي بعد الانتخابات وبعد الانسحاب الأمريكي سيجعل العراق فريسة سهلة لإيران التي تسعى للهيمنة على مقدراته، ومن هنا كان الحضور العربي في المؤتمر مهماً وحاملاً رسالة واضحة بأن العرب يقفون إلى جانب العراق، وسيدعمون عودته الفاعلة لحاضنته العربية.
ثالثاً- خريطة القوى السياسية المشاركة في الانتخابات
سجلت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات 167 حزباً للتنافس في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لكن أغلب هذه الأحزاب انضوت تحت لواء تحالفات كبيرة نوعاً ما ومقسمة طائفياً وعرقياً، وذلك كما يلي:
- القوى الشيعية: وهي المهيمنة على المشهد السياسي منذ عام 2003، ومن أبرز أحزابها وتكتلاتها ما يلي: التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر وهو الأكثر شعبية وقوة في العراق حالياً، ورجح زعيمه قبل الانتخابات أن يفوز بـ100 مقعد في الانتخابات. و”تحالف الفتح”، بقيادة قائد فيلق بدر هادي العامري، الذي يضم مجموعات من عصائب أهل الحق وأحزاباً ومجموعات مرتبطة بإيران ارتباطاً وثيقاً. وائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. وتحالف قوى الدولة الوطنية، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي والسيد عمار الحكيم.
- القوى السُّنية: خاضت الأحزاب السُّنية الجولة الانتخابية الأخيرة بثلاثة تحالفات رئيسية تعد حصيلة جولات طويلة من المفاوضات، وهي: تحالف “تقدم” الذي يقوده رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، و”تحالف العزم” الذي يتزعمه خميس الخنجر، رجل أعمال، و”المشروع الوطني للإنقاذ” الذي يتزعمه أسامة النجيفي، الذي كان رئيساً للبرلمان سابقاً [12].
- القوى الكردية: لم يحدث تغيير كبير على خارطة التحالفات السياسية، سوى تحالف الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير للمشاركة معاً في الانتخابات ضمن تحالف كردستان إلى جانب بعض الأحزاب التركمانية، وهما يشاركان معاً في حكومة إقليم كردستان، وكذلك بالحكومة المحلية في مدينة السليمانية. وتشكل هذا التحالف لمواجهة الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان السابق، الذي خاض الانتخابات بـ55 مرشحاً في 11 منطقة داخل إقليم كردستان وخارجه.
- الأحزاب الجديدة: ومعظم هذه الأحزاب الجديدة التي خاضت انتخابات العاشر من أكتوبر للمرة الأولى، انبثقت عن الحركة الاحتجاجية المعروفة باسم “انتفاضة تشرين” في أكتوبر 2019. وبلغت هذه الأحزاب الجديدة المسجلة في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نحو 40 حزباً، لكن الكثير من هذه الأحزاب قررت مقاطعة الانتخابات وعدم المشاركة فيها على الرغم من أن أسماء مرشحيها لا تزال مسجلة رسمياً وتم إدراجها في أوراق الاقتراع. ومن بين الـ40 حزباً شاركت 8 أحزاب في الانتخابات فقط أبرزها: حركة “نازل آخذ حقي” برئاسة مشرق الفريجي، وتقدم 19 مرشحاً، وحركة “امتداد” برئاسة علاء الركابي بـ 38 مرشحاً.
رابعاً- قراءة في نتائج الانتخابات:
أظهرت النتائج شبه النهائية التي أعلنتها مفوضية الانتخابات المستقلة في العراق، يوم 11 أكتوبر 2021، عن بعض النتائج الأولية المهمة (لا تزال تخضع للجدل ولم تحسم بعد) تمثل أبرزها في تصدّر الكتلة الصدرية لنتائج الانتخابات، حيث فازت برصيد غير مسبوق من المقاعد بلغ نحو 73 مقعداً بزيادة 21 مقعدا عن انتخابات عام 2018، وجاء تحالف “تقدم” الذي يقوده رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي في المركز الثاني بعد حصوله على 38 مقعداً، وبينما حل ائتلاف “دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، القريب من إيران ثالثاً بحصوله على نحو 37 مقعداً مقارنة بـ26 مقعداً فقط في الانتخابات السابقة، تعرض تحالف “الفتح” الذي يضم القوى والميليشيات الموالية لإيران أيضاً لهزيمة قاسية بعد حصوله على نحو 14 مقعداً فقط، بعد أن كان يملك 47 مقعداً في انتخابات عام 2018[13].
وفي إقليم كردستان، تمكّن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني من الفوز وتعزيز سيطرته الانتخابية على المكون الكردي بعد حصوله على 32 مقعداً، متجاوزاً رصيده في الانتخابات الماضية بـ7 مقاعد، في مقابل 15 مقعداً لـ “الاتحاد الوطني الكردستاني”، وفقاً للنتائج الأولية. وفيما مُنيت حركة “التغيير” الكردية بخسارة قاسية ولم تحصل على أي مقعد، تمكّنت حركة “الجيل الجديد” الناشئة من الفوز بنحو 9 مقاعد[14].
وكان حصول الأحزاب والأفراد المحسوبين على “حراك تشرين” والمدنيين على عدد كبير نوعاً ما من المقاعد مقارنة بالعدد القليل الذي ترشح من القوى المحسوبة على الحراك والتي قاطعت في أغلبها الانتخابات، إحدى النتائج الإيجابية الأخرى، ويتردد أن أكبر فائز بعدد الأصوات على مستوى العراق هو حزب «امتداد» المنبثق عن الحراك والذي حصل على نحو 10 مقاعد في النتائج الأولية، فيما استطاع المستقلون أن يشكلوا اختراقاً كبيراً بحصولهم على نحو 20 مقعداً[15].
وبشكل عام تشير النتائج الأولية التي أعلنتها مفوضية الانتخابات العراقية للجولة الخامسة من الانتخابات البرلمانية العراقية عدداً من الملاحظات والدلالات المهمة، من أبرزها:
- أظهرت نتائج الانتخابات استمرار “غياب الثقة” الشعبية في القوى السياسية التقليدية، وهو ما تجسد في تراجع حجم المشاركة الشعبية في الانتخابات، حيث أعلنت المفوضية العليا للانتخابات في العراق أن نسبة المشاركة في الاقتراع بلغت 41%، بحسب النتائج الأولية، وهي النسبة الأقل منذ الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003[16]. وتمثل استمرار المنحى التنازلي لنسبة المشاركة من الانتخابات الأولى عام 2006. وربما كان لمقاطعة الكثير من الأحزاب المحسوبة على القوى التشرينية دورها في هذا الإقبال الضعيف.
- تَصدُّر الكتلة الصدرية وحصول الأحزاب المحسوبة على قوى التغيير على 20 مقعداً رغم مقاطعة أغلبها يشير بوضوح إلى رغبة الجماهير العراقية في إحداث نوع من التغيير السياسي وتفضيل القوى غير المحسوبة أو المرتهنة للخارج والأقل فساداً من وجهة نظر الشارع العراقي. ولم يسبق للمدنيين بشكل عام الحصول على هذا العدد الكبير نسبياً من المقاعد في البرلمان العراقي، الأمر الذي يشكّل علامة فارقة في تاريخ الانتخابات العراقية منذ عام 2006. وربما يكشف عن التوجهات الجديدة للمواطنين العراقيين التي أخذت بالابتعاد شيئاً فشيئاً عن جماعات وأحزاب الإسلام السياسي المهيمنة منذ نحو عقدين، ويعيد رسم خارطة العمل البرلماني[17].
- مثلت نتائج الانتخابات هزيمة واضحة لحلفاء إيران في العراق، ولاسيما تحالف “الفتح” الذي يضم بعض الميليشيات والجماعات الموالية لطهران بصورة كبيرة، وهو ما يعكس استمرار تذمر الشارع العراقي من التدخلات السلبية الإيرانية في شؤونهم ومن ممارسات الميليشيات المسلحة المنفلتة الموالية لطهران والمسؤولة عن حالة عدم الاستقرارين الأمني والسياسي.
ورغم فوز ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي، والمحسوب أيضاً على إيران، بـ 37 مقعداً، إلا أن حلفاءه في تحالف الفتح برئاسة هادي العامري خسروا أكثر من 30 مقعداً. ولا يستطيع الطرفان مجتمعين منافسة التيار الصدري، خاصة وأن بقية التحالفات الشيعية المحسوبة على إيران منيت بخسارة كبرى أيضاً، ولاسيما تحالف النصر-الحكمة بقيادة حيدر العبادي وعمار الحكيم الذي تراجعت مقاعده من نحو 60 مقعداً إلى أربعة فقط[18].
- شكل نجاح الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي في توفير البيئة الأمنية المستقرة لإجراء الانتخابات إنجازاً مهماً لهذه الحكومة وللجهود التي بذلتها لتوفير الأمن والاستقرار في العراق رغم التحديات كلها التي واجهتها، حيث جرت الانتخابات في جو من الأمن ومن دون حدوث اختراقات مهمة تؤثر في سير العملية الانتخابية، وهو أمر يحسب للكاظمي بالدرجة الأولى، الذي تمكن من إجراء انتخابات هي الأفضل من حيث البيئة الأمنية والسياسية، فضلاً عن وفائه بالوعد الذي قطعه على نفسه بإجراء الانتخابات في موعدها برغم حملة التشكيك التي رافقتها[19].
خامساً- شكل الحكومة المتوقع:
أحدثت نتائج الانتخابات العراقية 2021 تغييرات مهمة في شكل الخريطة السياسية العراقية، مع تراجع قوى شيعية مهمة مثل تحالف الفتح وتقدم التيار الصدري بشكل غير مسبوق، وهو ما يتوقع أن ينعكس على خارطة التحالفات المشكلة للحكومة العراقية المقبلة. وسيكون للتيار الصدر، بطبيعة الحال الدور الأبرز في تشكيل هذه الحكومة، بيد أن قدرة التيار الصدري على تشكيل الحكومة ستكون مقيدة بقدرته على إبرام التحالف الذي سيشكل الكتلة الأكبر في البرلمان.
وثمة مساران لطبيعة التحالفات السياسية المتوقعة لتشكيل الحكومة، أولهما عبر ترشيح الكتلة الأكبر لرئيس الحكومة وتكليفه مباشرة من قِبل رئيس الجمهورية وفق المادة 76 من الدستور، أو الذهاب إلى تكرار التجارب السابقة والعودة لمنطق المحاصصة وما يفرضه من إشكالات وإخفاقات قديمة وجديدة[20]. ووفقاً للنتائج الأولية للانتخابات الأخيرة، فإن تلك النتائج لا تسمح لأي كتلة نيابية بالانفراد بقرار تشكيل الحكومة الجديدة أو تحديد رئيسها من دون تشكيل تحالف برلماني.
ومن هنا سيكون أمام مقتدى الصدر مهمة تشكيل تحالف لتكوين الكتلة الأكبر في البرلمان والتي تستطيع ترشيح رئيس الحكومة المقبلة، وأحد السيناريوهات المهمة هنا هي تحالف التيار الصدري مع تحالف “تقدم” الذي يقوده رئيس البرلمان محمد الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود بارزاني. فحصول الصدريين على 73 مقعداً وهو الأكبر شيعياً مقابل حصول رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي على المقاعد الأكبر سنياً والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني على المقاعد الأكبر كردياً، يسهم في تشكيل كتلة تقترب قليلاً من أن تكون الكتلة الأكبر التي تحدد المُكلَّف برئاسة الحكومة[21]، ولاسيما أن الخلافات بين هذه القوى الثلاث ليست بالكبيرة.
وفي حال تشكلت حكومة من هذا التحالف، فإن هذا ربما يكون السيناريو الأفضل للعراق، لأن هذه التشكيلة ستنتج بلا شك حكومة غير خاضعة للنفوذ الإيراني من جهة، ولديها اتفاق عام على بعض القضايا المهمة لمستقبل العراقي من جهة أخرى، لاسيما مسألة مكافحة الفساد ونزع سلاح الميليشيات المسلحة، كما أن حكومة خاضعة لهذا التحالف ربما تكون أقرب للحاضنة العربية، ولاسيما في هذه المرحلة التي تستعد فيها الولايات المتحدة الأمريكية للانسحاب من العراق.
ومع ذلك، تظل السيناريوهات الأخرى قائمة نظريا وإن كانت ضعيفة عملياً بما في ذلك تمكّن القوى الأخرى “الفتح ودولة القانون والاتحاد الوطني الكردستاني” من تشكيل كتلة أكبر تحتكر المناصب الرئاسية الثلاثة. ويمكن التذكير هنا بأنه في انتخابات عام 2018، تصدر ائتلاف سائرون بزعامة التيار الصدرى أيضاً نتيجة الانتخابات بعدد مقاعد بلغ 52 مقعداً، تلاه تكتل الفتح بـ 48 مقعداً، ثم ائتلاف النصر بزعامة حيدر العبادى بـ 42 مقعداً. ورغم أن هذه النتائج كانت تعطى التيار الصدرى أفضلية اختيار رئيس الوزراء، إلا عملية التوافقات أفضت في النهاية إلى تشكيل حكومة عادل عبدالمهدى بعد أن رشحته كتلة البناء وكتلة الإصلاح – التى تضم الحكمة والنصر وسائرون[22]. ولكن التيار الصدري ليس في معرض القبول هذه المرة بالدخول في تحالفات مع القوى الشيعية الأخرى من أجل الوصول إلى توافقات معينة وخاصة بعد أن منيت هذه القوى بخسائر كبيرة، فضلاً عن تأكيد الصدر نفسه الابتعاد عن هذه القوى المتهمة بالفساد وبالموالاة لإيران، وهو ما يعيدنا للسيناريو الأول المتمثل في تشكيل تحالف كتلة “تقدم” والحزب الديمقراطي الكردستاني.
وهناك أيضاً السيناريو الأكثر خطورة والمتمثل برفض القوى السياسية المتنفذة والميليشيات التابعة لها لنتائج الانتخابات، والانزلاق إلى دائرة العنف السياسي والفوضى الأمنية. وقد رفض تحالف الفتح بالفعل الاعتراف بنتائج الانتخابات وتحدث عن تلاعب عقب التراجع الذي مُني به، وكذلك كتائب “حزب الله” التي أكدت في بيانِها أن ما حدث في الانتخابات هو أكبرُ عمليةِ احتيالٍ على الشعب العراقي[23]، وهناك مخاوف من قيام الميليشيات الموالية لهذه الجماعات وخاصة الحشد الشعبي بالقيام بأعمال عنف لتغيير الواقع السياسي وإبقاء دور إيران النافذ في العراق، وهو ما يهدد بحالة من عدم الاستقرار الأمني، دفعت الأمين العام للجامعة العربية إلى تأكيد أهمية احترام نتائج العملية الانتخابية لأجل استقرار العراق[24].
الخاتمة
أفرزت الجولة الخامسة من الانتخابات البرلمانية العراقية نتائج تدعو إلى التفاؤل الحذر بمستقبل العراق في المرحلة المقبلة مع تهميش القوى المحسوبة على إيران والجماعات الميليشياوية، وتصدر بعض القوى ذات التوجهات المناهضة للفساد وللمنطق الميليشياوي المشهد السياسي، وهو ما قد يكون بداية لعراق مستقر أكثر في المستقبل وقريب أكثر من حاضنته العربية.
المراجع
[1]. صباح ناهي، “احتجاجات تشرين بين مطالب المتظاهرين واختراقات الولائيين”، موقع إندبندنت عربية، 23 مايو 2021، على الرابط: https://cutt.us/GAvB5
[2]. “الانتخابات العراقية 2021: ما فرص تغيير النخبة السياسية التي تحكم العراق؟”، موقع بي بي سي عربي، 30 سبتمبر 2021، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/middleeast-58735992
[3]. شذى العاملي، المرأة في قانون الانتخابات العراقية الجديد وحظوظها بالفوز، إندبندنت عربية، 11 سبتمبر 2021
[4]. “نظام «الدوائر المتعددة» يحدث تحولات جوهرية في حملات الانتخابات العراقية”، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 31 أغسطس 2021، على الرابط: https://cutt.ly/mE7YqL9
[5]. العراق: مقتدى الصدر يتراجع عن قراره مقاطعة الانتخابات التشريعية، على الرابط: https://cutt.ly/IE7IPdd
[6]. مثنى العبيدي، “جدوى “المقاطعة”: تداعيات تكتيك الانسحابات الانتخابية على المشهد العراقي”، موقع مركز المستقبل للابحاث المتقدمة، 18 أغسطس 2021، على الرابط: https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/6508
[7]. محمد السعيد إدريس، “الانتخابات العراقية وفرص التغيير”، صحيفة الخليج، الشارقة، 8 أكتوبر 2021.
[8] إريك غوستافسون وعمر النداوي ومحمد خليل، “استطلاعات الرأي تعطي الأفضلية للإصلاحيين في العراق، لكنهم قد يخسرون الأصوات المائلة لصالحهم، موقع معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى، 20 أغسطس 2021، على الرابط: https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/asttlaat-alray-tty-alafdlyt-llaslahyyn-fy-alraq-lknhm-qd-ykhsrwn-alaswat-almaylt
[9]المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 20 أغسطس 2021.
[10]. هشام الهاشمي: بث اعترافات ضابط في وزارة الداخلية وصف بأنه المتهم الرئيسي بقتل الباحث العراقي، 15 يوليو 2021.
متاح على الموقع https://www.bbc.com/arabic/middleeast-57864740
[11] د. هدى رؤوف، “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة.. عودة العراق ما بين الفرص والقيود”، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 8 سبتمبر 2021، على الرابط: https://cutt.ly/NE7P2sZ
[12]. التحالفات السنية: 3 مسارات لاستعادة “الوزن السياسي”، جريدة الشرق الأوسط، العدد 15622، 05 سبتمبر 2021.
[13]. “هزيمة قاسية لـ «حلفاء إيران» في انتخابات العراق”، صحيفة الشرق الأوسط، 12 أكتوبر 2021.
[14]. المرجع السابق.
[15] ” الانتخابات العراقية: هل تدفع نتائجها البلاد إلى أزمة مفتوحة؟”، موقع بي بي سي، 13 أكتوبر 2021. على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/middleeast-58895803
[16]. “الانتخابات العراقية 2021: كيف أظهرت “غياب الثقة” في القوى السياسية؟ صحف عربية”، موقع بي بي سي، 11 أكتوبر 2021، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/inthepress-58870366
[17]. “تقدم مفاجئ للحراك والقوى المدنية العراقية”، صحيفة الشرق الأوسط، 12 أكتوبر 2021.
[18] ” الانتخابات العراقية: هل تدفع نتائجها البلاد إلى أزمة مفتوحة؟”، مرجع سابق.
[19]. “العراق: «زلزال سياسي» يعيد خريطة التحالفات إلى المربع الأول”، صحيفة الشرق الأوسط، 12 أكتوبر 2021.
[20]. “بعد النتائج الأولية.. ترقب في العراق لطبيعة خارطة التحالفات البرلمانية”، موقع العربية دوت كوم، على الرابط: https://www.alaraby.com/news/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-54817
[21]. “العراق: «زلزال سياسي» يعيد خريطة التحالفات إلى المربع الأول”، مرجع سابق.
[22] صافيناز محمد أحمد، ” الانتخابات التشريعية العراقية.. دلالات النتائج والتحالفات المحتملة”، صحيفة الأهرام، القاهرة، 12 أكتوبر 2021.
[23] ” الأحزاب الخاسرة في الإنتخابات العراقية تشكّك وتهدد والشارع العراقي يتخوّف من حدوث توترات أمنية”، موقع إذاعة مونت كارولو، 13 أكتوبر 2021.
[24] ” أبو الغيط: احترام نتائج الانتخابات يخدم الاستقرار”، صحيفة الخليج، الشارقة، 14 أكتوبر 2021.